تاريخ الصحافة المصرية١

لعبت مصر دورًا مركزيًّا في تاريخ الصحافة العربية؛ فعلى أرضها ظهرت أبرز الصحف العربية الأولى، وبفضل الدعم المالي لحكامها (وخاصة الخديو إسماعيل) صدرت بعض الصحف الهامة في بلاد الشام، بل وحاضرة الدولة العثمانية (الآستانة) ذاتها، فكما سنرى ارتبط تاريخ الصحافة في مصر بمشروع بناء الدولة العصرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وبعد عَقدين من الزمان سوف يبلغ عمر الصحافة في مصر القرنين (عام ٢٠٢٨م)، وقطعت الصحافة المصرية — حتى الآن — شوطًا بعيدًا على طريق التطور، ولعلها تستطيع أن تجد لنفسها مكانًا متميزًا بين صحافة العالم عندما يحين موعد الاحتفال ببلوغها المائتي عام من عمرها.

بداية الصحافة في مصر

ربما استوقف التحديد الزمني السابق لعمر الصحافة في مصر بعض المهتمين بتاريخ الصحافة المصرية، ليتساءلوا عن إهمالنا للصحف التي أصدرتها الحملة الفرنسية في مصر (١٧٩٨–١٨٠١م)، والتي اتخذ منها بعض مؤرخي الصحافة المصرية مَعلمًا لظهور الصحافة في مصر.

ومن جانبنا لا نرى في تلك الصحف الفرنسية مَعلمًا لبداية الصحافة المصرية لأنها صدرت بالفرنسية، وحُرِّرت بأقلام فرنسية، ووجَّهت خطابها الإعلامي إلى رجال الحملة الفرنسية، جنودًا وضباطًا، ولم تهتم الحملة بإصدار صحيفة عربية؛ فلم تكن الحاجة تدعوها لذلك، رغم أنها حملت معها إلى مصر أول مطبعة حديثة بحروفٍ عربية، استخدمتها في طباعة البيانات والتعليمات التي وُجِّهت إلى المصريين، وعُلِّقت بالأماكن العامة، وخاصة أبواب المساجد، ولم تكن تلك الملصقات المطبوعة تتصل بالصحف من قريبٍ أو بعيدٍ، وتقضي ما يزيد على ربع القرن قبل صدور الوقائع المصرية عام ١٨٢٨م، الذي كان — بحقٍّ — تاريخًا لميلاد الصحافة في مصر على يد محمد علي باشا.

ولم تعرف مصر — أو غيرها من البلاد الشرقية — قبل هذا التاريخ وسائط مكتوبة (أو مخطوطة) لنقل الأخبار المحلية والإقليمية إلى من يُعنيهم أمر الوقوف عليها، على نحو ما عرفته المدن الإيطالية التجارية (وخاصة البندقية) منذ القرن الخامس عشر، رغم ما كان بين تلك المدن ومصر والشام من صِلات تجارية متينة وقديمة، فتلك النشرات المخطوطة كانت تقدِّم من الأخبار ما يهم التجار، وتعتمد على ما ينقله المسافرون معهم من أخبار تتصل بإيطاليا وبلاد أوروبا الأخرى، وبلاد البحر المتوسط.

ويرى محرر النشرة (وهو في الغالب فردٌ واحد)، أن من المهم إيصالها إلى المشتركين في نشرته المخطوطة، ثم أصبحت تلك النشرات مطبوعة، وانتشرت في وسط أوروبا وغربها في القرن السادس عشر، لتتطور وتتسع مادتها التحريرية، فتتحوَّل إلى دورية نصف سنوية، ثم رُبع سنوية، ثم شهرية، ثم أسبوعية مع مطلع القرن السابع عشر، وتعبُر المحيط الأطلنطي إلى العالم الجديد، وتصبح هناك صحف يومية أيضًا عند ختام ذلك القرن.

هذا التطور اقترن بتطور المطبعة، وتحوُّل مهمتها من إصدار المطبوعات التجارية والدينية إلى خوض غمار تلك الأدوات الإعلامية المطبوعة التي قادت إلى ظهور الصحافة مع تطور الرأسمالية التجارية ثم الصناعية، وتطور طرق المواصلات والاتصال.

وربما تساءل بعض مَن يتخذون من التراث التاريخي العربي أصولًا لكل ما عرفته الدنيا من البِدع الحديثة عن أسباب إغفال الكاتب لأحد أشكال الكتابة الخبرية التراثية التي عُرفت بالحوليَّات، وربما راح هؤلاء يعدِّدون أسماء العديد من كُتاب الحوليَّات وكُتبهم على مَر العصور الإسلامية الوسيطة، وصولًا إلى عبد الرحمن الجبرتي، فلماذا ينكر الكاتب هذا الأصل الإسلامي للصحافة، طالما كانت كتب الحوليَّات مصدرًا لاستقاء الأخبار؟ ولماذا هذا الاحتفاء بتلك النشرات المخطوطة التي كتبها الفرنجة وتداولوها، وإنكار فضل حوليَّات المسلمين؟!

حقًّا كانت الحوليَّات مصدرًا للأخبار، ولكنها — جميعًا — قدَّمت أخبارًا عفا عليها الزمن، مضى عهدها وانقضى؛ فهي مادة تاريخية تتعلَّق بالماضي، ولا تفيد من وقعت في يده مخطوطة إلا في الوقوف على ما كانت عليه الأحوال. أما الأخبار الجارية فكان الناس يتناقلونها شفاهةً، وقد تصل بعد انقضاء صلاحيتها، ولا وجه للشبه بين الحوليَّات عندنا والنشرات المخطوطة (ثم المطبوعة) التي كانت جَنين الصحافة الحديثة. وإذا كانت النشرات المخطوطة كُتبَت للخاصة، فإن الطباعة وسَّعت من دائرة قراء الدوريات لتشمل الطبقة الوسطى.

