إسلاميُّون وراديكاليُّون وليبراليُّون
اصطلح الباحثون على إطلاق صفة «الليبرالية» على النظام السياسي الذي ساد في مصر في أعقاب ثورة ١٩١٩م، على اعتبار أن دستور ١٩٢٣م الذي غلبت عليه الملامح الليبرالية، كان يمثِّل إطار النظام السياسي فيما بين ثورتَي ١٩١٩م و١٩٥٢م، بحكم اتخاذه لبعض الدساتير الليبرالية الأوروبية إطارًا مرجعيًّا له، وبحكم كون «الديمقراطية» محورًا للصراع السياسي خلال تلك الحقبة، بل إن بعض الكُتَّاب اليوم ينظرون إلى «الحقبة الليبرالية» نظرتهم إلى الفردوس المفقود، مقارنةً بالنظام السياسي الذي جاءت به ثورة يوليو.
ونُعنى هنا بالبحث عن إجابةٍ لسؤالٍ جوهري، هو: هل استطاعت مصر أن تحقق نظامًا سياسيًّا ليبراليًّا في ظل دستور ١٩٢٣م؟ أو — بعبارة أخرى — هل كان النظام السياسي الذي أقامه دستور ١٩٢٣م نظامًا ليبراليًّا حقيقيًّا، وهل عرفت مصر الديمقراطية الليبرالية في ظله؟
- أوَّلها: حدوث تحوُّل رأسمالي يستبدل بالقُوى الإنتاجية التقليدية، وبعلاقات الإنتاج التقليدية، أخرى رأسمالية (حديثة).
- وثانيها: تكوُّن طبقة «برجوازية» تلعب دورًا رئيسًا في تحقيق التحوُّل الرأسمالي لصالحها.
- وثالثها: توافُر الوعي الطبقي والسياسي عند هذه الطبقة الجديدة، الذي يجعلها تقف حارسةً لمصالحها من خلال صياغة النظام السياسي الذي يكفل لها تأمين هذه المصالح.
فهل تحقَّقت لمصر هذه الشروط الثلاثة على مَر تاريخها الحديث، منذ مطلع القرن التاسع عشر؟ وهل نضجت تلك الشروط نُضجًا كافيًا لإفراز نظام سياسي «ليبرالي»؟
إن الإجابة الدقيقة على هذا التساؤل تتطلَّب دراسة موسَّعة يضيق المقام هنا بها، ولكن خُلاصة القول: إن الشروط الثلاثة الضرورية لتحقيق قيام نظام سياسي ليبرالي لم تتوافر في مصر بشكلٍ كامل نتيجة الظروف التاريخية التي مرَّت بها التجربة المصرية.
فقد تعثَّرت تجربة التحوُّل الرأسمالي في مصر لأسبابٍ محلية وخارجية، وانعكس ذلك التعثُّر على نشأة «البرجوازية» المصرية (وخاصة شرائحها العُليا) وتطوُّرها، بقدر ما انعكس على درجة نُضج وعيها الاجتماعي والسياسي. وكان لذلك آثاره على خيارات نُخبة البرجوازية المصرية عند وضع أُسس النظام السياسي الذي صاغته في دستور ١٩٢٣م، فجاء معبِّرًا عن مصالحها الضيقة، ولم يأتِ تجسيدًا لمصالح الشرائح الدنيا من الطبقة نفسها، أو مصالح الجماهير الشعبية التي لعبت الدور الرئيس في ثوره ١٩١٩م، وعبَّر الدستور عن توازُن سياسي؛ لعبت فيه قُوى القصر والإنجليز، وكبار مُلاك الأراضي الدور الأكبر.
