حل لغز حريق القاهرة (٢٦ يناير ١٩٥٢م)
يوم السبت ٢٦ يناير ١٩٥٢م، كان منذ صباحه الباكر يومًا حزينًا؛ فقد انفجر بركان الغضب في صدور المصريين جميعًا بسبب ما حدث بالإسماعيلية في اليوم السابق (يوم الجمعة) عندما حاصرت قوات الجيش البريطاني محافظة الإسماعيلية، وطالبت الشرطة المصرية بالاستسلام، فقاوم الجنود بقيادة ضباطهم الشبَّان حتى آخر طلقة، فكانت مذبحة راح ضحيتها عدد من شهداء الشرطة، وأُسِر قادتهم من الضباط.
باتت مصر ليلتَي الجمعة والسبت دون أن يغمض لها جفن، وكان من الطبيعي أن يشهد صباح السبت تعبيرًا شعبيًّا عن هذا الغضب في صورة مظاهرات، شارك فيها جنود وصف ضباط بلُوكَّات النظام (وهي فِرق الطوارئ الشبيهة بما يُسمَّى اليوم بالأمن المركزي)، كما شارك فيها الطلبة والعمال، وكان من الطبيعي أن تتجه هذه المظاهرات إلى موقع مجلس الوزراء والبرلمان، وإلى ساحة عابدين تعبِّر عن سخطها على النظام، ممثَّلًا في أركانه الأساسية.
ومن الواضح أنه لم تكن هناك قيادة موحَّدة تحرِّك تلك المظاهرات على نحو ما حدث عام ١٩٤٦م، عندما تولَّت «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» قيادة العمل الجماهيري، وتوجيهه في شكل جبهة وطنية، لم يخرج عليها سوى «الإخوان المسلمين»، فقد كانت مظاهرات «السبت الأسود» (كما سمَّته الصحافة المصرية) متعددة ومتفرقة، اتخذت طابعًا سلميًّا، وردَّدت شعارات الاستنكار المعادية للاستعمار، والمطالِبة بالاستقلال، والمعبِّرة عن السخط الموجَّه ضد أركان النظام.
ووسط هذه المظاهرات السِّلمية التي شاركت فيها جماهير لا تحركها قيادة واحدة منظَّمة، كانت هناك مجموعة مجهولة الهُوية، يرتدي أفرادها ملابس ذات لون موحَّد، قُدِّر عددها في مختلف الروايات بنحو الثلاثين فردًا، انطلقت وسط القاهرة تُضرم النار في الملاهي والبارات والمحال التجارية والشركات المملوكة للأجانب دون تمييز.
وأجمعت مختلف الشهادات أن فرقة إضرام النار على مستوًى رفيع من التدريب، وعلى درجة عالية من الاستعداد؛ إذ كانت مجهَّزة بوسائل النقل التي تسهِّل حركتها، وبالمواد الملتهبة (صفائح البنزين، مسحوق مساعد على الاشتعال، كرات من القماش، أدوات حديدية لكسر أبواب المحلات)، وهم يضرمون النار بأسلوبٍ مُتقَن لتندلع في الهدف كله بصورة يصعب معها إنقاذه، ثم ينتقلون بسرعة وخِفَّة إلى هدفٍ آخر، كما أنهم لم يتحركوا كفريقٍ واحدٍ، بل كانوا ينقسمون إلى مجموعاتٍ صغيرة، لكلٍّ منها جدول أعمال محدَّد ومهام معلومة.
اهتراء النظام القائم
وهكذا بدأت الحرائق — ظُهر السبت — بكازينو الأوبرا، ثم امتدَّت لتشمل كلَّ منطقة وسط البلد، حيث مركز التجارة والأعمال، وحيث يتركز نشاط الأجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وكان من المنطقي أن تعجز فِرق الإطفاء بالقاهرة، بإمكاناتها المتواضعة، عن مواجهة هذا الحريق الشامل.