وحريٌّ بالذكر هنا أن مصر لم تكن أول بلد تعرف الطباعة الحديثة؛ فقد جاءت أول مطبعة إلى إستانبول في أواخر القرن الخامس عشر، جلبها أحد اليهود لطباعة الكتاب المقدس بالحروف العبرية، وتأخَّر وصول أول مطبعة بحروف عربية إلى إستانبول إلى العقد الأخير من القرن الثامن عشر، بعد ما يقرب من القرن على ظهور أول مطبعة عربية في حلب (عام ١٧٠٢م) أنشأها أحد البطاركة، وكانت المطبعة الثانية في قرية الشوير بلبنان (عام ١٧٣٢م) تخص أحد الأديرة الكاثوليكية، ثم أنشأ الأرثوذكس في بيروت مطبعة عربية (عام ١٧٥٠م)، وقد استخدمت تلك المطابع لخدمة الأغراض الدينية بالدرجة الأولى، والتجارية بالدرجة الثانية.

أما مصر فلم تعرف الحرف العربي المطبوع إلا من خلال منشورات مطبعة الحملة الفرنسية التي غادرت البلاد معها (١٨٠١م). وكانت أول مطبعة عربية-تركية «حديثة» هي تلك التي أقامها محمد علي بالقلعة لخدمة المتطلبات الإدارية، لنسمع عنها — لأول مرة — حوالي عام ١٨١٥م، ويليها تأسيس مطبعة بولاق التي كانت حجر الزاوية في تطور مصر الثقافي عامةً، وكانت «الوقائع المصرية» أول صحيفة مصرية أخرجتها تلك المطبعة.

الوقائع المصرية وميلاد الصحافة المصرية

لمَّا كان محمد علي باشا يتخذ من الإدارة المركزية القوية حجر الزاوية لمشروعه السياسي، الذي تحوَّلت مهمة الإدارة فيه من الجباية وحفظ الأمن وإقامة العدل فقط، إلى تضمين الإنتاج والخدمات للمهام السابقة، في ظل حرصه على إيجاد أداة اتصال تجعل أركان الإدارة على علمٍ بما يجري، وتجعل كل طرف فيها على معرفة بالصِّلة بين مهامه ومهام غيره من الأطراف المعنية. ولهذا الغرض أنشأ محمد علي باشا «قلم الجُرنال» ليُعِد خُلاصةً بكل ما يدور على أرض مصر من أحداثٍ تتصل بالإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري، والإدارة بفروعها شتَّى، لتتجمَّع لدى الباشا صورة كاملة عمَّا يجري، وما تم إنجازه، بما يتيح له الوقوف على كل صغيرة وكبيرة في البلاد، وكان «الجُرنال» يقدَّم لمحمد علي مخطوطًا، ثم يأمر بطباعة نسخ منه بالعربية والتركية في مطبعة القلعة، تُوزَّع على كبار الموظفين وحكام الأقاليم، ولم يكن صدوره محدَّدًا بزمنٍ معين، بل وَفق ما يأمر به الباشا، ولكن لم تتجاوز الفترة بين صدور «جُرنال» وآخر العشرة أيام.

واستمرت الحال على هذا المنوال نحو عشر سنوات، فكان يصدر من الجُرنال نحو المائة نسخة، وأصبح يوميًّا يتضمَّن إلى جانب الأخبار الرسمية الحكومية، موضوعًا ترفيهيًّا مقتبَسًا من «ألف ليلة وليلة»، أو غيرها من كتب الطرائف التراثية، حتى قرر الباشا تحويل هذه الدورية إلى جريدة تُسمَّى «الوقائع المصرية»، تجمع بين أخبار الحكومة، وما يتصل بحياة المحكومين «الرعية»، لتُوجَّه إلى الناس كافة، وكان عدد النسخ المطبوعة منها لا يتجاوز ٦٠٠ نسخة تُوزَّع على العلماء وتلاميذ المدارس الخصوصية (العليا)، وكبار الموظفين المدنيِّين والعسكريين في مصر والحجاز والشام والسودان وكريت، وأُتيح لمن يتقاضى مرتبًا يصل إلى ألف قرش شهريًّا (عشرة جنيهات) أن يكون من المشتركين في الجريدة، كل ذلك في حدود الستمائة نسخة المطبوعة؛ فلم تكن الجريدة متاحةً للبيع أو الاشتراك لعامة الجمهور، كما أن من كان راتبه عشرة جنيهات شهريًّا يُعَد من عناصر الإدارة الوسطى، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون صغار الموظفين على اطِّلاع عليها من خلال النسخ التي تصل إلى رؤسائهم.

وكانت «الوقائع المصرية» ثنائية اللغة (عربية/تركية)، ثم فُصِلت النسخة العربية عن التركية؛ فأصبحت هناك طبعتان للعدد الواحد، إحداهما عربية والأخرى تركية، وأخيرًا اختفت النسخة التركية في عهد الخديو إسماعيل (١٨٦٣–١٨٧٩م)، الذي أعاد إصدار «الوقائع المصرية» بانتظامٍ بعدما تعطَّلت حينًا في عهد عباس باشا الأول (١٨٤٨–١٨٥٤م)، وصدرت دون انتظام في عهد محمد سعيد باشا (١٨٥٤–١٨٦٣م).

تنوَّعت المادة التحريرية للوقائع؛ فضمَّت إلى جانب الأخبار الحكومية، وما كان يُنقَل من كتب التراث، مقالاتٍ كتبها محررون، وبعض القصائد الشعرية. واقتربت كثيرًا من الصحف الأخرى، من حيث مادتها وأسلوب تحريرها، أيام الثورة العرابية (١٨٨١-١٨٨٢م) عندما تولى تحريرها الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وبعض المثقفين من خريجي الأزهر والمدارس الحديثة، ومنذ الاحتلال البريطاني وحتى اليوم تحوَّلت «الوقائع المصرية» إلى جريدة رسمية محضة، تُنشَر بها القوانين والتشريعات واللوائح الرسمية لإعلام الناس بها، واختفت منها المادة التحريرية تمامًا.

