هنري كورييل

بين الأسطورة والواقع التاريخي١

في يناير الماضي؛ صدر كتاب «أوراق هنري كورييل والحركة الشيوعية المصرية»، الذي قُمت فيه بنشر بعض ما استطعت الحصول عليه من أوراقه التي يحتفظ بها بعض رفاقه الذين عملوا معه في باريس. وتستمد هذه الأوراق أهميتها من الدور الذي لعبه صاحبها في الحركة الشيوعية في مصر، وهي عبارة عن سِيرة ذاتية قصيرة — خصَّصها لنشاطه في مصر — وبعض التقارير التي كان يُرسلها من باريس إلى رفاقه في «حدتو»؛ وهو التنظيم الذي شارك كورييل في إقامته، كما تضمَّنت الأوراق رسالتَين بعث بهما إلى نعومي كانل التي كانت مسجونة بمصر، وقدَّمت لهذه المجموعة من الوثائق بدراسة تحليلية لأبعاد الدور الذي لعبه كورييل في الحركة الشيوعية المصرية؛ استنادًا إلى أوراقه، وإلى بعض المؤلفات التي تناولت تاريخ الحركة في الأربعينيات والخمسينيات.

ولما كان الموضع يتناول دور المنظِّمين الأجانب من اليهود في الحركة، ويعرض لجذور منظمة كانت من أهم المنظمات الشيوعية في مصر، فقد أثار الكتاب اهتمام فصائل اليسار المصري بمجرد صدوره، بقدر ما أثار اهتمام المعنيين بدراسة تاريخ مصر المعاصر، واختلفت مواقف الأطراف المتباينة باختلاف منطلقاتها السياسية، ومدى القرب من «حدتو»، أو البُعد عنها على وجه الخصوص.

ورغم ذلك لم يحظَ الكتاب بمناقشةٍ علمية — بمعنى الكلمة — إلا من جانب الأستاذ طارق البشري على صفحات «الهلال» الغرَّاء، وكان طبيعيًّا أن تأتي استجابة الدكتور رفعت السعيد للكتاب سياسيةً محضة؛ فالرجل كان من مناضلي «حدتو»، والكتاب يُلقي أضواءً على مسائل أسدل عليها رفعت السعيد ستائر كثيفة في مؤلِّفاته، ومن ثَم كان مقاله القصير على صفحات «الأهالي» بيانًا سياسيًّا ندَّد فيه بالكتاب وصاحبه، مُدَّعيًا إغراقه في الأخطاء التي كان مردها — في رأيه — إلى موجة «العداء للشيوعية»، وقُمت بالرد على «بيان» رفعت السعيد على صفحات الجريدة نفسها، فإذا به يعود ويكرر الادعاء نفسه بأسلوبٍ بعيد تمامًا عن الحوار العلمي، ثم أغلقت «الأهالي» باب الحوار؛ فلم تُتِح لي ممارسة حقي القانوني في تفنيد التُّهم التي كالها رفعت السعيد للكتاب ولنيَّات صاحبه.

ولم أهتم — من ناحيتي — بالرد عليه ما دام أنه لم يلتزم بآداب الحوار العلمي وأصوله الذي يقرع الحُجة بالحُجة، وخاصةً أن الموضوع يستند إلى وثائق دامغة يتضمَّنها الكتاب. وجاء مقال الأستاذ طارق البشري، ثم مقال الأستاذ محمد سيد أحمد بالهلال ليؤكِّدا صحة ما توصَّلت إليه من نتائج عند دراستي لأوراق هنري كورييل.

ولكن منذ أسابيع طُرحَت بالأسواق طبعة جديدة للترجمة العربية لكتاب «جيل بيرو» تحمل عنوان «هنري كورييل: رجل من نسيج خاص»، نُسبَت إلى الأستاذ لطيف فرج، وتصدَّرتها إشارة إلى أن جماعة أصدقاء هنري كورييل بباريس قد خصَّت هذه الطبعة بمجموعة مهمة من التعليقات كتقديرٍ منها لجهد المترجِم والناشر المصري. والطبعة المصرية الجديدة للكتاب أجود أسلوبًا من الطبعة اللبنانية التي ظهرت منذ نحو ثلاث سنوات، وقد حُذفَت منها بعض الألفاظ النابية التي استخدمها المؤلف الفرنسي عند وصفه لبعض خصوم كورييل من الشيوعيين المصريين، كما حُذفَت منها إشارة مهمة أوردها المؤلف على لسان «مكسيم رودنسون» ذكر فيها أن كورييل كان سطحيًّا في فهمه للماركسية، وأن قدراته التنظيمية تجاوزت بكثيرٍ معرفته النظرية.