مَن وضعَ الدستور
ومن عجبٍ أن تأتي مبادرة إقامة حكم دستوري في مصر من جانب السلطات البريطانية ذاتها في المذكرة الإيضاحية التي قدَّمها المندوب السامي البريطاني إلى السلطان فؤاد، رِفق تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م، الذي اعترف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة مع التحفُّظات الأربعة الشهيرة، التي جعلت من هذا الاستقلال اسمًا على غير مُسمًّى؛ إذ نصَّ البند العاشر من المذكرة الإيضاحية على أن «إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف والرقابة على السياسة والإدارة في حكومة مسئولة — على الطريقة الدستورية — يرجع الأمر فيه إلى السلطان وإلى الشعب المصري.» وكان ذلك يعني — ضمنًا — ضرورة قيام حكم دستوري نيابي؛ يقترن بقبول تصريح ٢٨ فبراير، ومن ثَم يلتزم السلطان بإقامة نظامٍ برلماني دستوري، ما دام قبِل بالتصريح. ولعل ذلك يفسر محاولات فؤاد الأول (الذي أصبح ملكًا) التملُّص من إصدار الدستور فيما بعد دون جدوى، كما يفسر الأسلوب الذي أُعد به الدستور، وتدخَّل الملك في صياغته.
فبدلًا من أن تضع الدستور جمعية تأسيسية وطنية منتخَبة من الشعب، شكَّل الملك لجنةً إدارية حكومية لوضعه، استُبعدَت منها العناصر السياسية الفعَّالة؛ ولذلك سمَّاها سعد زغلول (لجنة الأشقياء). وبدلًا من أن تتخذ اللجنة من التجربة الدستورية المصرية التي تمثِّلها لائحة ١٨٨٢م إطارًا مرجعيًّا لها، لجأت إلى بعض الدساتير الغربية — وخاصةً الدستور البلجيكي — وصاغت مواد الدستور على هَدْيها، بعد أن شذبت ما اقتبسته منها بما يتواءم مع رغبات الملك، ومضمون تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م.
وعندما لم يرضِ ما توصَّلت إليه «لجنة الأشقياء»، من نصٍّ مقترَح للدستور، مطالِب الملك، دفع به إلى اللجنة التشريعية بوزارة الحقَّانية (العدل) التي راحت تعدِّل في المشروع، وتوسِّع سلطات الملك على حساب الشعب، وبدلًا من أن يُطرَح الدستور للاستفتاء العام قبل إصداره، صدر بمرسومٍ ملكي (١٩ أبريل ١٩٢٣م) في صورة «منحة مَلكية»، ومن ثَم كان من حق الملك استرداد ما منح متى شاء ذلك، وهو ما حدث بالفعل في الانقلابات الدستورية الشهيرة.
وقد أدَّت السلطات الواسعة التي خصَّ الملك نفسه بها في الدستور إلى إضعاف التجربة، والإضرار بالدستور؛ فاتخذ القصر من أحزاب الأقلية أدواتٍ يستند إليها في حُكمه، وزُوِّرت الانتخابات ليتم بذلك تقويض المبدأ القائل بأن الأمة مصدر السلطات الذي نصَّ عليه الدستور، والذي يُعَد حجر الزاوية في النظام السياسي الليبرالي، وبذلك قُيِّدت الإرادة الحرة للناخب في اختيار مَن ينوب عنه ويمثِّله في البرلمان، ولم تشهد مصر في تلك الحقبة انتخاباتٍ حرة بعد تلك التي أُجريَت عام ١٩٢٤م، وفاز فيها الوفد بالأغلبية سوى مرتين؛ الأولى في ١٩٣٦م والثانية ١٩٥٠م، عندما رأى الإنجليز ضرورة تولِّي الوفد الحكم، ومارسوا ضغوطًا على الملك لهذا الغرض.
الحقبة الليبرالية وعدم الاستقرار
ولذلك اتَّسمت الحياة النيابية في «الحقبة الليبرالية» بعدم الاستقرار؛ فمنذ برلمان ١٩٢٤م، توالَت على مصر عشر هيئات نيابية حتى قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، ولم يُكمِل برلمان واحد سنواته الخمس على مدى تلك الفترة، فقد انعقد برلمان عام ١٩٢٤م في مارس، وتم حلُّه في ديسمبر من العام نفسه. وعندما أجرت وزارة أحمد زيور الانتخابات اجتمع مجلس النواب يوم ٢٣ مارس ١٩٢٥م ليُحَل في اليوم نفسه.