النهضة الصحافية في عصر إسماعيل

كان الخديو إسماعيل معنيًّا باستكمال مشروع الدولة الحديثة في مصر، وهو المشروع الذي بدأه جده محمد علي باشا، وإن تغيَّر المناخ الإقليمي والدولي عما كان عليه في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكان إسماعيل يعي تمامًا ما أصبح للصحافة من أهمية في أوروبا، ويحرص على أن يبدو بصورة «الحاكم العصري» أمام الصحافة الأوروبية ليعطي مصداقيةً للتصريح الذي أطلقه أمام قناصل الدول عند توليه الحكم، والذي وعد فيه أن يجعل مصر قطعةً من أوروبا.

في هذا السياق اهتم الخديو إسماعيل برعاية الصحافة العربية المستقلة في مصر معنويًّا وماديًّا، وكذلك الصحافة العربية في الشام، وغيرها من البلاد العربية (وإن كان أكثر كرمًا ورعاية للصحف الأجنبية). فشهد عهده ظهور الصحافة الحرة في مصر، فأسَّس الأديب والشاعر عبد الله أبو السعود (تلميذ رفاعة الطهطاوي) صحيفة «وادي النيل» الأسبوعية (عام ١٨٦٦م)، ولكن الخديو ضاق ذرعًا بإفراطها في نقد سياسته، فعطَّلها، وأعاد عبد الله أبو السعود إصدارها باسم «نُزهة الأفكار».

ولكن ابنه محمد أُنسي أبو السعود أسَّس صحيفة ثلث أسبوعية (كانت تصدر كل يومين) عام ١٨٧٤م هي «روضة الأخبار» التي عُمِّرت حتى عام ١٨٧٨م، وكانت نموذجًا لتطور التحرير الصحفي فضمَّت المقال السياسي والأخبار والمقالات الأدبية والمقالات المُترجَمة (عن الصحافة الفرنسية في أغلب الأحوال).

ويدحض وجود هذه الصحف الثلاث المقولة الشائعة عند من يؤرِّخون للصحافة العربية في مصر من أن البداية للصحافة الحرة (غير الحكومية) جاءت على أيدي الشوام، مثل لويس صابونجي صاحب «النحلة» التي بدأت في بيروت أسبوعية عام ١٨٧٠م، برعاية إسماعيل، وحموي صاحب «شعاع الكوكب» الأسبوعية عام ١٨٧٦م، ثم بشارة وسليم تقلا أصحاب «الأهرام» (١٨٧٥م). فقد لعب المثقفون المصريون من تلاميذ رفاعة الطهطاوي وتلاميذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، دورًا مهمًّا في تاريخ الصحافة المصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقامت على كواهلهم أعمال التحرير في الصحف التي صدرت في ذلك العصر، بما في ذلك الصحف التي أسَّسها الشوام في مصر.

وإلى جانب الصحافة الحرة كانت هناك صحفٌ ومجلات أخرى شبه رسمية سجَّلت بداية الصحافة المتخصصة في مصر، مثل مجلة «روضة المدارس» التي صدرت عام ١٨٧٠م، وكانت رائدة الصحافة الثقافية في مصر، وتولَّى رئاسة تحريرها علي بك رفاعة الطهطاوي، كما صدرت أول مجلة طبيَّة بعنوان «يعسوب الطب» (واليعسوب هو ذَكر النحل) عام ١٨٦٥م، وتولَّى تحريرها محمد علي الحكيم. كما صدرت في العام نفسه «الجريدة العسكرية المصرية»، وجريدة «أركان الحرب المصرية»، أما الأولى فكانت إعادة إصدار لجريدة أصدرها محمد علي عام ١٨٣٣م، والثانية كانت جديدة تمامًا، ولعلَّهما من أقدم المجلات العسكرية بالشرق.

وإلى جانب «الأهرام» كانت «مرآة الشرق» نصف الأسبوعية التي صدرت بالقاهرة عام ١٨٧٩م، وتولَّى تأسيسها مجموعة من الشوام — على رأسهم سليم عنجُوري، بتشجيعٍ من إسماعيل — من أَهم الصحف الحرة ذات الطبيعة السياسية، ولعبت دورًا مهمًّا أيام الثورة العرابية، واستمرت تصدر حتى عام ١٨٨٥م، بعدما انتقلت مِلكيَّتها منذ ١٨٨٢م (الاحتلال البريطاني) إلى خليل اليازجي وأمين ناصف.

كذلك كان من صُحف الشوام التي لعبت دورًا مهمًّا في الحياة السياسية الصحيفتان اللتان أسَّسهما أديب إسحق وسليم نقاش، وكانت الأولى «مصر» — جريدة أسبوعية — صدرت بالقاهرة عام ١٨٧٧م، والثانية «التجارة» جريدة يومية صدرت بالإسكندرية عام ١٨٧٨م، وكانتا مِنبرَين للتعبير عن الاتجاه المعادي للتدخُّل الغربي، تستلهمان أفكار جمال الدين الأفغاني، وشاركتهما في هذا الدور جريدة «الوطن» التي صدرت يومية بالقاهرة عام ١٨٧٧م، وتولَّى تحريرها ميخائيل عبد السيد، وإبراهيم ضوي، وكانا من تلاميذ الأفغاني المصريين.

