في وداع النبيل قديس الوطنية
في جنازة شعبية مَهيبة؛ شيَّعت مصر ابنها البار أحمد نبيل الهلالي، شارك في الجنازة مصريون ومصريات، من مختلف ألوان الطَّيف السياسي، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.
رِفاق النضال في الحركة الشيوعية المصرية منذ ما يزيد عن الستين عامًا، يتساوى في ذلك من أضناه المرض، وجاء مُتحامِلًا على نفسه، ومن جاء مُعتمِدًا على ما بقي من رصيد الصحة ليودِّع «قديس الوطنية». وشباب من الشيوعيين جاءوا لوداع «الرفيق الرمز» هاتفين لكفاح الشعب المصري، وكفاح الطبقة العاملة ونضال الشيوعيين، يتعهَّدون لنبيل بالمُضي قُدمًا على طريقه.
ورجالٌ ونساء من الناصريِّين والقوميِّين والليبراليِّين، وشيوخ الحركة الإسلامية من الإخوان المسلمين وشبابها إلى الجهاد، مرورًا بالجماعات؛ شاركوا في الجنازة الشعبية المَهيبة، وصلُّوا مع رِفاق الحركة الوطنية المصرية على الجثمان الطاهر، وودَّعوه حتى مثواه الأخير.
لم يأتِ أيٌّ من هؤلاء المشيِّعين لمجرد أداء الواجب، مُكلَّفًا من هيئة أو تنظيم، ولكن جاء كلٌّ منهم بدافعٍ من الرغبة في وداع رجلٍ من طرازٍ فريد، عرفته الحركة الوطنية المصرية، وقدَّرت كفاحه مختلف فصائلها، لِم لا وقد نذر الرجل نفسه للنضال من أجل حياة أفضل للكادحين من العُمال والفلاحين، ومن أجل حقوق الإنسان، وفي طليعتها حقُّ التعبير، وحقُّ التنظيم والنضال من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية.
لا يكاد يقع إضرابٌ عُمالي، ويتم اعتقال المشاركين فيه حتى يهرع نبيل الهلالي فيكون أول الحضور من المحامين دفاعًا عنهم، ولا يكاد يقع صدامٌ بين الفلاحين وزبانية السُّلطة الفاسدة وبقايا الإقطاع حتى يكون نبيل الهلالي هناك مدافعًا عن المعتقَلين، مترافِعًا أمام المحاكم دفاعًا عن حقِّهم في الاحتفاظ بالأراضي التي وُزِّعت عليهم تطبيقًا لقوانين الإصلاح الزراعي في عصرٍ تآكلت فيه مكاسب العُمال والفلاحين لصالح رأسمالية رثَّة، تنمِّي أرصدتها عن طريق النهب والفساد، وتقوم بتجريف الاقتصاد الوطني.
كان نبيل الهلالي دائمًا هناك مع الفلاحين، يُجالسهم ويُشاركهم طعامهم البسيط على الطبليَّة كواحدٍ منهم، وكانت آخر صَولاته ذهابه إلى دكرنس للدفاع عن حق الفلاحين الذين انتزع الفسادُ أراضيهم التي رووها بعرقهم على مدى نصف قرن.
لم يأبه نبيل الهلالي لحالته الصحية التي اضطر بسببها أن يقيم بالمستشفى تحت العلاج، فما كادت حالته الصحية تتحسَّن قليلًا حتى سارع إلى ترك المستشفى حتى لا يتخلَّف عن المشاركة في الفعاليات الوطنية التي تمُوج بها مصر؛ قضية استقلال القضاء، والموقف التاريخي الجليل لقضاء مصر، فعاليات «الحركة المصرية من أجل التغيير»، تقديم الصحافيين إلى القضاء جرَّاء تعبيرهم عن الرأي الحر، اعتقال المتضامنين مع القضاء وتعذيبهم.
