عرض نقدي لكتاب هيكل

«القنوات السرية»١

عكف الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل على كتابة قصة الصراع الذي دارت رَحاه على ساحات السياسة والحرب في الشرق الأوسط في النصف الثاني من هذا القرن، وقدَّم للمكتبة العالمية على مدى رُبع القرن الأخير عددًا من الكتب المهمة، التي استمدت أهميتها من قُرب الكاتب من صُناع الأحداث، وذلك الكم الهائل من المعلومات الذي لم يتوافر لغيره من الكُتاب، وخاصةً المعلومات المحلية، أي الوثائق الخاصة بثورة يوليو عامةً، وعبد الناصر خاصةً.

هذه الوثائق مبعثرة بين أكثر من جهة من المؤسسات السيادية، تحرص كلٌّ منها على إبقائها بعيدًا عن متناول الباحثين، ولا تكترث بالقانون الخاص بالوثائق التاريخية الذي يُلزم تلك الجهات بإيداع ما لديها من وثائق ذات قيمة تاريخية بدار الوثائق التاريخية القومية. وقد بذلت تلك الدار جهودًا مضنيةً لإقناع تلك الجهات؛ وعلى رأسها رئاسة الجمهورية، بإيداع ما لديها من وثائق بالدار دون جدوى. من هنا تحتل كتابات هيكل أهميةً خاصةً كمصدرٍ للمعلومات التي يعجز الباحث في التاريخ عن الوصول إليها.

ورغم أهمية ما كتبه هيكل؛ إلا أن الباحثين في التاريخ يتعاملون معه بحذر؛ فالكاتب كان طرفًا في الأحداث التي كتب عنها، وكانت له علاقات متفاوتة في درجة القوة مع صُناع تلك الأحداث، ومن ثَم انعكست هذه العلاقات على رؤيته للأحداث، وعلى تحليله لها، يلقي أضواء باهرةً على بعضها، ويترك البعض الآخر محاطًا بالظِّلال، ولا بأس في ذلك على أي حال؛ فالرجل لم يدَّع يومًا الاشتغال بالتاريخ، ويؤكد دائمًا أنه يقدم شهادته عن الأحداث التي شارك في بعضها، واقترب من بعضها الآخر.

وكتاب «القنوات السرية: قصة مفاوضات السلام العربية-الإسرائيلية» آخر هذه السلسلة من الكتب التي قدَّمها هيكل للمكتبة العالمية، وقد ظهرت الطبعة الإنجليزية بلندن منذ أسابيع. وعادة تظهر معها طبعات أخرى بمختلف اللغات الأوروبية وغير الأوروبية، من بينها الطبعة العربية التي توشك على الصدور من دار الشروق فيما نعلم.

والطبعة الإنجليزية من الكتاب تقع في ٥٧٢ صفحة، ويضم الكتاب عشرين فصلًا، كتبها هيكل بأسلوبه المتميز، الذي يجذب القارئ ويثير فضوله. وقد حرص هيكل أن يشير في مقدمة الكتاب إلى عبارة وردت في حديثٍ دار بينه وبين عالِم الطبيعة الشهير ألبرت أينشتاين في بداية الخمسينيات، أشار فيها الأخير إلى أن الصراع بين العرب وإسرائيل صراعٌ بين حقَّين، وأن الأمر يحتاج إلى تحقيق نوعٍ من التوافق بين الحق اليهودي والحق الفلسطيني.

وبذلك حدَّد الكاتب التوجُّه العام لمن شاركوا في فتح القنوات السرية أو — بعبارة أدق — سعَوا لفتحها، وأغفل الكاتب منذ البداية عاملًا مهمًّا كان الحاضر الغائب في الكتاب، وهو حرص الصهيونية العالمية وإسرائيل على تحييد مصر، وإخراجها من دائرة الاهتمام بالقضية الفلسطينية بسُبل شتَّى، والسعي لإبرام سلام منفرد معها، ليقينهم أن غياب الدور المصري يجعل العرب عاجزين عن مواجهة الكيان الصهيوني، مستسلمين له.

لذلك أدمن الصهاينة طَرق أبواب مصر منذ أيام الملك فاروق — عشية حرب فلسطين — طالبين فتح حوار ربما يمهِّد السبيل لاعتراف مصر بإسرائيل، وكان ذلك عشية قيام إسرائيل، وتوقيع اتفاقية رودس عام ١٩٤٩م، وانتعشت آمال الصهيونية عندما نجح الضباط الأحرار في الاستيلاء على السلطة في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م؛ فحاولوا مغازلة النظام الجديد مُطلِقين عددًا من بالونات الاختبار، مشجعين جهود الوساطة.

