حصاد القرن العشرين
يُعد القرن العشرون من أهم قرون الألفية الثانية، وأكثرها خطرًا، وأسرعها إيقاعًا، وأغناها بالتغيُّرات السياسية الدرامية التي كانت لها انعكاساتها الاجتماعية والثقافية. ولما كانت مصر تحتل موقعًا بارزًا على خريطة العالم، فإن سِمات القرن العشرين تركت بصماتها على تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي بصورة شديدة الوضوح، ويعنينا هنا ما جمعته مصر من حصاد القرن العشرين في المجال السياسي.
جاء تغيُّر الوضع الدولي لمصر في مقدمة مظاهر التغيير السياسي التي شهدتها مصر في القرن العشرين، فقد افتُتح القرن ومصر ولاية من ولايات الدولة العثمانية، ذات وضعٍ خاص كفلته الفرمانات التي حصل عليها محمد علي والخديو إسماعيل، ووصل إلى مرتبة الاستقلال الذاتي الكامل، وهو وضع لم تغيِّره بريطانيا عند احتلالها مصر عام ١٨٨٢م حتى لا تصطدم بمقاومة فرنسا، وغيرها من الدول الكبرى المنافِسة لها، وخاصة أن وضع مصر القانوني في ظل الحكم الذاتي الكامل أتاح لبريطانيا السيطرة على البلاد دون حاجة إلى تغيير وضعها، ما دامت السيادة العثمانية مجرد سيادة اسمية.
ولم تعنَ بريطانيا بتغيير وضع مصر الدولي إلا عندما انضمَّت تركيا إلى ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، فأعلنت الحماية على مصر عام ١٩١٤م، وعيَّنت الأمير حسين كامل ابن الخديو إسماعيل سلطانًا على مصر، أي أن مصر أصبحت سلطنةً تخضع للحماية البريطانية، واتجه جهد المصريين عند نهاية الحرب إلى إلغاء الحماية التي عدَّها سعد زغلول باشا باطلةً قانونًا؛ لأنها فُرضت على مصر دون طلبٍ منها، فكان تشكيل «الوفد المصري» عند نهاية الحرب يهدف إلى طرح قضية استقلال مصر على مؤتمر الصلح المنعقد في باريس عام ١٩١٩م.
واضطرت بريطانيا أن تعلن استقلال مصر في ٢٨ فبراير ١٩٢٢م تحت ضغط الحركة الوطنية المصرية من طرفٍ واحدٍ في تصريحٍ مشهور سلب مصر لُب الاستقلال بالتحفُّظات الأربعة التي أبقت مصر — من حيث الواقع — تحت الهيمنة البريطانية، لتصبح موضع مفاوضات دارت بين مصر وبريطانيا، حتى انتهت بتوقيع اتفاقية الجلاء في عام ١٩٥٤م.
وتحوَّلت مصر في ظل دستور ١٩٢٣م إلى مملكة، وطُويت صفحة حكم أسرة محمد علي بإعلان الجمهورية (١٨ يونيو ١٩٥٣م)، ثم قيام الجمهورية العربية المتحدة (١٩٥٨م) بوحدة مصر وسوريا، واستمرار الاحتفاظ باسم الدولة بعد الانفصال (١٩٦١م) حتى تغيَّر إلى جمهورية مصر العربية في أوائل عهد السادات.
وهكذا شهد القرن العشرون تغيُّر وضع مصر الدولي، من ولاية عثمانية يحكمها خديو إلى سلطنة تحت الحماية، إلى مملكة، إلى جمهورية، كما شهد مشكلة البحث عن الهُوية.
