أوراق الرفيق مرسي والحركة الشيوعية المصرية١
منذ نُشرَت دراستنا عن «الحركة العُمالية في مصر» عام ١٩٦٧م، واهتمامنا منصرِف إلى محاولة الوقوف على المصادر الأساسية للحركة العُمَّالية في بُعدَيها النضالي والسياسي، واستطعنا أن نجمع بعض الأوراق الهامة المتصلة بتاريخ الحركة؛ حتى نستعين بها في إعداد دراسة شاملة لتاريخ الحركة على ضوء ما تكشَّف من أوراق، وما توافر من شهادات بفضل الجهود التي يبذلها مركز البحوث العربية فيما ينشره من شهادات الكوادر العُمَّالية واليسارية.
ولكن عندما وقعت في أيدينا أوراق هنري كورييل الذي لعب دورًا بارزًا في الحركة الشيوعية المصرية منذ بداية الأربعينيات حتى بادرنا بنشرها، وقدَّمنا لها بدراسة منذ نحو خمسة عشر عامًا، أثارت وقتها اهتمام «الهلال»؛ فكتب محمد سيد أحمد، وسعد زهران مقالَين مهمَّين حول تجربتيهما الذاتية عن دور الأجانب في الحركة الشيوعية المصرية، كما كتب طارق البشري مقالًا حول دور اليهود في الحركة، وما يحيط به من شُبهات، وجاء ذلك كله تعقيبًا وتعليقًا على ما ذهبنا إليه، في الدراسة التي قدَّمنا بها الأوراق، من أن الحفاظ على إسرائيل كان يحتل بؤرة اهتمام هنري كورييل، الذي كانت له مواقف محدَّدة تشي بهذا الاتجاه.
سر كورييل
ولمَّا كانت الكتابة عن هنري كورييل تثير حساسية فصيلٍ معين من اليسار المصري لأسبابٍ سياسية محضة، لا تستطيع أن تتسامح مع حقائق التاريخ ووضوح الدليل، فقد هاجمني بعض رموز هذا الفصيل على صفحات «الأهالي» بعباراتٍ تتفق مع حجم الحساسية التي خلَّفها وصفي للاتجاهات الصهيونية عند هنري كورييل، وحاولتُ أن أتابع الحوار مع هؤلاء فأغلقوا الباب، واتسع صدر «الهلال» فنشرت لي مقالة ردًّا على يوسف حزان، الذي موَّل وأصدر طبعةً مصرية من كتاب جيل بيرو عن هنري كورييل الذي نُشِر بعنوان «رجل من نسيجٍ فريد»، وأضاف إليه ملحَقًا تضمَّن رسالةً موجَّهة إليَّ، زعم أنه أرسلها لي ولم أرد عليها، دافع فيها عن موقف كورييل من الصهيونية وإسرائيل، وقد قمتُ بتفنيد مزاعمه في الرد الذي نشرته «الهلال».
•••
لهذه المقدمة الطويلة نسبيًّا علاقة بموضوع هذا المقال، وهو أوراق مارسيل شيريزي، الذي نشر محمد يوسف الجندي معظمها في كتابٍ صدر حديثًا عن دار العالم الثالث بعنوان «أوراق مناضل إيطالي في مصر».
وكان مارسيل شيريزي يُعرَف في مصر باسم مارسيل إسرائيل، ويُعرَف في الحركة الشيوعية بالاسم الحركي «الرفيق مرسي». وقد التقيت به لأول مرة — وآخرها — عام ١٩٨٤م في مكتب راوية عبد العظيم (دار سينا للنشر) بعد نشر كتاب «أوراق هنري كورييل والحركة الشيوعية المصرية» بشهورٍ قلائل. فقد جاء مارسيل إلى مصر، واتصل بالدار التي صدر عنها الكتاب، وطلب مقابلتي.
وعندما نقلَت إليَّ الصديقة راوية عبد العظيم هذه الرغبة، رحَّبتُ باللقاء الذي كان مقررًا له ساعة واحدة، فامتد إلى سبع ساعات، فاض فيها مارسيل بطوفانٍ من الذكريات، بدأها بإبداء تأييده لمَا ذهبتُ إليه من اتجاهاتٍ صهيونية عند كورييل، ودلَّل على ذلك بقوله إن كورييل هو الذي كان وراء حل «الرابطة الإسرائيلية لمناهضة الصهيونية» التي أسَّسها مارسيل، وصاغ بيانها الذي طُبع، ووُزِّعت منه ٦٠ ألف نسخة (على حد قوله).