أضف إلى ذلك أول صحيفة ساخرة في تاريخ مصر، أصدرها — في العام نفسه — تلميذ مصري آخر للأفغاني هو يعقوب بن صنوع، لتعبِّر عن معارضة سياسة الخديو إسماعيل تحت جملة عناوين «أبو نضارة»، «أبو نضارة زرقا»، «أبو صُفَّارة»، «أبو زمارة»، فقد كان ابن صنوع يصدرها من منفاه في باريس، وترِد بالبريد، وكلما صدر قرار بمصادرتها عاد إلى إصدارها وإرسالها إلى مصر باسم آخر.

ولا شك أن هذه النهضة التي شهدتها الصحافة في عصر الخديو إسماعيل كانت نقلةً نوعية في تطور الصحافة العربية في مصر، شملت تنوُّع المادة وتنوُّع المضمون، وتطور التناول والتحرير والإخراج الصحفي. وقد انعكس ذلك كله على الصحافة المصرية حتى الربع الأول من القرن العشرين (على أقل تقدير)، فقد شهد ذلك العصر دخول التلغراف إلى مصر، ومن ثَم الاستفادة من خدمة وكالات الأنباء الدولية (الأوروبية)، من خلال البرقيات التي كانت تزوِّد الصحف بالأخبار. وكانت الصحف المصرية تستقي أخبارها — من قبل — من الصحافة الأوروبية التي ترِد بالبريد متأخرةً ما يزيد عن الأسبوع على تاريخ الصدور؛ فأصبحت الأخبار المحلية والإقليمية والدولية يُطيرها البرق إلى الصحف في ساعاتٍ معدودة؛ مما أعطى التحرير دفعةً قويةً دون شك.

الصحافة المصرية والحركة السياسية

كان من الطبيعي أن يكون للصحف دورٌ بارزٌ في التعبئة السياسية خلال أحداث الثورة العرابية (١٨٨١-١٨٨٢م)، حيث عبَّرت الصحف الوطنية المصرية عن مطالب الأعيان والضباط، كما دعَّمت مطالب أعضاء مجلس شورى النواب في توسيع الحقوق النيابية للأمة، ونقلت تقارير عن الحوادث البارزة للثورة، ولعبت دورًا في الحشد السياسي والعسكري لمواجهة نُذر العدوان البريطاني، التي انتهت بهزيمة الثوار واحتلال البلاد. وتعرَّض بعض الصحافيين الذين ساندوا الثورة للعقاب، واضطر بعضهم إلى العيش في المنفى، أو الاختفاء داخل البلاد، مثل عبد الله النديم صاحب جريدة «التنكيت والتبكيت» وخطيب الثورة، ومحمد عبده محرِّر «الوقائع المصرية»، بينما اختار بعض الصحافيين الشوام جانب الاحتلال وتنكَّروا للثورة، على نحو ما فعل سليم نقاش.

وكان من الطبيعي أن تعاني الصحافة المصرية من ظروف الاحتلال فتحتجب معظم الصحف السياسية التي راجت في أواخر أيام إسماعيل وأيام الثورة العرابية، إما لفرار أصحابها خارج البلاد، أو لقيام السلطات بإلغاء التراخيص الممنوحة لها. لذلك لم يتجاوز عدد الصحف والمجلات الجديدة التي صدرت في السنوات العشر الأولى للاحتلال العشرين دوريةً، كان نحو النصف منها صُحفًا متخصصة في الزراعة والتجارة والأدب والثقافة الصحية، وإصدارات الجمعيات الدينية الخيرية، والنشرات القانونية وغيرها.

أما السنوات العشر الثانية (١٨٩٢–١٩٠٢م) فقد شهدت صدور ٢٨٥ صحيفة ومجلة جديدة، لم يعمر معظمها طويلًا، فهناك صحف احتجبت بعد صدور بضعة أعدادٍ لأسبابٍ لا دخل للسياسة فيها، من بينها تلك الصحف التي أصدرها بعض الشوام الذين وفدوا إلى مصر في ظل الاحتلال البريطاني، وأصدروا صحفًا ومجلات تعالج قضايا محلية في مواطنهم الأصلية بقصد تصديرها إلى الولايات العربية الخاضعة للحكم العثماني.

كما أن من بينها العشرات من الصحف والمجلات التي صدرت في الكثير من عواصم المديريات، ثم احتضرت بسبب محدودية مجال التوزيع، وكذلك العشرات من المجلات الدينية التي أصدرتها الإرساليات التبشيرية المسيحية بالعربية، والتي أصدرتها الجمعيات القبطية الأرثوذكسية المعارضة لحركة التبشير المسيحي الكاثوليكي والبروتستانتي. ولكننا نلمح بين تلك الصحف «الهوانم» الأسبوعية التي أصدرها أحمد حلمي عام ١٩٠٠م، لعلَّها كانت أول محاولة مصرية في مجال الصحافة النسائية، إلى جانب بعض المجلات الفُكاهية ومجلات المسامرة، مثل «حمارة منيتي» (١٨٩٧م)، «العفريت» التي صدرت في السنة نفسها، وكذلك مجلة «السمير الصغير» التي ربما كانت أول مجلة مصرية للطفل، أضِف إلى ذلك العديد من صحف الجمعيات والهيئات الأهلية في مختلف المجالات.

كما شهد العقد الثاني من عهد الاحتلال البريطاني ظهور الصحافة السياسية المشايِعة لسياسة الاحتلال والمروِّجة لها، والصحافة الوطنية التي تعارض تلك السياسة بوضوحٍ أحيانًا، وعلى استحياء أحيانًا أخرى. واستمرت بعض تلك الصحف الوطنية المعارضة حتى الحرب العالمية الأولى، على حين اختفى بعضها إما قسرًا، تحت سطوة قانون المطبوعات الذي قيَّد حرية الصحافة، أو اختيارًا لعجز أصحابها عن ضمان المساندة المالية لهم.

