أحمد لطفي السيد والاحتلال البريطاني١

عندما احتل الإنجليز مصر عام ١٨٨٢م، كان أحمد لطفي السيد قد تجاوز العاشرة من عمره ببضعة شهور، ولكنه كان يعي — بلا ريب — دلالات هذا الحدث الجلل، ويتفتح وعيه على حالة الإحباط والقنوط التي عانى منها المصريون طول العَقد الأول من عهد الاحتلال. والتي كانت الفترة نفسها التي عبَر فيها أحمد لطفي السيد من الفتوة إلى الشباب، وهو العَقد الذي أوصله إلى مدرسة الحقوق، التي كانت عندئذٍ معقل الشباب الذي أثقلت وجدانه هموم الوطن، وشغله مستقبل بلاده، وكيفية تحقيق أملها في الحرية والاستقلال.

وكان لا بد لأحمد لطفي السيد أن يحدِّد موقفه من ذلك الهَم الوطني العام منذ تفتَّح وعيه السياسي مع مطلع الشباب، وأن يختار لنفسه موقع المشاركة في العمل على تحقيق الاستقلال المنشود.

كان الاحتلال البريطاني قد دعم وجوده في البلاد عن طريق إقامة نوعٍ من التوازن بين القُوى الاجتماعية صاحبة المصالح الاقتصادية في البلاد، فاحتضن طبقة كبار المُلاك الزراعيين، وحرص على إقامة نوعٍ من التوازن بين شرائحها المختلفة، ليتمكَّن من لعب دور الحَكم بين بعضها البعض، فلم يسمح لأيٍّ منها بأن تحيد عن الخط الذي رُسِم لها، أو أن تتحد مع بعضها البعض في عملٍ موجَّه ضد الاحتلال.

وأثمرت تلك السياسة طَوال العَقد الأول من عهد الاحتلال، فران الركود على الحياة السياسية المصرية طواله، ولم يرتفع فيها صوتٌ بالمعارضة، سوى ما قام به بعض الذوات الذين استهوتهم فكرة «الجامعة الإسلامية» فأسَّسوا جريدة «المؤيد» عام ١٨٨٩م للترويج لها، ولتنقد — بحذرٍ شديد — سياسة الاحتلال التي روَّجت لها جريدة «المقطم» لسان حال الاحتلال.

وبوفاة الخديو توفيق، وتولية ابنه عباس حلمي الثاني (٨ يناير ١٨٩٢م) دبَّت الحياة في الساحة السياسية، وتغيَّر الموقف من اليأس إلى الأمل، ومن المُسالمة إلى المعارضة؛ فقد كان الخديو الجديد لا يود أن يكون دُمية في يد الاحتلال، فأثار أزمات مع اللورد كرومر — المعتمد البريطاني ومهندس السياسة الإنجليزية في مصر — كان لها صداها عند الجماهير المصرية، فأكسبته شعبية أثارت قلق الإنجليز، ودعتهم إلى إعادة الخديو الشاب إلى حظيرة الطاعة والخضوع لمشورة كرومر.

وعندما أدرك عباس حلمي الثاني أن الاستمرار في الصدام سيكلِّفه عرشه، بدأ يتراجع عن خطة المواجهة المباشرة للاحتلال، ويستعيض عنها بتشجيع العناصر الوطنية الشابة من المثقفين على القيام بنشاطٍ سياسي ضد الوجود البريطاني في مصر، ولكن ذلك التشجيع كان سِريًّا، حتى يتجنَّب الخديو عاقبة ذلك.

في هذا السياق كان دخول أحمد لطفي السيد مجال العمل السياسي الموجَّه ضد الاحتلال البريطاني؛ فهو يقول إنه ألَّف جمعيةً سرية عام ١٨٩٦م، بغرض تحرير مصر من الاحتلال الأجنبي، اشترك معه فيها عبد العزيز فهمي، وأحمد طلعت، وحامد رضوان، ومحمد بدر الدين، والدكتور عبد الحليم حلمي، وعلي بهجت، والصيدلاني محمد عبد اللطيف. ولا نعرف شيئًا عن تفاصيل نشاط هذه الجمعية، ولكنها تعني أن أحمد لطفي السيد وأبناء جيله من الشباب شمَّروا عن ساعد الجِد لحمل لواء المقاومة ضد الاحتلال، بعد أن فترت هِمم جيل شباب الثورة العرابية، وتبدَّدت قدرتهم على المواجهة، مما يدل على نزعة جيَّاشة للكفاح الوطني، ففي الوقت نفسه — تقريبًا — كانت هناك جمعية سرية أخرى أسَّسها مصطفى كامل للغرض نفسه.

