فؤاد سراج الدين
يُعَد فؤاد سراج الدين من أكثر قادة الأحزاب السياسية الحالية في مصر معاصرةً لتطور الحياة السياسية في البلاد منذ دستور١٩٢٣م، وقيام الحياة النيابية في ظله، وإذا كان قد اضطر إلى العيش في الظل منذ قامت ثورة يوليو بالقضاء على الأحزاب السياسية، فإن ذلك لا يعني أنه قد انصرف تمامًا عن الاهتمام بما يدور على الساحة السياسية — رغم القيود التي حدَّت من حركته — وإن اقتصر ذلك على دائرة محدودة من خُلصائه، حتى استطاع أن يتزعم محاولة إعادة تأسيس الوفد في إطار التعددية الشكلية التي أقامها السادات.
ولكن السادات ظل يعمل من أجل الحيلولة دون إعادة تكوين الوفد، لا خشية من شعبية الحزب العتيد؛ الذي ارتبط اسمه بالحركة الوطنية المصرية وثورة ١٩١٩م، فقد تآكلت تلك الشعبية تدريجيًّا بعد عام ١٩٣٦م — العام الذي انضم فيه فؤاد سراج الدين لعضوية قيادته — وبلغ التآكُل ذروته في أعقاب ما أثاره «الكتاب الأسود» الذي أصدره مكرم عبيد، ولم تُفلح حوادث ١٩٥١م من إلغاءٍ للمعاهدة، والسماح بالكفاح المسلَّح في منطقة القناة — على استحياء — في استرداد تلك الشعبية؛ فكان من السهل على ثورة يوليو أن تُزيح الأحزاب من الساحة السياسية دون أدنى مقاومة.
ولكن خشية السادات من إعادة تكوين الوفد كانت ترجع إلى درايته التامة بشخصية فؤاد سراج الدين، الذي قد لا يقنع بدورٍ محدَّد في لعبة التعددية السياسية، باعتبار أن ثورة يوليو كانت — في نظره — جملةً اعتراضيةً في تاريخ مصر المعاصر على نحو ما بدا من خطابه الشهير في نقابة المحامين، وبحكم كونه أكثر السياسيين المعاصرين قدرةً على المناورة والمراوغة، وما لبث «الوفد الجديد» أن اكتسب حق الوجود بحكم القضاء.
التحالُف وترابُط المصالح
فمن هو فؤاد سراج الدين؟ وما أبعاد الدور الذي لعبه في قيادة الوفد، وفي الحياة السياسية المصرية؟
ينحدر محمد فؤاد سراج الدين من عائلة من أعرق عائلات كبار المُلاك التي تداخلت، عن طريق المصاهرة، مع عائلة مناظِرة لها هي عائلة البدراوي عاشور، وهي صيغة تقليدية للتحالف وترابط المصالح بين عائلات كبار المُلاك في مصر، شاعت منذ نشوء تلك الطبقة في القرن التاسع عشر، بهدف حماية الثروة وتنميتها، والدفاع عن المصالح المشتركة لكبار منتجِي القطن المصري.
وُلِد محمد فؤاد عام ١٩٠٦م (حسبما جاء بالوثائق البريطانية)، وإن كان يحرص دائمًا على الزعم بأنه غيَّر تاريخ ميلاده فأضاف إليه خمس سنوات حتى يستطيع أن يتقدَّم للترشيح لمجلس النواب عام ١٩٣٦م، ولكن من الثابت أنه كان عضوًا باللجنة التنفيذية لشباب الوفد عام ١٩٢٥م، وبذلك يكون عام ١٩٠٦م تاريخًا منطقيًّا لمولده، اللهم إلا إذا كانت اللجنة التنفيذية لشباب الوفد تقبل صبيًّا في الرابعة عشرة من عمره، عندئذٍ تصبح بداية عمل الرجل بالسياسة قد بدأت بالتزوير في تاريخ الميلاد، وهو أمرٌ يصعب تبرير دوافعه، إلا في إطار الحرص على عضوية مجلس النواب لاحتلال المقعد الذي شغله والده سراج الدين شاهين باشا، حفاظًا على مصالح العائلة، وهو تقليدٌ شاع بين كبار المُلاك في مصر على مَر تاريخ مصر المعاصر، خاصةً أن احتفاظ الوالد بالمقعد لم يرتبط بالضرورة بالوفد، فقد بدأ وفديًّا، ثم أصبح من نواب حزب الاتحاد «حزب السراي»، وختم عضويته بالمجلس مستقلًّا.
