مشروعٌ من أجل حماية الوثائق والأوراق الشخصية١
تُعد الأوراق الشخصية (أو الخاصة) مصدرًا لا غنَى عنه لكتابة التاريخ المعاصر لأي أمة متمدنة، ونعني بها الأوراق التي تتجمَّع لدى الشخصيات العامة، التي تلعب دورًا في الحياة الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية. وقد تتخذ تلك الأوراق طابع «المراسلات الخاصة» التي تتلقَّاها الشخصية العامة ممن يدخلون في دائرة نشاطها، أو من تربطهم بها روابط الصداقة. وقد تتخذ صورة «اليوميات» التي يبثُّها صاحبها مكنون نفسه، وما تمنعه طبيعة عمله، أو وضعه الاجتماعي، أو علاقاته الإنسانية عن البوح به للآخرين.
ولعل أبرز مثال لذلك يوميات سعد زغلول، التي نشرتها دار الكتب بعنوان «مذكرات سعد زغلول» بتحقيقٍ بالغ التواضع، قام به عبد العظيم رمضان، وقد تتخذ الأوراق الشخصية طابع «المذكرات» التي يكتبها صاحبها عادةً اعتمادًا على يومياته، وقد لا ينشرها في حياته، ويُوصي بنشرها بعد وفاته بعددٍ معين من السنين.
وفي بلادنا تتضمن «الأوراق الشخصية» لمن يتولون مناصب عامة، وثائق الدولة الرسمية، التي يجمعها شاغلُ المنصب العام «رئاسة هيئة أو وزارة أو رئاسة الوزراء» عند تركه للمنصب باعتبارها أوراقه الشخصية، رغم أن بينها ما قد يكون نسخة فريدة من مذكِّرة مهمة أو سرية، ورغم ما تتعرَّض له هذه الأوراق «الخطيرة» من تلفٍ وضياع عندما يُلبي مَن جمعها نداء ربه، فيبدِّدها الأبناء. وهذه الظاهرة لا نجد لها أثرًا في البلاد المتقدمة، التي تضع ضوابط قانونية للحفاظ على وثائق الدولة؛ فعندما كتب ونستون تشرشل مذكراته عن الحرب العالمية الثانية، حصل على إذن خاص من مجلس الوزراء بالاطلاع على الوثائق التي كانت لا تزال في مرحلة السرية، واطَّلع عليها وفق ترتيبٍ خاص بالأرشيف القومي (دار المحفوظات العامة) رغم أن تلك الوثائق صدرت منه، أو قُدِّمت له، أو شارك في صُنعها عندما كان رئيسًا للوزراء خلال الحرب، ولكنه لم يحملها معه عند تركه المنصب، كما يفعل أصحاب المناصب الرفيعة عندنا. وكلنا نذكر ما نشره «الأهرام» في صدر صفحته الأولى من تغطية لترك رئيس وزراء أسبق لمنصبه، من أن موظفي رئاسة الوزراء خرجوا في وداع سيارة نقل حملت «أوراقه الخاصة»، وبعض الملابس الرسمية التي كان يحتفظ بها في مكتبه، ولا يُدهشنا أن يبلغ نزيف الوثائق الرسمية التي حملها معه شُحنة سيارة نقل، فقد قضى الرجل في المنصب ما يزيد على الثماني سنوات.
•••
هذه مقدِّمة طويلة — لا بد منها — لكي نقف على أهمية «الأوراق الشخصية» كمصدرٍ لكتابة التاريخ المعاصر؛ لأنها تخص أناسًا لعبوا أدوارًا أساسية في صياغة أحداث ذلك التاريخ، لذلك فكرت مجموعة من المؤرخين العرب في مشروعٍ لإقامة مركز عربي «خاص» يجمع الأوراق الشخصية من عائلات مَن رحلوا من الساسة والشخصيات العامة، وترتيبها، وتصنيفها، وفهرستها، وإتاحتها للباحثين للاطِّلاع أو الحصول على نسخ بصورة من بعضها، وفق ما درجت على العمل به دُور الأرشيف في مختلف بلاد العالم المتمدن.
