حماية وثائقنا القومية١

أثار مشروع قانون المحافظة على الوثائق، الذي تقدَّمت به الحكومة إلى البرلمان، حملةً صحفية واسعة شاركت فيها الصحف «الحزبية» و«القومية» على السواء، انتهت بتجميد المشروع من جانب الحكومة لإتاحة الفرصة أمام أهل الاختصاص للمزيد من الدراسة، وهو ما يحدث الآن بالفعل.

وتعود قصة هذا المشروع إلى عام ١٩٩٤م، عندما شكَّل الزميل الدكتور محمود فهمي حجازي — رئيس دار الكتب والوثائق عندئذٍ — لجنةً ضمَّت مجموعة من الخبراء في الوثائق والدراسات التاريخية والقانون؛ للنظر في تطوير دار الوثائق القومية التي كانت في حال يُرثى لها، وظلَّت اللجنة تعمل بجدٍّ لمدة عامين، فحصت خلالها واقع الدار، وما يمكن عمله للنهوض بها، وانتهت إلى اقتراح خطة للتطوير من شقَّين؛ أحدهما قصير المدى، يعالج المسائل الملحَّة التي لا تحتاج إلى اعتماداتٍ مالية كبيرة. وثانيهما طويل المدى، يستغرق تحقيقه خمس سنوات، يضع الدار في مصاف دُور الوثائق القومية العالمية، لو صدَقت الهِمم، وتوافرت الاعتمادات المالية اللازمة لها، أو قُل — إن شئت — توافر الوعي لدى الدولة بأهمية النهوض بدار الوثائق القومية باعتبارها مستودع ذاكرة الأمة الذي يضم خُلاصة تجاربها.

الحفاظ على الوثائق

ولا يتسع المقام هنا لنضع بين يدَي القارئ الكريم الخطوط المهمة لتلك الخطة، فذلك — رغم أهميته — يخرج عن إطار موضوع هذا المقال. ولكن ما نوَد الإشارة إليه هنا أن «لجنة تطوير دار الوثائق» أولت الحفاظ على وثائقنا القومية اهتمامًا كبيرًا، بعدما تبيَّن لها أن مقتنيات الدار من الوثائق الخاصة بالقرن العشرين تكاد تكون معدومة لسببَين: أولهما أن الجهات السيادية في الدولة (رئاسة الجمهورية، وزارة الخارجية، وزارة الدفاع، وزارة الداخلية) لا تهتم بتنفيذ نصوص لائحة المحفوظات الحكومية التي تقضي بضرورة انتقال الوثائق العامة للدولة إلى دار الوثائق القومية بعد انقضاء مدة حفظها، التي تحددها اللائحة بما لا يزيد على خمسة عشر عامًا، ثم تنظر في أمر إتاحتها لجنة من خبراء دار الوثائق القومية وممثِّلين لجهة إنتاج الوثيقة، فإذا تبيَّن للجنة أن إتاحة الاطلاع عليها يعرِّض مصالح الدولة أو أمنها القومي للخطر، تظل مغلقةً عشرين عامًا أخرى، ثم تصبح بعدها متاحةً للاطلاع، على النحو الذي يجري العمل به في الأرشيفات القومية في مختلف دول العالم، وهو ما أخذ به المُشرِّع في القرار الجمهوري، بقانونه الصادر في عام ١٩٧٩م.

ونتج عن حجب الجهات السيادية لوثائقها عن دار الوثائق القومية نُدرة الوثائق الخاصة بالقرن العشرين، على نقيض وثائق القرون السابقة عليه، وخاصة القرن التاسع عشر؛ فلا يوجد من وثائق القرن العشرين بالدار إلا مجموعات محدودة جلبتها المصادفة المحضة إلى الدار، مثل مجموعة وثائق وزارة الدفاع المعرفة باسم «مجموعة مكتب المشير عبد الحكيم عامر»، وبعض وثائق الخارجية، وبعض تقارير الأمن (البوليس السياسي) قبل ثورة يوليو ١٩٥٢م، وبعض تلك المجموعات جاءت إلى الدار بسبب ضيق أماكن الحفظ في الجهات التي أنتجتها، أو أنقذتها المُصادفة المحضة من الضياع، مثلما كانت الحال بالنسبة لتقارير الأمن، التي كانت أصلًا النسخة التي يرفعها البوليس السياسي إلى القصر الملكي، وكانت ضمن أوراق مكتب رئيس الديوان الملكي، ثم تقرَّر تسليمها لشركة راكتا لإنتاج الورق لإعادة تدويرها، وعندما نمى ذلك إلى علم أستاذنا الدكتور محمد أنيس ضمَّها لمركز تاريخ مصر المعاصر، ثم استقرت بدار الوثائق القومية.

