العصر الذهبي للتسامح١
كانت الدولة العثمانية آخر الإمبراطوريات الشرقية الكبرى التي ضربت بجذورها في العصور الوسطى، وعمرت حتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين، وامتدَّت أراضيها — في وقتٍ من الأوقات — لتشمل ما حول البحر الأسود ومعظم بلدان البلقان، إضافةً إلى الأناضول والبلاد العربية بمشرقها ومغربها (فيما عدا المغرب الأقصى). وشملت هذه الأراضي ما كان يُعرَف بالإمبراطورية البيزنطية، وسَلطنة سلاجقة الروم، وسَلطنة المماليك في مصر والشام وتوابعها بالجزيرة العربية واليمن، والعراق، والكيانات العربية بشمالي أفريقيا.
ورغم كونها آخر الإمبراطوريات فقد ضمَّت شعوبًا تنوَّعت أعراقها وثقافاتها، السُّلاف والصرب والماجيار والإغريق والأرمن والمغول والتُّرك والكرج والأكراد والعرب والبربر، بل وبعض الفرس.
ومع هذا التنوُّع في الأعراق والثقافات، كان هناك تنوع في الديانات؛ المسيحية بمختلف كنائسها، واليهودية بمختلف مذاهبها، والإسلام بمختلف فِرقه، يتصدَّره السُّنة، وكانت نسبة من غير المسلمين من رعايا الدولة العثمانية تتوازن مع نسبة المسلمين من سكانها. وما كان باستطاعة مثل هذه الإمبراطورية أن تظل محتفظةً بأراضيها لولا السياسة الطائفية الرشيدة التي اتَّبعتها فيما سُمي بنظام الملة، وبموجب هذا النظام كانت كل طائفة دينية في الدولة مستقلة بإدارة شئونها الدينية والثقافية والاجتماعية، تطبِّق شرائعها على أتباعها، إلا من رغب منهم في غير ذلك، وتُصدر الدولة المراسيم الخاصة بتعيين الرؤساء الدينين الذين يختارهم أهل المِلة، ليلعبوا دور الوسيط بين الطائفة والدولة، ولا تتدخَّل الدولة في شئونهم ما داموا يسدِّدون الضرائب، ويصدعون لأوامر الإدارة، ويعبِّرون عن ولائهم للسلطان.
ولم يقتصر ذلك على عاصمة الدولة (إستانبول) أو البلقان، وآسيا الصغرى، أو القوقاز، بل طُبِّق هذا النظام في سائر ولايات الدولة، بما فيها الولايات العربية؛ فلم تشهد الدولة العثمانية ظاهرة التمييز والاضطهاد الجماعي التي تفشَّت في روسيا وبلاد وسط أوروبا (بالنسبة لليهود على وجه الخصوص)، ولم تحدث فيها حركات تطهير عِرقي إلا في السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى، عندما تعرَّض الأرمن للمذابح الشهيرة بسبب مطالبتهم بالاستقلال عن الدولة. أما الصراع الطائفي في جبل لبنان في مطلع ستينيات القرن التاسع عشر فكان نتاجًا لأزمة اجتماعية، وتدخُّلات خارجية أضفت على الصراع طابعه الدموي، وهيَّأت الفرصة للتدخل الأجنبي.
هذه مقدمة لا بد منها للحديث عن اليهود في الدولة العثمانية، وإذا كانت قد طالت نوعًا، ما فذلك لتصحيح مقولات مغلوطة شاعت عن الدولة العثمانية، تأثرًا بسياسة التعصب القومي التي مارستها حكومة الاتحاد والترقي، ذات التوجُّه القومي التركي ضد القوميات الأخرى في الدولة، في العَقدَين الأوَّلين من القرن العشرين، وهي السياسة التي كانت إرهاصًا لتفكُّك الدولة بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. وواقع الحال أن غير المسلمين من رعايا الدولة عاشوا حياةً أكثر استقرارًا وأمنًا من تلك التي عاشها إخوانهم في الدين في بلاد أوروبا (وخاصةً اليهود) حتى الربع الثالث من القرن التاسع عشر على أقل تقدير.