وكان الدافع للتفكير في المشروع — فيما علمت — ما سمعه أصحاب المشروع من كثرة العروض التي يتلقَّاها مركزا دراسات الشرق الأوسط بجامعتَي أوكسفورد ودرام — ببريطانيا — من عائلات الساسة العرب — على وجه الخصوص — لإيداع أوراقهم الشخصية بأحد المركزَين، حتى أصبحت الطاقة الاستيعابية لهما عاجزةً عن تلبية الطلبات التي يتلقَّيانها، وقيل في تبرير حرص تلك العائلات على إيداع الأوراق الخاصة — لمورِّثهم — في أرشيفات معاهد أجنبية خارج الوطن العربي، بدلًا من إيداعها دُور الوثائق الرسمية في بلادهم، أنهم يخشون أن تتعرَّض — عمدًا — للتلف أو يُساء تخزينها وحفظها، أو يتم حجبها عن الباحثين، على أساس أن الأمور في بلادنا تسير حسب إرادة المتربِّع على كرسي السلطة، وأن قوانين الحفاظ على الوثائق وإتاحتها للباحثين، قلَّما تحظى بالاحترام؛ وخاصة أن كل نظام يرى في نفسه منقِذ البلاد والعباد من الضياع، ويعتبر أن ما جاء به هو الحق بعينه، وأن ما كان قبله باطلٌ؛ لذلك تفتقر النظم الحاكمة في الوطن العربي إلى الوعي بالتاريخ، وبأهمية الأرشيف القومي كمستودعٍ لذاكرة الأمة وسجلٍّ لتجاربها. ونادرًا ما تعي تلك النظم دروس التاريخ؛ فتقع في الأخطاء الفادحة نفسها التي وقع فيها أسلافها، فلا عجب أن يخشى أصحاب الأوراق الشخصية من عواقب إيداع تلك الأوراق الأرشيف الوطني لبلادهم.
مراسلات محمد فريد
ولكن بقاء تلك الأوراق بيد تلك العائلات لا يخدم تاريخ البلاد من قريبٍ ولا من بعيد؛ لأنها تظل بمعزلٍ عن مُتناول الباحثين، وأذكر — في هذا السياق — المراسلات الشخصية التي كان يبعث بها الزعيم محمد فريد — أثناء وجوده في منفاه الاختياري بأوروبا — إلى عائلته بمصر، والتي رأيت نماذج منها عند ولده المستشار عبد الخالق فريد، وعلمت أنها تزيد على المائة وستين خطابًا.
وقد تُوفي عبد الخالق فريد، ولا نعلم أين توجد تلك الخطابات الآن. وكذلك خطابات نوبار باشا التي كان يرسلها لعائلته أثناء وجوده بأوروبا في مهامَّ كلَّفه بها الخديو إسماعيل، أو أثناء وجوده هناك في أواخر عهد إسماعيل، وقد شاهدت بعضها — أيضًا — عند حفيده مريت غالي، الذي رحل منذ سنوات، ولا نعرف مكانها الآن. فوجود الأوراق الشخصية لدى العائلة لا يضمن الاستفادة منها كمصدرٍ لكتابة التاريخ، وقد تقع — في نهاية المطاف — في يد من لا يقدِّر قيمتها من الورثة، فيتم إهدارها أو ضياعها.
وضمَّت المجموعة التي فكرت في مشروع إقامة «مركز عربي للأوراق الشخصية» د. نادية البغدادي، وهي ألمانية من أصلٍ عراقي، وتعمل بجامعة وسط أوروبا ببودابست (المجر)، ود. بسمة قضماني، وهي — فيما أعلم — سورية الأصل، وتعمل بمؤسسة فرانكلين بالقاهرة، والأستاذ فاروق مَردم بك، وهو سوري يعمل بمعهد العالم العربي بباريس، والأستاذ جميل مطر الباحث والكاتب المصري المرموق، مدير المركز العربي للتنمية بالقاهرة.
وتفتَّق ذهن أصحاب المشروع عن ضرورة عقد اجتماعٍ تحضيري لوضع الأسس العامة التي يُصاغ على أساسها المشروع، يتخذ شكل مائدة مستديرة، يُدعى إليها بعض الشخصيات العربية والأجنبية من أهل الاختصاص، ومن أصحاب الخبرة بالوثائق، والمشتغلين بدراسة التاريخ العربي المعاصر. واختير معهد العالم العربي بباريس مكانًا لاستضافة الاجتماع (دون أن تكون له صلة رسمية بالموضوع؛ فلا يدخل المشروع ضمن دائرة اهتماماته)، وتولَّت مؤسسة فرانكلين بالقاهرة مسئولية تحمُّل نفقات الإقامة في باريس للمَدعوِّين للاجتماع، وتحمَّلت جامعة وسط أوروبا نفقات السفر للمدعوين من الخارج.