نُدرة الوثائق

أما السبب الآخر لنُدرة وثائق القرن العشرين فهو الأخطر؛ لأنه يؤدي إلى إهدار أهم وثائق الدولة، وتعرُّضها للضياع أو التلف، أو حتى التسرُّب خارج البلاد. ونعني بذلك قيام كبار المسئولين الذين يتولَّون مناصب وزارية، أو غيرها من المناصب الكبرى في الجهات السيادية المهمة، بحمل أوراق مكاتبهم معهم عند ترك مناصبهم باعتبارها «أوراقًا خاصة» وهي — في حقيقة الأمر — وثائق رسمية، ربما كان بعضها يمثِّل النسخة اليتيمة من الوثيقة. وفضلًا عمَّا يتيحه استفحال هذه الظاهرة من اطمئنان المسئول إلى تعذُّر محاسبته عما فعل أثناء توليه المنصب، فإن حمله لهذه الأوراق المهمة معه يترك خلَفه في وضعٍ محيِّر، ويؤدي إلى حدوث اضطراب في عملية صنع القرار لانعدام تراكم الخبرة التي لا تتوافر إلا إذا بقيت الوثائق في مكانها الطبيعي بأرشيف الجهة، وهناك أمثلة كثيرة لوثائق بحثت عنها وزارات مهمة في أرشيفها عند الحاجة دون جدوى، لأن بعض المسئولين السابقين حملها معه عند مغادرته لمنصبه؛ وهذا الأمر لا يحدث إلا في بلادنا، وربما في غيرها من البلاد التي تقل عنا تقدُّمًا.

وقد يحافظ المسئول السابق على هذه الأوراق ما بقي له من عمر، ولكن الأمر المؤكد أن مآلها الضياع عندما تنتقل لورثته، فقد يتم التخلُّص منها بالإتلاف، أو التصرف فيها بالبيع، وبذلك قد تصل وثائقنا السرية إلى أيدي أطرافٍ يهمُّها إلحاق الضرر بمصالح بلادنا، وربما بأمنها القومي.

لذلك كان لا بد أن تعمل «لجنة تطوير دار الوثائق» على وضْع مشروع قانون للمحافظة على الوثائق، استغرق إعداده نحو عامٍ كاملٍ، درس خلاله خبراء اللجنة قوانين المحافظة على الوثائق في الدول الكبرى (بريطانيا – الولايات المتحدة – فرنسا)، وبعض الدول العربية (العراق – لبنان – الأردن – تونس – الجزائر) والمعايير والقواعد التي وضعها الاتحاد الدولي للأرشيف القومي، هذا فضلًا عن دراسة أبعاد واقع الوثائق القومية عندنا، وانتهت اللجنة إلى وضع مشروع قانون المحافظة على الوثائق، الذي ضم ٢٨ مادة، وكان ذلك عام ١٩٩٦م.

وقد راعت اللجنة الأخذ بما هو معمول به في دور الوثائق القومية في العالم من حيث اشتمال الوثائق التي تُودَع في دار الوثائق القومية على الوثائق العامة والخاصة على السواء، أي وثائق الدولة، ووثائق الهيئات الخاصة ذات القيمة التاريخية، كما حرصت على إلزام الجهات العامة والخاصة بضرورة الرجوع إلى دار الوثائق القومية قبل الاستغناء عن وثائقها بعد انقضاء مدة حفظها، حتى تنظر دار الوثائق في ضم ما له قيمة تاريخية منها إلى مقتنياتها. كذلك وضعت الضوابط الخاصة بضرورة قيام الأفراد بإيداع ما قد يكون لديهم من وثائق ذات قيمة تاريخية لقاء تعويض مادي، ونصَّت على تجريم مَن يمتنع عن ذلك.