ولعل اليهود كانوا يحظَون — في الدولة العثمانية — بمكانة خاصة تعود إلى الوضع التاريخي المتميز لليهود في المناطق المفصليَّة على طُرق التجارة الدولية في آسيا الصغرى (الأناضول) وسواحل البلقان المطلة على بحر إيجة، والعراق والشام، ومصر وشمالي أفريقيا، ويرجع ذلك الوضع المتميز إلى دور اليهود المنتسبين إلى دار الإسلام في التجارة الدولية، سواء تلك القادمة من وسط آسيا على طريق الحرير، أو تجارة البحر المتوسط هذا فضلًا عن احتكارهم لأعمال الصيرفة، وإقراض الأموال، والحوالات المالية، وبراعتهم في أعمال الوكالة التجارية بين دار الإسلام وأوروبا (وخاصةً المدن الإيطالية). ودعم اليهود هذا الدور الاقتصادي بإقامة علاقات خاصة مع السُّلطة الحاكمة ورموزها، منذ العصر الفاطمي حتى نهاية العصر العثماني، تستند إلى المشاركة في إدارة الأمور المالية للدولة، واستثمار أموال السلاطين والأمراء وحكام الولايات في التجارة، والشراكة التجارية مع هؤلاء، ومدهم بما يحتاجون من قروض في مقابل الحصول على مزايا إدارية ومالية (كالالتزامات، وخاصة التزام الجمارك ودار الضرب) وغيرها.
ولكن ذلك لا يعني أن اليهود (جميعًا) كانون يرفلون في حُلل النعيم في ظل الدولة العثمانية، أو الدول الإسلامية التي سبقتها، أو أنهم جميعًا كانوا من أساطين التجارة والمال، فقد كان السواد الأعظم من اليهود فقراءً يشتغلون بالحِرف اليدوية، ومنهم صغار الباعة والعمال وحتى الشحاذين، كما أنهم لم يكونوا طائفةً واحدةً؛ فمنهم القرَّاءون؛ الذين تمتد جذورهم في مصر إلى ما قبل الفتح العربي، والذين تأثَّروا في ممارستهم وعقائدهم الدينية بمنهج الفقه الإسلامي، ومنهم الربَّانيون (الأصوليون) الذين كانت لهم الرئاسة الدينية الرسمية للطائفة، وهؤلاء وأولئك هم يهود الشرق ذوو الأصول السامية الخالصة.
غير أن قيام مملكة إسبانيا الحديثة في نهاية القرن الخامس عشر، بعد تصفية الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وسياسة التطهير الديني التي اتَّبعتها المملكة الكاثوليكية الوليدة من خلال محاكم التفتيش، التي قُدِّم لها المسلمون واليهود، فكان القتل نصيب من يتمسَّك بدينه، مما أدَّى إلى نزوحٍ جماعي للهاربين من محاكم التفتيش إلى بلاد المغرب العربي. وهكذا خرج السواد الأعظم من يهود الأندلس — الذين صاروا يُعرَفون بالسفارديم — مع المسلمين يلتمسون النجاة بأنفسهم وأموالهم وعقيدتهم، ولكن أحوال المغرب الاقتصادية — عندئذٍ — لم تكن لتستوعب هذا الحشد من المهاجرين.
يمَّم اليهود وجوههم شطر الدولة العثمانية؛ فهاجروا إليها على دفعاتٍ متواصلة طَوال القرنين السادس عشر والسابع عشر، حتى أصبح يهود الدولة العثمانية (في نهاية القرن الثامن عشر) يفوقون أعداد اليهود في دول العالم الأخرى. وعندما فقدت الدولة العثمانية مساحاتٍ من أراضيها بالبلقان وغيرها مما كان يسكنها يهود، كان تعداد اليهود في الدولة العثمانية عام ١٩٠٠م يقترب من النصف المليون نسمة، ليشكِّل بذلك خامس أكبر تجمُّع يهودي في العالم، بعد روسيا والنمسا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، كما كان يهود الدولة العثمانية — عندئذٍ — يفوقون يهود بريطانيا وفرنسا معًا من حيث العدد، كما كانوا يمثِّلون التجمُّع الطائفي اليهودي الأهم في العالم من النواحي المادية والروحية والثقافية.
وفي القرن التاسع عشر تدفَّقت هجرة جديدة من اليهود الأوروبيين (الأشكنازيم) الذين التمسوا في بلاد الدولة العثمانية ملجأً آمنًا، يمارسون فيه حياتهم وعقيدتهم بحرية تامة، جاء معظمهم من وسط أوروبا والمجر وروسيا، وهي الهجرة التي جلبت معها فريقًا من العلماء والأطباء والمهندسين. واحتل اليهود في القرن التاسع عشر مواقع هامة في الإدارة العثمانية، وخاصة المالية والتمثيل الدبلوماسي في سفارات الدولة بأوروبا، وفي التعليم بالمدارس العثمانية العالية، وفي مجال الفنون.
