أحمد لطفي السيد
رغم خطورة الدور الذي لعبه أحمد لطفي السيد (أستاذ الجيل) في الحياة السياسية المصرية، وفي تطور الفكر المصري الحديث منذ مطلع القرن حتى منتصفه، فإن ما نُشر من أعماله قليلٌ لا يتكافأ مع حجم دوره في السياسة، وفي ريادة الفكر الليبرالي في مصر، وخاصةً ما اتصل بالكتابات السياسية.
ولولا المحاولات التي بُذلَت لتجميع بعض هذه الكتابات؛ لضاع هذا القدر — أيضًا — مما جاد به قلم أستاذ الجيل. من بين تلك المحاولات ذلك الكتاب الذي نُشر في جزأين بعنوان «المنتخَبات»، والذي ظهر الجزء الأول منه عام ١٩٣٧م، والجزء الثاني بعد ذلك التاريخ بثماني سنوات عام ١٩٤٥م، ومنها أيضًا الكتاب الذي نعرض له «صفحات مطويَّة من تاريخ الحركة الاستقلالية»، ونُشِر عام ١٩٤٦م.
«وصفحات مطويَّة» يضم مقالات أحمد لطفي السيد التي نُشرت في «الجريدة» الصحيفة التي عبَّرت عن «حزب الأمة»، والتي رأس تحريرها أحمد لطفي السيد، وخصَّص قلمه للترويج للخط السياسي للحزب الذي كان يختلف عن خط «الحزب الوطني» بزعامة مصطفى كامل ومحمد فريد.
فعلى حين كان «الحزب الوطني» يتمسَّك بضرورة جلاء الإنجليز عن مصر، وعودة البلاد إلى حظيرة الدولة العثمانية كولاية تتمتع بحكمٍ ذاتي كامل حدَّدته الفرمانات الصادرة من السلطان لمحمد علي وإسماعيل، ويطالِب بإصدار دستور للبلاد يكفل للشعب قدرًا من المشاركة في إدارة أموره، كان «حزب الأمة» لا يرى أن الجلاء مطلبٌ عاجل، ويقبَل بتنظيم العلاقة مع بريطانيا في إطار حكمٍ ذاتي يتسع شيئًا فشيئًا حسب درجة تقدُّم المصريين التي تؤهِّلهم لحكم أنفسهم بأنفسهم، ويرى في العودة إلى حظيرة الدولة العثمانية، بأي صورة من الصور، تفريطًا في حق مصر التي يجب أن تكون بلدًا مستقلًّا استقلالًا تامًّا، كما يجب أن تكون هناك «جنسية مصرية» متميزة عن الجنسية العثمانية، ولا يرى غضاضةً من التدرُّج في الحصول على الاستقلال خطوةً خطوةً.
أما عن الدستور فهو يطالب بدستورٍ يكفل للأعيان، باعتبارهم «أصحاب المصالح الحقيقية»، قدرًا من المشاركة في حُكم البلاد دون المساس بالامتيازات الأجنبية والمصالح الأجنبية في مصر؛ فلا عجب أن نرى الإنجليز يصِفُون رجال الحزب الوطني بالتطرف ورجال حزب الأمة بالاعتدال.
مرحلة الوفاق
من هنا تأتي أهمية «صفحات مطويَّة»؛ فهو يضم مقالات أحمد لطفي السيد التي تعكس وجهة نظر «حزب الأمة» في مرحلةٍ من أدق مراحل الحركة الوطنية المصرية، وهي مرحلة الوفاق بين الخديو والإنجليز، التي أعقبت خروج كرومر من مصر عقب حادث دنشواي، وما سبَّبه من حرجٍ للسياسة البريطانية، وتغطي الفترة التي تولَّى فيها السير ألدون جورست مهمة المعتمد البريطاني في مصر، فعلى حين بارك «حزب الأمة» سياسة الوفاق على أمل أن تؤدي إلى تهيئة المناخ لسياسة الإصلاح التي تقود البلاد إلى الحكم الذاتي، ثم الاستقلال التام تدريجيًّا، نَقَم «الحزب الوطني» على هذه السياسة، واعتبرها وسيلةً لإجهاض الحركة الوطنية لصالح عملاء الإنجليز.