وكان عباس حلمي الثاني يتلمَّس مواطن الإقدام عند ذلك الشاب النابه؛ فيعمل على إعداد من يصطفيه منهم للدور الذي يتوسَّمه في خدمة طموحه إلى السلطة عن طريق تشجيع العمل الوطني، فعندما سمع بتكوين «جمعية تحرير مصر» سعى إليها عن طريق مصطفى كامل — الذي كان قد اصطفاه واحتضنه — فاتصل الأخير بلطفي السيد، وأخبره بأن الخديو يعلم كل شيء عن جمعيتهم السرية، وأنه لا يجد تعارضًا بين أهدافها وما يسعى إليه الخديو لتأسيس «حزب وطني» تحت رئاسة الخديو.

أبدى لطفي السيد موافقته على العمل المشترك مع الخديو، وقابل الخديو بالفعل، وتحدث معه عن أغراض الحزب الذي يريد تأليفه، وطلب الخديو منه أن يسافر إلى سويسرا لكي يكتسب الجنسية السويسرية، ثم يعود إلى مصر ليحرر جريدة تقاوم الاحتلال البريطاني محتميًا بالامتيازات الأجنبية التي تضمنها له جنسيته الجديدة، وكان التجنُّس بجنسيتها لا يحتاج إلا إلى الإقامة بها سنةً واحدة.

وبذلك كان الخديو يلعب لعبة توزيع الأدوار على الشابَّين الوطنيَّين مصطفى كامل ولطفي السيد، الأول يبث الدعاية ضد الاحتلال بأوروبا، والثاني يقاوم سياسة الاحتلال على صفحات جريدة تصدر في مصر مستظلةً بالامتيازات الأجنبية.

وبدأ العمل المشترك بعد مقابلة لطفي السيد للخديو، حين اجتمع نخبةٌ من الشباب المثقف في منزل محمد فريد، وألَّفوا الحزب الوطني كجمعية سرية، رئيسها الخديو، وأعضاؤها مصطفى كامل ومحمد فريد وسعيد الشيمي (ياور الخديو)، ومحمد عثمان، ولبيب محرَّم، ولطفي السيد. ومن الطريف أنهم تسموا بأسماء حركية، فكان «الشيخ» هو الاسم الحركي للخديو، وكان «أبو الفداء» اسمًا لمصطفى كامل، و«أبو مسلم» اسمًا للطفي السيد.

وسافر لطفي السيد إلى سويسرا لاكتساب الجنسية السويسرية وَفق الاتفاق الذي تم مع الخديو، حامِلًا توصية من صديقه الأثري علي بك بهجت إلى الأستاذ «نافيل» عالِم الآثار السويسري ليُيسِّر له أمور الحياة هناك. ويذكر لنا لطفي السيد تأثُّره بحديثٍ دار بينه وبين «نافيل»، قال الأخير له فيه: «لا تظن أن أوروبا تساعدكم على إنجلترا، لأنني أرى أن مصر لن يحرِّرها إلا المصريون.» ويبدو أن كلمة «نافيل» قد تركت أعمق الأثر في الاتجاه السياسي لأحمد لطفي السيد، وفي الخطة التي انتهجها بعد ذلك، ونبذ من أجلها الخطة التي اتفق عليها مع الخديو.

وفي الوقت الذي بقي فيه مصطفى كامل على أسلوبه في الكفاح الوطني الذي يعتمد على تأليب الدول الأوروبية ضد بريطانيا لتحقيق الجلاء، نرى أحمد لطفي السيد يختار طريقًا مختلفًا يقوم على نظرة سياسية إلى المسألة المصرية تختلف عن نظرة مصطفى كامل إليها، أساسها «مبدأ مصر للمصريين»، وهو مبدأ لم يكن جديدًا على الوجدان المصري، بل جاء على لسان عرابي من قبل، بمعنى أن يكون للمصريين نصيبٌ في حُكم بلادهم.

ولا يبدو أن المعنى اختلف كثيرًا عند لطفي السيد عنه لدى عرابي، إلا بقدر ما حدث من تغيُّر في مصر بين الجيلَين، جيل عرابي وجيل لطفي السيد. بل إن المعنى اللفظي للعبارة لم يتجاوز اعتبار أن يكون خير مصر لأبنائها، وحُكمها لهم وحدهم؛ فليس لعثمانيٍّ ولا لإنجليزي أن يحكمها، وليس لأسرة غريبة عليها أن يكون لها ولاء على أبنائها، وإذا كانت مصر لا تعني في الواقع إلا أهلها، فإن عليهم وحدهم يقع عبء العمل على تحريرها.