وعلى مَر الساعات السبع قدَّم مارسيل إجاباتٍ مستفيضةً حول تساؤلات طرحتها عليه، وللأسف لم يكن معي جهاز تسجيل يحفظ هذا الحديث، وإنما اكتفيتُ بتدوين بعض الملاحظات، وانتهى اللقاء على وعدٍ من مارسيل بإرسال ما لديه من أوراق إليَّ حتى أستعين بها في إعداد دراسة لتاريخ الحركة الشيوعية المصرية. ولم يكن الوعد مشمولًا بتحديد زمنٍ معين، بل شاء «الرفيق مرسي» أن يترك الموعد مفتوحًا حتى يتيسَّر له إعداد الأوراق.
«بعد مرور السنين من تاريخ طلبك، أرسِل إليك — نظرًا لشهرتك كمؤرخ موضوعي وكمساهمة تاريخية — بعض المستندات والمكتوبات المتعلِّقة بكفاحي ضد الاستعمار والرجعية والصهيونية، منذ سنة ١٩٣٥م إلى اليوم. ولسوء الحظ؛ جزءٌ كبير من مكتوباتي ينام — إذا كان لا يزال حيًّا — في أرشيف المحافظة، ولا سيما كورس لتدريس الماركسية مكوَّن من حوالي ٣٠٠ صفحة، وهو الدور الأساسي الذي قمت به أثناء حياتي المصرية.»
وتضمَّن المظروف الكبير الذي اشتمل على أوراق مارسيل شيريزي، أو مارسيل إسرائيل (الرفيق مرسي) أوراقًا سبق أن أرسل أصولها إلى الدكتور رفعت السعيد هي: شهادة قدَّم فيها ملخصًا لدوره في الحركة الشيوعية المصرية، ورسالةً مطوَّلة تضمَّنت تصويبًا لبعض ما ذكره رفعت السعيد في كتابه عن «الصحافة اليسارية في مصر»، ثم مذكرة مطوَّلة لتصويب بعض ما جاء بكتاب «المنظمات اليسارية في مصر ١٩٤٠–١٩٥٠».
ضمن المظروف كذلك رسالة مطوَّلة أرسلها إلى جيل بيرو مؤلِّف كتاب «رجل من نسيجٍ خاص» عن سيرة هنري كورييل، حرص مارسيل أن يرسل لي نصًّا عربيًّا لها بخط يده، صحَّح فيها بعض ما قدَّمه بيرو من أفكار عن كورييل، وقال رأيه فيه بصراحة، وحمَّله مسئولية ما تعرَّضت له الحركة الشيوعية من نكبات.
كذلك تضمَّنت الأوراق تقريرًا كتبه مارسيل لرفعت السعيد عن حقيقة الانقسامات والتكتُّلات داخل «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو) وهو تقرير — في رأيي — بالغ الأهمية.
وتضمَّنت الأوراق أيضًا مقالَين بالإيطالية؛ أحدهما بإحدى دوائر المعارف عن مارسيل ونضاله في مصر وإيطاليا، والآخر عن موقفه من العدوان الثلاثي على مصر ومساندته للموقف المصري، ونصًّا فرنسيًّا يتضمن بيانات اللجنة المصرية للسلام عام ١٩٣٨م، وبعض المقالات التي أرسلها للنشر في مجلة «اليسار» ومجلة «أدب ونقد»، بما في ذلك حوار أجراه أحمد إسماعيل معه على صفحات المجلة الأخيرة.
ورغم أن الكثير من هذه الأوراق أُرسل — أصلًا — إلى رفعت السعيد؛ إلا أن المعلومات الواردة به بالغة الأهمية، ومُجمَل الأوراق يرسم صورة شبه كاملة لدور «الرفيق مرسي»، ويُلقي أضواءً على العمل السياسي الماركسي في الأربعينيات. ولكنها ليست مذكرات، ولا تمثِّل كيانًا واحدًا، وبها تكرار للمعلومات هنا وهناك؛ لذلك فضَّلت الاحتفاظ بها لاستخدامها عند كتابتي لدراسةٍ عن تاريخ الحركة.