قيل في بعض الروايات إن الجماهير مزَّقت خراطيم الحريق عندما حاولت فرقة المطافئ إطفاء حريق كازينو الأوبرا، وقيل بل جنود الشرطة هم الذين فعلوا ذلك، وسمع صاحب هذا المقال من عبد الفتاح حسن باشا — مباشرةً — أن خراطيم المطافئ كانت مهترئة، يتسرَّب منها الماء فلا يخرج منها إلا خيطٌ رفيعٌ من الماء يتساقط بين أقدام رجال الإطفاء فلا يصل إلى ألسنة اللهب، وأضاف الرجل «كان المشهد يعبِّر بصدقٍ عن اهتراء النظام القائم.»
وفي الوقت نفسه الذي اشتعلت فيه النيران في قلب قاهرة الخديو إسماعيل، كان حفيده الملك فاروق ينظِّم الوليمة الرابعة من سلسلة الولائم التي دعا فيها جلالته ضباطَ الجيش والشرطة إلى تناول الغداء على المائدة المَلكية ابتهاجًا بمولد ولي العهد الأمير أحمد فؤاد. كان مُقرَّرًا أن تُقام الوليمة يوم ٢٣ يناير فأُرجئت (لسببٍ مجهول) إلى ٢٦ يناير، وعندما كانت النيران تشتعل في قلب قاهرة الخديو إسماعيل، كان كبار ضباط الجيش والشرطة يتدفَّقون بزي التشريفة الرسمي على الأعتاب المَلكية الكريمة في عابدين، وكان من الصعب الوصول إلى القصر، وتعكير صفو صاحب الجلالة ومزاجه لسببٍ «تافه» مثل احتراق العاصمة الذي كان يقتضي وجود أولئك الضباط في مواقعهم لمواجهة الموقف.
خلفية تلك الأحداث
أما خلفية الأحداث التي أدَّت إلى بلوغ المأساة ذروتها بحرق القاهرة فمعروفة للمُخضرَمين من أمثالنا، ممن عاصروا الحدث، ولكن تغيب عن وعي الكثيرين ممن بلغوا مرحلة الكهولة اليوم، إلا أولئك الذين يعشقون البحث عن الأصول بإمعان النظر في التاريخ.
لذلك لا بأس أن نشير هنا باختصارٍ إلى خلفية تلك الأحداث التي تعود إلى عجز النخبة السياسية المصرية عن التوصُّل إلى حلٍّ للقضية المصرية بتحقيق الاستقلال التام عن طريق التفاوض، بعدما أثبتت الحرب العالمية الثانية أن معاهدة «الشرف والاستقلال» التي وُقِّعت عام ١٩٣٦م كانت وهمًا؛ فقد تحمَّلت مصر أعباء إعالة قوات الحلفاء، وتعرَّضت لأخطار حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، بما تبع ذلك من أزمات اقتصادية واجتماعية خطيرة، وفشلت جولات المفاوضات التي دارت بين النخبة السياسية المصرية والإنجليز، والتي كان آخرها مفاوضات ١٩٥١م التي دفعت حكومة الوفد — تحت ضغط الحركة الوطنية — إلى إلغاء المعاهدة من طرفٍ واحدٍ؛ وبذلك فُتِح الباب أمام خيار الكفاح المسلَّح، وبدأ كل فصيلٍ سياسي يعِد المتطوعين لخوض غمار المقاومة المسلَّحة ضد الوجود البريطاني، وانسحب العمال المصريون من خدمة القاعدة البريطانية بمنطقة القناة، واضطر المقاولون الذين كانوا يُوردون للقاعدة ما تحتاجه من مواد غذائية ومستلزمات أخرى إلى الامتناع عن التعامل مع الإنجليز طوعًا أو كرهًا.
وبدأت عمليات الفدائيين ضد جيش الاحتلال تتصاعد، وأخذ زمام الأمور يفلت من يد حكومة الوفد التي تعاطفت مع حركة الكفاح المسلَّح، ولكنها أرادت أن تخضعها لإشرافها بحيث تستخدمها كأداة ضغطٍ سياسي دون أن تتحوَّل إلى «حرب شعبية» ضد الاحتلال قد تؤدي إلى ولادة نظامٍ سياسي جديد.