ولم يستمر على الساحة من الصحف التي صدرت في عصر إسماعيل سوى «الأهرام» التي وقفت موقف الحياد المشرب بروح التأييد للخديو أيام الثورة العرابية، وكانت موقفها من الاحتلال محايدًا تمامًا في العَقد الأول من عهد الاحتلال، متبنِّيةً لوجهة النظر الفرنسية، ومدافعةً عنها في العَقد الثاني، لتعود إلى موقفها الحيادي بعد توقيع الاتفاق الودِّي بين بريطانيا وفرنسا عام ١٩٠٤م، وظلت محافِظةً على مكانتها على الساحة، مصدرة للخبر الدقيق، ومُقدِّمةً لأهم الخدمات للأوساط المالية والتجارية، ومبتدعةً للخدمات الإخبارية الاجتماعية، وخاصة إعلانات الوفيات، التي ظلت منفردة بها — أو يكاد — حتى اليوم.

وجاءت جريدة «المقطم» اليومية التي تأسَّست عام ١٨٨٩م لتلعب دور المروِّج والمدافِع عن السياسة الاحتلالية، ومناهضةً لأحلام الوطنية المصرية في التخلُّص من الاحتلال، فكانت كما وصفتها الصحافة الوطنية — بحقٍّ — جريدة إنجليزية ناطقة بالعربية، وكانت سببًا في بث روح الكراهية للشوام، وسببًا لنعتهم بالدخلاء والعملاء في الصحافة الوطنية، بل وتحمَّلت قسطًا كبيرًا من المسئولية عن الموقف المصري السلبي تجاه الحركة العربية في المشرق العربي.

وأسَّس «المقطم» لبنانيَّان من الموارنة هما: يعقوب صرُّوف وفارس نمر، ولم يكونا غريبَين عن الساحة المصرية؛ فقد قدِما إلى مصر أيام الخديو إسماعيل، وأسَّسا — بتشجيعه ودعمه — مجلةً علمية ثقافية شهرية عام ١٨٧٦م، هي «المقتطف»، ولم يُعرَف عنهما الخوض في مجال السياسة أو الكتابة فيها قبل الاحتلال البريطاني، وقبل أن يعهد إليهما المعتمد البريطاني بمهمة إصدار «المقطم» للترويج لسياسة الاحتلال والتصدي لانتقادات المعارضة الوطنية وتفنيدها ودحضها، بل وتحريض سلطات الاحتلال ضدها.

لذلك لم يكن غريبًا أن تسعى بعض عناصر الأرستقراطية التركية التي تَدين بالولاء للأسرة الحاكمة، وتتعاون مع الاحتلال، حفاظًا على مواقعها في السلطة ومصالحها المادية، أن تبحث عن صحيفة تعبِّر عن وجهة نظرها بأقلامٍ غير أقلامها، وتروِّج لفكرة الجامعة الإسلامية اجتذابًا لتأييد السلطان عبد الحميد الثاني لموقف الوطنيين المصريين، الذي يستند إلى السيادة العثمانية كأداة لتأكيد بُطلان الاحتلال البريطاني لمصر. هذا التغيُّر من النخبة التركية (التي قيل إن مصطفى رياض باشا كان على رأسها) دفعت بالشيخ علي يوسف وأحمد حافظ عوض إلى تأسيس «جريدة المؤيد» اليومية عام ١٨٨٩م، لنقد سياسة الاحتلال على استحياء، وتأكيد روابط مصر بالدولة العثمانية، والرد على مزاعم «المقطم».

وإلى جانب «المؤيد» كانت هناك «الأخبار» اليومية التي أسَّسها يوسف الخازن عام ١٨٩٦م، «والأهالي» اليومية (١٨٩٤م) التي عبَّر من خلالها مؤسِّسها إسماعيل أباظة عن مصالح الأعيان، و«المنار» الشهيرة التي أسَّسها عام ١٨٩٨م الشيخ محمد رشيد رضا للترويج لفكرة الجامعة الإسلامية. وأخيرًا «اللواء» اليومية التي أسَّسها مصطفى كامل عام ١٩٠٠م؛ والتي تبنَّت جميعها موقف معارضة السياسة البريطانية في مصر بدرجاتٍ مختلفة من حيث اللِّين والشدة، كما اختلفت رؤاها للكيفية التي تتبعها مصر للتخلص من الوجود البريطاني.

ورغم أنهم أجمعوا على أن ذلك الوجود محدود المدة؛ فقد اختلفوا في تصوراتهم لحدود تلك المدة؛ فهناك من رآها قد حانت استنادًا إلى عدم قانونية ذلك الوجود من وجهة نظر القانون الدولي، وهناك من لم يرَ بأسًا في بقاء الاحتلال حتى ينتهي من أجندة الإصلاح، ويطمئن إلى قدرة المصريين على حُكم أنفسهم بأنفسهم، عندئذٍ يرحل عنها مختارًا لا مُجبَرًا!

هذا الجدل الذي احتدم بين تلك الصحف المعارضة وبعضها بعضًا، وبينها وبين الصحف المعبِّرة عن مصالح الاحتلال، دخل مرحلةً جديدة في إطار الظروف الدولية والإقليمية التي شهدت تغيُّرًا راديكاليًّا عندما حسمت بريطانيا موقفها من التنافس الفرنسي في مصر بإبرام الاتفاق الودِّي مع فرنسا (١٩٠٤م)، والذي فتح صفحةً جديدة من النضال الوطني المناهض للاحتلال، ودفع الاحتلال إلى تنظيم صفوف المتعاونين معه من خلال الأحزاب السياسية، ليفتح بذلك صفحة جديدة من تاريخ الصحافة المصرية.