وللتمييز بين اليهود الأُصلاء من رعايا الدولة العثمانية، وأولئك الذين هاجروا إلى بلاد الدولة من الأندلس وغيرها من بلاد أوروبا، أطلق الأتراك على اليهود المهاجرين اسم «يهود الدوننمة» أي اليهود الذين قدِموا بالسفن. وكما كان من بين اليهود المهاجرين؛ العلماء والمفكرون والتجار والمموِّلون، كان من بينهم أيضًا العمال والحرفيُّون والفقراء من عمال الشحن والتفريغ في المواني وغيرهم. وقد كان لدُعاة الفكر القومي الغربي من اليهود تأثيرهم على رجال الاتحاد والترقي، بل إن نشيد جماعة الاتحاد والترقِّي وُضعت كلماته على موسيقى أغنية فولكلورية يهودية إسبانية، كانت تتحدث عن إخاء المسلمين واليهود في الأندلس، وجاء نشيد جماعة الاتحاد والترقي ليؤكد الإخاء بين اليهود والمسيحيين والترك لكونهم عثمانيين يتضامنون معًا في السرَّاء والضرَّاء.
ورغم أن ذلك الموقف التضامني مع جماعة الاتحاد والترقي كان قصرًا على حفنة من المثقفين وكبار الموظفين اليهود، بينما كان فقراء اليهود — وخاصة عمَّال المواني — في وادٍ آخر، ينظمون الإضرابات ضد استغلال رأس المال، وعنَت السلطة، رغم ذلك شاع في بعض الكتابات العربية تضخيمٌ لدور «يهود الدوننمة» (أي المهاجرين اليهود)، وصياغة دور تآمري لهم لتقويض حُكم السلطان عبد الحميد الثاني (أكثر حُكام الدولة استبدادًا)، من أجل تصفية الخلافة الإسلامية، والكيد للإسلام، ولفتح الطريق أمام الصهيونية.
وللأسف الشديد يتناقل الكُتَّاب هذا الهُراء عن بعضهم البعض، بل ويعرف طريقه إلى الكتب الدراسية في بعض البلاد العربية ليربَّي جيل — بل أجيال — على هذه الأكاذيب، فليس صحيحًا أن السلطان عبد الحميد الثاني كان يقف حجر عَثرة في طريق الصهيونية؛ فالمستوطنات الصهيونية الأولى التي أقيمت عند طبرية في فلسطين كانت من أراضي الميري (أي أراضي الدولة) بيعت للصهاينة لإقامة المستوطنات الأولى، وبيع غيرها من أراضي الدولة دون أن يحرك عبد الحميد الثاني ساكنًا، وليس صحيحًا أنه لم يوافق على هجرة اليهود واستقرارهم في فلسطين، بل وافق على الهجرة من حيث المبدأ على أن يتوزَّع المهاجرون على الولايات العربية بالشام.
وتبقى حقيقةٌ لا مِراء فيها، هي أن «يهود الدوننمة» كانوا لا يؤيدون الدعوة الصهيونية، ولا يميلون إلى تأييد فكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ولم يقتصر ذلك على اليهود المهاجرين إلى الدولة، فيما بين القرون السادس عشر إلى التاسع عشر، بل كان ذلك موقف يهود مصر والعراق من الدعوة الصهيونية، وكل هذه المواقف ثابتة في العديد من مصادر الفترة وصحفها.
إن محاولة إبراء ذمة السلطان عبد الحميد الثاني زورًا وبُهتانًا على أيدي دُعاة إحياء الخلافة الإسلامية لا يخدم قضيتهم في شيء، فقد استخدم الرجل الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، لتكريس استبداده، ولضرب الحركة الدستورية، والتنكيل بالأحرار، ويكفي أن يقرأ هؤلاء «طبائع الاستبداد» لعبد الرحمن الكواكبي الذي كان من ضحايا عبد الحميد الثاني. ألم يكن عبد الحميد الثاني هو الذي أصدر مرسوم عصيان أحمد عرابي نزولًا على طلب الإنجليز، مما كان له آثاره السلبية على تماسُك الجيش المصري ضد الغزو البريطاني، ما دام ذلك دعمًا لقائدٍ شق عصا الطاعة على أمير المؤمنين.