بلوغ الاختمار الثوري مداه
وهكذا سمحت حكومة الوفد (على استحياء) بالكفاح المسلَّح، وقدَّمت يد العون لبعض الفصائل، وتغاضت عن مشاركة رجال الشرطة في دعم الفدائيين وتغطية نشاطهم، كما تغاضت — في بداية الأمر — عن معسكرات التدريب التي أقامتها بعض الأحزاب، ثم ما لبثت أن وضعت ضوابط تخضعها لإشرافها، ولا شك أن دور الشرطة في منطقة القناة في مساندة العمل الفدائي ودعمه كان السبب الرئيس وراء مذبحة ٢٥ يناير التي تعرَّضت لها الشرطة، وأدَّت إلى تفجُّر بركان الغضب الشعبي.
وهناك عوامل أخرى يجب أن نوجِّه إليها انتباه القارئ، لعبت دورًا مهمًّا في بلوغ الاختمار الثوري مداه، فإضافةً إلى مأزق النظام السياسي وتفشِّي الفساد، وتدهور سُمعة الملك كانت هناك الأزمة الاجتماعية الخانقة التي بلغت الذروة في أعقاب الحرب العالمية الثانية: البطالة، واتساع نطاق الفقر، وغياب الخدمات الأساسية مع تراكم الثروات في أيدي النخبة الاجتماعية الحاكمة.
وجاء التعبير عن الأزمة في ظاهرة القلق السياسي والاجتماعي الذي اتخذ صورة الإضرابات العُمالية، وحوادث تمرُّد الفلاحين ضد كبار المُلاك التي قُوبلت ببطش السلطة، والمظاهرات المتكررة التي عمَّت القاهرة والإسكندرية والمدن الكبرى، والتي بلغت ذروتها بالهتافات المدوية في ساحة عابدين ضد الملك تطالبه — للمرة الأولى — بمغادرة البلاد، ومن ثَم كان موقف الجماهير السلبي من حريق القاهرة الموجَّه ضد رموز السيطرة الأجنبية على الاقتصاد القومي، وضد الوجود الأجنبي له ما يبرِّره.
وقد لقي حريق القاهرة اهتمامًا كبيرًا من جانب كل مَن تناولوا تاريخ تلك الحقبة بالدراسة، سواءٌ في ذلك الكُتَّاب الأجانب والمؤرخون المصريين بحثًا عن القوة الخفية التي نظَّمت الحريق على هذه الصورة التي تشي بالخبرة ودقة التنظيم بمستوًى لا يتوافر لأي فصيلٍ من الفصائل السياسية المصرية، ويوحي بتورُّط جهة ما في الترتيب والتدبير والتخطيط.
فهناك مَن أشاروا إلى الجهات التي استفادت من الحريق الذي أدَّى إلى إعلان حكومة الوفد الأحكام العرفية؛ مما أتاح للملك فرصة طردها من الحكم، وتوقف الكفاح المسلَّح في منطقة القناة، فتنفَّس الإنجليز الصُّعداء، وبالتالي كان المستفيد من الجريمة الملك والإنجليز.
ولمَّا كانت ثورة يوليو قد وقعت بعد ستة شهور من ذلك الحدث، فهناك مَن أشار إلى «الضباط الأحرار» بإصبع الاتهام باعتبارهم أصحاب المصلحة في إسقاط النظام، وأرجعه البعض إلى سخط «الرَّعاع» على النظام، آخذين في الاعتبار المظاهرات التي طافت وسط القاهرة، وموقف الجماهير السلبي من الحريق، وتعرُّض بعض المحال التجارية للسلب والنهب وسط الفوضى التي ضربت أطنابها حتى ما يقرب من منتصف الليل، وقدَّم كل باحثٍ من هؤلاء ما يدعم وجهة نظره من أدلة وقرائن.