غير أن الجديد اللافت للنظر في هذه الطبعة، مُلحقٌ في تسع صفحات بعنوان «رسالة إلى الدكتور رءوف عباس» بتوقيع «يوسف حزان» نيابةً عن «أصدقاء هنري كورييل ورفاقه» ومُؤرَّخة في ٢٢ فبراير ١٩٨٨م، ولست أدري لماذا اختار صاحبها أن يوجِّهها إليَّ بهذه الطريقة، وربما أراد بذلك أن يترك عند القارئ انطباعًا بأنني تلقَّيتُ الرسالة وأهملت الرد عليها؛ فلم يجد الرجل مفرًّا من إرفاقها بهذا الكتاب، الذي جعل من هنري كورييل أسطورةً، والذي كانت وراء إصداره «مجموعة روما» «لحدتو» أو ما يُسمَّى اليوم بجماعة أصدقاء هنري كورييل ورفاقه.

ويوسف حزان أو «الرفيق سوسو» ينتمي إلى الجيل الثالث لأسرة يهودية دمشقية، نزحت إلى مصر أواخر القرن الماضي، ووُلد يوسف حزان بمصر عام ١٩١٧م؛ حيث تلقَّى ثقافة عربية وفرنسية، وحصل على بكالوريوس الزراعة من فرنسا، ومارس المهنة بمصر، وانضم إلى الحلقات الماركسية في الأربعينيات، ولكن صِلته بكورييل ترجع إلى عام ١٩٤٧م، ومنذ غادر مصر إلى فرنسا عام ١٩٤٩م، كان الذراع اليمنى لهنري كورييل في «مجموعة روما» التي كوَّنها هنري من الشيوعيين اليهود من أعضاء «حدتو» بباريس، كما كان مسئولًا عن النواحي المالية والتنظيمية للجماعة، وما زال يحظى بتقديرٍ خاصٍ من رفاق «حدتو» القُدامى.

وتتناول رسالة «الرفيق سوسو» سالفة الذكر، النقاط الثلاث التي جاءت ببيان رفعت السعيد نفسها؛ فهو يعترض على ما جاء بكتاب «أوراق هنري كورييل والحركة الشيوعية المصرية» من إشارة — مستندةً إلى الوثائق — إلى موقف هنري كورييل من القضية الفلسطينية، وعلاقاته مع الوجود الصهيوني في فلسطين في الأربعينيات؛ وخاصةً وصف كورييل لحرب فلسطين ١٩٤٨م «بالحرب الظالمة ضد إسرائيل» و«الحرب الإمبريالية ضد إسرائيل» فذكر «الرفيق سوسو» أن قرار المكتب السياسي لحدتو بقبول قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين عام ١٩٤٧م كان إجماعيًّا، نظرًا لموافقة الاتحاد السوفييتي على القرار، ولأن القرار يعني رحيل القوات البريطانية عن فلسطين وإنهاء الانتداب، وتمكين «الشعبَين»؛ الفلسطيني واليهودي من ممارسة حقهما في تقرير المصير.

ومن ثَم كانت حرب ١٩٤٨م — في رأيه — من تدبير الإمبريالية البريطانية بمساعدة الأنظمة الرجعية العربية في المنطقة، ويستدلُّ على ذلك بالانسحاب المتعجِّل للقوات البريطانية من فلسطين، وسماح الإنجليز للجيش المصري بالتوجُّه إلى فلسطين عبر قناة السويس، والهدف من ذلك زعزعة الوضع في فلسطين حتى تقوم الأمم المتحدة بتمديد الانتداب البريطاني، واستغلال حالة الحرب بفرض الأحكام العُرفية في بلدان المنطقة وتوجيه الضربات إلى الحركة الوطنية في البلدان العربية.

أما النقطة الثانية فتتعلق بما أوردناه تعليقًا على خطابَي كورييل إلى نعومي كانل، وصِلتها بالإسرائيليين المسجونين بمصر، وهنا يؤكد الرفيق سوسو أن نعومي كانل كانت تتصل بالفلسطينيين الشيوعيين المعتقلين بالسجون المصرية، وليس بالإسرائيليين.