وبدأ الاجتماع بعرضٍ عام لفكرة المشروع، قدَّمته كلٌّ من نادية البغدادي وبسمة قضماني، وشاركهما العرض فاروق مردم بك، وسلَّم الجميع بأهمية تجميع الأوراق الشخصية وضرورتها الحيوية، ولكن تركَّز النقاش حول نقاط رئيسة، أراها بالغة الأهمية، هي: الشكل القانوني والتنظيمي للمركز المُقترَح، مكان إقامته، مصادر تمويله، كيفية أدائه لمهامه، العلاقة بين المركز وأصحاب الأوراق الشخصية، طرق إتاحة هذه الوثائق للباحثين ووسائلها، ومدى إمكانية نشر بعضها نشرًا علميًّا محققًا.
مواصفات المراكز البحثية
أما عن الشكل القانوني، فاقتُرِح أن يكون المركز مؤسسة خاصة مستقلة، لا تهدف لتحقيق ربح، يديرها «مجلس أمناء» يُختار أعضاؤه من بين الخبراء المشهود لهم بطولِ الباع في هذا المجال، وتكون للمركز لائحة أساسية، تحدِّد كيفية اختيار أعضاء مجلس الأمناء وصلاحياته، والجهاز الفني والإداري للمركز، وطريقة عمله، والجوانب المتصلة بالحقوق القانونية لأصحاب الأوراق الشخصية فيما يُودعونه أرشيف المركز من أوراقهم، ونوع الضمانات التي تُقدَّم لهم مقابل تفويض المركز حق التعامل مع تلك الأوراق، وفق الأصول المتعارَف عليها دوليًّا لمثل هذا النوع من النشاط.
مرونة في بيروت
واقترح أصحاب المشروع مدينة بيروت مقرًّا للمركز المقترَح، وحُجتهم في ذلك أن القانون اللبناني أكثر مرونةً من غيره من القوانين العربية الأخرى، في إتاحة مساحة واسعة من الحرية لهذا المركز للعمل، ولخُلو لبنان «تقريبًا» من الأجهزة الحكومية التي تُعنى بمطاردة مثل هذا النوع من المراكز بحجة «الدواعي الأمنية».
وقيل أيضًا إن وجود المركز في بيروت يبعث الطمأنينة في نفوس أصحاب الأوراق الشخصية، ويشجعهم على التعامل مع المركز المقترَح، كما أن بيروت ربما كانت أيسر العواصم العربية دخولًا للقادمين من خارج لبنان من الباحثين الذين يترددون على المركز.
أما عن مصادر التمويل التي يعتمد عليها مثل هذا المشروع الطموح الذي يحتاج إلى تخصيص مقرٍّ خاص ملائم، مجهَّز بكل وسائل الحفظ المادي (أرشيف الأوراق) والإلكتروني، بما يحتاج إليه من معدات متطورة، هذا فضلًا عن تكلفة الأجور والرواتب للعاملين بالمركز (نفقات الإدارة)، وغيرها من نفقاتٍ ضرورية؛ فقد رأى أصحاب المشروع أن يكون التمويل معتمِدًا على الهبات المالية التي تقدِّمها بعض الشخصيات العربية الثرية، والتبرعات التي يجود بها الأفراد، والمنح الأجنبية التي يتم الحصول عليها من الجهات والمؤسسات، المعنيَّة بتشجيع مثل هذا النوع من النشاط العلمي.
أما عن العلاقة بين المركز المقترَح وأصحاب الأوراق الشخصية فترتكز على «الثقة» التي يوفرها الوضع القانوني، والنظام الأساسي للمركز، وموقعه في بيروت، وأن يكون إيداع الأوراق بأرشيف المركز دون مقابلٍ مادي، أو مقابل قيمة رمزية، أو حتى السماح للمركز بالحصول على صورة رقمية لتلك الأوراق، مع احتفاظ أصحابها بها. ويلتزم المركز باتِّباع تعليمات أصحاب الأوراق فيما يتعلق بالإتاحة.