الكفاح المسلَّح، وكبح الجماح
فالإنجليز كانوا — دون شكٍّ — أصحاب المصلحة في تصفية حركة الكفاح المسلَّح بعدما نظروا بعين الشك إلى التأكيدات التي قدَّمها فؤاد سراج الدين — وزير الداخلية ورجل الوفد القوي — من خلال طرف ثالث إلى السفير البريطاني من أن حكومة الوفد لا تزال ترى في التفاوض السبيل الوحيد لحل مأزق العلاقات المصرية-البريطانية، وأن التعنُّت البريطاني في المفاوضات دفعه دفعًا إلى إلغاء المعاهدة، وأنها لا تشعر بالارتياح إزاء تفجُّر حركة الكفاح المسلح، وتسعى إلى احتوائها تمهيدًا للعودة إلى مائدة المفاوضات.
فقد كانت كل الشواهد تدل على أن حركة الكفاح المسلَّح قد خرجت عن نطاق سيطرة الحكومة، وأوجد انسحاب العُمال من العمل في قاعدة قناة السويس، وانقطاع الإمدادات عن القاعدة أزمةً خانقةً، حاولت السلطات البريطانية حلَّها من مصادر خارج مصر (من بينها قبرص).
وزاد من حرج موقف القيادة البريطانية تعرُّض أمن القاعدة وأرواح جنودها لضربات كتائب الكفاح المسلح، وقد كشفت الوثائق البريطانية عن خطة وضعتها الحكومة البريطانية تحت الاسم الكودي «روديو» (أي كبح الجماح) تتلخَّص في عزل منطقة القناة عن مصر، وإقامة حكم عسكري بريطاني فيها، ثم تحرك القوات البريطانية على محورَين أحدهما من القناة، والآخر من الإسكندرية، بعد إنزال قوات بريطانية هناك في حماية سلاح الجو الملكي البريطاني، ويلتقي المحوران عند القاهرة، فيتم بذلك عزل الدلتا، وإملاء ما يشاء الإنجليز من شروطٍ على الحكومة التي يطلبون من الملك تنصيبها، وقد أصبحت تلك الخطة جاهزة للتنفيذ انتظارًا لتحديد ساعة الصفر في الأسبوع الأول من يناير ١٩٥٢م.
المخابرات البريطانية والدور الخفي
ويبدو أنه كان هناك ترتيب آخر تُعده «المخابرات البريطانية» لتفجير الموقف المصري من الداخل توفيرًا لما تتطلَّبه خطة «روديو» من نفقات، وما قد تسبِّبه من مخاطر سياسية دولية؛ فكان نشاط «جماعة أنصار الحرية» ذات الصلة بالمخابرات البريطانية الذي اتخذ صورة محاولة إشعال فتنة طائفية بإشعال النيران في إحدى كنائس السويس، وعندما طاشت سهامهم، وتم احتواء الموقف دبَّروا حريق القاهرة بالصورة التي تم بها، وقد استند جميع من اعتبروا الإنجليز وراء الحريق إلى قرائن قوية، تجعل دور المخابرات البريطانية واضحًا في تدبير الحريق، ولم يكن بين أيدي أولئك الباحثين (محمد أنيس، طارق البشري، جمال الشرقاوي) عندما كوَّنوا هذا الرأي معلومات عن خطة «روديو» التي كشفت عنها الوثائق البريطانية فيما بعد، والتي تجعل من تحرُّك «المخابرات البريطانية» لتفجير الموقف المصري من الداخل مطلبًا ملحًّا.