وانعقد البرلمان الثالث في يوليو ١٩٢٦م لدوراتٍ ثلاث، ثم أوقف محمد محمود باشا الحياة النيابية لمده ثلاث سنوات قابلة للتجديد (عام ١٩٢٨م)، ولكن وزارته سقطت قبل انتهاء هذه المدة، وانتُخب برلمان رابع في يناير ١٩٣٠م ليُحَل في السنة نفسها (وهي الفترة التي شهدت الإطاحة بدستور١٩٢٣م، وإصدار دستور أكتوبر ١٩٣٠م)، ووضع قانون انتخابٍ جديد ضيَّق من حق الانتخاب، وقصره على شرائح اجتماعية معينة.
وفي ظل الانقلاب الدستوري، انتُخِب برلمان خامس، استمر أربع دورات تشريعية، قطعها عودة دستور ١٩٢٣م من جديدٍ تحت ضغط الحركة الوطنية (ديسمبر ١٩٣٥م)، وانتُخب البرلمان السادس في ظل دستور ١٩٢٣م (مايو ١٩٣٦م)، ولم يستمر أكثر من عامين، وقام البرلمان السابع في أبريل ١٩٣٨م، والثامن في مارس ١٩٤٢م، والتاسع في يناير ١٩٤٥م، والعاشر في يناير ١٩٥٠م.
ومن الغريب أنَّ تشكيل البرلمانات العشرة التي شهدتها مصر في تلك الحقبة كان يتناقض تناقضًا كبيرًا من مجلسٍ تشريعي لآخر؛ فنجد الحزب الذي أحرز الأغلبية في مجلس نيابي، يحتل مقاعد الأقلية في المجلس الذي يَليه، وقد تتحوَّل هذه الأقلية إلى أغلبية ساحقة في برلمانٍ تالٍ تُنتخَب بعد شهورٍ قليلة وهلمَّ جرًّا. ولا يعكس هذا التحول تغيُّرًا حقيقيًّا في موازين القُوى على الساحة السياسية، أو تحوُّلًا في اتجاهات الرأي العام، وإنما كانت تعبِّر عن التغيير في المزاج المَلكي، ومهارة وزير الداخلية في (طَبخ) الانتخابات.
ومع عدم استقرار الحياة النيابية خلال تلك الحقبة، عانت مصر من عدم استقرار السلطة التنفيذية، فتعاقبت الوزارات على الحُكم الواحدة تِلوَ الأخرى، ولم تعمِّر أيٌّ منها إلا أربعة عشر شهرًا في المتوسط؛ مما كان له آثاره السلبية على أداء الحكومة، كما حال دون متابعة السياسات التي تحوَّلت إلى مجرد «وعود» يحفل بها «خطاب العرش»، الذي جرى العُرف على أن يلقيه رئيس الوزراء — باسم الملك — عند افتتاح البرلمان؛ لأن الملك فؤاد كان لا يعرف اللغة العربية.
وألقى هذا الموضع بظلاله على الأحزاب السياسية التي تداولت السلطة في تلك الحقبة. فإذا كان الدستور قد ركَّز السلطات في يد الملك، ودعم حُكمه الفردي فقد كان قادة الأحزاب السياسية يتمتعون بصلاحياتٍ مطلَقة في قيادة أحزابهم، وكان للوفد قصب السَّبق في هذا المجلس، فقد أُطلِق على سعد زغلول «نبي الوطنية» و«زعيم الأمة»، وحمل مصطفى النحاس اللقب نفسه، إضافةً إلى «الرئيس الجليل»، ولقَّبه مكرم عبيد ذات مرة «بالرئيس المقدس»، ويعكس ذلك أوتوقراطية قيادة الوفد التي كانت وراء الانشقاقات التي حدثت فيه، نتيجة انفراد «الزعيم» باتخاذ القرارات، حتى لو خالف بها معظم أعضاء «هيئة الوفد».