وبعد تخرُّجه في كلية الحقوق اشتغل فؤاد سراج الدين بالنيابة لفترة قصيرة، ثم استقال للتفرُّغ لإدارة أعماله الواسعة، وعُرفت عنه براعته في تحسين الإنتاج الزراعي بأملاكه، كما عُرف بقدراته الشخصية على استثمار أمواله في مشروعاتٍ مالية متعددة وناجحة، ربطته بأصحاب المصالح المالية في البلاد من مصريين وأجانب.
من مقاعد القيادة
بهذا الوزن الثقيل دخل فؤاد سراج الدين الوفد من مقاعد القيادة عام ١٩٣٦م، وكان اختيار أعضاء القيادة من اختصاص مصطفى النحاس باشا — زعيم الوفد — وهو أمرٌ شائعٌ — أيضًا — بين سائر الأحزاب التي شاركت في الحياة السياسية في إطار دستور ١٩٢٣م. وقد زكَّى دخوله القيادة سخاؤه في التبرُّع للوفد وذكاؤه الاجتماعي، والصداقة الحميمة التي ربطت بين السيدة قرينته وزينب هانم الوكيل؛ سليلة أسرة عريقة من كبار الملاك، جمعتها صلات مصالح ومصاهرة مع أسرة سراج الدين، والتي تزوجها مصطفى النحاس باشا عام ١٩٣٤م.
وبذلك كان دخول فؤاد سراج الدين عضوية القيادة يتيح له الاقتراب كثيرًا من الزعيم، ومن ثَم جاء الربط بين هذه العلاقة الحميمة والفتور الذي شاب علاقة مصطفى النحاس بسكرتير عام الوفد مكرم عبيد، أو قُل — إن شئت — مظاهر امتعاض الحرس القديم للوفد، أصحاب سابقة النضال الوطني من التحوُّل الذي أدخله الزعيم على قيادة الوفد بضم جيلٍ جديدٍ من الأثرياء الكبار، كان على رأسهم فؤاد سراج الدين، الذي ازدادت حُظوته عند مصطفى النحاس باشا.
يتضح هذا من الدور الذي لعبه لإقناع النحاس باشا بقبول تشكيل الوزارة خلال أزمة ٤ فبراير ١٩٤٢م — وفقًا لروايته للأحداث والملابسات — فقد انفرد بالنحاس باشا مع مكرم أثناء رحلة قيادة الوفد بالصعيد ليقنعه بتلبية طلب الملك الحضور إلى القاهرة للقائه لأمرٍ مهم، بل أقنع مدير المديرية بتأخير تحرُّك القطار المتجه للقاهرة حتى يقنع الزعيم بالسفر، واستعان لإقناعه بتلبية دعوة الملك بتأثير زينب هانم الوكيل على زوجها «الزعيم»، وجميعها دلالات على مدى الحُظوة التي كانت لسراج الدين عند النحاس باشا، وعلى مُزاحمة الوافد الجديد لمكرم عبيد — السكرتير العام ومايسترو الحزب — في النفوذ والحُظوة.
ولعل ذلك يبرر مزاعم مَن يذهبون إلى وجود دورٍ فعَّال لسراج الدين في توتُّر العلاقة بين النحاس ومكرم، ولعل تلك المزاعم كانت وراء حرص سراج الدين على تزيين حائط صالون بيته بصورة زيتية كبيرة لمكرم باشا، إلى جانب صورة أخرى للنحاس باشا، وكأنه يريد أن ينفي هذه التهمة التي رماه بها مَن تناولوا حادث ٤ فبراير ١٩٤٢م بالدراسة.
نزاهة الحكم
وعلى كلٍّ جاء «الكتاب الأسود» وما سبَّبه من أزمة حول نزاهة الحكم، وما أسفر عنه من طرد مكرم عبيد من الوفد (ثم سجنه بعض الوقت)، واستقالة بعض رجال قيادة الحزب من الحرس القديم، تضامنًا مع مكرم، جاء ذلك كله ليمهِّد الطريق أمام فؤاد سراج الدين للاستحواذ التام على النفوذ في قيادة الوفد، فقد أصبحت الغَلبة في القيادة لمجموعة سراج الدين من كبار المُلاك، الذين حلُّوا محل مَن خرجوا مع مكرم، وخاصةً أن صبري باشا أبو علم الذي خلف مكرم في سكرتارية الحزب لم تكن له سطوة مكرم ولا تأثيره، وأصبح معلومًا للمشتغلين بالعمل السياسي أن أبو علم سرعان ما سيخلي الطريق لسراج الدين ليتربَّع على مقعد سكرتارية الوفد، ويلعب دور الرُّبان الذي يوجِّه سفينة الحزب من خلال تأثيره على مصطفى النحاس.