وقطع مشروع القانون الذي وضَعته اللجنة رحلةً طولها أربع سنوات قبل أن يقرَّه مجلس الوزراء ويقدِّمه للبرلمان، فقدَ خلالها القانون الكثير من وزنه، فأصبح نحيلًا لا يضم سوى ١٢ مادة، واختلفت ملامحه كثيرًا عن ملامح مشروع القانون الذي وضعته اللجنة؛ فقد سقطت منه خلال تلك الرحلة العجيبة — بمختلف المعايير — المواد التي تمثِّل جوهر قضية الحفاظ على الوثائق، والتي تجعل من دار الوثائق «الأرشيف القومي المركزي»، الذي يضم ذاكرة الأمة ومحصِّلة تجاربها؛ ومن ذلك استثناء بعض الجهات (وزارة الدفاع) من الخضوع لأحكامه، حقًّا لم يتضمن الاستثناء رئاسة الجمهورية أو الوزارات السيادية الأخرى، ولكن استثناء أي جهة من الالتزام بإيداع وثائقها دار الوثائق القومية بعد انقضاء مدة حفظها يُوجِد فجواتٍ في الأرشيف القومي، ويقطع الطريق على دراسة تطور مصر، وخاصة إذا علمنا أن وثائق الجيش المصري منذ محمد علي حتى نهاية القرن التاسع عشر موجودة ضمن مقتنيات دار الوثائق القومية، وكذلك الحال بالنسبة لوثائق مختلف الوزارات، فإذا استثنيت وزارة ما اليوم يمكن استثناء غيرها غدًا، ولا يمكن أن تحتفظ الوزارات بكل ما تنتجه من وثائق دون أن تتخلص مما لا تجد نفسها في حاجة إلى الرجوع إليه من وثائق، وهنا يكمن خطر تبديد الوثائق التاريخية المهمة، ما دامت يد دار الوثائق القومية مغلولة بسبب استثناء بعض الجهات السيادية، ويفقد بذلك مشروع القانون الغرض الذي وُضع من أجله، ويتم محو مساحاتٍ مهمة من ذاكرة الأمة.

وأسقط مشروع الحكومة مبدأ مهمًّا أخذت به «لجنة تطوير دار الوثائق» عند وضعها المشروع الأصلي للقانون، وهو حق المواطن في الاطلاع على الوثائق المتاحة للاطلاع بالدار في حدود اللوائح المنظِّمة لذلك؛ وهو مبدأ معمول به في بلاد العالم المتقدمة، فلا يُسأل الراغب في الاطلاع إلا عن بياناته الشخصية، التي يكتبها في استمارة خاصة، ثم هويته، ويُسمح له بالاطلاع فورًا، ويسري العمل ببطاقة الاطلاع مدة عامين تُجدَّد تلقائيًّا، ولا يُسأل طالب الاطلاع عمَّا يريد الاطلاع عليه إلا من جانب الأمناء القائمين على خدمة رُواد الدار.

أما عندنا فلا بد أن يكون راغب الاطلاع باحثًا مسجَّلًا للحصول على درجةٍ علمية بإحدى الجامعات، وأن يَشفع طلبَه بشهادة تدل على ذلك، ولا بد من أن يحدِّد، في طلب الاطلاع، الموضوع الذي يبحث فيه، فلا يحق له أن يطَّلع على وثائق تبدو خارج إطار موضوع بحثه زمانًا أو مكانًا، وبعد أن يملأ استمارة طلب الاطلاع، يقدمها مشفوعةً بعددٍ من الصور الفوتوغرافية، وينتظر موافقة الأمن التي قد يستغرق الحصول عليها ثلاثة شهور أو أكثر، يسري ذلك على طالب الاطلاع المصري والأجنبي على السواء.