ضمادة لجُرح مُزمن!

وحدَّد هيكل الغرض من الكتاب، وهو تقديم قصة الجهود التي بذلها ملوك ورؤساء وسياسيون وعلماء للوساطة بين مصر وإسرائيل، مدفوعين بحبهم للسلام أو بطموحهم الشخصي، كما أنه يريد أن يبيِّن للقراء أن اتفاق السلام الذي وقَّعه الفلسطينيون عام ١٩٩٣م كان مجرد ضِمادة لجرح مُزمن، وليس علاجًا شافيًا، وأن المسافة ما زالت بعيدة بين أطراف الصراع والسلام.

ولما كان الكتاب يخاطب الرأي العام العالمي؛ فقد خصَّص الكاتب الفصول الخمسة الأولى لإلقاء الضوء على القضية الفلسطينية، وأسماع الصهيونية في فلسطين، وموقف الأطراف الدولية التي ساعدت على إقامة الوطن القومي الصهيوني على أرض فلسطين، ورد الفعل الفلسطيني والعربي حتى انتهى الأمر بما حدث عام ١٩٤٨م، وقيام دولة إسرائيل وما ترتَّب عليه من نتائج سلبية بالنسبة للشعب الفلسطيني، وللأطراف العربية المعنية، ورفض العرب الاعتراف بإسرائيل، أو إجراء أي حوار معها، واعتبار ذلك نوعًا من المحرمات.

يلي هذه الفصول الخمسة عرضٌ لجهود الوساطة، ومحاولات فتح قنوات الاتصال بين العرب وإسرائيل، جاء على هامشه (أحيانًا) تناول للصراع العربي الإسرائيلي (العدوان الثلاثي – حرب يونيو ١٩٦٧م – حرب أكتوبر ١٩٧٣م) بشيءٍ من التفصيل طغى على موضوع «القنوات السرية»، وحوَّله إلى الهامش في كثير من الأحيان، بل جعل هناك خلطًا بينها وبين التحركات الدبلوماسية الأمريكية المتصلة بالشرق الأوسط عامةً، والصراع العربي الإسرائيلي خاصةً، واحتل الدور الفلسطيني منذ قيام حركة فتح حتى إبرام اتفاق «غزة-أريحا أولًا» نِصف الكتاب، وإن سرد المؤلف من خلاله محاولات الاتصال بين الطرف الفلسطيني والطرف الإسرائيلي، التي تُوِّجت بمباحثات أوسلو السرية.

وهكذا تحتل قصة الصراع العربي-الإسرائيلي أكثر من نِصف الكتاب، وجاءت «القنوات السرية» على هامشه، فأصبحت متابعتها أمرًا صعبًا ومحيِّرًا للقارئ، وخاصةً أن هيكل روى القصة من خلال التسلسُل الزمني (ربما لأن الكتاب يخاطب الرأي العام العالمي الذي لا تتوافر لديه معرفة بتفاصيل الصراع)، فاختلط السِّري بالعلني، والثنائي بالدولي، وتشابكت الخيوط وتعقَّدت، وكادت تفلت «القنوات السرية» من بين يدي القارئ.

السادات والسلام

وكان من الطبيعي أن تشهد فترة عبد الناصر نشاطًا ملحوظًا من جانب إسرائيل لفتح قنوات اتصالٍ مع مصر، وحسم أنور السادات الأمر وبادر بفتح قناة اتصال عريضة بتشجيع من شاوشيسكو رئيس رومانيا، والحسن الثاني ملك المغرب، وبقية القصة أصبحت معروفة من خلال كتابات هيكل السابقة، سواء كتابه عن السادات «خريف الغضب» أو كتابه عن «أكتوبر ١٩٧٣».

وكذلك من خلال الأدبيات التي صدرت في السنوات الأخيرة بالعديد من اللغات حول السلام المنفرد الذي أبرمته مصر مع إسرائيل، فضلًا عن تغطية المحلِّلين السياسيين لعملية صُنع السلام في الشرق الأوسط، من خلال الكتابات الغزيرة التي نُشرَت في الدوريات بمستوياتها المختلفة، أكاديميةً وإعلاميةً على حدٍّ سواء؛ لذلك لم يضِف هيكل جديدًا عند معالجته لهذا الجانب من الاتصالات التي كان القليل منها سريًّا، والأغلب علنيًّا حظي بتغطية إعلامية غير مسبوقة.