الصحافة والأحزاب

مع مولِد الأحزاب المصرية بأُطُرها التنظيمية الحديثة عام ١٩٠٧م بدأت ظاهرة الصحيفة-الحزب، أي الصحيفة التي تعبِّر عن الحزب وتتماهى فيه، أو يتماهى الحزب فيها، حتى لا يكاد يُعرَف الحزب إلا بما تحمله «ترويسة» الصحيفة من عبارة تشير إلى كونها لسان الحزب، بل تصبح الصحيفة هي الأداة اليتيمة التي يستخدمها الحزب في الترويج لمواقفه السياسية بين قرَّاء الصحيفة المعبِّرة عنه، وهي ظاهرة استمرت مع الحياة الحزبية في مصر، وما لبثت أن عادت إلى الظهور بعد قيام الحلقة المعاصرة من الحياة الحزبية على أنقاض التنظيم السياسي الأوحد (الاتحاد الاشتراكي العربي)؛ فلا يكاد مَن يقرأ الصحيفة الحزبية يعرف شيئًا عن الحزب المعبِّرة عنه وعن مبادئه وبرنامجه، وهو عادةً لا يحفل بقراءة شيءٍ من هذا إذا لمحه على صفحات الجريدة.

تلك ظاهرة مصرية محضة وغريبة، قد لا نجد لها نظيرًا في بلادٍ أخرى، ربما يكون سببها القيادة النخبوية المحدودة للأحزاب المصرية، وعدم الاهتمام الفعلي بتكوين قاعدة جماهيرية يستمد الحزب منها التأييد الشعبي، كما يستمد منها الكوادر التي تكوَّنت تحت جناح الحزب تكوينًا سياسيًّا سويًّا.

وفي هذا الإطار أُسِّست صحيفة «الجريدة» اليومية عام ١٩٠٧م كشركة مساهمة، ضمَّت نخبةً من أعيان البلاد المتعاونين مع الاحتلال، الذين يرَون أنه يخدم مصالحهم، وأن ما يقدِّمه من إصلاحاتٍ تهيِّئ مصر لحكم نفسها، ونَيل استقلالها خطوةً واحدةً. وتولَّى رئاسة تحرير «الجريدة» أحمد لطفي السيد. وأعقب تأسيس الجريدة إعلان قيام «حزب الأمة» الذي ضم نخبة من كبار الأعيان مُلَّاك الأراضي الزراعية الذين رأَوا في أنفسهم ممثِّلين طبيعيين عن المصريين بحكم كونهم رؤساء العائلات الكبرى، وأصحاب المصالح الحقيقية في البلاد.

وجاء رد الفعل مباشرًا من جانب مصطفى كامل صاحب جريدة «اللواء» الذي كان زعيمًا مُعترَفًا به للتيار الوطني المعادي للاحتلال، الذي عُرف (جوازًا) بالحزب الوطني، ولم يكن في حقيقة الأمر حزبًا منظمًا؛ فكلمة «حزب» هنا كانت تعني «جماعة الوطنيين» على نحو ما عُرف في التراث السياسي المصري عندما أطلق مصطلح «الحزب الوطني» على جماعة المعارضين للتدخُّل الأجنبي في شئون البلاد أيام الخديو إسماعيل، جاء رد الفعل بتأسيس «الحزب الوطني»، ووضع إطاره التنظيمي برئاسة مصطفى كامل. وكان برنامج الحزب لا يخرج عما عبَّرت عنه «اللواء» منذ تأسيسها عام ١٩٠٠م؛ من حيث المطالبة بجلاء الاحتلال استنادًا إلى عدم قانونية وجوده، والمطالبة بدستورٍ يحقق المشاركة الشعبية في إدارة أمور البلاد.

وعندما مات مصطفى كامل بعد عام من تأسيس الحزب، خلَفه في رئاسته محمد فريد، الذي لم يكتفِ بحشد المثقفين ورموز الطبقة الوسطى حول الحزب، على نحو ما فعل مصطفى كامل، بل اهتم بحشد العمال والفلاحين، وانعكس ذلك في الخطاب السياسي ﻟ «اللواء» الذي ازداد حدة، واستفز الاحتلال فأوقف الجريدة عن الصدور، لتعود من جديد عام ١٩٠٩م باسم «الشعب»، ثم عام ١٩١٠م باسم «العلم»، وهي ظاهرة شاعت في تاريخ الصحافة المصرية كلما تعرَّضت صحيفة لإلغاء ترخيصها.

وكما تحوَّل «اللواء» إلى لسان حال الحزب الوطني تحوَّلت «المؤيد» إلى لسان حال حزبٍ جديد يعبِّر عن مصالح الخديو عباس حلمي الثاني، سُمِّي «حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية» ضم بعض الموالين للقصر من كبار الموظفين برئاسة الشيخ علي يوسف.

وإلى جانب هؤلاء نظم بعض نخبة المثقفين الأتراك والشوام والأقباط، ممن تربوا في المعاهد الأوروبية، وتقلَّدوا بعض المناصب الكبرى في ظل الاحتلال، نظموا أنفسهم في حزب تشكَّل في صيف ١٩٠٧م باسم «الحزب الوطني الحر» بزعامة وحيد بك الأيوبي، والذي أصدر «جريدة الأحرار» الأسبوعية للتعبير عنه. كما أسَّس بعض أثرياء الأقباط البروتستانت الحزب المصري بزعامة أخنوخ فانوس، والذي اتخذ من صحيفة «مصر» اليومية التي أصدرها الأخوان قيصر وصموئيل تادرس المنقبادي منبرًا للتعبير عن الحزب الذي رفع مطالب طائفية محضة.

وحتى بعد تصفية «الحزب الوطني» ومطاردة كوَادره، واضطرار زعيمه محمد فريد إلى مغادرة البلاد والحياة في المنفى، وظروف الحرب العالمية الأولى التي قيَّدت حرية الصحافة، وأخضعتها لرقابة صارمة جعلت الكثير منها يحتجب تمامًا عن الصدور، عادت ظاهرة الصحيفة المعبِّرة عن الحزب السياسي مع ثورة ١٩١٩م، فقام أمين الرافعي (من قيادات الحزب الوطني) بإصدار صحيفة «الأخبار» في ٢٢ فبراير ١٩٢٠م لتعبِّر عن المعارضة الوطنية، وتجمع حولها شتات كوادر الحزب الوطني، وبدورها حفلت صفحات «الأخبار» بالمقالات المعبِّرة عن المواقف الوطنية المتشدِّدة.