وفضلًا عمَّا يمثِّله ذلك من تبديدٍ للوقت والطاقة دون مبرر، يجعلنا أضحوكة في الأوساط العلمية الدولية، لأن ما يُتاح الاطلاع عليه من وثائق بدُور الوثائق العالمية لم يعُد سرًّا، وإجراءات إتاحته للاطلاع يُراعى فيها أن الإتاحة لا تمس مصالح الوطن أو أمنه القومي بسوء، وبذلك لا يصبح تصريح الأمن القومي للباحث بالاطلاع أمرًا ذا قيمة، ناهيك عما قد يحتاج الباحث الاطلاع عليه خارج حدود بحثه الزمنية والمكانية؛ إذ عليه أن يتقدم بطلب جديد وإجراءات أمنٍ جديدة، ويضيع من وقته وعمره شهورًا أخرى.

أما من يطرق باب الدار طالبًا الاطلاع على الوثائق بعد انتهاء فترة البحث والحصول على درجته العلمية فلا بد أن يقدم ما يفيد قيامه بإعداد بحثٍ لهيئة علمية ما، ثم يمر بمراحل الحصول على ترخيص الأمن … إلخ، فإذا احتاج إلى مراجعة بعض ملفات وزارة الخارجية المُودعة بالدار، أو الرجوع إلى أوراق مكتب المشير، أو الرجوع إلى وثائق مجلس الوزراء، فعليه الحصول على موافقة الجهة المعنية قبل أن يُسمح له بالاطلاع، حتى لو كان يحمل بطاقة اطلاع من دار الوثائق القومية. لقد احتاج باحثٌ شاب حاصل على الدكتوراه أن يطَّلع على وثائق مجلس الوزراء، وعندما تقدم بالطلب إلى الجهة المختصة بالمجلس رفض الموظف المسئول منحه الترخيص بالاطلاع لأنه ما دام قد أصبح «دكتورًا» فما حاجته إلى البحث!

لهذا كان النص على حق المواطنين في الاطلاع على الوثائق المتاحة أمرًا مهمًّا، يتفق مع المبادئ المعمول بها في الأرشيفات القومية عالميًّا، ولكنه أُسقط من مشروع الحكومة دون مبرر.

وأخذ مشروع القانون المُقدَّم من الحكومة بمبدأ خطير، وهو جعل الجهة المنتجة للوثيقة هي التي تحدد المدى الزمني الذي يُتاح بعده الاطلاع عليها؛ فجعل لسرية الوثائق درجتين؛ فما صُنِّف «سري جدًّا» لا يُسمَح بالاطلاع عليه — بعد انتقاله إلى دار الوثائق القومية — إلا بعد خمسين عامًا، وما صُنِّف «سري» لا يُسمَح بالاطلاع عليه إلا بعد ثلاثين عامًا، وهو مبدأ غير معمول به في أي مكانٍ في العالم؛ فشتَّان بين درجة السرية التي تحددها جهة إنتاج الوثيقة، والاطلاع عليها بعد انقضاء مدة الحظر، لأن الظروف تتغير، والزمن يمر، وما كان «محظورًا» أو «سريًّا للغاية» أو «سريًّا» أو «خاصًّا» عند وقت إنتاج الوثيقة قد لا يصبح مبررًا لحجبها عن الاطلاع؛ فذلك أمره متروكٌ لما تراه اللجنة الخاصة بذلك بعد انقضاء ثلاثين عامًا من إنتاج الوثيقة.

فنحن نرى في الأرشيف القومي الأمريكي، والأرشيف البريطاني وثائق مصنَّفة بأعلى درجات السرية متاحةً للاطلاع بعد ثلاثين عامًا، وأخرى مصنَّفة بأقل درجات السرية لا يسمح بالاطلاع عليها إلا بعد مرور خمسين عامًا، فالمعيار هنا هو مدى ما قد يسبِّبه إتاحة الوثيقة من حرجٍ للحكومة، أو إضرار بمصالح البلاد إذا سُمح بالاطلاع عليها.