ولا يعني ذلك أن مصطفى النحاس باشا كان مجرد دُمية في يد سكرتير الوفد، فكثيرًا ما كان يفاجئ سكرتير الوفد بقرارات يصر عليها، مثلما كان يحدث عند تشكيل الوزارات الوفدية، حدث هذا مع مكرم عبيد كما حدث مع فؤاد سراج الدين، ولكن مصطفى النحاس كان يحظى بسُلطة أبوية. وكانت شخصيته تتسم بالبساطة، وحُسن النية، والثقة في معاونيه، وهو بابٌ واسع دلف من خلاله نفوذ مَن كسبوا ثقة الزعيم.
وجاء دخول فؤاد سراج الدين الوزارة بعد أسابيع من تشكيل وزارة ٤ فبراير ١٩٤٢م؛ إذ عُيِّن وزيرًا للزراعة في ٣١ مارس، وهي حقيبة متواضعة، فلم يكن اختصاص الوزارة على هذه الدرجة من السعة التي نعرفها اليوم، وسرعان ما جمع في يده حقيبتين أخريين، هما الداخلية والشئون الاجتماعية (٢ يونيو ١٩٤٣م–٨ أكتوبر ١٩٤٤م). وفي وزارة الوفد الأخيرة عُيِّن وزيرًا للداخلية في ١٢ يناير ١٩٥٠م، ثم جمع معها المالية في ١١ نوفمبر حتى سقوط الوزارة في ٢٧ يناير ١٩٥٢م، بعد حريق القاهرة، وبذلك كان يتمتع بقدرٍ كبيرٍ من السلطة في الوزارة الوفدية الأخيرة.
المهادنة مع القصر
وقد لعب فؤاد سراج الدين دور المهندس لسياسة المهادنة مع القصر، وإن أجهد نفسه كثيرًا ليُثبِت عكس ذلك، كان طموح الرجل كبيرًا، فله من الشباب والثراء والشخصية الجذابة، والقدرة على المناورة ما أكسبه نفوذًا واسعًا داخل الحزب وخارجه، جعله يبدو الوريث المنتظَر لزعامة الحزب، وهيَّأ الرجل نفسه للعب هذا الدور.
ولما كان الوصول إلى الزعامة يقتضي الحفاظ على التراث النضالي للوفد الذي اختزل في العمل على مقاومة عدوان الملك على الدستور (وحقوق الأمة)، فقد حرص سراج الدين على أن يحتفظ الوفد بهذه الواجهة في أمورٍ شكلية تتصل بتعيين بعض كبار الموظفين وأعضاء مجلس الشيوخ، مع التغاضي عن أمورٍ تتصل بالمصالح الحيوية للقصر حتى لا تصل العلاقة بين الوفد والقصر إلى طريقٍ مسدود.
والأمثلة على ذلك كثيرة في وزارة الوفد الأخيرة؛ مثل: تدخُّل الحكومة في سوق القطن تلبيةً لرغبة مَلكية، وتعديل لائحة البورصة، والمنحة المقدَّمة لمستشفى المواساة، وقضية عمولة كريم ثابت التي أدَّت إلى إقصاء رئيس ديوان المحاسبات وإبطال عضوية بعض الشيوخ المعارضين للملك والوفد، وإعداد مشروعات قوانين الصحافة التي تقدَّمت بها الحكومة للبرلمان، وهي التشريعات التي قُصِد بها تكميم الصحافة تلبيةً للرغبة المَلكية (السامية)، وعمل نواب الوفد من الشباب على إسقاطها، مما أثار سخط الملك على سراج الدين باعتباره مايسترو الهيئة البرلمانية للوفد، فكان على الوزرة أن تقدِّم ترضياتٍ أخرى في تحقيقات قضية الأسلحة الفاسدة التي طالت بعض حاشية الملك، فانتهى الأمر بإبعاد النائب العام عن منصبه. ومسألة تعيين إلياس أندراوس ممثِّلًا للحكومة المصرية لدى شركة قناة السويس، وغير ذلك من التنازلات.
وقد علَّل فؤاد سراج الدين هذا التهاون من جانب الوفد في مواجهة أطماع الملك وفساده، بأن الوزارة كانت تريد الاستمرار في الحكم لتحقيق هدف إلغاء معاهدة ١٩٣٦م، وبدء الكفاح المسلَّح في قناة السويس، والحق أن إلغاء المعاهدة كان مطلبًا شعبيًّا بعد أن أثبتت الحرب العالمية الثانية أن «معاهدة الشرف والاستقلال» التي أبرمها النحاس مع بريطانيا كانت وبالًا على مصر، بل كان مجيء الوفد إلى الحكم في يناير ١٩٥٠م برضاء بريطانيا التي كانت تريد التوصُّل إلى اتفاقٍ جديد يمتص غضب الحركة الوطنية المصرية، وعندما عجزت حكومة الوفد عن التوصُّل إلى اتفاق، لم يكن هناك مفرٌّ من إلغاء المعاهدة.