ولذلك لا يتبقَّى من «القنوات السرية» الجديرة بالرصد إلا المحاولات التي تمَّت منذ قيام ثورة يوليو حتى رحيل جمال عبد الناصر، وهذه أيضًا غطَّاها هيكل في كتبه الثلاثة عن «حرب الثلاثين عامًا»، وأشار إلى بعضها في كتابه عن (أكتوبر ١٩٧٣)، كما تناولتها أقلام العديد من الكُتَّاب والباحثين الذين كتبوا عن صراع الشرق الأوسط، أو أزمة الشرق الأوسط، أو الصراع العربي-الإسرائيلي، أو ترجموا لعبد الناصر، وكذلك الكتب التي صدرت عن أزمة السويس وحرب يونيو ١٩٦٧م، ورغم ذلك جاء تجميع هذه «القنوات السرية» في كتاب هيكل الجديد عملًا تسجيليًّا مفيدًا في إطار رصد جهود البحث عن السلام في الشرق الأوسط.

خطورة التورط مع الغرب

وتبدأ قصة ثورة يوليو مع جهود الوساطة بسعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى إقامة «منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط» ضمن جهودها لإحاطة الاتحاد السوفييتي بأحزمة من الأحلاف الموالية للغرب، وكان التصوُّر الأمريكي أن تكون مصر مركز المنظمة الدفاعية الجديدة، بما لها من وزن استراتيجي وسياسي في المنطقة، وكان مشروع الحلف في مقدمة المسائل التي طُرحت على صُناع النظام الجديد، ورغم صِغر سن أعضاء مجلس قيادة الثورة، وخبرتهم السياسية المتواضعة، إلا أنهم كانوا يعون تمامًا خطورة التورط في حلفٍ مع الغرب، يُحكِم روابط التبعية حول مصر، لقد كانوا يسعون إلى تحقيق الاستقلال الوطني التام، ويريدون تخليص البلاد من السيطرة الأجنبية، ولذلك عقدوا العزم على مقاومة كل أشكال الهيمنة الأجنبية، وفي مقدمتها الأحلاف.

ولما كانوا في حاجة إلى مساندة الولايات المتحدة في بداية الثورة لضمان تحييد القوات البريطانية في مصر (وخاصةً في الأيام الأولى للثورة)، وإلى مساعدة أمريكا لمصر في مجال تحديث الجيش والتنمية الاقتصادية، فقد اتَّبع مجلس قيادة الثورة خط المراوغة بالنسبة لموضوع «منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط»؛ فالثورة لا تعلن الرفض الصريح، ولا تلمِّح بالاستعداد للموافقة.

ولكنها تطرح أمام الأمريكان الصعوبات التي تحُول دون التوصُّل إلى قرار، وفي طليعتها الوجود البريطاني في مصر (قاعدة قناة السويس) والمسألة الفلسطينية، وفهم الأمريكان أن إزالة هذه العوائق من الطريق سوف يؤدي إلى تسويق مشروع «منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط» من خلال مصر، فركزت الإدارة الأمريكية جهودها على ضرورة حل مشكلة الوجود البريطاني في قاعدة قناة السويس، فمارست ضغطًا شديدًا على بريطانيا أدى إلى إبرام اتفاقيتَي السودان عام ١٩٥٣م والجلاء عام ١٩٥٤م، وشمَّر الأمريكان عن ساعد الجد، وراحوا يبحثون عن حلٍّ لمشكلة فلسطين يُرضي مصر وإسرائيل.

غير أن المناخ لم يكن مواتيًا للتوصُّل إلى حلٍّ للمسألة الفلسطينية؛ فالضباط الأحرار لهم تجربة مريرة في حرب فلسطين ليس من السهل نسيانها أو تجاوزها، كما أن عبد الناصر — على وجه الخصوص — لا يرى أن مصر تستطيع الوصول إلى اتفاقٍ يحقق المصالح العربية، وهي على تلك الحال من الضعف، وأن أي اتفاق يُبرم في هذا السياق سيخدم مصالح «العدو بالدرجة الأولى»، وظل هذا موقفًا ثابتًا لعبد الناصر طَوال حياته.

الخلاف على حجم إسرائيل

ومن الغريب أن هذا الموقف المتشدِّد من جانب عبد الناصر تجاه الصلح مع إسرائيل، لم يتضمن تحديد إطار سياسة بعيدة المدى بالنسبة للقضية الفلسطينية، فرغم استبعاد الصلح، ظل موقف عبد الناصر من قضية الوجود الإسرائيلي مبهمًا؛ ففي كل التصريحات الصادرة عنه كانت الدعوة لتطبيق قرارات الأمم المتحدة، وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وفق هذه القرارات؛ هي المطلب الأساسي الذي يطرحه عبد الناصر.

