الوثائق الكاملة للخطة ألفا١
واعتبر الأستاذ هيكل السنوات «١٩٥٤–١٩٥٦م» تمثِّل «زمن الخطة ألفا» ورغم حرصه الدائم على الحديث من خلال الوثائق الأمريكية والبريطانية المصوَّرة من ٢٣ ملفًّا حملت عنوان «ألفا: التسوية العربية-الإسرائيلية عام ١٩٥٥م» مصدرها وزارة الخارجية البريطانية، إلا أن عرضه الشائق مزج بين مادة الوثائق والخبرة الشخصية كشاهد عيان عرف الكثير مما يدور وراء الكواليس.
ولمَّا كانت لديَّ الكثير من الوثائق البريطانية تضم مذكرات متبادَلة مع الجانب الأمريكي، ومراسلات ومَحاضر اجتماعات سِرية عُقدَت في واشنطن ولندن حول تفاصيل الخطة ألفا، خاصةً ما اتصل منها بتسوية القضية الفلسطينية، فقد رأيت أن أشارك «الكرامة» احتفالها بعيد الثورة، بتقديم هذه القراءة للوثائق البريطانية فيما يتعلق بمشروع تسوية القضية الفلسطينية عام ١٩٥٥م.
وسوف يلاحظ القارئ أن الإطار الأساسي لهذا المشروع الذي طُرح عام ١٩٥٥م يحمل الكثير من ملامح الحلول التصفوية وقسماتها التي ما زالت تحتل مكانها على طاولة التفاوض في مختلف المناسبات، متمنيًا أن تحظى هذه القراءة في وثائق كُتبت قبل ٥٣ عامًا، باهتمام كل من يعنيهم أمر فلسطين، وموقف ثورة يوليو من القضية الفلسطينية.
كان من الطبيعي أن يثير قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م قلق الكيان الصهيوني الذي وُلد في ١٥ مايو ١٩٤٨م، واستطاع أن يدعم وجوده بما حقَّقه من انتصارٍ في حربٍ غير متكافئة، كان ميزان القُوى فيها في صالحه، وكان الهدف توريط الدول العربية في حربٍ لم تتهيَّأ لها جيوشها الضعيفة تسليحًا وتدريبًا، كانت نتيجتها معروفة سلفًا، هو أن يضطر العرب إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني، وجاءت اتفاقيات الهدنة (غير محددة المدة) بمثابة حلٍّ مؤقت، يتيح للكيان الصهيوني فرصة دعم بِنيته الأساسية انتظارًا لفرصة قد تسنح في المستقبل لفرض «سلام إسرائيلي» على الدول العربية.
وكان من بين أسباب قلق الكيان الصهيوني من قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م، ما تردَّد على ألسنة أعضاء «مجلس قيادة الثورة» من إشاراتٍ إلى دور حرب فلسطين في دفع تنظيم «الضباط الأحرار» إلى التحرُّك لإسقاط النظام الفاسد العاجز عن تحقيق الأهداف الوطنية، وعبثًا حاولت إسرائيل — والقُوى المُسانِدة لها — أن تستشف نيَّات النظام الجديد تجاهها، فأصدر قادتها التصريحات التي أعطت مؤشرات عن استعدادها العيش بسلامٍ مع مصر في إطار «اتفاق» يُبرَم بين الطرفين، وراح رجال السفارتين البريطانية والأمريكية بالقاهرة يُلحُّون على سؤال بعض البارزين من أعضاء مجلس قيادة الثورة «منفردين» عن نيَّاتهم تجاه إسرائيل، فكان الرد «دائمًا» أن الأولوية المطلَقة لتحقيق الاستقلال، وجلاء القوات البريطانية عن قناة السويس، وتحقيق التنمية الاقتصادية، أما قضية فلسطين فليست على أجندة مجلس قيادة الثورة «الآن».