أما عن طرق حفظ الأوراق الشخصية التي يحصل عليها المركز، فقد دار حديثٌ طويلٌ استغرق جلسة كاملة خُصِّصت لهذا الغرض، تم فيها استعراض تجارب الأرشيفات الأوروبية في هذا الصدد. وقدمت نادية الرزيني (مؤسِّسة ومديرة مركز الرزيني للأوراق الشخصية بمدينة فاس بالمغرب) تجربتها الخاصة في إقامة مركز للوثائق والأوراق الخاصة بعائلتها ذات الأصل الأندلسي، والتي يرجع تاريخها إلى قرنَين من الزمان، فقامت بتجميع تلك الأوراق والحُجج في بيت العائلة بمدينة فاس، الذي حوَّلته إلى أرشيفٍ ومتحف خاص بالعائلة، وبيَّنت كيف أن التجربة جذبت انتباه عائلات فاس، فأودعت ما لديها من أوراقٍ بمركز الرزيني.
أين تُقام تلك المراكز؟
وتحوَّل الحديث إلى ضرورة التركيز على الحفظ الرقمي باستخدام الوسائط الإلكترونية الحديثة، وقدَّم سليم تماري عرضًا عن آخِر ما تم التوصل إليه في هذا المجال، وتعددت الآراء حول أفضل البرامج والوسائط التي يمكن استخدامها، وبدا الحديث في تلك التفاصيل غريبًا سابقًا لأوانه، ذكَّرني بالمثل الفلاحي المصري «يشتري الوتد قبل الجاموسة!» وبقصة بائعة اللبن التي قرأناها بكتاب المطالعة في بداية التعليم الابتدائي، قبل ما يزيد على نصف القرن. فها نحن نتجادل حول أفضل النظم والبرامج والوسائط الإلكترونية التي تُستخدَم في المركز الذي لم ينشأ بعد، مع إدراك ما يتسم به التطور في هذا المجال من سرعة الإيقاع، وأن ما قد نفضِّله اليوم يصبح «دقة قديمة» عندما نصل إلى مرحلة التطبيق.
واتُّفق على أن تكون الإتاحة مطلقةً للراغبين في الاطلاع على ما لدى المركز من مقتنيات الأوراق الشخصية لأغراض البحث العلمي، مع إمكانية الحصول على صور ورقية أو رقمية من تلك الأوراق، وفق ضوابط خاصة يضعها مجلس الأمناء.
وقد دار حوارٌ طويلٌ حول مدى مُلاءَمة الأوضاع الحالية في الوطن العربي لإقامة مثل هذا المركز في الوقت الراهن، وشكك البعض في جدوى اختيار بيروت مقرًّا للمركز، واقترح البعض الآخر أن يُقام المركز في بلدٍ أوروبي، أو حتى في قبرص لتوفير الثقة الكافية في المشروع وجديَّته، وطمأنة أصحاب الأوراق الشخصية على سلامة التعامل مع أوراقهم، والحرص عليها وحُسن استخدامها، أو عدم إساءة استخدامها. وتعلَّل أصحاب هذا الرأي بأن من يستطيع السفر إلى بيروت للاطلاع على أوراقٍ معينة يمكنه السفر إلى باريس أو لندن أو ليماسول، ما دامت توافرت لديه إمكانات السفر. وبرر ذلك كله بعدم توافر الضمانات الكافية التي يحتاجها أصحاب الأوراق الخاصة التي تجعلهم يثقون في التعامل مع المركز؛ لو كان مقره بإحدى العواصم العربية.
ولم نحبذ فكرة إقامة المركز في «المهجر» لاجتذاب ثقة أصحاب الأوراق الشخصية، فيُقبِلون على التعامل معه، لأن ذلك — لو تم — لن يفيد الباحثين العرب في دراسة تاريخ بلادهم المعاصر، لبُعد الشُّقة، وصعوبة الحصول على «منح» دراسية تمكِّن الباحث من السفر إلى الخارج على نحو ما يحدث في بلاد الغرب. وقلنا إنه من الأفضل أن نبحث عن «صيغة قانونية» مناسبة لخدمة هذا الهدف؛ مثل إعداد قانون نموذجي للحفاظ على الوثائق القومية، تتبنَّاه «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليسكو)» وتوضع على ضوئه قوانين الحفاظ على الوثائق في دول الجامعة العربية، ومن بينها الاهتمام بالأوراق الشخصية.