أما النقطة الثالثة فتتصل بالإشارة التي أوردناها بالكتاب عن نشاط كورييل في تأييد حركة التحرير الجزائرية، ومن أنه قد أصبح بعد نجاح الثورة من مستشاري أحمد بن بللا، فرأى «الرفيق سوسو» أن هذه الإشارة المقتضَبة لا تكفي لتقدير الدور النضالي لكورييل، ونفى أن يكون من مستشاري بن بللا.

وقبل أن نُفنِّد هذه النقاط الثلاث، أود أن أعرب عن تقديري الكامل للأستاذ يوسف حزان، وإعجابي بأسلوبه المتحضِّر في طرح وجهة نظره فيما كتبتُ عن «رفيق نضاله» هنري كورييل، فهو يُصدِّر طبعة «مصرية» من كتاب جيل بيرو، ويبعث إليَّ بهذه الرسالة التي أعرب في صدرها عن تقديره — هو ورفاقه في مصر وباريس — للكتاب الذي قمتُ بنشره، وتأكيده على أهميته وصحة ما جاء به من وثائق، ولم ينسب عملي إلى «الموجة الغبية المعادية للشيوعية» كما فعل «الدكتور» رفعت السعيد.

وأود أن أُلفت نظر «الرفيق سوسو» إلى الفارق الكبير بين مؤرِّخ يتناول الوثائق بمنهجٍ علمي يسعى لإلقاء الضوء على ظاهرة سياسية تتعلَّق بتاريخ بلده المعاصر، وبين رفيقٍ وصديقٍ لشخصية لعبت دورًا في تكوين هذه الظاهرة، فعلى حين توافر الحيدة التامة للمؤرخ؛ تغلب العواطف الشخصية والذكريات المشتركة على رؤية الرفيق والصديق.

فبالنسبة لموقف كورييل من القضية الفلسطينية، كانت هناك صِلات حميمة بين هنري ورجال الهاجاناة المجنَّدين في الفيلق اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية، والذين كانوا بمصر، ونجده يتحسَّر في سيرته الذاتية (والأصل الفرنسي بين يدَي الرفيق سوسو) لأن الإنجليز لا يُشركونهم في المهام القتالية حتى لا يكتسبوا خبرةً عسكريةً، وطبعًا كانت هذه الخبرة لصالح «نضال» «الشعب اليهودي» ضد «الشعب العربي الفلسطيني» بداهةً.

وبعد استقرار كورييل بباريس، وسعيه الدائب للتوصُّل إلى سلام عربي-إسرائيلي، كانت المجموعة — التي يُنسِّق جهوده معها — من رجالٍ من قيادات الهاجاناة وقيادات منظمتَي شتيرن وأرجون الإرهابيتين، فقد كان كورييل لا يرى جدوى في الحوار العربي مع الحمائم وحدهم، ويسعى لإشراك العناصر «المحِبَّة للسلام» من الصقور، ولا أظن أن الصقور قد قبلوا بالتعاون مع كورييل دون أن يضعوا في اعتبارهم صلاتهم به أثناء الحرب العالمية الثانية.

ضرب الحركة الوطنية

أما عن حرب فلسطين عام ١٩٤٨م، فأتفق مع الرفيق سوسو أنها أتاحت للأنظمة الرجعية فرصة فرض الأحكام العُرفية وضرب الحركة الوطنية، ولكن الوثائق التاريخية تكشف أن بريطانيا كانت تعلم جيدًا أن انسحابها من فلسطين لصالح ما أسماه «الرفيق سوسو» بالشعب اليهودي، وما يسمِّيه العالم كله بالصهيونية؛ ففي مذكِّرة قُدِّمت لمجلس الوزراء البريطاني في ٣ يوليو ١٩٤٦م، قُدِّرت قوة الهاجاناة بحوالي ٧٥ ألف مقاتل، والبالماخ (القوة الضاربة في جيش الهاجاناة السري) بخمسة آلاف مقاتل، كما قُدِّرت قوة الأرجون بحوالي خمسة — أو ستة — آلاف مقاتل مدرَّبين تدريبًا جيدًا على حرب الشوارع وأعمال التخريب، وقوة شتيرن بحوالي ٣٠٠–٤٠٠ فرد متخصصين في أعمال الاغتيال.