حدث الانشقاق الأول في ٢٥ أبريل ١٩٢٧م، عندما فصل سعد زغلول معظم أعضاء الهيئة لمُخالفتهم له الرأي حول تشكيل وفد التفاوض. ووقع الانشقاق الثاني في عام ١٩٣٢م، عندما طُرحت فكرة تشكيل حكومة ائتلافية لعقد معاهدة مع بريطانيا وَفقًا لما أسفرت عنه مفاوضات ١٩٣٠م، يُعاد بعدها العمل بدستور ١٩٢٣م، فرفض النحاس باشا تلك الفكرة انطلاقًا من مبدأ عدم المساومة بحقوق البلاد؛ فاستقال تسعة من «أعضاء هيئه الوفد» (أي نحو ثُلث قياداته) احتجاجًا على ذلك. ووقع الانشقاق الثالث والخطير عام ١٩٣٧م نتيجة الصراع على السلطة داخل قيادة الوفد، وهو الانشقاق الذي فُصِل فيه النقراشي وأحمد ماهر؛ فكوَّنا «الهيئة السعدية». ووقع الانشقاق الرابع عام ١٩٤٢م بخروج مكرم عبيد في إطار الصراع على السلطة أيضًا داخل قيادة الحزب وشكَّل «الكتلة الوفدية»، ونشر «الكتاب الأسود» الذي وصم قيادة الوفد بالفساد.
لم ينفرد «الوفد» بظاهرة استبداد الزعيم بالسلطة؛ إذ انتقلت عدواها إلى الأحزاب التي خرجت من عباءته، فغالبًا ما كان رئيس الحزب يتولَّى تعيين أعضاء هيئة قيادة الحزب، وقد يطلب من الجمعية العمومية للحزب تزكية ذلك التعيين، وقد لا يهتم بذلك. ولم تكن لتلك الأحزاب — بما فيها الوفد — مستويات قاعِدية تغذِّي التنظيمات القيادية بالكوادر. وكان انضمام الأفراد إلى القيادة دُون المرور بالعضوية أمرًا واردًا عند جميع الأحزاب؛ مما أتاح لبعض الشخصيات فرصة الانتقال من قيادة حزب إلى آخر أربع مرات خلال ثلاث سنوات.
ولعل ذلك يفسِّر السهولة التي استطاعت بها ثورة يوليو التخلُّص من هذه الأحزاب بقرار الحل الذي صدر في يناير ١٩٥٣م، فلم تتحرك الجماهير للدفاع عن تلك الأحزاب (بما فيها الوفد) لغياب القواعد الحزبية الجماهيرية في تنظيماتها، ولعدم اهتمامها بتربية الكوادر، ولعجزها — بالطبع — عن طرح البرامج التي تقدِّم حلولًا لمشاكل الجماهير، بينما لقيَت ثورة يوليو مُعارضةً ومُقاومة لا يُستهان بها من جانب التنظيمات الأيديولوجية الأقل وزنًا على الساحة السياسية، كالشيوعيين والإخوان المسلمين، لأنها كانت أدق تنظيمًا مقارنةً بالأحزاب الليبرالية، كما كانت لها قواعد لا يُستهان بها.
غياب البرامج السياسية
اشتركت جميع الأحزاب «الليبرالية» في غياب البرامج السياسية التي تعالج مشاكل المجتمع، وترسم إطار السياسات الاجتماعية اللازمة لحلِّها؛ فقد جاءت قيادات هذه الأحزاب من نخبة البرجوازية من كبار المُلاك الزراعيين وأصحاب الأعمال، فلم تهتم إلا برعاية مصالحها الذاتية على حساب مصالح الجماهير الشعبية، وجاءت دعوات الإصلاح الاجتماعي من عناصر لا تنتمي إلى تلك الأحزاب، ولقيَت تلك الدعوات مُقاومة شديدة من جانبهم، مثل الدعوة إلى الإصلاح الزراعي، وتوفير الخدمة الصحية للفلاحين، وحماية المِلكيات الصغيرة، والتعليم الإلزامي. ولم تصدر التشريعات العمالية المحدودة — خلال تلك الحقبة — إلا تحت ضغط الحركة العُمالية، ونصَّت على استبعاد الفلاحين وعمال الزراعة من نطاق الخضوع لها، حرصًا على مصالح كبار المُلاك.