أوراق الرفيق مرسي
ولكنني فوجئت الشهر الماضي بالكتاب الذي نشره محمد يوسف الجندي بدار العالم الثالث بعنوان «مارسيل شيريزي، أوراق مناضل إيطالي في مصر» الذي سبقت الإشارة إليه، وبمراجعة الأوراق المنشورة على ما بين يدَي من أوراقٍ أرسلها إليَّ مارسيل؛ تبيَّن لي أنه قد رُوعيَت الدقة والأمانة في نشر الأوراق، ولكن استُبعد منها رد مارسيل على جيل بيرو، المتعلِّق بهنري كورييل، وتقريرٌ يقع في سبع صفحات عن الانقسامات والتكتلات في «حدتو» وعلى مَن تقع مسئوليتها، كان قد أرسله إلى رفعت السعيد، والتقرير الخاص باللجنة المصرية للسلام (عام ١٩٣٨م)، وكان نشْر ترجمته أمرًا بالغ الأهمية، كذلك تضمَّنت المجموعة التي بين يدي صورَ خطابات شخصية مرسَلة من العديد من الكوادر المصرية إلى مارسيل.
وقد حرص ناشر الكتاب أن يضمِّنه نص أعمال ورشة العمل التي عُقدت في مارس ١٩٩٩م بدعوة من لجنة توثيق الحركة الشيوعية بمركز البحوث العربية والأفريقية بالقاهرة، وهي الجلسة التي تراجع فيها مارسيل شيريزي عمَّا جاء بشهادته السابقة أمام اللجنة ذاتها، والتي نشرت — في كتاب — شهادات الأجانب في الحركة الشيوعية المصرية، والتي قال فيها إن «هنري كورييل كان نصف صهيوني» وهو تقييمٌ يتسق تمامًا مع ما سمعته منه بمكتب راوية عبد العظيم عام ١٩٨٤م، ولكن الرجل تعرَّض لضغوطٍ من رِفاقه — ورِفاق كورييل القُدامى — فكان تراجعه عن تلك المقولة التي حرص على أن يترك لي صورةً منه بالأوراق التي أرسلها لي، وقراءة ما كتبه الرجل بخط يده توحي بأن هذا التراجُع فيه قدرٌ كبيرٌ من المجاملة للرفاق، هذا إذا أمعن النظر في الصياغة وعلامات التعجُّب التي حرص على أن يضعها في موضع له دلالته.
•••
ومهما كان الأمر، فقد طالعتنا الصحف في الأسبوع الأول من نوفمبر ٢٠٠٢م بنبأ وفاة مارسيل شيريزي، قبل أن يتم عامه التسعين بشهورٍ قليلة، ولم يعُد أمامنا سوى ما تركه من أوراق، شاء أن يحمِّلني أمانتها، رغم أنها — كما اتضح من نشر الكتاب — بين يدي «الرفاق القدامى» وبعض تلاميذهم، وكأن «الرفيق مرسى» شعر بالحاجة إلى طرفٍ محايد، لا يتعامل مع أوراق الرجل من منطلقاتٍ سياسية، وإنما ضالته الحقيقة، والحقيقة وحدها، مهما بلغت درجه نسبتها.
سر الرفيق مرسي
ومارسيل إيطالي الأصل، كان جده حاخامًا لليهود القرَّائين بمصر، في عهد محمد سعيد باشا، ومثَّل طائفته في مجلس شورى النواب الذي أسَّسه الخديو إسماعيل عام ١٨٦٦م، ولكن والده لم يسِر على خُطى الجد، ففضَّل الانخراط في مجال الأعمال، مالكًا لأرضٍ ورثها عن الجد في ميت غمر، ومالكًا — أيضًا — لمحلجٍ للقطن. ولأمرٍ ما فقدَ الأب ثروته، وأصبح فرَّازًا للقطن بأحد المحالج. كان الأب متمصِّرًا، يتحدث العربية، ويصادق بعض أعيان المصريين مثل: يوسف الجندي الذي لعب دورًا بارزًا في ثورة ١٩١٩م بزفتى، وكانت الأم يهودية — أيضًا — من أصول إيرانية متمصِّرة، تتحدث العربية.
من هذا الوسط جاء مارسيل، الذي وُلِد بحي الظاهر (١٩١٣م) بالقاهرة، وتعلَّم بمدرسة الفرير، ثم حصل من الليسيه الفرنسية على دبلوم في التجارة، وانتسب إلى مدرسة الحقوق الفرنسية، ولكنه لم يكمل دراسته فيها، فقد تأثَّر بالماركسية، واعتبر أن السعي للحصول على شهادة عالية من جامعة استعمارية انحراف برجوازي، وبدأ عمله السياسي في حركة السلام، وكانت اللجنة المصرية للحركة تكاد تكون أجنبيةً خالصة، ومنشوراتها تُطبَع بالفرنسية، فطالب مارسيل بتمصير اللجنة، وجعل مطبوعاتها عربية اللغة، ما دامت تعبِّر عن مصر، فأدَّى ذلك إلى إبعاده من اللجنة (١٩٣٧-١٩٣٨م).