وفي الوقت نفسه قدَّر التقرير أن بإمكان عرب فلسطين تقديم ما لا يزيد على ثلاثة عشر ألفًا من المقاتلين؛ على اعتبار أن عدد العناصر الناشطة بصورة فعالة بين العرب فيما بين ١٩٣٦–١٩٣٩م لم يتجاوز الألفين. وتحدث التقرير عن تسليح الطرفين، وشتَّان بين تسليح «الشعب اليهودي» وعرب فلسطين؛ فلم يكن هناك أي تكافؤ … لصالح مَن إذن كان انسحاب بريطانيا؟!

لقد أيقنت بريطانيا أن «إسرائيل» قائمةٌ لا محالة؛ فلم تشأ أن تورِّط نفسها في تطبيق التقسيم بالقوة حتى لا تُغضِب العرب الذين كانت تعوِّل على مصالحها الاستراتيجية والبترولية في بلادهم، وتُغضب حليفتها الولايات المتحدة التي لم تكن لتقبل إلا بما يقبل به اليهود، وكان اليهود يرفضون التقسيم (كما هو معروف).

ولكن يُحسَب لهنري كورييل أنه كان بعيد النظر — إلى حدٍّ كبير — ويُدرك أن «إسرائيل» لا تستطيع البقاء إلى الأبد وسط محيطٍ عربي معاد، ومن ثَم كان تبنِّيه لفكرة «السلام العادل» الذي يسمح بقيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل و«تعايش سِلمي» بين إسرائيل والبلاد العربية، حتى إنه حاول أن يُقنِع الإسرائيليين بلعب دورٍ لمساعدة جبهة التحرير الجزائرية (كما يذكر بيرو، ص٤١٤ من الطبعة المصرية) على أمل أن تقوم الجزائر بعد تحقُّق الاستقلال بتسويق السلام العربي-الإسرائيلي، ولكن مصالح إسرائيل كانت مع المعسكر الإمبريالي؛ ففشل مسعى كورييل.

غير أن مستقبل إسرائيل كان يلحُّ على ضميره السياسي، ومن هنا كان حرصه على فتح قنوات الاتصال مع القيادة المصرية بمدِّ المُلحق العسكري المصري في باريس بالمعلومات، وتدبير لقاءات بين بعض قُوى اليسار الإسرائيلي وشخصيات مصرية من رفاق «حدتو» القُدامى (بعد حرب ١٩٦٧م) بالتنسيق مع القيادة المصرية، وأخيرًا محاولات مد الجسور بين ممثِّلي المجلس الإسرائيلي للسلام ومنظمة التحرير الفلسطينية التي اشترك في بعضها يوسف حزان ورفعت السعيد (مايو ١٩٧٦م)، ومن ذلك — أيضًا — تدبير اللقاءات بين عصام السرطاوي (ممثِّل عرفات) وبعض العناصر الإسرائيلية من حركة السلام.

أما عن حكاية نعومي كانل، فهي من كوادر «حدتو»، يهودية متمصِّرة غير محدَّدة الجنسية، نشأت بمصر، وكانت زوجة لشاعرٍ مصري من أعضاء حدتو، وحُوكمت عام ١٩٥٤م في (قضية الجبهة) التي اتُّهم فيها بعض الشيوعيين واليساريين المصريين وبعض المثقفين والفنانين وضباط الجيش، وحُكم عليها بالسجن خمس سنوات.

ويبدو أنني قد تورَّطت — دون قصدٍ — في جرح مشاعر رِفاق حدتو، لأن هذه السيدة كانت وراء جهود المنظمة لتخصيص أحد مقاعدها العشرة في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المصري الموحَّد للرفيق يونس «هنري كورييل»، وتمسَّك مفاوضو حدتو بذلك في المفاوضات الخاصة بالوحدة عام ١٩٥٧م، وكان رفعت السعيد — عندئذٍ — أمينًا للجنة التفاوض، وأثار المقعد الذي خُصِّص للرفيق يونس المتاعب — فيما بعد — لحدتو، كما أفقدها صوتًا باللجنة المركزية، لوجود كورييل بالخارج. وقد شكر الرفيق يونس نعومي كانل على ما بذلته من جهدٍ لعودته إلى الحزب، وخاصة أن «الحزب الشيوعي المصري الموحَّد» قد تفرَّد بذلك بين أحزاب المشرق العربي بقبول عودة «عنصر يهودي» — على حد تعبير كورييل — إلى قيادته.