ولكن كيف يستطيع المصريون أن يحرِّروا بلادهم وهي تقع تحت وطأة الاحتلال الثقيلة؟ يبدو أن لطفي السيد لم يستقر على خطة معينة حتى بعد عودته من سويسرا بعدة سنوات، فقد عاد من سويسرا بعد عام دون أن يحصل على جنسيتها لاعتراض السلطان العثماني على ذلك (على نحو ما ذكره له مصطفى كامل)، وقدَّم تقريرًا إلى الخديو يقول فيه: «إن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود أبنائها، وإن المصلحة الوطنية تقتضي أن يرأس سمو الخديو حركةً شاملة للتعليم العام.»

وكان هذا رأي الشيخ محمد عبده (الذي التقاه لطفي السيد بجنيف، وتأثَّر به) فقد جعل من التربية والتعليم السبيلَ إلى الإصلاح، ولا ريب أن لطفي السيد أخذ هذه الفكرة عنه، وهي إعداد الأمة بالتربية والتعليم إعدادًا يمكِّنها من النهوض والتقدُّم حتى تستطيع أن تحرِّر نفسها بنفسها.

وانصرف لطفي السيد إلى الانخراط في الوظائف العامة حتى استقال عام ١٩٠٥م، واعتكف بقريته، ثم اشتغل بالمحاماة قليلًا، وانصرف عنها عام ١٩٠٦م. وخلال تلك السنوات حدثت تطورات كثيرة أثبتت فشل فكرة الاعتماد على أوروبا لتحقيق الجلاء عن مصر، فقد سوَّت بريطانيا خلافاتها مع فرنسا بتوقيع الوفاق الودي عام ١٩٠٤م، وانفردت بذلك بمصر، وأظهر الخديو ولاءه للإنجليز، وانصرف عن تشجيع العمل الوطني، فاضطُر مصطفى كامل إلى الاعتماد على دعم العناصر الوطنية له، وإلى تعبئة الطلبة على وجه الخصوص لدعم نضاله.

وفي خصم أزمة طابا عام ١٩٠٦م، التي أيَّد فيها مصطفى كامل وغالبية المصريين المطالب التركية، على حين اشتد الإنجليز في معارضة الأتراك باسم الحفاظ على حقوق مصر وعلى حدودها الشرقية، وانتهت الأزمة بتراجُع تركيا وانسحاب قواتها من طابا، وتسوية مسألة حدود مصر الشرقية على نحو ما ارتآه الإنجليز.

كانت تلك الأزمة دافعًا لتحوُّل لطفي السيد إلى العمل السياسي؛ إذ رأى أن المصريين لم يفيدوا من عِبرة الأحداث، وظلُّوا يتطلَّعون إلى التماس العون من غيرهم — فرنسا تارةً، وتركيا تارةً أخرى — وأنَّ الأولى بهم أن يعتمدوا على أنفسهم، ويحملوا الأمر على عاتقهم، ولن يكون ذلك إلا إذا تبيَّنوا حقيقة مصالحهم، ومتى يستطيعون تحقيقها وكيف.

ولعل ذلك كان وراء مفاتحته لمحمد محمود باشا في أمر إنشاء جريدة مصرية حرة تنطق بلسان مصر وحدها دون أن يكون لها ميلٌ خاص إلى تركيا أو الخديو أو الإنجليز، وأن تكون الجريدة المقترَحة مِلكًا لشركة من الأعيان أصحاب المصالح الاقتصادية الحقيقية في البلاد؛ الذين كان يصفهم اللورد كرومر في تقاريره بأنهم راضون عن الاحتلال معتدلون، وأن المعارضة إنما تأتي من جانب مَن ليس لهم مصالح حقيقية في مصر كالأفندية والأتراك.

ودعا لطفي السيد إلى اجتماعٍ بفندق «الكونتننتال»، حضره عددٌ من أصدقائه هم: محمد محمود، وعمر سلطان، وأحمد حجازي، ومحمود عبد الغفار، وتحدَّثوا عن الحركة الوطنية، وتبدُّد أمل المصريين في الاعتماد على فرنسا بعد عقد الاتفاق الودي (١٩٠٤م)، وما يجب أن يفعله المصريون بالاعتماد على أنفسهم في المطالبة بالحرية والاستقلال.

لم يكن لطفي السيد زعيمًا شعبيًّا يجيد مخاطبة الجماهير على نحو ما كان يفعل مصطفى كامل، ولذلك فضَّل أن يتخذ من الكتابة — التي تقرع الحجة بالحجة — أداته لتوجيه المصريين إلى الاعتماد على أنفسهم، ومن هنا كانت فكرة إصدار «الجريدة» على يد شركة من الأعيان، وتولِّيه رئاسة تحريرها.