ولذلك نجد «الحزب الوطني» يعبِّئ — في تلك الفترة — الجماهير وراءه من أجل المطالبة بالجلاء والدستور، بينما كان «حزب الأمة» يدعو إلى «الاعتدال» و«التعقُّل»، والحصول على ما يمكن الحصول عليه، والصبر على ما يستحيل الحصول عليه حتى يحين الوقت المناسب لذلك، وهو المحور الذي دارت حوله مقالات أحمد لطفي السيد بالجريدة عندئذٍ. لذلك يقدِّم كتاب «صفحات مطوية» لمن يدرس تاريخ الحركة الوطنية في مصر في مطلع القرن العشرين مصدرًا مهمًّا لا غنَى عنه، وخاصةً أن أعداد «الجريدة» المحفوظة بدار الكتب المصرية عانت من الإهمال وصروف الدهر بالقدر الذي جعلها بعيدةً عن متناول الباحثين؛ لذلك يسد الكتاب ثغرة مهمة في مصادر تاريخ الفترة، وفي تاريخ الحركة السياسية على وجه الخصوص.
ويعود فضل نشر الكتاب إلى الكاتب المعروف إسماعيل مظهر، الذي كان يُعَد من تلاميذ أحمد لطفي السيد الذين ساهموا في الترويج للفكر العلماني فيما بين العشرينيات والأربعينيات، وقد قام إسماعيل مظهر بتجميع مقالات أحمد لطفي السيد من «الجريدة»، ورتَّبها ترتيبًا يتَّسق مع الموضوعات التي عالجتها، وعلَّق — أحيانًا — على حواشيها، وقدَّم للكتاب بكلمة تناول فيها أهمية الكتاب باعتباره من الأعمال التي تنتسب إلى «الأدب السياسي».
ودعا إلى نشر كتابات زعماء الحركة الوطنية ومذكراتهم؛ مصطفى كامل، محمد فريد، وسعد زغلول، كما وجَّه الدعوة إلى أحمد لطفي السيد لنشر مذكراته السياسية التي غطَّت الفترة من ١٩٠٧م حتى ١٩١٤م، وذكر أن أستاذ الجيل أعدَّها في صورة مخطوط، غير أنها لم تُنشَر حتى اليوم، ولا نعرف أين استقر بها المَطاف، فما نُشِر بسلسلة كتاب الهلال (١٩٦٢م) تحت عنوان «قصة حياتي» كان تجميعًا لأحاديث شفوية أجراها طاهر طناحي مع أحمد لطفي السيد.
و«صفحات مطويَّة» كتابٌ يقع في ٢٨٠ صفحة من القطع المتوسط، وُزِّعت فيها مقالات لطفي السيد التي نُشرَت فيما بين مارس ١٩٠٧م ومارس ١٩٠٩م على ثمانية مداخل هي: خطبٌ سياسية واجتماعية، الخديو، لورد كرومر أمام التاريخ، الحُكم الذاتي، تطاحن المبادئ، المجالس النيابية، الوزارة، النظام السياسي. ومعظم المقالات قصيرٌ، لا يتجاوز الصفحات الثلاث من الكتاب، مع استثناءاتٍ محدودة، وخاصةً ما اتصل بالخُطب التي وصل بعضها إلى نحو عشر صفحات.
ويضم المدخل الأول «خطب سياسية واجتماعية» ثلاث خُطبٍ ألقاها أحمد لطفي السيد بالقاهرة والإسكندرية في اجتماعاتٍ لحزب الأمة، ونُشرَت نصوصها بالجريدة. وقد تناول في تلك الخطب — بالنقد — اتجاه الاعتماد في طلب الاستقلال على مساندة قُوًى أجنبية، وخاصة الدولة العثمانية، وطالب المصريين بأن يعتمدوا على أنفسهم، وأن تتَّسع مساحة التعبير عن مختلف الآراء في الصحف، وأن يعملوا على كسب تأييد أحرار أوروبا والأوروبيين — من أصحاب المصالح في مصر — باستهجان «فكرة الجامعة الإسلامية» باعتبارها فكرةً استعمارية تُفقِد مصر هُويتها، وتُلقي على المصريين تهمة التعصب الديني وكره الأجانب؛ مما ينعكس سلبيًّا على مساعي المصريين لنيل الاستقلال الذاتي، وطالب بتوسيع اختصاصات المجالس النيابية القائمة (مجالس المديريات، ومجلس شورى القوانين، والجمعية العمومية) كخطوة في الطريق لنيل الدستور، وتحقيق «التسوية بين المصريين، وبين النزلاء الأجانب في المعاملات والقوانين».