وكان من الطبيعي أن يعبِّر أنصار الاعتدال في السياسة الوطنية عن مواقفهم من خلال صحفية هي «الاستقلال»، التي أصدرها محمود عزمي في مايو ١٩٢١م، وساهم طه حسين في تحريرها، وحين انشق بعض أعضاء «الوفد المصري» وكوَّنوا حزب «الأحرار الدستوريين» أصدر الحزب جريدة «السياسة» في ٣٠ أكتوبر ١٩٢٢م، ورأس تحريرها محمد حسين هيكل، وكان من كُتَّابها طه حسين، ومحمود عزمي، وتوفيق دياب وغيرهم.

وكان لا بد أن يتخذ «الوفد المصري» لنفسه صُحفًا تعبِّر عنه بعدما كان يعتمد في ١٩١٩م على «الأخبار» ذات الهوى الوطني، «والنظام» التي شايعته، و«الوفد المصري» التي أصدرتها لجنة الوفد المركزية بالقاهرة، فكانت «البلاغ» التي أصدرها عبد القادر حمزة عام ١٩٢٣م أبرز الصحف المعبِّرة عن «الوفد المصري»، وساهم في تحريرها عباس العقاد. وأصبح البلاغ سجلًّا حافلًا لحقبة العشرينيات من تاريخ الوفد المصري، وإلى جانبها «كوكب الشرق» التي أصدرها في ٢١ سبتمبر ١٩٢٤م أحمد حافظ عوض. ولعبت الصحيفة الأخيرة دورًا بارزًا في مقاومة الانقلابات الدستورية، مما عرَّض الصحيفة للتوقُّف عن الصدور، ثم جاءت «المصري» لتعبِّر عن «الوفد» في مرحلته الأخيرة.

واستمرت ظاهرة الحزب المعبِّرة عن مصالح القصر الملكي في «حزب الاتحاد» الذي أسَّسه أحمد زيور باشا عام ١٩٢٤م، وأصدر صحيفة «الاتحاد» للتعبير عنه. وعندما قام إسماعيل صدقي باشا بالانقلاب الدستوري عام ١٩٣٠م شكَّل حزبًا جديدًا للقصر سُمِّي «حزب الشعب»، وأصدر جريدة «الشعب»، ورغم تولي الأديب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني شئون التحرير، إلا أن الصحيفتَين لم تحققا رواجًا لعدم تعبيرهما عن التيار العام للحركة الوطنية المصرية.

أضِف إلى ذلك الصحف التي عبَّرت عن جماعات الرفض السياسي والاجتماعي، مثل تلك التي أصدرتها جماعة الإخوان المسلمين (صحيفتا «الإخوان المسلمون» و«الدعوة») وحزب مصر الفتاة (صحيفتا: «الصرخة» و«الاشتراكية») والإصدارات المختلفة للفصائل المكوِّنة للحركة الشيوعية (صحف: «الملايين» و«الواجب» و«الفجر الجديد» وغيرها).

الصحافة والتطور الاجتماعي والثقافي

إذا كانت الصحافة قد غرقت في بحار السياسة منذ الاحتلال البريطاني على نحو ما رأينا، وحوَّلت الحياة الحزبية بعضها إلى فناء للتعبير عنها، وإثبات وجودها على الساحة السياسية، أو أداة لحشد الجماهير — أحيانًا — تأييدًا لهذا الموقف السياسي أو ذاك، فلا يعني ذلك أن تاريخ الصحافة المصرية جاء خُلوًّا من المساهمة في التطور الاجتماعي والثقافي منذ مطلع القرن العشرين (على أقل تقدير)؛ حيث كانت الصحف هي المنابر التي طُرحَت من خلالها الأفكار الحديثة، التي كان لها أثرها في الحياة المصرية؛ مثل تحرير المرأة الذي تبنَّته، ودافعت عنه «الجريدة» و«الأهرام»، وعارضته «المؤيد» و«اللواء» و«المنار»، وكانت «المقتطف» أول من نقل إلى قراء العربية فكرة النشوء والارتقاء عند داروين، كما نقلت العديد من المعارف العلمية الحديثة في عصر حفل بالاكتشافات العلمية والمخترعات. وكانت «الهلال» نافذة أطلَّ منها القارئ العربي على الفكر السياسي والاجتماعي، ولعبت دورًا بارزًا في إحياء الأدب العربي، وتقديم الدراسات النقدية الأولى للتراث.

وحفلت الصحف بحوار دائم حول جديد الفكر بين مؤيد ومعارض، كما حدث مع كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي»، وما دار حوله من حوار؛ انتصر لمبدأ حرية البحث العلمي وحرية الرأي، وكتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» الذي زاد من حدة الجدل حوله لمسِّه لموضوعٍ كان مثار أمل الملك فؤاد لوراثة الخلافة، فجاء الشيخ ليسحب البساط من تحت الفكرة ذاتها. وقضية تنصيب الملك فاروق بمراسم دينية، التي أثارت — على نطاقٍ واسعٍ — نقاشًا حول نظرية الحق الإلهي في الحكم ومجافاتها للدستور، والتي خرج فيها الوفد منتصرًا للدستور.

وعلى الصعيد الاجتماعي طُرحت العديد من الأفكار الخاصة بحقوق العمال، وضرورة تحسين الظروف المعيشية في الريف والحضَر، والارتقاء بمستوى معيشة المصريين، كما طُرحت الأفكار الخاصة بالإصلاح الزراعي وضرورته لتحقيق التوازن في المجتمع لتفادي ثورة اجتماعية لا تُبقي ولا تَذر.