وليس غريبًا أن يلتقي المتطرفون — على اختلاف توجهاتهم — عند نقطة واحدة، فإذا كان دُعاة إحياء الخلافة الإسلامية يعتبرون اليهود وراء جماعة الاتحاد والترقي التي خلعت عبد الحميد الثاني تمهيدًا لتصفية الخلافة، بينما واقع الحال هي استمرار الخلافة حتى عام ١٩٢٤م، عندما تم إلغاؤها على يد مصطفى كمال مؤسِّس تركيا الحديثة، التي لا شأن لها بالدولة العثمانية، وجاء ذلك من خلال حرب تحرير وطنية ضد القُوى الأجنبية التي احتلت الأناضول بهدف تفتيته أيضًا، كما فُتِّتت البلاد العربية. وجاءت إقامة الجمهورية التركية الحديثة في سياق لم يكن هناك معنًى أو مبرر لاستمرار مؤسسة الخلافة، ولم يكن إلغاء الخلافة واردًا على الإطلاق في برنامج الاتحاد والترقي أو مبادئها وأدبيَّاتها عند قيامهم بالانقلاب ضد عبد الحميد الثاني عام ١٩٠٨م.
ويلتقي غُلاة الكُتَّاب الصهاينة مع هؤلاء عندما يدَّعون أن اليهود في دار الإسلام كانوا مواطنين من الدرجة الثالثة، يفضَّل عليهم المسيحيون، وأنهم كانوا عُرضة للاضطهاد بمناسبة بعض طقوس أعيادهم الدينية، مما عرَّضهم للمذابح على أيدي المسلمين، الذين فرضوا عليهم زيًّا خاصًّا لتمييزهم إمعانًا في الإذلال، ولا يشير هؤلاء — من قريب أو بعيد — إلى كتاب جويتاين «مجتمع البحر المتوسط» الذي نُشِر بالإنجليزية منذ ما يزيد على ربع القرن — في ثلاثة مجلدات — نشر فيها وثائق الجنيزة التي كُتبت بالعربية بحروف عبرية، وتبيَّن كيف كان اليهود يسيطرون على تجارة البحر المتوسط من قواعدهم في مصر والمغرب والأندلس، وكيف عاشوا حياةً كان يحسدهم عليها يهود أوروبا.
لقد شهد القرن التاسع عشر انتعاشًا للطوائف اليهودية في الدولة العثمانية، وولاياتها العربية، وخاصةً أن قوانين الإصلاح العثمانية ساوَت بين المسلمين وغير المسلمين منذ عام ١٨٥٦م، وفتحت أبواب تولِّي وظائف الدولة والخدمة العسكرية أمام جميع الرعايا بما فيهم اليهود. كما أدَّى قدوم موجة الهجرة الأشكنازية من وسط أوروبا إلى ازدهار النشاط الثقافي لليهود، فأُسِّست المدارس للبنات بالقاهرة والإسكندرية والقدس وسالونيكا وإستانبول ودمشق وبغداد والدردنيل فيما بين السنوات ١٨٤٠–١٨٩١م، وتولَّى الإنفاق على هذه المدارس جمعية الائتلاف اليهودي الدولي، والجمعية اليهودية الألمانية، كما أسَّس بعض أثرياء اليهود السفارديم المدارس لأبناء طائفتهم، وأوقفوا العقارات للإنفاق عليها.
وفي مجال العقيدة أثرى الحاخامات الربَّانيون الفكر الديني اليهودي بكتاباتهم، سواءً كانت بالعبرية أو العربية، وكان ليهود مصر والشام والعراق الدور الأساس في تلك الكتابات الفقهية.
كذلك صدرت الصحف المختلفة بالعربية، والتركية، والفرنسية والعبرية، واليديش (لغة يهود روسيا وشرقي أوروبا) بالعواصم المختلفة للولايات العثمانية، وكان للكُتَّاب اليهود مساهماتهم في الأدب التركي والأدب العربي شعرًا ونثرًا.
وهكذا كان الوجود اليهودي في الدولة العثمانية يعبِّر تعبيرًا دقيقًا عن الوضع الخاص الذي كان لليهود تحت جناح الحضارة العربية الإسلامية، كما يكشف عن قدرة تلك الدولة متعددة الأعراق والثقافات والديانات على أن تحقِّق نموذجًا للتعايُش يقوم على احترام خصوصية كل ديانة، مع ترابُط مصالح الطوائف جميعها في إطار دولةٍ ربطت بين العصور الوسطى والعصر الحديث، وعصف بها عصر القوميات، والتوسُّع الإمبريالي.