ودعا إلى نشر التعليم الحديث، والاهتمام بمشروع «الجامعة المصرية»، وأن يستفيد المصريون من درس الأزمة الاقتصادية التي عانت منها البلاد عام ١٩٠٧م بالعمل على إقامة بنك مصري؛ حتى لا يقع المصريون فريسةً للبنوك الأجنبية. ودعا إلى أن يواكب السعي لنيل الحقوق السياسية العمل على «ترقية الحالة الاجتماعية والاقتصادية بنفس الحدة»، وبمقدار «الخُطى التي نخطوها في مطالبنا السياسية»، وأكد أن مصر لن تُصبِح للمصريين حقًّا إلا إذا كان الرأي العام قويًّا.
وفي المدخل الثاني: «الخديو» قدَّم أحمد لطفي السيد بعض الأحاديث التي أدلى بها الخديو عباس حلمي الثاني لبعض مُراسلي الصحف الأوروبية في مصر، أثنى فيها على الشعب المصري من حيث قدرته على استيعاب «التعاليم الأوروبية»، ونفى تهمة التعصُّب والعدوان التي كانت تُرمَى بها الحركة الوطنية المصرية، كما نفى عن نفسه تهمة السعي للانفراد بالسُّلطة لإقامة حُكم استبدادي، ورحَّب بمشاركة المصريين له في السُّلطة، وأشاد بالإصلاحات التي أدخلها الإنجليز على المالية والإدارة المصرية.
وقد علَّق أحمد لطفي السيد على تلك التصريحات بشيءٍ من التحفُّظ، مشيرًا إلى أن الأمراء عادةً لا يُفصِحون للصحافة بما تكنُّه الصدور. وتوقَّف طويلًا عند مقولة مشاركة الشعب في السُّلطة بما يوحي بأن الخديو تجاهل الإشارة إلى الدستور؛ مما لا يدعو إلى الاطمئنان. وخصَّص أحمد لطفي السيد مقالًا للهجوم على الشاعر أحمد شوقي بك (وكان يُعَد المتحدث الرسمي للخديو) بسبب التصريح الذي أدلى به لبعض الصحف، وأشار فيه إلى أن «جلالة السلطان يعتبر أنَّ أمر البرلمان المصري من الحقوق الخاصة بسمو الخديو» واعتبر هذا التصريح دليلًا على تمسُّك الخديو بالسُّلطة الفردية، ومحاولته إقناع الإنجليز بتوسيع سلطاته الشخصية مقابل تأييده المطلَق لسياستهم في مصر، مما يساعد على تصفية الحركة الوطنية.
ويُعَد المدخل الثالث «لورد كرومر أمام التاريخ» من أهم ما يتضمنه الكتاب من نصوص، ويضم خمس مقالات، تبدأ بتقييمٍ كامل لأعمال كرومر بمناسبة رحيله عن مصر، فأشاد بكفاءته في تدعيم أُسس الاحتلال البريطاني في مصر خدمةً لمصالح بلاده التي تتناقض تمامًا مع مصالح المصريين؛ فالإصلاح الاقتصادي كان هدفه تمكين الخزانة المصرية من تسديد أقساط الديون، وبالتالي تخف ضغوط الدول الأوروبية على بريطانيا، وتزداد اطمئنانًا إلى ما لاحتلال مصر من فوائد لمصالحها، ولكن تلك الإصلاحات أفادت المصريين — أيضًا — فائدةً لا يُنكرها أحمد لطفي السيد، الذي رأى أن تلك الإصلاحات كان من الممكن أن تعمَّ فوائدها لو صَرف كرومر هِمَّته لكسب ولاء المصريين بالاهتمام بالتعليم العام، والعمل على ترقيته، وجعله مفيدًا للأمة، ولو استعان بأكفاء المصريين في الإدارة بدلًا من الاعتماد على الأجانب، ولو عمل على إبراز الهوية المصرية، عندئذٍ كان باستطاعة كرومر أن يكسب صداقة المصريين وثناءهم.