أما اتهام الملك بتدبير الحريق، فيستند إلى عدم ارتياحه إلى الوفد بسبب حادث ٤ فبراير ١٩٤٢م، حتى إنه كان معترضًا على قيام مصطفى النحاس باشا بتشكيل الوزارة الوفدية، وحاول أن يُسنِد تشكيلها إلى فؤاد سراج الدين، وكاد ينجح في ذلك لولا اعتراض قادة الوفد، واستنكار النحاس لموقف سراج الدين؛ مما جعل الأخير يلحُّ على كريم ثابت (وسيط الملك) بضرورة تكليف النحاس باشا بتشكيل الوزارة، وهو ما تم بالفعل، كذلك لم يشعر الملك بالارتياح عندما وضعه النحاس باشا في مأزقٍ لم يملك معه سوى الموافقة على توقيع المراسيم الخاصة بإلغاء المعاهدة، كما ضاق الملك ذرعًا بما اعتبره موقفًا سلبيًّا من جانب الحكومة في مواجهة المظاهرات التي هتفت بسقوطه، وطالبته بمغادرة البلاد.
تنسيقٌ بين الملك والإنجليز
ومن القرائن التي تم الاستناد إليها في توجيه الاتهام إلى القصر تلك الوليمة التي أُرجئت إلى موعدٍ يتفق مع إضرام الحريق، والتأخُّر في الاستجابة لطلب الحكومة بنزول الجيش إلى الشوارع للمحافظة على الأمن والنظام، والسلبية التي واجه بها الجيش المتظاهرين، بل ومسارعة القصر إلى طرد الوفد من الحكم.
ولم يستبعِد هؤلاء أن يكون هناك تنسيقٌ ما بين الملك والإنجليز في هذا الصدد، أو أن تكون فِرق إضرام الحريق قد دُرِّبت وأُعدَّت بناء على خطة وضعها القصر، لم لا وأمر «الحرس الحديدي» الذي كوَّنه الملك لاغتيال بعض الشخصيات السياسية كان معروفًا؟
أما اتهام «الضباط الأحرار» فقد جاء استنادًا إلى قرائن ضعيفة، كان صاحبها أحمد أبو الفتح، وجاءت في الترجمة العربية لكتابه «مصر الناصرية»، عاد فأنكرها في حديثه إلى جمال الشرقاوي، واعتبرها «تخمينيةً»، كما استند آخرون إلى مناسبتين خطب فيهما جمال عبد الناصر، فأشار إلى أن جريمة حريق القاهرة، رغم شناعتها، إلا أنها جاءت تعبيرًا عن ذروة أزمة النظام السياسي، وقمة سخط الجماهير المصرية، وهو تحليلٌ له وجاهته، لم ينفرد به جمال عبد الناصر وحده، بل شاركه الرأي عبد الفتاح حسن باشا، أحد وزراء حكومة الوفد الأخيرة، وصَفِي فؤاد سراج الدين باشا؛ ولذلك قصةٌ تُروى.
ففي شتاء ١٩٦٨م تمت لقاءات بين أستاذنا محمد أنيس وسراج الدين باشا في قصره بجاردن سيتي، في إطار خطة مركز تاريخ مصر المعاصر لتجميع شهادات الساسة القدامى، وكنتُ بصحبة الدكتور محمد أنيس، أسجِّل ما يدور من نقاشٍ بقلمي، وكانت الجلسة مخصَّصة لمناقشة حريق القاهرة، وحضرها عبد الفتاح حسن باشا، وعندما علَّق على مُشاهدته لاهتراء خراطيم المطافئ بميدان الأوبرا بأن ذلك كان تعبيرًا عن تهاوي النظام السياسي والاجتماعي استاء فؤاد سراج الدين لذلك، واعتبره نوعًا من المبالغة، ومن الجدير بالذكر أن فؤاد باشا نفى تمامًا التهمة عن الملك وحده، ورأى أن الإنجليز هم وحدهم وراء الحريق، وأن الملك استثمره لمصلحته.
فإذا كان عبد الناصر قد رأى في موقف الجماهير السلبي من الحريق — الذي وصفه بأنه كان جريمة شنعاء — تعبيرًا عن تفاقم سخط الجماهير، وقمة الأزمة الاجتماعية، التي كانت محركًا لثورة يوليو، فلا يعني ذلك أن للضباط الأحرار يدًا في ارتكاب جريمة كهذه.