انتماء مصر لدولة الخلافة
فقد كانت مصر في مطلع القرن تتبنَّى فكرة الجامعة الإسلامية التي كانت خطًّا أساسيًّا في حركة الحزب الوطني، ما دامت هذه الفكرة تعني الحفاظ على سلامة أراضي الدولة العثمانية ووحدتها، وتتمسَّك بانتماء مصر إلى دولة الخلافة الإسلامية؛ لأن الحزب الوطني بنى نضاله على أساس أن الوجود البريطاني في مصر وجودٌ غير شرعي؛ لأن مصر تخضع للسيادة العثمانية، فكان التمسُّك بالتبعية للدولة العثمانية هو طوق النجاة من الاحتلال البريطاني، ومن ثَم كان التشيُّع لفكرة الجامعة الإسلامية التي يرعاها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني يواكب التمسُّك بالتبعية العثمانية، ويغطي على فكرة القومية المصرية التي طرحها أحمد لطفي السيد قبل الحرب الأولى على استحياء، ويرفض فكرة القومية العربية باعتبارها تهدف إلى تمزيق أوصال الدولة العثمانية إلى كياناتٍ قومية، قد يترتَّب عليها (لو قُدِّر لها النجاح) أن تكرِّس الوجود الاستعماري البريطاني في مصر، والفرنسي في شمالي أفريقيا؛ لذلك وَصَمت الحركة الوطنية المصرية دُعاة القومية العربية بالخيانة والعِمالة للدول الأوروبية الاستعمارية، ونفرت من الدعوة إلى القومية العربية.
ولكن قيام الحرب العالمية الأولى، وإعلان الحماية البريطانية على مصر، وهزيمة الدولة العثمانية (تركيا) في الحرب، وضع مصر في مفرق طُرق البحث عن هُوية؛ فاختفاء الدولة العثمانية بدَّد فكرة الجامعة الإسلامية، وكان هناك ازدراء ونفور من فكرة القومية العربية؛ فلم يكن هناك مفرٌّ من التمسُّك بالهُوية القومية المصرية التي عبَّر عنها «الوفد المصري» وقيادته التي تنتمي أصلًا إلى تيار القومية المصرية، وعبَّرت عنه الجماهير في ثوره ١٩١٩م، وغذَّاه الكُتَّاب الذين راحوا يروِّجون للفكرة المصرية باستدعاء تاريخ مصر القديم، والتقليل من شأن الحقبة الإسلامية من تاريخ مصر.
غير أنَّ الأمر لم يُحسَم لصالح القومية المصرية؛ فقد أسال إلغاء الخلافة — في تركيا — لُعاب بعض حكام البلاد الإسلامية لحمل لقب الخليفة، بما يُضفيه على صاحبه من أُبَّهة ونفوذ في العالم الإسلامي. وكان من بين هؤلاء الملك فؤاد، ورغم فشل هذا المسعى أُعيد طرح الفكرة وتجديد المحاولة في بداية عهد الملك فاروق. وكان التطلُّع إلى الخلافة يستلزم استخدام الإسلام كأداة سياسية في يد الملك، ومن ثَم النفخ في الأزهر، وتحويله إلى مؤسسة دينية رئيسية، يستخدمها الملك لتحقيق أطماعه في الحصول على الخلافة بقدر ما يستخدمها في تدعيم سلطته الأوتوقراطية، وتبرير اعتدائه على الدستور.
الانتماء القومي
هذا اللعب بفكرة إحياء الخلافة، وما استلزمه من تضخيم دور الأزهر، وما سُمِّي بهيئة كبار العلماء، أعاد طرح الفكرة الإسلامية بإلحاحٍ ترك آثارًا سلبية على الانتماء القومي المصري، وفتح الطريق أمام قيام جماعة الإخوان المسلمين التي تبنَّت هذه الفكرة مستفيدةً من فشل التجربة الليبرالية ذات التوجُّه العلماني التي كان رموزها دُعاة القومية المصرية.
ورغم حرص ثورة يوليو ١٩٥٢م على إبراز التوجُّه القومي المصري في سنواتها الأولى من خلال بعض الإيماءات، مثل نقل تمثال رمسيس إلى ميدان باب الحديد، وإعادة تسمية الميدان وشارع الملكة إلى ميدان وشارع رمسيس، ونقل رُفات محمد فريد إلى ضريح مصطفى كامل في موكبٍ مهيب، والتركيز على الهُوية المصرية في مناهج التعليم العام والإعلام، إلا أن النظام ظل يحتفظ بالدين كأداة سياسية من خلال الإبقاء على حجم الأزهر، ودعم المؤسسة الدينية لتصبح سندًا للنظام، وخاصة بعد الاصطدام بالإخوان المسلمين وتصفية دورهم.