وعلى صفحات الصحف المصرية جاءت الدعوة إلى تخليص الاقتصاد المصري من الهيمنة الأجنبية، وطرحت فكرة إنشاء بنك وطني منذ أيام الخديو إسماعيل، وأعيد طرحها في ظروف الأزمة المالية عام ١٩٠٧م، وكان بنك مصر عام ١٩٢٠م ثمرة لكفاح المصريين من أجل هذه الغاية. وعلى صفحات الصحف المصرية جاءت الدعوة لتأميم قناة السويس منذ عام ١٩٢٠م، وكذلك الدعوة إلى تأميم مصادر الثروة الطبيعية، وضرورة التخلُّص من السيطرة الأجنبية على اقتصاد البلاد.

وبذلك تحوَّلت الصحيفة من وسيلة لنقل الأخبار (عند صدور الوقائع المصرية) إلى أداة إعلامية تتناول مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ومجالٍ لنشر الإبداعات الأدبية والفنية.

التطور التنظيمي للصحافة

رأينا كيف جاءت نشأة الصحافة برعاية الدولة، ثم تخلَّصت من تلك الرعاية بعدما عرفت طريقها إلى القارئ؛ مشتركًا أو مشتريًا، وهي رحلة طويلة استغرقت ثلاثة أرباع القرن (على أقل تقدير)، تطوَّر خلالها فن التحرير الصحفي من النشرة الإخبارية، إلى جريدة متعددة الأقسام والأبواب، إلى الأعمدة الثابتة. ومن الاقتصار على صف الجريدة بالحروف إلى استخدام الصور والرسوم الكاريكاتيرية، إلى الصحافة المصورة وصحافة الكاريكاتير، إلى الصحافة المتخصصة في الثقافة والأدب والاقتصاد والرياضة والأزياء والطرائف، وغير ذلك من ألوان التخصص، رحلة طويلة اقتربت من القرنين من الزمان صاحبتها الكثير من التطورات التنظيمية.

وحتى الربع الأول من القرن العشرين (على أقل تقدير) كان الأمر لا يحتاج إلا إلى قدرٍ محدودٍ من المال لإصدار صحيفة، ورأس مال يكفي لتأجير مقر للجريدة، ثم تعاقُد مع إحدى المطابع التجارية لطباعتها، والاعتماد على أكبر عددٍ ممكن من المشتركين يتم إرسالها إليهم، وطرح جانب منها للبيع من خلال بعض المتعهدين. وهو ما يفسر هذا العدد الكبير من الصحف التي حصل أصحابها على تراخيص بإصدارها، فتجاوز عدد التراخيص التي صدرت في عهد الاحتلال الثلاثمائة دورية لم يعمر بعضها طويلًا. وبلغ عدد الصحف المرخَّص لها في مصر عند قيام ثورة يوليو ما يزيد عن المائة صحيفة! بما يكشف عن توافر إمكانية إصدار دورية ما، بغض النظر عن ضمان استمرارها في الصدور؛ فالأمر لا يتطلب اقتناء أصول مكلِّفة.

إلى جانب هذا نرى ظاهرة الدار الصحفية ذات الطابع المؤسسي التي تُصدِر أكثر من دورية تعرف طريقها إلى مصر، بدءًا «بالأهرام» ثم «أخبار اليوم» و«الهلال» وغيرها من المؤسسات الصحفية التي تطورت قبل ثورة يوليو لتصبح لها مبانيها الخاصة ومطابعها وإصداراتها المتعددة وقنوات التوزيع الخاصة بها (شركات التوزيع)، كما أصبحت هناك مؤسسات نشر ضخمة تتولَّى إصدار الصحف الخاصة بها، كما تقدِّم خدماتها للصحف الأخرى التي ما زالت تحبو على الطريق، على أُسسٍ تجارية طبعًا.

وصحب هذا التطور في هيكل الصحافة تطور آخر في تكوين الكوادر الصحفية، وفي النظرة الاجتماعية لمن يحترف العمل الصحفي. فبعد أن كان المشتغل بالصحافة (حتى مطلع القرن العشرين) إنسانًا عجز عن الحصول على وظيفة محترمة، واعتُبرت مهنة الجُرنالجية من المهن الدنيئة (كما جاء في حيثيات حكم المحكمة الشرعية في قضية زواج الشيخ علي يوسف من بنت الشيخ السادات) أصبحت الصحافة تجتذب حملة الشهادات العليا وكبار المثقفين، من أمثال أحمد لطفي السيد ومحمود عزمي وطه حسين، وغيرهم من الأعلام، كما أصبحت تجتذب كبار الأدباء والمبدعين.

وبعد أن كان الاشتغال بالصحافة يعتمد على الاستعداد الفطري لدى مَن يقدِم على الاشتغال بها؛ أصبحت مهنةً ذات أصولٍ عملية، تتطلَّب دراستها واستيعابها، وخصَّصت لها الجامعة المصرية معهدًا للصحافة، ثم جعلت لها قسمًا في كلية الآداب، تحوَّل بعد سنوات ليصبح نواةً لكلية الإعلام، ثم تعدَّدت كليات الإعلام بالجامعات المصرية، واحتلت أقسام الصحافة فيها مكانًا مهمًّا. وتغيَّرت نظرة المجتمع إلى الصحفي؛ فأصبح الاشتغال بالصحافة، والنجاح في مجالها، وبروز القدرات الفردية، سبيلًا للشهرة، يسعى إليه الشباب، لنَيل نصيبهم من العمل في صياغة الرأي العام.

رحلةٌ طويلة جديرةٌ بالتأمُّل واستخلاص الدروس من ذلك التاريخ الحافل الممتزج بتاريخ مصر.

١  مجلة «أحوال مصرية»، العدد ٣٦، ربيع ٢٠٠٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