كلها كانت أحداثًا جرت ونبيل الهلالي فوق سرير المرض، ودفعته إلى الدخول في خضمها مدافعًا عن القُضاة الذين أرادت السلطة الغاشمة تأديبهم، ومدافِعًا عن المعتقَلين من الناشطين السياسيين، دون الاقتصار على فصيلٍ دون آخر؛ فدافع عن معتقلي الإخوان وغيرهم دون تمييز، وكيف يجرؤ قلمٌ على ذِكر التمييز عند الحديث عن رجلٍ ناضل ضد أشكال التمييز؟!
وإذا بواقعة انتزاع أراضي فلاحي دكرنس تقع وسط خضم الأحداث، فيهرع نبيل الهلالي إلى هناك حتى لا يفوته شرف الدفاع عن الفلاحين في عصرٍ انطلقت فيه الذئاب لتنهش مصدر رزقهم، ولكن الجسد النبيل النحيل، الذي حمل هذه النفس الزكية ما يزيد على الثمانين عامًا، وذلك القلب الكبير الذي احتلته مصر، لم يتحمَّل كل هذا الجَهد؛ فسقط الفارس النبيل مريضًا، وأُجريت له جراحة في القلب.
ولكن حاشا لله أن يستسلم «قدِّيس الوطنية» للمرض، ويتركه ليشغله عن وطنٍ بلغ الاحتقان فيه مداه، وعلى الرغم من وجوده في العناية المركزة نحو الأسبوعين كان يبادر بسؤال زوَّاره عن فعاليات الحركة الوطنية، وعن المسجونين من شباب الحركة المصرية من أجل التغيير، وعن قضية «صوت الأمة»، وعن القُضاة، وجماعة ٩ مارس المناضِلة من أجل استقلال الجامعات، وفي قسم الإنعاش بلغه نبأ رحيل أمير شباب السبعينيات أحمد عبد الله، ورفيق نضال الأربعينيات يوسف درويش، ولا يعني ذلك أن زُوَّار الدقائق المعدودة كانوا يتطوَّعون بإبلاغه كل ذلك، ولكنهم كانوا مضطرين للإجابة عن تساؤلاته لتجنيبه مشقة الكلام.
وعندما ترك العناية المركزة، وانتقل إلى إحدى الغرف قُدِّر لصاحب هذا القلم أن يحظى بزيارته برفقة الصديقين عبد العال الباقوري وأحمد غزلان، ورحَّب بنا، ثم راح يسألنا عن تطورات موضوع نادي القُضاة، وعن مشروع قانون الجامعات الذي تُعدُّه جماعة ٩ مارس، وعمن أُفرج عنهم من المعتقلين، ثم راح يؤكد ضرورة إبلاغ أحمد عز الدين بالاهتمام بالطعن في الحكم الجائر الصادر ضده أمام محكمة النقض، كل ذلك في حدود نحو نصف الساعة قضيناها معه، وتركناه في السابعة مساء السبت على أمل أن نلقاه بعد أيامٍ وقد تخلَّص من قناع الأكسجين، ورحنا نتحدث عن ضرورة إقناعه — بعد الشفاء — بالحد من نشاطه العام، وتحريضه على كتابة مذكراته، وجمع أوراقه الخاصة «لا بد أنها كنزٌ من كنوز التاريخ الوطني»، ولكن القدر كان له ترتيبٌ آخر، فلم يطلع فجر الأحد ١٨ يونيو «بعد تسع ساعات من زيارة الوداع» حتى فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها.
طُوي السجل الحافل بجليل الأعمال من أجل مصر، المُرصَّع بالنضال من أجل إقامة مجتمعٍ اشتراكي يسوده العدل بمختلف أبعاده، نضال دفع نبيل ورفاقه ثمنًا باهظًا من حريتهم، ودفعت أجسادهم ضريبةً فادحةً له، ولم يكن الإيمان بالاشتراكية عنده نوعًا من التشدُّق برطانة أيديولوجية، ولكنه كان إيمانًا راسخًا بمبدأ، ونضالًا متصلًا لتحقيقه.