وكانت مثل تلك التصريحات «التي نُقلَت إلى الكيان الصهيوني» لا تبشِّر بالخير، لأن جلاء القوات البريطانية، وسيطرة الجيش المصري على قاعدة قناة السويس، يعطي مصر ميزةً استراتيجية مهمة في حال تجدَّد الصراع بين العرب وإسرائيل، خاصةً أن النظام المصري الجديد كان يلح في طلب السلاح من الولايات المتحدة، هذا فضلًا عن وجود مؤشرات واضحة على اتجاه النظام نحو تحقيق قفزة تنموية بإقامة مشروع السد العالي، والاتجاه نحو التصنيع، بما يحقق نقلةً نوعية في قدرات مصر الاقتصادية، مما يجعل النظام الجديد نذيرَ خطر لا يُستهان به يتهدَّد إسرائيل؛ لذلك كان بن جوريون يرى أن عبد الناصر «منذ ١٩٥٤م» يُعَد «أتاتورك العرب»، وأن على إسرائيل أن تحُول دون تحقيق آمال ذلك الضابط المصري الثائر الطموح.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد استبشرت خيرًا بقيام النظام الجديد في مصر، فمردُّ ذلك إلى يقينها من عجز النظام القديم عن تجاوز أزمته الاجتماعية والسياسية، وإلى تطلُّعها إلى جر مصر إلى منظومات الدفاع عن الشرق الأوسط، وأملها في أن تصبح مصر مركز المنظومة وقلبها، وحاولت إقناع حكام مصر الجُدد بمزايا الانضمام إلى ذلك الحلف، ولكن موقف قيادة النظام الجديد من الدعوة الأمريكية بدا غامضًا مثيرًا للمخاوف الإسرائيلية.
-
أن الانضمام إلى حلفٍ إقليمي في إطار منظومة الدفاع الغربي يعطي مبررًا لاستمرار الوجود البريطاني في قاعدة قناة السويس تحت أعلام الحلف الجديد، مما يُفقِد مصر استقلالها إلى الأبد، وبذلك يبدو النظام الجديد — في عيون المصري — نظامًا جاء ليدق المسمار الأخير في نعش الاستقلال الوطني.
-
أن التحالف إذا لم يكن بين أكفاء، تحوَّل إلى نوعٍ من أبشع أنواع التبعية؛ فالجيش المصري في حالة يُرثى لها من الضعف بسبب المستوى المتدني للتسليح والتدريب، كما أن الاقتصاد المصري يمر بأزمة لا تنقذه منها إلا خطة للتنمية مدروسة جيدًا؛ لذلك لا تستطيع مصر البت في موضوع الحلف إلا بعد الحصول على السلاح الذي يجعلها على قدم المساواة مع شركائها في الحلف، وإذا حصلت على المعونات والاستثمارات اللازمة لبناء اقتصاد مصري قوي.
-
أن مصر لا تستطيع اتخاذ قرار الانضمام إلى حلف موجَّه ضد خطر بعيد مفترَض «الاتحاد السوفييتي»، بينما هناك خطر داهم قابع على حدودها هو إسرائيل.
أقلقت الحُجج المصرية الكيان الصهيوني، فراحت إسرائيل تحذر الولايات المتحدة من «أسلوب المراوغة» الذي يتبعه جمال عبد الناصر، وتنصح الولايات المتحدة بعدم الأخذ بتلك الحُجج مأخذ الجد؛ لأن هدف النظام الجديد في مصر هو «ابتزاز الولايات المتحدة، والحصول على مطالبه بإجلاء القوات البريطانية عن قناة السويس، وتسليح الجيش المصري، والحصول على المساعدات الاقتصادية، ثم التهرُّب — في نهاية الأمر — من الانضمام إلى الحلف».