كان لطفي السيد مفكرًا وصاحب رؤية قبل أن يكون سياسيًّا، وأثَّر بفكره في خاصة المثقفين، فكان صاحب اتجاه سياسي قُدِّر له أن يلعب الدور الأكبر في توجيه ثورة ١٩١٩م، ولكنه لم ينجح في أن يجعل من حزب الأمة (الذي تأسَّس بعد صدور «الجريدة» بعدة شهور) حزبًا قوميًّا، تلتف حوله الأمة كلها، بل كان حزبًا نخبويًّا، وظل ما ينشره لطفي السيد من كتاباتٍ ﺑ «الجريدة» يتخذ طابعًا تنويريًّا، ولا ينال استحسان بعض مساهمي شركة «الجريدة» وأعضاء حزب الأمة.

اتجه لطفي السيد إلى المطالبة بالاعتدال في مواجهة الاحتلال البريطاني، وعدم معاداته، والنظر بموضوعية إلى ما قدَّمه من إصلاحاتٍ كانت لها آثار ايجابية ملموسة، مع توجيه النقد إلى ما شاب سياسته من سلبيات، ورأى أن الاستقلال لا يتحقق إلا بالتدرُّج، وعند استكمال معدَّاته، وهي النهوض بالتعليم، وترقية الزراعة، وعدم إهمال الصناعة والتجارة؛ فالتنمية الاقتصادية والتعليم عنده هما دعامتا الاستقلال. ومن هنا كان إفساحه المجال ﺑ «الجريدة» أمام طلعت حرب ليدعو على صفحاتها إلى إنشاء بنكٍ وطني، كما كان يوسف نحاس وغيره يكتبون حول سُبُل النهوض بالاقتصاد الوطني باعتباره دِعامة الاستقلال.

ورغم أن الدستور كان مطلبًا أساسيًّا للحركة الوطنية؛ فقد دعا لطفي السيد — ومعه حزب الأمة — إلى توسيع اختصاصات مجالس المديريات، ومجلس شورى القوانين والجمعية العمومية بالشكل الذي يجعل الآراء التي تُبديها هذه المجالس ذات وزن في مسائل التعليم والزراعة، حتى يمكن الوصول — تدريجيًّا — إلى المجلس النيابي الذي يوافق حالة البلاد السياسية، ورأى أن الأعيان لهم النيابة الطبيعية عن الأمة بحكم كونهم رؤساء العائلات الكبيرة، ومن ثَم لهم حق المشاركة في إدارة أمور البلاد مع الحكومة.

وأكد لطفي السيد رفضه التام للحكم الفردي؛ سواء كان الحاكم هو الخديو أو المعتمد البريطاني؛ فلا يجب أن ينفرد الحاكم بصناعة القرار دون استشارة أصحاب المصالح الذين يؤثِّر هذا القرار على مصالحهم. ومن ثَم كانت حملة لطفي السيد على سياسة الوفاق التي قامت بين الخديو والمعتمد البريطاني جورست (بعد رحيل كرومر)، وهي حملة عبَّرت عن موقف الأعيان من الخديو، كما عبَّرت عن موقف المثقفين تجاه تلك السياسة، فهم يرَون أن الوفاق يعني زيادةً في سلطات الخديو، ونفوذه الشخصي على حساب نفوذ الأعيان، وحرصهم على المشاركة في السلطة، ولا يعني ذلك — أيضًا — التسليم للاحتلال بامتلاك مقاليد الأمور وحده.

وإذا كان اتجاه لطفي السيد في العمل الوطني هو الذي تفرَّد بالساحة السياسية عند نهاية الحرب العالمية الأولى؛ فجاء تشكيل «الوفد المصري» من رجال حزب «الأمة» في غالبيته، وكان اتجاههم هو السعي لتحقيق الاستقلال كلما وجدوا للسعي سبيلًا، واعتمادهم لمبدأ التفاوض لا الصدام، فقد كان هدير ثورة ١٩١٩م معبِّرًا عن عجز ذلك الاتجاه المعتدل الميَّال إلى التدرُّج في تحقيق الاستقلال عن بلوغ الغاية التي ينشدها، والتي تحقِّق للأمة ما تصبو إليه من حرية واستقلال.

١  احتفالية الجمعية الخيرية الإسلامية بروادها، (احتفالية أحمد لطفي السيد)، ٢٩ نوفمبر ١٩٩٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