وإذا كانت ثورة ١٩٥٢م قد اكتشفت التوجُّه القومي العربي وأهميته لدعم دور مصر الإقليمي نتيجة موقف الشعوب العربية المسانِد لمصر أيام العدوان الثلاثي (١٩٥٦م)، وتأكيد هذا التوجُّه من خلال الوحدة مع سوريا، وقيام الجمهورية العربية المتحدة (١٩٥٨م). فإن الطريقة التي قُدِّمت بها القومية العربية في مناهج التعليم العام ووسائل الإعلام بمصر، ركزت على الأُخوَّة في الدين واللغة المشتركة … إلخ. واستدعت الأمجاد الإسلامية التي كانت مصر طرفًا رئيسًا فيها إلى جانب الشام، فأضاف التوجُّه القومي العربي الجديد في مصر إلى رصيد الفكرة الإسلامية، خَصمًا من رصيد الفكرة القومية المصرية، دون أن يؤدي إلى تأصيل التوجُّه القومي العربي بين الجماهير المصرية تأصيلًا حقيقيًّا.
ولعل ذلك يُلقي بعض الضوء على أزمة الانتماء التي تعاني منها مصر عند ختام القرن، بقدر ما عانت في بدايته؛ فقد نشأ جيل العشرينيات مشبَّعًا بالزهو القومي المصري الذي أطلقته ثورة ١٩١٩م، وعانى جيل الأربعينيات من الحيرة بين التوجُّه الإسلامي والتوجُّه القومي المصري حتى استقر عند الانتماء القومي المصري مع قيام ثورة ١٩٥٢م، ثم يُفاجأ بالانتماء القومي العربي، ثم يعود السادات إلى طرح اتجاهٍ مصري إسلامي هجين، وانعكس ذلك كله على خطة الإعلام، وخطة التعليم العام؛ فلم يجد الشباب استمرارًا إلا لفكرة الانتماء الإسلامي الذي غذَّاه السادات بإطلاق العنان للإخوان والجماعات الإسلامية، بينما ازدادت حيرة مَن شغلتهم قضية الانتماء والهوية.
ثورتان في القرن العشرين
وقد شهد القرن العشرون ثورتَين؛ ثورة ١٩١٩م وثورة ١٩٥٢م، وكانت الأولى ثورةً شعبيةً بكل المقاييس، هبَّت فجأةً دون قيادة، عندما يئس الشعب من إمكانية تحقيق أمانيه الوطنية في الاستقلال والعدالة الاجتماعية، وعندما وجد الإنجليز ينفُون الساسة الذين يمثِّلون التيار المعتدل المتعاون مع الإنجليز لمجرد تحركهم في اتجاه «السعي كلما وجدوا للسعي سبيلًا لتحقيق الاستقلال»، فكان اندلاع بركان الثورة التي شارك فيها العُمال والفلاحون والطلبة، واتَّسمت بالعنف الموجَّه ضد رموز السلطة، ورموز الاستغلال الاجتماعي معًا.
وقد سارعت قيادة «الوفد المصري» التي فاجأتها الثورة على غير توقُّع، إلى احتواء الثورة من خلال لجان الوفد، ومن خلال الجهود المضنية التي بذلها عبد الرحمن فهمي بك — الذي يرجع إليه فضل صناعة الصورة السياسية لسعد زغلول كرمزٍ للعمل الوطني، وكقائد للثورة — وكان الطابع التلقائي الذي اتَّسمت به الثورة، وغياب التنظيم الثوري المعبِّر عن الجماهير التي شاركت في إشعال جذوتها، كافيًا لتحويل حصادها لخدمة البرجوازية المصرية التي تصدَّت لقيادة العمل السياسي، والتي جعلها العنف الثوري ودلالاته الاجتماعية تميل إلى محاولة الخروج من المأزق بالالتقاء مع الإنجليز في منتصف الطريق؛ فكانت التطورات التي أدَّت إلى صدور تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م، ودستور ١٩٢٣م.
ولكن ثورة ١٩١٩م لم تنجح في تحقيق الأهداف التي حركت الجماهير لإشعالها، وهي الاستقلال الوطني، والعدالة الاجتماعية، فظل الوجود الاحتلالي كما هو، ودفعت مصر ثمنًا باهظًا لمساندة المجهود الحربي لبريطانيا وحلفائها في الحرب العالمية الثانية، وعجز النظام السياسي الذي أقامه دستور ١٩٢٣م عن تحقيق الإصلاح الاجتماعي المنشود، بل حفلت العشرينيات والثلاثينيات بالانقلابات الدستورية التي دعَّمت السلطة الأوتوقراطية للقصر، وحفلت الأدبيات السياسية بالحديث عن ثالوث الفقر والجهل والمرض الذي جسَّد عجز النظام السياسي عن تحقيق الأمل المنشود في العدل الاجتماعي.