حادث محلي صِرف
ومن الغريب أن نجد عبد الرحمن الرافعي ينفرد بالقول بأن حريق القاهرة كان حادثًا محليًّا صِرفًا، ليس لأحدٍ فيه دور بالتدبير أو التنفيذ، وأنه تم على أيدي جماهير «الرَّعاع» الذين خرجوا بالمظاهرات المعبِّرة عن الاحتجاج على مذبحة الشرطة بالإسماعيلية عن مسارها السلمي، واتَّجهوا إلى التخريب والسلب والنهب، أما الأغلبية والقصر فقد كانوا مجرد منتفعين بالحادث. ووجه الغرابة فيما انتهى إليه عبد الرحمن الرافعي أنَّ ما توصَّل إليه من نتائج مشابهة لما توصَّلت إليه لجنة التحقيق التي شكَّلها السفير البريطاني برئاسة المستشار العُمالي بالسفارة، وعضوية بعض الدبلوماسيين، وممثِّل للغرفة التجارية البريطانية وسكرتارية كين بويد الذي كان رئيسًا للبوليس السياسي بوزارة الداخلية المصرية منذ الثلاثينيات حتى نهاية الأربعينيات.
يقع التقرير في ٥٨ صفحة من حجم الفولسكاب، اطَّلعنا عليه في الوثائق البريطانية السرية، ويتضمن وصفًا تفصيليًّا للحوادث من خلال شهود العيان الذين استمعت إليهم اللجنة، وبيانًا بجميع المؤسسات التي أُضيرت من الحريق والخسائر البريطانية في الأموال والأرواح، وانتهى التقرير إلى اعتبار حكومة الوفد المسئول المباشر عن الحريق بسبب إشعالها لروح العداء ضد الإنجليز، وتشجيعها المتطرفين على مقاومة الوجود البريطاني بالقوة، مما جعل العناصر المعروفة بتعصُّبها ضد المسيحيين واليهود والأجانب تتحرك لإشعال الحرائق.
واتفقت اللجنة مع الحكومة في ترجيح أن يكون وراء الحريق أحمد حسين وحزبه ورجاله، ولكن ذلك تم — في رأي اللجنة — بمباركة من حكومة الوفد، بدليل وقوف الشرطة موقفًا سلبيًّا خلال الحوادث، واشتراكهم في المظاهرات، كذلك السلبية التي اتسم بها موقف الجيش عندما نزل إلى الشوارع لإقرار الأمن والنظام.
وانتهى التقرير إلى أن خسائر الإنجليز كانت أقل من غيرهم، مما يُوحي بأن مثيري الشغب كانوا يقصدون المصالح الأجنبية عامةً، وليس الإنجليز وحدهم. وواضح أن التقرير بسعيه لإدانة حكومة الوفد، تجاوَز عن دور اللواء محمد إبراهيم إمام «تلميذ كين بويد» ورئيس البوليس السياسي الذي كان موجودًا في موقع الأحداث في مخالفة تعليمات وزير الداخلية بالتصدي للمظاهرات، وغياب كبار الضباط في وليمة الغداء بقصر عابدين، وعدم وجود ولاية للحكومة على الجيش، الذي يأتمر بأمر الملك.
جمع أدلة لإدانة حكومة الوفد
ولعل القارئ يتساءل: إذا كان الحريق من تدبير الإنجليز، فما معنى وجود لجنة التحقيق هذه، وما أهمية ذلك التقرير السري الذي أعدته؟
من المعروف أن الأعمال «القذرة» مصطلحٌ شائعٌ بين أجهزة المخابرات الكبرى، ويقصد به الخطط ذات الطابع الإجرامي التي تخدم الأهداف الأساسية لبلادهم دون أن تترك وراءها أثرًا يمكن تتبُّعه. ولا شك أن المخابرات البريطانية لعبت دورًا مهمًّا في تنفيذ هذه الجريمة مستخدمةً في ذلك عملاءها، سواء من كانوا أعضاء في جمعية أنصار الحرية، التي تشير الدلائل إلى صِلتهم بهذا اللون من النشاط، أو رجالهم داخل البوليس السياسي المصري، وداخل القصر الملكي؛ فعملٌ بهذا الحجم يقتضي التنسيق على مستوًى رفيع بين مَن خططوا له ونفَّذوه، وبين مَن يغطُّون نشاط هؤلاء ويسهِّلون عملهم، ويضمنون لهم الانسحاب بسلامٍ، وهم أنفسهم الذين عليهم البحث عن كبش فداء، تُعلَّق التهمة في رقبته، وهو ما فعله أحمد مرتضى المراغي باشا — وزير الداخلية، ورجل الإنجليز — في قرار الاتهام الموجَّه ضد أحمد حسين وبعض أعوانه، وعناصر ممن شاركت في السلب والنهب.