ولكن الرئيس الأمريكي أيزنهاور، ووزير الخارجية دالاس، كانا على استعدادٍ لتلبية ما يُعَد منطقيًّا من المطالب المصرية، فضغطت الولايات المتحدة على حليفتها بريطانيا ضغطًا شديدًا حتى تم التوصُّل إلى إبرام اتفاقية الجلاء التي تم التوقيع عليها بالأحرف الأولى في يوليو ١٩٥٤م، وقدَّمت بعض المعونات الاقتصادية المحدودة من خلال برنامج «النقطة الرابعة»، ولكنها أهملت طلبات مصر من السلاح، وتمويل مشروع السد العالي، فلم يتم التحرك الجدي نحو دعم الجيش المصري، وتنمية الاقتصاد المصري، إلا بعد استجابة مصر لمطلبَين أساسيَّين:
القبول باتفاق سلام مع إسرائيل، على أن تتعاون مصر مع الولايات المتحدة وبريطانيا في «جرِّ» الدول العربية جميعًا للتوقيع عليه.
يلي ذلك انضمام مصر إلى «منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط» بعد زوال حُجة «الوجود البريطاني في مصر» بتوقيع اتفاقية الجلاء، وزوال حُجة «الخطر الإسرائيلي» بإبرام اتفاقية السلام مع إسرائيل.
ورغم الإشارات غير المطمئنة التي أطلقتها قيادة النظام الثوري في مصر بعد توقيع اتفاقية الجلاء مثل؛ تشجيع حركات التحرُّر الوطني في العالم العربي، وإقامة «إذاعة صوت العرب» لبثِّ الدعاية المضادة للاستعمار، وشن حملة معارضة ضاربة لمشروع الحلف العراقي-التركي الذي عُرِف باسم «حِلف بغداد»، رغم كل ذلك أيقنت الولايات المتحدة الأمريكية أن قضية فلسطين تمثِّل حجر عثرة في طريق تنفيذ مخططات الغرب في الشرق الأوسط، وهو ما اقتنعت به بريطانيا أيضًا.
وعزَت الدولتان ما اتَّسمت به ردود الفعل المصرية من حدة إلى «قلة خبرة جمال عبد الناصر بالشئون الدولية، نظرًا لصِغر سنِّه، وقلة تجربته»، وأيضًا إلى «حاجته إلى دعم أركان نظام حُكمه في مواجهة ما يتعرض له من معارضة» (يقصد بذلك أزمة مارس ١٩٥٤م، والصدام مع الإخوان المسلمين والشيوعيين).
وفي إطار تهيئة المناخ المناسب لطرح التسوية على الأطراف المعنيَّة، والتمهيد لبسط مكوناتها، صرَّح جون فوستر دالاس (وزير الخارجية الأمريكي) للسفير (الإسرائيلي) في واشنطن، بأن «الولايات المتحدة لا تستطيع ضمان خطوط هُدنة مؤقتة، وأنه يجب على إسرائيل أن تحدِّد أولًا حدودها، قبل أن تطلب من الولايات المتحدة ضمان تلك الحدود.» وأبدت الولايات المتحدة امتعاضها من العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة، وفي الوقت نفسه، راح السفيران الأمريكي والبريطاني بالقاهرة يستطلعان ما يمكن أن تقبل به القيادة المصرية من شروط التسوية.
مشروع تسوية القضية الفلسطينية «ألفا»
شكَّلت قرارات الأمم المتحدة بشأن تقسيم فلسطين (عام ١٩٤٧م) والقرارات الخاصة باللاجئين، الإطار المرجعي لمشروع التسوية المقترَح، فقد شعرت الدولتان أن الأطراف العربية الأساسية (مصر – العراق – سوريا – لبنان) تحرص على ضرورة الالتزام بتطبيق قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالتقسيم وحقوق شعب فلسطين، لذلك وضع أصحاب مشروع التسوية تلك القرارات نُصب أعينهم على أمل أن تُبدي إسرائيل موافقتها على الالتزام بقرار التقسيم، أو — على الأقل — تقبل بتقديم بعض التنازلات في الأراضي بالقدر، الذي يحقق حلًّا وسطًا بين المَطالِب العربية والأطماع الإسرائيلية.