ثورة يوليو
وهكذا خرج الضباط الأحرار في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م لتغيير النظام عن طريق الانقلاب العسكري، الذي حمل اسم «حركة الجيش المباركة»، ولما كان صُنَّاع الانقلاب يمثِّلون أبناء الطبقة المتوسطة الصغيرة التي عبَّرت عن أمل الجماهير في تحقيق الاستقلال الوطني والعدل الاجتماعي، وكانوا يمثِّلون جبهةً وطنية جمعت ضباطًا ينتمون إلى مختلف الاتجاهات السياسية — فيما عدا الوفد والأحزاب الليبرالية — وطرحوا برنامجًا مبدئيًّا في المبادئ الستة الشهيرة يلقى قبولًا عامًّا، وخاصة ما اتصل بالعدالة الاجتماعية، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، والتعبير العملي عن ذلك بإقرار الإصلاح الزراعي، ثم إلغاء المَلَكية وإعلان الجمهورية، فقد كان ما تحقق على أيدي طليعة الضباط الأحرار في حقيقة الأمر «ثورة».
وقد استطاعت ثورة يوليو أن تحقِّق الاستقلال الوطني بتوقيع معاهدة الجلاء، والتصدي للعدوان الثلاثي، وتبنِّي سياسة وطنية مستقلة ترفض كل محاولات التبعية، وآمنت أن تحقيق الاستقلال الوطني يتطلَّب إحاطة مصر بمجالٍ خالٍ من الوجود الأجنبي؛ فكان التأييد الفعلي لحركة التحرير الوطني في الوطن العربي وأفريقيا، والاشتراك في تأسيس حركة عدم الانحياز، ولعب دور القوة الإقليمية المستقلة، وخاصةً عندما تمت الوحدة بين مصر وسوريا، ورغم وقوع الانفصال كان دعم ثورة اليمن يُعد متغيرًا استراتيجيًّا إقليميًّا خطيرًا يجعل لمصر اليد العُليا في البحر الأحمر، إضافةً إلى امتلاكها لقناة السويس، مما أدَّى إلى اتجاه الغرب ممثَّلًا في حلف الأطلنطي إلى التخطيط لتصفية الدور الإقليمي لثورة يوليو الذي تم في يونيو ١٩٦٧م.
التنمية الاقتصادية
وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، رفعت ثورة يوليو التوجُّه الليبرالي، وعملت على فتح الطريق أمام الرأسمالية المصرية لتقود التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولكنها أخطأت التقدير، فقد ظنَّت أن هناك جناحَين للرأسمالية المصرية؛ أحدهما يستثمر في الأرض، والآخر يستثمر أمواله في قطاع الأعمال، وظنَّت أن الإصلاح الزراعي يجعل قطاع الأعمال ينفرد باجتذاب الاستثمارات. ولكن في حقيقة الأمر كانت الرأسمالية المصرية تعمل في القطاعَين معًا، وجعلها الإصلاح الزراعي تُحجِم عن الاستجابة لإغراءات النظام الجديد، وتُضيِّع فرصةً ذهبية أتاحها لها النظام بقرارات التمصير ١٩٥٧م، وعندما وجدت الدولة أن عليها مواجهة حالة الركود الاقتصادي والمُضي قُدمًا على طريق التنمية، اضطرت أن تأخذ على عاتقها إدارة الاقتصاد؛ فكان القطاع العام، وكانت الإجراءات التي حملت اسم «القرارات الاشتراكية»، وكان التوجُّه الاشتراكي المبتسر الذي طُرِح منذ عام ١٩٦١م.
لقد حققت ثورة يوليو نجاحًا ملحوظًا في بناء الاقتصاد الوطني؛ فأنجزت السد العالي، ووسَّعت نطاق الصناعة، كما حققت إنجازات كبيرة على صعيد التنمية الاجتماعية، ولكن ضربة ١٩٦٧م، وعملية إعادة بناء القوات المسلحة لتحرير التراب الوطني في حرب أكتوبر ١٩٧٣م استنفدت الكثيرَ من الموارد الاقتصادية، وأثَّرت على الخدمات تأثيرًا سلبيًّا.