وكانت حُجة تلك الأحزاب في إغفال السياسات التي تُعالج المسائل الاجتماعية، أن قضية الاستقلال الوطني هي القضية الرئيسية، أما ما عداها من قضايا، فتستطيع الانتظار إلى ما بعد تحقيق الاستقلال الوطني. وحتى تلك المهمة العاجلة (الاستقلال الوطني) أصبحت موضع مُزايدات من الأحزاب كلما دارت المفاوضات مع الإنجليز حولها، فإذا لم يكن الوفد طرفًا فيها هاجم خصومه، واتهمهم بالتفريط في حقوق الوطن.
وأدَّى هذا القصور في أداء تلك الأحزاب إلى اتجاه الشباب إلى الالتفاف حول حركات الرفض السياسي والاجتماعي منذ أواخر العشرينيات، وانضمامهم إلى الجماعات ذات التوجُّهات الماركسية أو الفاشية أو الإسلامية السلفية، وهو اتجاه زاد وضوحًا بعد إبرام معاهدة ١٩٣٦م، التي وصفها النحاس باشا بأنها «معاهدة الشرف والاستقلال».
واشتركت جميع تلك الأحزاب — أيضًا — في ظاهرة مُحاباة الأنصار عند الوصول إلى السلطة؛ فيتم فصل عُمَد القُرى المناصرين للخصوم، ويُرقَّى الأنصار من موظفي الدولة ترقياتٍ استثنائية، مع مُحاباة الأقارب والأصهار.
دور أحزاب الأقلية
لعبت أحزاب الأقلية — التي خرجت من عباءة الوفد — دورًا مهمًّا في إضعاف النظام ذاته، من خلال حملات المهاترات الصحيفة التي وُجِّهت ضد الوفد، أو من خلال الارتماء على أعتاب قصر عابدين (الملك) تارةً، أو الارتماء على أعتاب قصر الدوبارة (المندوب السامي البريطاني، ثم السفير فيما بعد ١٩٣٦م) تارةً أخرى، ضمانًا للوصول إلى السلطة ما دامت لا تستطيع تحقيق ذلك بالطرق الدستورية، وكانت تلك الأحزاب نخبويةً تقليديةً تقوم على عناصر محدودة من الشخصيات، وترتبط بها ارتباطًا وثيقًا.
وفي ظل ظروفٍ كهذه كانت علاقات الصداقة والمصاهرة والقُربى أهم من الاتفاق السياسي أو الفكري، وكانت الولاءات الشخصية أساس العلاقات السياسية؛ فهي أحزاب أشخاصٍ لا أحزاب مبادئ، ومن ثَمَّ اتَّسم نشاطها بالانتهازية السياسية، والبُعد عن الجماهير، فكانت أقرب إلى الأجنحة السياسية منها إلى الأحزاب.
كما أن القيادة السياسية لأغلب هذه الأحزاب جاءت من الشرائح العُليا البرجوازية (كبار المُلاك الزراعيين ورجال الأعمال)، ويشترك معها الوفد في هذه الخاصية، بالإضافة إلى تمثيله للشرائح الوسطى من البرجوازية المصرية، وإن غلبت على قيادة النخبة المحتلَّة للشرائح العليا (بعد معاهدة ١٩٣٦م)، لذلك لا نجد غرابةً فيما توصَّل إليه عبد العزيز فهمي باشا عام ١٩٤١م، عندما كلَّفه «حزب الأحرار الدستوريين» بدراسة برامج الأحزاب السياسية؛ فاكتشف أنه لا فارق بينها، فجميع تلك الأحزاب — دون استثناء — صاغت برامجها نخبة طبقة اجتماعية واحدة، لتعبِّر عن مصالحها، وعن رؤيتها للقضية الوطنية التي تأخذ بمبدأ التدرُّج في تحقيق الاستقلال عن طريق التفاوض.