لقد بذل صاحب هذا المقال جهدًا في الوثائق البريطانية بحثًا عن أي صِلة بين المخابرات البريطانية وحريق القاهرة، وكان من المنطقي ألَّا يعثر في الوثائق على أثر لذلك الدور في الوثائق المسموح بالاطلاع عليها. وتقرير لجنة التحقيق التي شكَّلتها السفارة البريطانية بالقاهرة لا يعني أن أعضاءها لا يدركون ذلك؛ فالنتيجة التي توصَّلوا إليها كانت مطلوبةً بإلحاح، وهو جمع أدلة الإدانة لحكومة الوفد، والتأكد من أن خسائر الإنجليز محدودة قياسًا بالخسائر التي لحقت بالمصالح الأجنبية الأخرى.
أصابع الاتهام تشير للإنجليز
إن استقراء الأحداث التي شهدتها مصر منذ خريف ١٩٥١م، حتى حريق القاهرة تجعل أصابع الاتهام تشير إلى الإنجليز كفاعلٍ أصلي، وإلى عملائهم في البوليس السياسي المصري وداخل القصر كشريك.
أما الحدث نفسه فكان تعبيرًا عن تداعي النظام السياسي والاجتماعي كله، بعدما عجز عن تحقيق الاستقلال الوطني بطريق التفاوض، وعن بناء اقتصاد وطني خارج إطار التبعية لرأس المال الأجنبي، ووقفت النخبة السياسية المسيطرة على الحكم ضد كل الأفكار والمشروعات التي طُرحَت لحل الأزمة الاجتماعية التي تفاقمت منذ الحرب العالمية الثانية.
هذا فضلًا عما تركته نكبة فلسطين عام ١٩٤٨م من جرح عميق في الروح الوطنية؛ لذلك لم تهتم الجماهير التي شهدت حريق القاهرة بمحاولة إنقاذ المؤسسات التي تعرَّضت للحرق؛ فقد كانت كلها رموزًا للسيطرة الأجنبية على مقدرات البلاد، بل كان وسط المدينة الذي شهد الحريق يمثِّل مصر الأخرى التي تشعر الجماهير بغربة فيها.
ولم يكن مسلك جنود الشرطة والجيش من تلك الأحداث تجسيدًا لرؤية الجماهير التي جاءوا من بين صفوفها لمجتمع وسط المدينة بكل ما تحمله تلك الرؤية من معانٍ، بل كان الملك فاروق نفسه يُدرك تمامًا أن النظام السياسي الذي يقف على قمَّته يتهاوى تحت أقدامه، فراح يُعد العُدة لثورة قادمة، ويتهيَّأ للحياة في المنفى بتهريب جانبٍ كبيرٍ من أمواله إلى الخارج بمساعدة رجله إلياس أندراوس، وكان يؤكد لخُلصائه أن أيامه أصبحت معدودة، وأن مستقبل النظام في كفِّ القدر.
وقد شجَّع حريق القاهرة الضباط الأحرار على التبكير بالانقلاب العسكري الذي كان مقرَّرًا له في تقدير جمال عبد الناصر عام ١٩٥٥م، بعدما أصبحت الظروف المتردية حافزًا قويًّا للتحرك الثوري لتقويض أركان النظام؛ فكانت ثورة يوليو ١٩٥٢م نتيجةً منطقيةً لتلك الأحداث.