وقد استنتجتُ من إحدى الرسالتين الموجَّهتين من كورييل إلى نعومي كانل أنها لعبت دور ضابط الاتصال بين بعض الإسرائيليين الذين كانوا مسجونين بمصر في إحدى قضايا التجسُّس، وبين إسرائيل من خلال هنري كورييل، فقد أشار بيرو إلى شيء من هذا تلميحًا دون أن يذكر اسم كانل صراحةً، كما أن هنري كورييل استخدم كلمة «الفلسطينيين» عند الإشارة إلى رجال الفيلق اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية، واستخدمها بالطريقة نفسها عند الإشارة إلى يهود فلسطين بأحد تقاريره.

ولا يمنع ذلك من أن تكون نعومي قد نقلت رسائل من فخري مكي الشيوعي الفلسطيني المعتقَل بمصر، وأخيه أسعد مكي عبر كورييل أيضًا. كما أنه ليس هناك ما يمنع كانل من أن تنقل الرسائل من المسجونين الإسرائيليين إلى هنري كورييل لينقلها بدوره إلى من أسماه «إيلي» في إسرائيل، فَصِلات كورييل بالإسرائيليين واضحة تمامًا في رسالته تلك، وفي كتاب بيرو، سواء أولئك الذين عرفهم خلال الحرب من رجال الهاجاناة، أو بعض رفاقه الذين غادروا مصر إلى إسرائيل، كما أن صِلات كورييل بالصقور في إسرائيل كانت تعدل صِلاته بالحمائم، فلماذا هذه الحساسية عند الرفيق سوسو ورفعت السعيد، ولماذا لم يكشف لنا الرفيق سوسو عمن يكون «إيلي» الذي كان يتلقَّى الرسائل في إسرائيل عبر هنري كورييل؟!

ولستُ في حاجة إلى التعليق على الملاحظة المضحكة التي ذكرها رفعت بين نزلاء السجون المصرية، وعدم وجود نعومي كانل مع الآخرين في سجن واحد؛ فقد كانت خطوط الاتصال قائمةً بين الرفاق في مختلف السجون، وإلا لما استطاعت الرفيقة نعومي أن تتصل بمفاوضي «حدتو» في مفاوضات الوحدة، ولما كانت هذه الرسائل المتبادَلة بينها وبين الرفيق يونس في باريس.

أما عن الملاحظة الأخيرة التي ذكرها يوسف حزان؛ والخاصة بدور كورييل في حركة التحرير الجزائرية، فلم تكن موضع دراستي في الكتاب، لعدم توافر المادة الوثائقية الخاصة بها. ومعلوماتنا عن هذا النشاط مُستقاة من كتاب بيرو، ومن الواضح أن هذا الدور لم يكن منقطع الصلة عن جهود كورييل لإقامة سلام عربي-إسرائيلي، وما قصدته بقولي إن هنري كورييل كان من مستشاري بن بللا أنه كان من ثِقاته. وكان هنري يعتمد على بن بللا في تمويل نشاط منظمة «التضامن» التي أنشأها في باريس للعمل مع حركات التحرر الوطني، وانقطع التمويل الجزائري بوصول بومدين إلى السلطة، وربما كان لديه ما يبرر ذلك.

بقيت نقطة فرعية؛ تتمثَّل في تأكيد الرفيق سوسو لمصرية كورييل، وهو أمرٌ لم يخطر ببال الرجل نفسه كما يتضح من سيرته الذاتية، وكما يتضح أيضًا مما كتبه قبل اغتياله بعامٍ واحد؛ إذ يقول: «إن الوطن الوحيد الذي شعرت بارتباطي به هو فرنسا» (ص٥٣ من الطبعة المصرية لكتاب بيرو).

إن الحديث عن رجل مثل هنري كورييل لا بد أن يتشعَّب بتشعُّب نشاط هذا الرجل الذي كان بحقٍّ «رجل من نسيجٍ خاص»، ولعلنا نكون قد وُفِّقنا هنا في تحديد أهم خيوط هذا النسيج، ومع تقديري الكبير للرفيق سوسو، لا أظن أنه يختلف معي في أن السياسي «إنسان»، له ما لسائر البشر من فضائل ونقائص، وأن لكل «مناضل» هدفًا يسعى لتحقيقه، ويبذل حياته من أجله؛ وكذلك كان هنري كورييل.

١  مجلة الهلال، نوفمبر ١٩٩٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