وظلَّت تلك النخبة الاجتماعية صاحبة الصوت الأعلى، والتمثيل الأكبر في السياسة المصرية حتى عام ١٩٥٢م، مع اتساع مساحة ممثِّلي المصالح الرأسمالية الصناعية والتجارية، إلى جانب المصالح الزراعية، ولا يُستثنى «الوفد» من هذه الظاهرة، التي كانت من عوامل تفسُّخه وضعفه.
ثمار دستور ١٩٢٣م
وخُلاصة القول أن النظام السياسي الذي أقامه دستور ١٩٢٣م كان نظامًا أوتوقراطيًّا استبداديًّا، يلبس مُسوح الليبرالية التي تمثَّلت فيما اشتمل عليه الدستور من مبادئ تتعلَّق بالحريات العامة والشخصية، ومن نصِّه على أن الأمة مصدر السلطات؛ إذ سرعان ما كبَّلت الحريات العامة والشخصيات بالأحكام العرفية التي سادت معظم ما سُمِّي بالحقبة الليبرالية — إلا سنوات قليلة معدودة — استخدمت دائمًا لضرب المعارضة السياسية، وتكميم الصحافة، وحرمان الجماهير الشعبية من التعبير عن مصالحها بتقييد حريتها من ناحية، وتزوير إرادتها في الانتخابات العامة من ناحية أخرى.
وكان الملك هو المصدر الحقيقي للسلطات، وليس «الأمة»، يشاركه فيها الإنجليز بحكم وجود جيش الاحتلال على أرض مصر، ومن خلال ما كفله لهم تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م من حق التدخُّل في شئون مصر الدفاعية والتشريعية، في إطار التحفظات الأربعة الشهيرة، ثم من خلال ما تمتعت به الحليفة «بريطانيا العظمى» من مزايا وفَّرتها لها معاهدة ١٩٣٦م بعد إبرامها.
وكيَّفت الأحزاب السياسية نفسها — بما فيها الوفد — مع هذا الوضع؛ فجعلت من الوصول إلى السلطة هدفًا لها حتى تستطيع تحقيق الاستقلال الوطني (كما تراه) بوسيلة واحدة هي التفاوض، غير أن هدف الوصول إلى السلطة احتل مرتبة الصدارة على حساب الغاية المنشودة من ورائه (الاستقلال).
وكانت السلطة مغنمًا عند كل الأحزاب السياسية التي وصلت إليها (بما في ذلك الوفد) تسعى من وجودها — المحدود زمنيًّا — على مقاعد السلطة، لتحقيق أكبر قدرٍ من المكاسب الشخصية لقياداتها وأنصارها، وإن تميَّز الوفد بمحاولة تحقيق بعض المطالب التشريعية للجماهير المصرية في أضيق الحدود، بما لا يضرُّ بالمصالح المادية للنخبة الحاكمة، ويحقق استرضاء قطاعات من الجماهير التي تستند إليها شعبيته (وخاصة في وزارة ٤ فبراير ١٩٤٢م).
ومن الجدير بالذكر أن السلطات الواسعة التي حظي بها رئيس الجمهورية في دساتير ثورة يوليو، كانت إعادة صياغة تكاد تكون نصية للسلطات الأوتوقراطية التي كانت للملك في دستور ١٩٢٣م. ولعل مردَّ ما حفلت به «التجربة الليبرالية» من سلبيات، إلى عدم توافر الشروط الضرورية لإقامة نظام سياسي ليبرالي في مصر توافرًا تامًّا نتيجة تعثُّر تجربة التحوُّل الرأسمالي عندنا لأسبابٍ محلية وخارجية، قد نتناولها في مقالٍ آخر.