نفي تهمة التعصب
كذلك تضمن هذا المدخل نص احتفال وداع كرومر، الذي أقامه أصدقاؤه من المصريين والأجانب بدار الأوبرا (٤ مايو ١٩٠٧م)، والكلمات التي ألقاها بعض كبار رجال الدولة (مثل مصطفى فهمي باشا)، ثم كلمة كرومر الشهيرة، التي أثنى فيها على كل من تعاون معه، وخصَّ مصطفى فهمي وبطرس غالي بثناءٍ خاصٍ، كما أبدى إعجابه بسعد زغلول، وتنبَّأ له بمستقبل سياسي مرموق، ثم دافع عن سياسته في مصر، مؤكِّدًا أن ما تم إنجازه من إصلاحٍ استهدف تحقيق الخير للمصريين الذين لم يقدِّروا جهوده، ولكنه أكد أن الجيل القادم من المصريين سوف يقدِّر جهوده حقَّ قدرها «إذ المعتاد أن أولاد العميان يكونون من المبصرين.»
ومن الغريب أن أحمد لطفي السيد نشر وقائع الاحتفال ونصوص الكلمات دون تعقيب أو تعليق، واكتفى بنشر مقالين (بعد سفر كرومر) انتقد فيهما ما جاء بتقريره عن عام ١٩٠٧م، الذي أشار فيه إلى تبنِّي المصريين لفكرة الجامعة الإسلامية، وما يدل عليه ذلك من ميل المصريين إلى التعصُّب الديني، وعدم استعدادهم للرقي، فنفى أحمد لطفي السيد وجود ما يُسمَّى بالجامعة الإسلامية أصلًا، وأكد عدم وجودها بمصر، كما نفى عن المصريين تهمة التعصب الديني التي رمى كرومر المصريين بها، ليبيِّن للرأي العام الأوروبي أن مصر لا تستحق أن تكون لها هُويتها الخاصة، ولا يجب الاعتراف لها بوجودٍ سياسي، وللمصريين بالحقوق السياسية التي تعطيهم حق المشاركة في إدارة أمور البلاد.
وفي المدخل الرابع؛ «الحكم الذاتي» نجد أحمد لطفي السيد يدافع عن الفكرة في عددٍ من المقالات، مؤكِّدًا أن الوضع القانوني لمصر منذ محمد علي هو الحكم الذاتي فلا غرابة في المطالبة به، واتهام الساعين للحصول عليه بطلب «فضلة من الاستقلال». وطالب أستاذ الجيل بأن يتم التركيز على التربية والتعليم باعتبارهما سبيل الحصول على الاستقلال، بالتخلُّص من فوضى النظام التعليمي الذي يتوزَّع بين مدارس الحكومة، والكتاتيب والأزهر، ومدارس الإرساليَّات الأجنبية، وتبنِّي سياسة تعليمية تهدف إلى تنشئة المصريين نشأةً وطنية.
فالتعليم يساعد على تكوين رأي عام يتوافر لديه قدرٌ كافٍ من الوعي السياسي يساعده على نيل الدستور والاشتغال بتدبير الأمة، وطالب الأعيان بالحرص على الكرامة الوطنية لأن «الأعيان هم رؤساء الأمة الطبيعيُّون، فهم رؤساء العائلات، والأمة لا تتكوَّن من الأفراد، بل تتكوَّن من العائلات» لذلك وجب على الأعيان أن يروِّضوا أنفسهم على الأخلاق الدستورية.
وفي المدخل الخاص ﺑ «تطاحُن المبادئ» عالج أحمد لطفي السيد مفهوم السلطة في مصر منذ أيام محمد علي، فبيَّن كيف كانت تلك السُّلطة استبدادية، وكيف كانت المجالس النيابية التي أقامها الخديو إسماعيل مجالس صُوريَّة، لا تتمتع بسلطات دستورية، ثم عرج على الوضع تحت الاحتلال، مبيِّنًا كيف أصبحت السلطة الفعلية في يد الإنجليز امتدادًا للسلطة الاستبدادية، وطالب بأن يعترف الإنجليز والخديو (صاحب السلطة الشرعية) بأن للأمة دورًا سياسيًّا لا بد أن تمارسه من خلال الدستور الذي يُعطي ممثِّلي الأمة (وهم هنا أعيان البلاد) دورًا رئيسًا في إدارة أمور البلاد، ودعا الكُتَّاب إلى أن يوجِّهوا أقلامهم لخدمة هذه الغاية، بدلًا من التباري في تأييد الخديو أو تأييد الإنجليز، وطالب بالأخذ بمبدأ المسئولية الوزارية؛ بحيث يكون الوزير مسئولًا أمام المجلس النيابي، وليس أمام الخديو، وحضَّ الكُتَّاب على أن يكون لهم فكرهم المستقل، الذي لا يتأثَّر بالغير، وألَّا يتقاعسوا عن ممارسة النقد للسلطة وللمجتمع.