ولم يكن هذا هو الإقصاء الأخير من تنظيمٍ يساري بسبب التمسُّك بالتمصير؛ فقد كانت مسألة ترك قيادة الحركة الشيوعية في مصر للكوادر المصرية موضع خِلافٍ شديدٍ بينه وبين هنري كورييل، وهو منظِّم شيوعي إيطالي الأصل أيضًا، ظل متمسكًا بقيادة الحركة حتى بعد خروجه من مصر. فقد رأى مارسيل إسرائيل — الذي اتخذ لنفسه اسمًا حركيًّا هو «الرفيق مرسي» — أن إصرار هنري كورييل على قيادة «الحركة المصرية للتحرر الوطني»، والاحتفاظ بموقعه عندما اتَّحدت منظمته مع بعض المنظمات الأخرى، يضر بالحركة، ويُظهِرها بأنها عمل أجنبي محض، غريب على الحركة السياسية في مصر، بل رأى مارسيل بقاء الأجانب في القيادة يخدم السياسة البريطانية في مصر، وينعكس سلبيًّا على الحركة الوطنية المصرية.
وإذا كان مارسيل أو (الرفيق مرسي) قد تعرَّف إلى الماركسية من خلال قراءاته بالمدرسة، وتأثر باثنين من المدرسين الفرنسيين بالليسيه كانا ماركسيين، فإن انخراطه العملي في هذا التوجيه جاء من خلال معايشته للواقع المصري، ومتابعته لأحوال العُمال البائسة في محالج القطن، وخاصةً عمالة الأطفال، وما يتعرَّضون له من معاملة لا إنسانية، إضافة إلى الإصابة بالسل دون أن تكون هناك مظلة قانونية تحميهم. كذلك جعلته الوظائف التي تقلَّب فيها — وكلها وظائف إدارية بسيطة — على صِلة بالعمال المصريين، وعلى معرفة بواقعهم التاعس، ومن بين أولئك العمال اختار «الرفيق مرسي» مَن لقَّنهم الماركسية، ومَن اشترك معهم في تأسيس منظمة شيوعية سرية حملت اسم «تحرير الشعب» عام ١٩٤٠م.
وعندما عمل «مرسي» على مساعدة زملائه المصريين لإقامة منظمة شيوعية مصرية، كان ينفِّذ بذلك نصيحة تلقَّاها من قادة الحزب الشيوعي اللبناني — الذي كان أول حزب خارج مصر — يتصل به، أما الحزب الثاني فكان الحزب الشيوعي الفلسطيني، وقد تلقَّى مارسيل نصيحة بأن يبذل جهده لتكوين تنظيم شيوعي مصري من الحزبَين الشيوعيَّين اللبناني والفلسطيني، وكان قادتهما — في أواخر الثلاثينيات — من العرب.
وبالإضافة إلى العُمال الذين جمعهم حوله في حلقة لدراسة الماركسية، التقط — أيضًا — بعض الشبان المصريين المتعلمين من «جماعة الفن والحرية» التي أسَّسها جورج حنين، وضمَّت بعض المصريين ذوي الثقافة الغربية، وكذلك من جمعية الشبان المسيحية من بين الملتفِّين حول سلامة موسى، وتتضمن صور الخطابات التي تضمها أوراق مارسيل شيريزي خطابات من بعض المثقفين المصريين الماركسيين يصف بعضهم فيها مارسيل بأنه كان أستاذه في الماركسية، ويشيد البعض الآخر بما تعلَّمه على يديه من دروسٍ في الماركسية، وهي خطابات تلقَّاها مارسيل من مصر على مدى نصف القرن بعد ترحيله من البلاد إلى إيطاليا عام ١٩٥٣م.
ولعب مارسيل الدور نفسه عندما أُبعد عن مصر (١٩٤٢-١٩٤٣م)، وطُرد إلى فلسطين؛ حيث أقام بمعسكرٍ للاجئين المُعادين للفاشية أقيم في بيت لحم. وكلَّفه الحزب الشيوعي الفلسطيني بتدريس الماركسية للعُمال العرب، وأكسبته تلك التجربة صلاتٍ وثيقة قامت بينه وبين الشيوعيين الفلسطينيين والأردنيين.