ومن الممكن أن يضع المركز المقترح صياغة مثل هذا القانون النموذج بين أولوياته، لأنه لا يمكن لمركزٍ — هكذا — أن يضع يده على «جميع» الأوراق الشخصية في الوطن العربي، ولأنه من المنطقي والأفضل أن تشجع الأرشيفات الوطنية في البلاد العربية على الاهتمام بالأوراق الخاصة، والحرص على جمعها، وتوفير الضمانات لأصحابها، وحفظها بطرقٍ مناسبة، وإتاحتها للباحثين.
غير أن اقتراحنا هذا كان صرخةً في وادٍ؛ واتجهت المناقشات إلى ما سبق أن تناولناه من نقاطٍ تتصل بالبناء الهيكلي للمركز، وطريقة تعامله مع أصحاب الأوراق الخاصة، ووسائط حفظ وإتاحة ما لديه للباحثين.
وانفضَّ الاجتماع على أن نُحاط علمًا بمضبطةٍ وافيةٍ له، ولمَا طُرح فيه من اقتراحات — لم تصلنا حتى كتابة هذا المقال — وعلى وعدٍ بعقد اجتماعٍ آخر في مكانٍ وزمانٍ يحدَّدان — عندئذٍ — للنظر في الخطوات التنفيذية للمشروع.
وخرجتُ بانطباعٍ أن المسألة ليست مجرد استطلاعٍ لرأي «الخبراء» حول مشروع إقامة مركزٍ «إقليمي» للأوراق الشخصية، وأن هناك خطوات، ربما تكون قد اتُّخذَت في هذا الصدد بالفعل، وربما كان هذا الاجتماع لاستيفاء بعض متطلبات الجهات المموِّلة للمشروع، «الواهبة» العربية، أو «المانحة» الأجنبية، فقد أُغلِق تمامًا باب الحديث عن تفاصيل قضية التمويل، كما لفَّ الغموض الإجابات التي قُدِّمت عن الأسئلة الخاصة بكيفية تشكيل مجلس الأمناء، وطريقة اختيار أعضائه، ومن لهم اليد الطُّولى، والكلمة الفصل في هذا الصدد، رغم أنها مسألة لها — في رأيي — الأولوية عن قضية وسائط الحفظ ووسائل الإتاحة التي استغرق النقاش حولها وقتًا طويلًا.
على كلٍّ، لا يعني ذلك أننا نشك في حُسن نيَّات أصحاب المشروع، ولا نتساءل حول دوافعهم؛ فالمسألة مهمة، ونحتاج إلى تحركٍ سريع لإنقاذ مجموعات كبيرة من الأوراق الشخصية التي لا يمكن أن يُكتَب تاريخ دقيق لبلادنا في غيبتها، قبل أن تذروها رياح الإهمال والتلف. وهناك أوراق تتصل بتاريخ الحركة العُمالية في مصر والحياة الحزبية — على سبيل المثال — أتيح لي الاطلاع عليها في الستينيات لدى أصحابها، لا أعرف مستقرها الآن، ولم يطَّلع عليها أحدٌ بعدي، وقِس على ذلك الكثير من الأوراق الخاصة المخفية، بدءًا بأوراق مصطفى النحاس باشا التي كانت لدى فؤاد سراج الدين، وانتهاءً بأوراق العديد من الشخصيات التي تولَّت مناصب وزارية، ونزحت معها ما ضمَّته المكاتب من وثائق الدولة، وهو نموذجٌ يتكرر — بالمناسبة — في كل البلاد العربية.
لقد آن الأوان — حقًّا — لوضع الضوابط القانونية التي تمكِّن دُور الوثائق القومية (الأرشيفات الوطنية) من الحصول على هذه الوثائق، مع وضع الضوابط الكفيلة بالحفاظ عليها، وإتاحتها للباحثين؛ فذلك أفضل كثيرًا من ترك هذه الوثائق تقع في أيدي مؤسساتٍ خاصة، لا يدري أحدٌ شيئًا عن القنوات التي تصِلها بجهاتٍ قد يكون من مصلحتها حجب تلك الوثائق عن الباحثين العرب.