وبعد نصر أكتوبر ١٩٧٣م حاول أنور السادات أن يجد حلًّا للأزمة الاقتصادية من خلال التوسُّع في الاستدانة من الخارج، وتبنِّي ما سُمِّي بسياسة «الانفتاح»؛ مما أدَّى إلى حدوث خلل في البنية الأساسية، صرفت مصر العَقدين الأخيرين من القرن في محاولة إصلاحه، ويطوي القرن صفحته تاركًا مصر تعاني سلسلةً من الأزمات الاجتماعية الناجمة عن تخلي الدولة عن إدارة الاقتصاد، وتصفية القطاع العام.
أزمة!
كذلك شهد القرن العشرون أزمة النظام السياسي المصري في الحقبتين الليبرالية وثورة يوليو؛ من حيث غيبة الديمقراطية، ومحدودية المشاركة السياسية، سواء في ظل دستور ١٩٢٣م، أو في ظل الدساتير التي صدرت في عهد ثورة يوليو. ففي ظل دستور ١٩٢٣م كان كبار المُلاك الزراعيين يحتلون مقاعد البرلمان بمجلسَيه؛ النواب والشيوخ، واتجه التشريع في الأغلب الأعم إلى خدمة مصالح تلك النخبة الحاكمة. وبدأ إرساء التقاليد البغيضة لتزوير إرادة الناخبين من خلال تزوير الانتخابات، بل تمادى القصر في عدوانه على الدستور تعطيلًا وإلغاءً، وأدَّى ذلك إلى ظهور حركات الرفض الاجتماعي على أيدي الشباب الذي صدمه فشل التجربة الليبرالية في تحقيق الأماني الوطنية؛ فراح يبحث عن أيديولوجيات بديلة كالاشتراكية التي بدأت بذورها في مصر مع مطلع العشرينيات، أو الفاشية التي عبَّرت عنها حركة مصر الفتاة، أو التوجُّه الإسلامي الذي عبَّرت عنه حركة الإخوان المسلمين.
ورغم رفع ثورة يوليو لشعار الديمقراطية، واعتبار تحقيق «الديمقراطية السليمة» من بين أهدافها، إلا أن الممارسة السياسية الفعلية جاءت عكس ذلك، فتم التوسُّع في دائرة الخاضعين للعزل السياسي لتشمل كل اتجاهات المعارضة، كما غُيِّب ممثِّلو هذه الاتجاهات في السجون والمعتقلات، واستمر تقليد تزوير الانتخابات حتى فقدت الجماهير الاهتمام بممارسة حقها الانتخابي.
وينتهي القرن وعلى أرض مصر رجال ونساء وصلوا سنَّ الشيخوخة دون أن يدخلوا لجنة انتخابية، ليقينهم أن ممارستهم لحقهم الانتخابي لن تُغيِّر من نتائج الانتخابات ما دام «التقفيل» أداةً فعالةً لحسم الأمور لصالح مرشحين بعينهم، وليشهد العقد الأخير من القرن عددًا كبيرًا من الأحكام ببُطلان انتخاب نواب تربَّعوا على مقعد النيابة.
ولا نستطيع أن نختتم الرصد التاريخي للتطور السياسي في مصر في القرن العشرين دون أن نُلقي نظرة على دور مصر في قضية فلسطين.
النشاط الصهيوني
فمن الثابت تاريخيًّا أنه لم يكن هناك إدراك في مصر لخطورة ما يدور على أرض فلسطين إلا عند وقوع ثورة فلسطين عام ١٩٣٦م، أما قبل ذلك فلم تشهد مصر اهتمامًا بالنشاط الصهيوني في فلسطين، بل على العكس، كانت مصر تلعب دور المحطة التي تستقبل يهود أوروبا بين الحربَين العالميتين في طريقهم إلى فلسطين، ولعبت الجالية اليهودية في مصر دورًا فعالًا في دعم النشاط الصهيوني بصورة أو بأخرى.