وما كان الملك ليجرؤ على الامتناع عن توقيع مرسوم الإلغاء لأنه إن فعل ذلك، خرج الوفد من الحكم شهيدًا للوطنية، ووصم الملك بالخيانة، وخاصةً أن المظاهرات ملأت الشوارع عام ١٩٥١م منددةً بفساد الملك، حرَّكتها هذه المرة قُوًى سياسية بعيدة عن الوفد، ورغم العنف الذي واجهت به الشرطة تلك المظاهرات، والذي بلغ حد إطلاق الرصاص على المتظاهرين؛ فإن الملك غضب على وزير الداخلية سراج الدين، واتَّهمه بفتور الهِمة في مواجهة المظاهرات، أملًا في المزيد من القمع للحركة الشعبية الاحتجاجية.
أما الكفاح المُسلَّح في القناة فقد استُدرجَت إليه الوزارة استدراجًا؛ إذ بدأت الحركة دون ترتيبٍ من جانبها، ولعبت قوًى سياسية أخرى الدور الأساسي فيها؛ فكان دخول الحكومة في التنظيم، وتوفير فرص العمل للعمال المصريين الذين غادروا القاعدة سبيلًا لإبقاء الكفاح المسلَّح تحت السيطرة، وهو ما عبَّر عنه فؤاد سراج الدين لأحد رجال السفارة البريطانية أثناء الأزمة، فأبدى عدم ارتياح الحكومة لتلك «الحوادث»، وأنها تسعى لاحتوائها، وأنها لا تنهج إلا السُّبل السِّلمية لحل القضية المصرية، والوصول إلى تسوية مع بريطانيا، ولكن عجز الحكومة عن احتواء الحركة، وتفاقم الأحداث التي بلغت ذروتها بالعدوان على مبنى المحافظة في الإسماعيلية (٢٥ يناير ١٩٥٢م) وصمود رجال الشرطة في الدفاع عنها بأوامر من وزير الداخلية فؤاد سراج الدين، عجَّل بحريق القاهرة لإيجاد مبرر لإسقاط الوزارة، فبمجرد إعلان الأحكام العرفية؛ أصدر الملك مرسوم إقالة الوزارة في ٢٧ يناير ١٩٥٢م.
ومن الجدير بالذكر أن الصحافة الممالئة للملك والإنجليز حرصت على توجيه إصبع الاتهام إلى فؤاد سراج الدين، باعتباره الوزير المسئول عن الخسائر التي نجمت عن حريق القاهرة، وأشاعت أنه كان يعقد صفقة شراء عمارة عندما كانت القاهرة تحترق، وكان القصد من تلك الدعاية البحث عن كبش فداءٍ للتغطية على أخطر جريمة ارتُكبَت في حق مصر، لا بد أن المخابرات البريطانية كانت وراءها، رغم عدم وجود دليل مادي على ذلك، فذلك شأن العمليات التي تنفِّذها أجهزة المخابرات، لا تترك وراءها دليلًا، ومهما قيل عن براءة الملك من الاشتراك في هذه المؤامرة، فقد كان سلوكه أثناء الحوادث يشي بضلوعه فيها، وكان القصد من تحميل فؤاد سراج الدين المسئولية، دق المسمار الأخير في نعش الوفد؛ فقد كان الجميع يعلم حقيقة الدور القيادي البارز لسراج الدين في الوفد والحكومة، ومن ثَم كانت إدانته مطلوبةً لإدانة الوفد، وقطع الطريق عليه للوصول إلى الحكم.
إبراء ذمة الوفد
ولكن فؤاد سراج الدين سعى إلى تضميد جراح الوفد، واختار إبراء ذمة الوفد أمام بريطانيا، ففي ربيع ١٩٥٢م، تم لقاء غير رسمي بينه وبين مسئول كبير في السفارة، حرص خلاله على تأكيد أهمية الوفد كعنصرٍ فعَّال لتحقيق الاستقرار السياسي، وأن وصوله إلى الحكم يخدم مصالح بريطانيا، لأنها لا تستفيد من بقاء المسألة المصرية دون حل، وأن أحدًا على الساحة السياسية لا يصلح كطرفٍ في التفاوض مع بريطانيا سوى الوفد.