وفي مدخل «المجالس النيابية»، تناول الاتجاهات الرئيسية في الحركات السياسية المصرية، فانتقد موقف الحزب الوطني من مسألة الاستقلال العاجل (الجلاء)؛ لأن الاستقلال يقتضي أن يستعد المصريون له استعدادًا كاملًا، ولا يتحقق ذلك إلا بتدريبهم على إدارة أمورهم من خلال المجالس النيابية، وطالب أحمد لطفي السيد بقصر حق الانتخاب على من يعرفون القراءة والكتابة، ويدفعون ضريبة قدرها خمسون جنيهًا في السنة (وكانت تلك الضريبة يدفعها مَن يملك ما بين ٢٠–٢٥ فدانًا)، مؤكدًا أن استمرار الإصلاح الاقتصادي والاهتمام بالتعليم سوف يؤدِّيان إلى اتساع دائرة مَن يتمتعون بحق الانتخاب تدريجيًّا، على أن يُعطى هذا الحق لأصحاب المهن الحرة كالمحامين، والأطباء، والمهندسين دون شروط. وطالب بتوسيع اختصاصات الهيئات النيابية القائمة (مجالس المديريات) ومجلس شُورى القوانين، والجمعية العمومية بإعطاء هذه المجالس صلاحيات تشريعية وحق مُراقبة أعمال إدارات الحكومة، وضرب أمثلةً عديدة لما يمكن أن تحقِّقه هذه الإصلاحات من وضع الأمة المصرية على بداية الطريق إلى الحياة الدستورية.
وفي المدخل الخاص ﺑ «الوزارة» المرتبط بسابقه، ضمَّ عددًا من المقالات التي حدَّد فيها أحمد لطفي السيد الوضع الدستوري للوزارة؛ فيستقل الوزراء في إدارة أمور وزاراتهم عن الخديو والمستشارين الإنجليز؛ بحيث تكون مسئولية الوزارة عن إدارة أمور البلاد مسئوليةً جماعية، لا رقيب عليها إلا المجلس النيابي، ونعى على الوزارة أسلوبها في الحكم الذي يجعلها أداةً في أيدي المستشارين الإنجليز، وتهرُّبهم من إيضاح أعمال الوزارة أمام مجلس شورى القوانين، وحمل المجلس على تأييد ما تقترحه الوزارة من قوانين دون دراسة، وطالَب الوزارة بأن تجيب الأمة إلى مطالِبها الدستورية حتى تحظى بثقتها.
وتناول لطفي السيد في المدخل الأخير: «النظام السياسي»، والحق أن العنوان لا يدل دلالةً دقيقة على محتوى المقالَين اللذين نُشِرا تحته؛ فهما يختصان بانتقاد الطريقة التي يمارس بها الموظفون عملَهم، وينتقد السياسة الإدارية بشكلٍ عام، وهي السياسة التي تعتمد على الموظفين الأجانب بالدرجة الأولى، ولا تُفسح المجال للأكفَاء من المصريين لينالوا حقهم في المشاركة في تدبير أمور بلادهم، وطالَب أحمد لطفي السيد في المقالين بأن تكون الكفاءة وحدها هي معيار الاختيار، وأن يُفسِح المجال أمام الموظفين المصريين لشغل الوظائف الرئيسية، وأعطى أمثلةً كثيرة للتفريق في المعاملة بين المصريين والأجانب في الإدارة والقضاء.
وهكذا وضع إسماعيل مظهر بين أيدينا هذا الملف المهم الذي يجمع مقالات أحمد لطفي السيد فيما بين ١٩٠٧–١٩٠٩م، تلك المقالات التي تعكس رؤية فصيل هام من فصائل الحركة السياسية المصرية، في مرحلة من أدق مراحل تطورها، قُدِّر له أن يحظى بقبولٍ عام عند نهاية الحرب العالمية الأولى، فلا شك أن «الوفد» الذي حمل لواء ثورة ١٩١٩م خرج من عباءة حزب الأمة، وعبَّر عن نهجه السياسي الذي يسعى إلى تحقيق الاستقلال بالتدريج.