ولذلك عندما قامت الثورة الفلسطينية الكبرى عام ١٩٣٦م، بدأت مصر تحس بخطورة وجود كيان صهيوني على حدودها الشرقية مع جاراتها العربيَّات، وهو ما عبَّر عنه النحاس باشا رئيس الوزراء عندئذٍ؛ وبدأت الحركات السياسية المختلفة في مصر تضع القضية الفلسطينية في اعتبارها منذ ذلك التاريخ.
وكانت قضية فلسطين — أيضًا — وراء اهتمام مصر بمشروعات الوحدة العربية التي طُرحت في الأربعينيات، وفي لعب مصر الدور الأساسي في إقامة جامعة الدولة العربية، وبذلك أصبحت مصر طرفًا أساسيًّا في القضية التي تُعَد — قبل أي اعتبارٍ آخر — قضية أمن قومي مصري، وظلَّت كذلك حتى نهاية القرن.
تقسيم فلسطين
وشهدت مصر جدلًا سياسيًّا عريضًا، وحركات شعبية نظمت مظاهرات صاخبة عند طرح مشروع تقسيم فلسطين عام ١٩٤٧م؛ فكان التيار الغالب في مصر يعارض التقسيم، ويدعو إلى استقلال فلسطين. وما لبثت أن انسحبت بريطانيا من فلسطين، وأُعلن قيام الدولة الصهيونية، وكان لا بد من اعترافٍ عربي بقيامها، فسِيقت دول الجامعة العربية إلى حربٍ لم يُعَد لها، ولم يُحسب حسابها عام ١٩٤٨م، انتهت لصالح الكيان الصهيوني الوليد، وتوقيع اتفاقية الهدنة التي كانت اعترافًا ضمنيًّا بإسرائيل.
ورغم غياب خطة عربية لتحرير فلسطين، «ظل تحرير الوطن السليب» شعارًا تُردِّده الأنظمة العربية دون أن تعنيه، بما في ذلك مصر. وإذا كان قيام ثورة يوليو من تداعيات حرب فلسطين عام ١٩٤٨م التي كشفت فساد النظام وعجزه؛ فإن الثورة لم تعمل على تحرير فلسطين، ورغم رفضها لفكرة الصُّلح مع إسرائيل عندما طرحتها الولايات المتحدة في ١٩٥٣-١٩٥٤م، ورغم اشتراك إسرائيل في العدوان الثلاثي ١٩٥٦م، فقد ظل النظام يرى ضرورة تأمين عمل عربي مشترك لتحقيق هذه الغاية، ومِن هنا كانت دبلوماسية مؤتمرات القمة العربية التي كانت سلبيةً تمامًا. وكان الخط السياسي المصري والعربي هو المطالبة بتطبيق قرارات الأمم المتحدة التي تنص على عودة اللاجئين الفلسطينيين، أو تعويضهم، والالتزام بخطوط التقسيم الذي وضعته الأمم المتحدة عام ١٩٤٧م.
وعندما تورطت مصر إلى الوقوع في فخ هزيمة يونيو ١٩٦٧م حدث تحوُّل جوهري في الموقف من قضية فلسطين بمجرد قبول القرار ٢٤٢، الذي نصَّ على الانسحاب من الأراضي التي تم احتلالها في ١٩٦٧م، مقابل حدود آمنة ومُعترَف بها. ورغم رفض مصر للهزيمة، والجهود المضنية التي بُذلَت لإعادة بناء القوات المسلحة والتضحيات التي بُذلَت في حرب الاستنزاف، وما تحقق في أكتوبر ١٩٧٣م من نصر، إلا أن الخط السياسي المصري أصبح التركيز على تحرير التراب الوطني (سيناء)، وإنهاء حالة الحرب مع إسرائيل مع محاولة التوصُّل إلى تسوية «مناسبة» لحقوق شعب فلسطين، إذا كان ذلك ممكنًا في إطار سلامٍ شامل.
وينتهي القرن ومصر تجد نفسها لا تملك الفِكاك من الالتزام بقضية فلسطين في ظل تبدُّد حلم السلام الشامل بسبب المراوغة الإسرائيلية، والدعم المُطلَق الذي تلقاه إسرائيل من الولايات المتحدة الأمريكية، وتظل القضية الفلسطينية قضية أمن قومي مصري؛ لا يستطيع أي نظام أن ينفض يده منها، دون أن يتحمَّل وزر التفريط في الأمن القومي، ويفقد بذلك مصداقيته.