وفي منظمة «تحرير الشعب» التي كوَّنها بمعاونة رِفاقه المصريين تولَّى القيادة ثلاثة من المصريين، واقتصر دور الرفيق مرسى على التثقيف، وأسست هذه المنظمة «جمعية الخبز والحرية» للنشاط العلني وسط العمال والمثقفين، و«جمعية الثقافة والفراغ» للنشاط العلني وسط الأجانب والطلاب المصريين. وقد توقَّف نشاط «تحرير الشعب» بعد الضربة التي وجَّهها إليها البوليس (في أكتوبر ١٩٤١م)، وسُجن عشرة من قادتها المصريين، وأُعيد تكوينها عام ١٩٤٤م، بعد خروج الكوادر المصرية من السجن وعودة مارسيل من فلسطين، وظلَّت قيادة التنظيم مصرية، واقتصر دور الرفيق مرسي على التثقيف وإعداد الكوادر حتى عام ١٩٤٧م، عندما تم تكوين «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو).
وقد لعب مارسيل دورًا مهمًّا في الجهود التي بُذلَت لتوحيد المنظمات الشيوعية المصرية في إطارٍ تنظيمي واحد، وكان من رأيه أن الظروف الموضوعية في مصر منذ بداية الحرب العالمية الثانية كانت أكثر نُضجًا لإقامة «الحزب الشيوعي المصري» منها عام ١٩٢٢م، عندما قام أول حزب شيوعي علني في تاريخ مصر، ولذلك ظلَّت فكرة تفادي التكتُّل والتشرذُم، وتوحيد العمل الماركسي في تنظيمٍ واحدٍ شغله الشاغل، فقام بدورٍ مهم بمعاونة من بعض «الرِّفاق» اللبنانيين والفلسطينيين في الجهود التي بُذلت عام ١٩٤٥-١٩٤٦م لتوحيد الحركة، وهي الجهود التي أدَّت إلى الوحدة بين «تحرير الشعب» و«أسكرا» أولًا ليكونا (الطليعة المتحدة)، ثم الوحدة مع «الحركة المصرية للتحرر الوطني»، وتكوين اتحاد «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو).
كما لعب مارسيل دورًا هامًّا في تنظيم مؤتمر ١٩٤٨م السري الذي كان يُعِد لمؤتمر تأسيس الحزب المُزمع عقده عام ١٩٤٩م، وقدَّم لذلك المؤتمر (الذي عُرف بمؤتمر الثلاثة والثلاثين) ورقةً عن واقع الحركة الشيوعية المصرية والسبيل لتوحيد فصائلها، واتخذ المؤتمر من تلك الورقة أساسًا للتقرير الذي قام بإعداده ليطرح على المؤتمر التأسيسي للحزب، والذي أخذ باقتراح مارسيل تكوين لجنة تحضيرية من المنظمات كافة، تمهِّد للمؤتمر التأسيسي للحزب، وتتولَّى مناقشة البرامج، واللوائح، والخط السياسي.
وكان مارسيل على رأس مُؤسِّسي «الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية» في يونيو ١٩٤٧م، التي كان هنري كورييل وراء حلِّها. وكان منطلق الرابطة الشعور بخطر الصهيونية على حل القضية اليهودية، وذهبت إلى أن الصهيونية «ليست إلا أداة بين أيدي القُوى الاستعمارية العالمية التي تريد استخدام اليهود لتأكيد سيطرتها على الشرق الأوسط»، وأعلنت أنها تتَّهم «الإرهاب اليهودي في فلسطين بأنه حركة فاشية موجَّهة أساسًا ضد الجماهير اليهودية، ولا تخدم في الواقع سوى المستعمرين.»
وظل موقف مارسيل من الصهيونية ثابتًا؛ ففي حديثٍ أجرته معه مجلة «أسرتي» الكويتية عام ١٩٨٩م، قال: «دولة إسرائيل لم تحل، ولن تحل المشكلة اليهودية … إسرائيل لعبت دورًا في تشويه الوعي اليهودي … فأنا أقول إن الصهيونية أكبر كارثة في تاريخ يهود العالم.»
وبعدما أُبعد عن مصر عام ١٩٥٣م، وانضم للحزب الشيوعي الإيطالي لعب دورًا بارزًا في إدانة العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦م، وظل يمد يد العون لكل من يلجأ إليه من «الرِّفاق» المصريين، حتى مَن ينتمون إلى أجيالٍ رأت النور بعد رحيله من مصر.
ولا شكَّ أن حرص مارسيل شيريزي على أن تُجمَع أوراقه وتُنشر، ولجوءه إلى أصدقائه، وإلى شخصي بحكم اهتمامي بتاريخ الحركة الشيوعية المصرية، دليل على اعتزازه بالمكوِّن المصري في تاريخه النضالي وثقافته السياسية، وعلى حرصه أن تبدو صورته سويَّة غير مشوَّهة في ذلك التاريخ الذي يحتاج إلى التسجيل.