يعني ذلك ضمنًا القبول بوجود إسرائيل من حيث المبدأ، في إطار مشروع التقسيم الذي أقرَّته الأمم المتحدة عام ١٩٤٧م، أي أن المشكلة اختُزلَت إلى مسألة خلافٍ على حجم إسرائيل الذي تجاوز حدود قرار التقسيم، ولم يكن تحرير فلسطين من الوجود الإسرائيلي يومًا ما هدفًا من أهداف جمال عبد الناصر، على غير ما كان يُشاع، بل أن عبد الناصر أنكر (في اجتماع مع تيتو ونهرو عام ١٩٥٧م) أن مصر تسعى لإلقاء إسرائيل في البحر، وأكد للزعيمين أن ذلك لم يرِد يومًا على لسان أيٍّ من المسئولين المصريين، وليس من الأهداف السياسية المصرية، ويضيف هيكل أنه تم بحث هذا الأمر بحثًا جديًّا فتبيَّن أن هناك تصريحًا صدر عام ١٩٤٩م، من خلال مقابلة تمَّت بين عبد الرحمن عزام باشا أمين عام الجامعة العربية وأحد الصحفيين الأجانب، عندما تناول الصحفي معه مسألة قيام إسرائيل، فأبدى الأمين العام عدم استعداد العرب للاعتراف بالكيان الصهيوني. وعندما سأله الصحفي عما يفعله اليهود في هذه الحالة ردَّ عبد الرحمن عزام: «يعودون إلى البحر كما جاءوا منه.» واهتمام عبد الناصر بتحري الحقيقة وراء دعوى إلقاء إسرائيل في البحر يبدو وكأنه محاولة للحصول على «شهادة إبرام ذمة» من تلك «التهمة»، ويدل دلالةً واضحة على أن شعار تحرير فلسطين كان للاستهلاك المحلي، ولا يعني تصفية إسرائيل أو منازعتها الحق في الوجود، ولعل ذلك يفسِّر إلحاح إسرائيل وأصدقائها على التوصُّل إلى اتفاقٍ مع مصر يحوِّل الاعتراف الضمني بالوجود إلى اعترافٍ قانوني صريح.

ولم يكن عبد الناصر على استعدادٍ لتقديم هذا الاعتراف إلا إذا جاء في إطار تسوية تضمن للشعب الفلسطيني حقوقه التي نصَّت عليها قرارات الأمم المتحدة (عودة اللاجئين أو تعويضهم)، وفي نطاق حدود قرار التقسيم، وهو — بالطبع — ما لم يكن مقبولًا من جانب إسرائيل، التي أرادت اعترافًا «بالأمر الواقع» دون التزامٍ بحل قضية اللاجئين، أو الالتزام بحدود التقسيم.

ومن هنا كان الضغط المتواصل على مصر بالقوة في ١٩٥٦م و١٩٦٧م لإرغامها على الرضوخ للمطالب الإسرائيلية، مع الاستمرار في محاولة فتح قنوات الاتصال للدخول في حوارٍ مباشر إذا فشل في تحقيق الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل بتوقيع اتفاق مع مصر، فإن تسريب أخباره إلى أجهزة الإعلام كفيلٌ بسحب البساط من تحت أقدام عبد الناصر، الذي ارتكزت زعامته في العالم العربي على موقفه المتشدِّد من مسألة الاعتراف بإسرائيل.

ولعل أهم مشروعات التسوية التي طُرحت لحل النزاع العربي الإسرائيلي هو المشروع الأمريكي للتسوية الشاملة الذي حمل الاسم الكودي «ألفا Alpha» واستغرق نحو عامَين (١٩٥٣–١٩٥٥م). ومن الغريب أن هيكل لم يعطِه اهتمامًا كافيًا، وظن أن المشروع كان ثمرة جهد مجموعة عمل من المخابرات المركزية الأمريكية، والخارجية الأمريكية، ولكنه في الحقيقة كان مشروعًا وضعته الخارجية الأمريكية، وشاركت في صياغته دول حلف الأطلنطي، وخاصةً بريطانيا وفرنسا، لأن المشروع كان حجر الزاوية لفتح صفحة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط، في إطار مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط تستوعب فيه كل بلاد المنطقة، بما فيها مصر وإسرائيل، ولذلك كان الحرص الأمريكي على إشراك حلف الأطلنطي في التسوية مع تحميل بريطانيا وفرنسا قسطًا كبيرًا من الأعباء المالية المترتبة على التسوية، والمتعلِّقة بمشروعات المياه وتعويضات اللاجئين، والمساعدات الاقتصادية إلى مصر وغيرها من جيران إسرائيل.