ولدينا مثالٌ طريف على ذلك في الوثائق البريطانية؛ إذ ظل الكثير من الوثائق الخاصة بالأردن والصادرة من الملك حسين مغلقًا لمدة خمسين عامًا، رغم تواضع درجة سريَّته، لأن الملك ظل يحكم ردحًا طويلًا من الزمان، وإتاحة فرصة الاطلاع على خطاب أرسله لرئيس الوزراء البريطاني في شأنٍ ما قد يحرج الملك، ويضر بالعلاقات الأردنية-البريطانية التقليدية.

أعلى درجات السرية

لقد كان أصحاب الانتقادات التي وُجِّهت لمشروع القانون الذي تقدمت به الحكومة على حقٍّ عندما أبدوا تخوُّفهم من أن يُصنِّف كل مسئول ما يريد إخفاءه من أمور بأعلى درجات السرية؛ حتى لا يستطيع أحدٌ كشف ما قد يكون وراء ذلك من وقائع فسادٍ محتملة، وبغض النظر عن ذلك الاعتراض — على وجاهته — فإن حق الجهة المُنتِجة للوثيقة في تحديد درجة السرية مكفولٌ ما دامت تنظمه اللوائح الخاصة المعمول بها بتلك الجهات، ولكن ليس من حق الجهة التي أنتَجت الوثيقة أن تحدد مقدَّمًا المدى الزمني للسرية الذي تستطيع، بعد انقضائه، دارُ الوثائق القومية إتاحة الاطلاع عليها.

وكان من الطبيعي في مشروعِ قانونٍ صِيغَ للمحافظة على الوثائق من أن يحتوي على مواد تجرِّم كل من يقدِم على عمل من شأنه منع إيداع الوثائق مكانها الطبيعي؛ وهو دار الوثائق القومية، أو تبديد الوثائق، أو إتلافها أو التصرف فيها، وكذلك تجريم كل من يُفشي محتوى كل — أو بعض — الوثائق المصنَّفة على أنها سرية ممن يطَّلع على الوثائق بحكم عمله في الجهة المنتِجة لها، أو من العاملين بدار الوثائق القومية، بالنسبة للوثائق التي ما زالت في نطاق السرية، ولا يُسمَح بالاطلاع عليها.

تغليظ العقوبات

ولكن من الملاحَظ أن مشروع القانون الذي تقدَّمت به الحكومة بالغ في تغليظ العقوبات، وتجاوز ما استقر عليه العُرف التشريعي بأن جعل عقوبة السجن والغرامة متلازمتَين رغم مخالفة ذلك لنصوص قانون العقوبات، الذي يعطي القاضي المجالَ للحكم بالعقوبتين معًا (السجن والغرامة)، أو بإحدى العقوبتين حسب ظروف القضية التي ينظرها. من المعروف أنه كلما غلظت العقوبة وضاق مجال الاختيار أمام القاضي في الحالات التي لا يرتاح ضميره فيها إلى توقيع عقوبة مبالغ في تشدُّدها، غالبًا ما يتجه القاضي إلى الحكم بالبراءة؛ فتغليظ العقوبة قد يكون ضرره أكثر من نفعه، كما يعرِّض القانون — في حالة إجازته على هذا النحو — إلى البطلان لمجافاته للعُرف التشريعي، وتناقُضه مع المواد المشابهة بقانون العقوبات.

إن الحاجة ماسَّة إلى قانون المحافظة على الوثائق، ولا يجب أن يتعطَّل إصداره أكثر من ذلك، فقد تأخَّر بما فيه الكفاية، وضاع، بسبب تأخُّر إصداره، الكثير من الوثائق، وحالُ دار الوثائق ما زالت تدعو للرثاء؛ فهناك جهودٌ مخلِصة للنهوض بها، واستكمال النقص فيها، ولكن يحُول دون تحقيق تلك الجهود — لما تنشده من أهدافٍ — عجز الدار عن الحصول على وثائق الجهات السيادية. ويكفي أن يعلم القارئ الكريم أن أرشيف قصر القبة يتضمن وثائق الديوان الملكي منذ أيام الملك فؤاد، مرورًا بالملك فاروق، وعلى الأقل فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر في العهد الجمهوري، ورغم ذلك لا تستطيع دار الوثائق القومية الحصول على تلك الوثائق التي بدونها لا يمكن كتابة تاريخ مصر الحديث، ويضطر الباحثون إلى الرجوع إلى الوثائق البريطانية والأمريكية التي تتضمن — أحيانًا — مذاكرات ومراسلات تلقَّتها تلك الدول من الجهات السيادية في الحكومة المصرية، بينما لا يستطيع الباحث أن يجد أصول تلك الوثائق بدار الوثائق القومية، وأخشى ما أخشاه أن يكون قد تم الاستغناء عن هذه الوثائق «الراكدة» لصالح غيرها من الوثائق «الناشطة» بسبب ضيق مساحة أرشيف قصر القبة، عندئذٍ يصبح فقدان هذه الوثائق كارثةً قومية بكل المعايير.