في حفلٍ أقامه «صالون النديم للفكر العربي» لتكريم نبيل الهلالي في رمضان الماضي «١٥ / ١٠ / ٢٠٠٥م» ردَّ الرجل تحية رِفاقه ومحبِّيه بكلمة مهمة، ذكَّر فيها الحضور بنسيانهم الزعيم العظيم، الفلاح البطل أحمد عرابي، أول من أطلق شعار «لا للتوريث» عندما قال لتوفيق «لسنا عبيدًا ولا متاعًا، ولن نُورَّث بعد اليوم» في إشارة عبقرية إلى ضرورة استيعاب دروس النضال الوطني، واتخاذها حجر الزاوية في النضال الوطني المعاصر.
وهنا قدَّم الإجابة عن سؤالين على درجة بالغة من الأهمية؛ أحدهما عن أسباب اعتناقه الشيوعية، وهو ابن الأسرة البرجوازية العريقة، وثانيهما عن سر تمسُّكه بالشيوعية، على الرغم مما أسفر عنه سقوط الاتحاد السوفييتي من قصور التجربة.
وكشفت إجابته عن السؤال الأول عن حسٍّ إنساني نبيل عندما لفت نظره أن أبناء الشوارع المحرومين يلحسون «الفاترينة» الزجاجية لمحل حلوياتٍ ضخم قصده لشراء ما لذَّ وطاب وهو دون سن العاشرة، فظل يشغله التساؤل حول ذلك البَون الشاسع بين حياته وحياة هؤلاء التعساء، كما كشف عن دور والده أحمد نجيب الهلالي باشا في توجيهه «دون أن يدري» صَوب الاشتراكية؛ فقد كان يؤمن بالعدالة الاجتماعية، وكان يعمل على جعل التعليم متاحًا لجميع المواطنين عندما كان وزيرًا للمعارف، كما كان يكره الفساد؛ كلها مبادئ طوَّرها الصبي نبيل في الطريق نحو الاشتراكية.
وعن الإجابة على السؤال الثاني، أكد أن الاشتراكية لم تفقِد الصلاحية، وأن ما حدث في الاتحاد السوفييتي يرجع إلى أخطاء السوفييت في التطبيق، وما دامت الرأسمالية باقية على النحو المتوحِّش؛ فالاشتراكية هي نقيضُها، وهي ضرورية وستظل هي «الحل» لكل ما يترتب على الرأسمالية من كوارث اجتماعية.
وأضاف: «الماركسية — في نظري — ليست نصوصًا مقدسة جامدة، بل نظرية حية متجددة، وإذا كان النظام السوفييتي قد سقط بكل أخطائه وانحرافاته، فلا يعني ذلك أن الماركسية سقطت.»
وأخيرًا شرح نبيل الهلالي «في كلمته» أسباب مشاركته في الدفاع عن الجماعات الإسلامية في قضاياها، على الرغم من التناقُض الجذري بين فِكره وفِكرهم، فقال: «إن موقفي — ببساطة — ينطلق من إيماني العميق الذي لا يتزعزع يومًا، ولن يتزعزع بأنه في مجال حقوق الإنسان لا مكان للانتقائية في المواقف، والازدواجية في المكاييل؛ فلا بد من الدفاع عن حقوق الإنسان، كل إنسانٍ مهما كانت عقيدته الدينية، واعتقاده السياسي؛ فالذي يحدد ما هو الإنسان هو إنسانيَّته، وليس دينه، أو لونه السياسي أو أيديولوجيته.»
فلا عجب أن نرى ذلك الحشد الوطني — الذي خرج لتشييع هذا الرمز النبيل للوطنية المصرية إلى مثواه الأخير — يضم كلَّ مكونات الحركة الوطنية المصرية.
إذا كان الشباب قد وعدوا نبيل الهلالي بالمُضي على طريقه، فما أحوجنا إلى تجميع كتاباته السياسية «وهي بالغة الأهمية» ونشرها ليفيد بها الشباب، ولعل الأسرة الكريمة التي قدَّمت لمصر هذا الإنسان النادر تتيح لنا أوراقه الخاصة لتكون مصدرًا لكتابٍ يضم سيرته العطِرة، وما أحوجنا إلى مثل هذا الكتاب.