وهو المشروع الذي لعب فيه روبرت أندرسون دور الوسيط في المباحثات غير المباشرة بين مصر وإسرائيل، والتي أصرَّ فيها عبد الناصر على انسحاب إسرائيل من النقب وإعطائه للعرب لتحقيق اتصال أرضي بين مصر والمشرق العربي، وهو ما لم يكن باستطاعة إسرائيل قبوله في إطار تسوية سلمية تُفقدها نحو ثلثَي الأراضي التي وضعت يدها عليها عام ١٩٤٨م، وتحوِّلها إلى مجرد (كانتون) صهيوني على المنطقة الساحلية، وحاول الأمريكان عبثًا إقناع عبد الناصر بالبحث عن بديلٍ لمطلب الاتصال الأرضي بين مصر والمشرق العربي، وأدَّى فشل المشروع إلى إسراع إسرائيل بالبحث عن سبيل فرض التسوية بالقوة من خلال العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م.

على كلٍّ، كانت هذه هي القناة الوحيدة التي نشطت لفترة محدودة بين مصر وإسرائيل من خلال الوساطة الأمريكية، أما ما عدا ذلك من القنوات التي ذكرها هيكل في كتابه الجديد، فكانت مجرد محاولاتٍ لفتح قنوات اتصال لقيت آذانًا صمَّاء من جانب عبد الناصر، أو محاولات من جانب إسرائيل والصهيونية العالمية لتوصيل رسائل لمصر، وساهم في محاولات فتح قنوات الاتصال زعماء كبار مثل تيتو ونهرو وديجول، الذين حاولوا إقناع عبد الناصر بضرورة فتح حوار مع إسرائيل، وعرضوا استعدادهم لذلك، وجاء ذلك بمبادرة فردية في حالة ديجول (١٩٦٥م و١٩٦٧م)، أو بدافع محاولات الصهيونية العالمية لتشجيع مصر على التحاوُر مع إسرائيل في حالة تيتو ونهرو اللذين تحرَّكا بتشجيعٍ من ناحوم جولدمان، زعيم المؤتمر اليهودي العالمي، الذي كرَّر محاولاته الدءوب في أعوام ١٩٥٧م و١٩٦١م و١٩٦٥م دون جدوى، وتمثَّلت محاولات توصيل الرسائل الإسرائيلية إلى القيادة المصرية في جهود كيرمت روزفلت رجل المخابرات المركزية الأمريكية، وريتشارد كروسمان عضو البرلمان البريطاني، ولكن الحكومة الرومانية، والرئيس شاوشيسكو على وجه الخصوص، كانت أنشط من لعب دورًا في نقل الرسائل الرسمية، أو شبه الرسمية الإسرائيلية إلى مصر اعتبارًا من عام ١٩٧٠م، حتى تم الاتصال المباشر بين مصر وإسرائيل بعد زيارة السادات الشهيرة للقدس.

والكتاب في جُملته يقدم ملفًّا للصراع العربي-الإسرائيلي أقل إثارةً من الكتب الأخرى التي نشرها هيكل، وخاصةً ثلاثية «حرب الثلاثين عامًا» فالميزة التي انفردت بها كتابات هيكل السابقة، وهي حصيلة المعلومات المهمة الكبيرة، وخاصةً تلك المُستقاة من أوراق عبد الناصر، لا تتوافر في هذا الكتاب، ربما لأن الكثير من المعلومات المتعلقة بالاتصالات الخفيَّة بين العرب وإسرائيل لم تعُد سرًّا، ربما لأن قسطًا كبيرًا من التطورات التي عرضها هيكل في هذا الكتاب وقع بين ١٩٧٩م و١٩٩٥م، عندما كان هيكل بعيدًا عن دوائر صنع القرار، مكتفيًا بالمراقبة عن بُعد، وتتبُّع ما يُنشَر حول قضية الشرق الأوسط، وإن كانت ميزة احتفاظه بدائرة علاقات وثيقة واسعة مع الكثير من اللاعبين الرئيسيين على مسرح السياسة في المنطقة وسَّعت مجال الرؤية أمامه، وجعلته مُراقِبًا من نوعٍ فريد.

يبقى بعد هذا أنَّ الكتاب يقدم شهادةً من كاتبٍ سياسي متميز، سجَّل فيها ما شاهده وما سمعه، ولا شك أن موقفه وموقعه السياسي ورؤيته الخاصة كانت وراء توزيع الإضاءة في الكتاب، وتحديد مساحات الظلال، وإن كان ذلك يجعل لكتابات هيكل مذاقًا خاصًّا متميزًا.

١  مجلة الهلال، مارس ١٩٩٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