كذلك لا بد من فك روابط تبعية دار المحفوظات العمومية بالقلعة من وزارة المالية (مصلحة الأموال المقرَّرة)، وتبعيتها لدار الوثائق؛ فهي تضم وثائق على درجة بالغة من الأهمية منذ إنشائها في عهد محمد علي حتى الآن. وقد باءت بالفشل محاولاتُ البحث عن حلٍّ لهذه الازدواجية التي تعرِّض وثائقنا القومية للضياع دون جدوى؛ فقد درجت دار المحفوظات العمومية على التخلُّص من محتويات مخازن بأكملها (بعضها تصل مساحته إلى ٢٠٠ متر مربع) باعتبارها أوراقَ «دشت» لا يتم الرجوع إليها منذ عقود؛ وبذلك يتم بيعها للتجار.

وقد فوجئت دار الوثائق القومية بعرضٍ من أحد تجار الإسكندرية لبيع مجموعة من الوثائق لها، وبعد الفحص، اتضح أنها عبارة عن أوراق وسجلات مساحة أطيان وتقارير من مصلحة الري، ونصوص أحكامٍ قضائية تحمل أختامًا رسمية، إلى غير ذلك من وثائق بالغة الأهمية لدراسة تاريخ مصر الاقتصادي والاجتماعي، كان مقرها الأصلي دار المحفوظات العمومية، بيعت للرجل ولغيره كأوراق دَشت مستغنًى عنها، ولا يمكن معاقبة أحد بموجب القانون المعمول به حاليًّا، ولكن صدور قانون مُحكَم الصياغة للمحافظة على الوثائق؛ كفيلٌ بتجريم كل محاولة لتبديد وثائقنا القومية.

ومهما بلغ القانون من الإحكام والدقة، فلا بد من أن يصدر قانونٌ آخر يحوِّل دار الوثائق القومية من مصلحة تابعة لهيئة دار الكتب والوثائق إلى جهاز قومي للوثائق، يتبع سلطة السيادة، له وضعٌ مماثل لوضع الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، أو الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، ويجعل من ذلك الجهاز أرشيفًا قوميًّا مركزيًّا تُودَع فيها جميع وثائق الدولة — بلا استثناء — ذات القيمة التاريخية، ولا يجوز لأي جهة أن تستغني عن وثائقها بعد انتهاء مُدد حفظها لديها، دون الرجوع إلى «الجهاز المركزي للوثائق القومية» لتقرر ضم ما له قيمة تاريخية منها، والتوصية بالاستغناء عما لا تتوافر فيه هذه القيمة.

•••

لقد خلَّد محمد علي باشا اسمه في التاريخ بأعماله، ومن بينها إنشاؤه لدار المحفوظات العمومية (١٨٢٩م)، وكذلك فعل الملك فؤاد عندما أنشأ «دار الوثائق الملَكية» عام ١٩٢٧م، والآن جاء الدور على إنشاء «الجهاز المركزي للوثائق القومية» صيانةً لوثائقنا القومية، وحفاظًا على تاريخنا القومي، بما يتناسب مع أمة عريقة تعيش القرن الحادي والعشرين، وتواكب التطورُّ العالمي في مجال الوثائق والمعلومات.

١  مجلة الهلال، مايو ٢٠٠١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