وحلَّلت الخارجية البريطانية تلك الرسالة غير الرسمية التي نقلها رجلها بالقاهرة، وانتهت منها إلى أن الوفد لم يعُد يتمتع بالمصداقية التي كانت له في الثلاثينيات، وصرف النظر عن ذلك العرض.
وظل البرلمان ذو الأغلبية الوفدية — بتوجيهٍ من سراج الدين — يؤيِّد الوزارات التي تعاقبت على الحكم حتى حُلَّ المجلس في ٢٤ مارس ١٩٥٢م، ليثبت للملك حُسن نيَّات الوفد، لعل وعسى.
وجاء قيام ثورة يوليو ليقطع الطريق على أمل سراج الدين في بعث الوفد، والعودة للحكم، ووراثة الزعامة. كان النحاس وسراج الدين يقضيان إجازة الصيف معًا في أوروبا عند قيام الثورة، فعادا على عجل، وسارعا بتقديم التهنئة إلى مجلس قيادة الثورة فواجههما الضباط بفتورٍ شديد.
ولعل سراج الدين كان الوحيد في هذا اللقاء الذي يعلم أنه قد ضيَّع فرصة الاقتراب من أولئك الضباط الشباب، فقد جاء بعضهم للقائه أثناء وجود الوفد في الحكم، وخلال معركة القناة — وفق ترتيبٍ خاص، لعب وجيه أباظة دورًا فيه — ولمَّح الضباط بإمكانية الإقدام على عملٍ ما من جانب الجيش، ولكنَّ سراج الدين حرص فقط على معرفة أسمائهم وأهدافهم ومَن وراءهم. وقال في تبرير ذلك الموقف البارد بعد ذلك بسنواتٍ (في لقاءٍ مع أحد الباحثين) إنه كان على يقينٍ أن ولاء ضباط الجيش للملك ليس موضع خِلاف، وأنه كان عليه أن يتشكَّك في نيَّات أولئك الضباط.
وسرعان ما دارت عجلة الحوادث بالصورة التي أدَّت إلى إلغاء الأحزاب، واعتقال فؤاد سراج الدين وبضعة وزراء للوفد وتقديمه للمحاكمة بتُهم الفساد السياسي بهدف إسدال الستار على دورهم في الحياة السياسية. وتعرَّض سراج الدين — بالطبع — لكل ما اتخذته الثورة من إجراءاتٍ اقتصادية (تحديد المِلكية، التأميمات، الحراسة)، ولكن ذلك لم يُبعده عن متابعة الحوادث كمراقب، حتى قرر السادات أن يسمح بقيام نظام حزبي في إطار ديمقراطية شَكلية؛ فأعلن سراج الدين عن نيَّته لتكوين حزب سياسي، وتقدَّمت مجموعة من الوفديين وغير الوفديين بطلب تأسيس «الوفد الجديد» الذي رفضته لجنة الأحزاب، وأقرَّه القضاء.
ولكن الضجة التي صاحبت عودة الوفد، سواء من جانب السادات وأجهزة السلطة، أو من جانب رجال الوفد أنفسهم، لم تساعد الحزب على استعادة شعبيَّته المفقودة التي كشفها قرار إلغاء الأحزاب عام ١٩٥٣م، يوم اقترح البعض على النحاس أن يتزعم عملًا احتجاجيًّا ضد القرار؛ فاعتذر لناصحيه بأن أحدًا لا يستطيع التصدِّي للقطار ليُوقف حركته، ودهم قطار الثورة الوفد وغيره من الأحزاب التي تداولت مقاعد الحكم في إطار دستور ١٩٢٣م؛ لأنها كانت في حقيقة الأمر قياداتٍ بلا قواعد حقيقية، وكان الوفد يجتر تراث ثورة ١٩١٩م، ولا يزال دون أن يطرح حلولًا للأزمة السياسية والاجتماعية، وكانت الجماهير قد انقضَّت من حوله قبل الثورة.
وهكذا جاءت عودة الوفد بزعامة سراج الدين بمثابة إقامة منتدى يضم الموتورين من ثورة يوليو، المترحِّمين على ماضٍ سحيقٍ، ولا يكاد يحس بوجود الحزب أحدٌ إلا من خلال جريدته، التي عادت إلى لعبة مهادنة القصر، مكتفيةً بالوجود الرمزي على الساحة السياسية، ومن عجبٍ أن يستمر سراج الدين في توجيه الحزب بنفس الآليات التي عفا عليها الزمن، دون استيعابٍ حقيقي لدروس التاريخ.