أولًا: مشكلة اللاجئين
وإذا كانت قرارات الأمم المتحدة قد نصَّت على إعادة اللاجئين إلى ديارهم أو تعويض مَن لا يقبل العودة منهم عن ممتلكاته، فقد نصَّت التسوية المقترَحة على عودة خمسة وسبعين ألفًا من اللاجئين إلى ديارهم، كإجراءٍ رمزي يحفظ للدول العربية ماء الوجه أمام شعوبها، ولا يمثَّل عبئًا حقيقيًّا على إسرائيل، أما باقي اللاجئين فيتم تعويضهم عن ممتلكاتهم، وتوطينهم في البلاد العربية المجاوِرة لفلسطين.
-
أراضٍ زراعية: ٦٩.٥ مليون جنيه إسترليني.
-
أراضٍ حضرية: ٢١.٥ مليون جنيه إسترليني.
-
أراض القدس: ٩ ملايين جنيه إسترليني.
وقد تم تقدير قيمة الأراضي والعقارات على أساس أسعار سوق العقارات في فلسطين يوم ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧م (تاريخ صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاص بتقسيم فلسطين)، مع استبعاد قيمة الأراضي البور من ممتلكات الفلسطينيين.
وقُدرت قيمة الممتلكات المنقولة التي تخص اللاجئين الفلسطينيين بمبلغ عشرين مليون جنيه إسترليني، وتشمل: المصانع، والمتاجر، والسيارات، والمعدات الزراعية، والماشية، والأثاث المنزلي. أي أن القيمة الإجمالية للتعويضات (وَفق مشروع التسوية) بلغت مائة وعشرين مليونًا من الجنيهات الإسترلينية.
ونظرًا لعدم قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على تحمُّل تلك التعويضات (حسب تقرير بريطانيا وأمريكا)، وحتى لا يقف ذلك عائقًا في طريق قبول إسرائيل بالتسوية، اتفقت الدولتان على تحمُّل نسبة ٧٠٪ من مجمَل قيمة التعويضات، يقدَّم لإسرائيل، إما في صورة قرض طويل الأجل دون فوائد، أو يُقسَّم إلى قرضٍ ومنحة لا تُرد، أو حتى يقدَّم كمنحة في حالة إصرار إسرائيل على عدم تحمُّل التعويضات.
أما ما بقي من قيمة التعويضات (نسبة ٣٠٪)، فإما أن يُضاف إلى التعويضات الألمانية التي أُلزمت ألمانيا «الغربية» بتقديمها لليهود، أو تتحمَّله النخبة اليهودية الثريَّة في بريطانيا وأمريكا، على أن يتم تدبير التمويل اللازم للتعويضات على دُفعاتٍ سنوية على مدى خمس سنوات، تُقدَّم لإسرائيل لتقوم — بدورها — بسدادها لمستحقِّيها من اللاجئين الفلسطينيين.
وتضمَّن مشروع التسوية شروط التقدُّم للحصول على التعويضات، وجِهة تلقِّي الطلبات، فنصَّت على تشكيل لجنة خاصة من الأمم المتحدة لتلقِّي الطلبات، مع إلزام طالِب التعويض بتقديم جميع المستندات التي تُثبِت مِلكيَّته الثابتة أو المنقولة، مما يتطلب إلزام إسرائيل بإتاحة فرصة الحصول على هذه المستندات بالرجوع إلى سجلات الطابو التي استولت عليها، ولكن مثل هذا الإلزام الضروري لم يرِد بشروط المشروع، كما لم يتضمَّن المشروع نصًّا يعالج كيفية التصدي لمشكلة قيام إسرائيل بحجب تلك المستندات عن أصحابها (وهو ما كان متوقعًا بداهةً).
فإذا استطاع اللاجئ إثبات حقِّه في التعويض وبات مستحقًّا له، فلا يصرف في الدفعة الأولى إلا مبلغًا لا يتجاوز الخمسين ألفًا من الجنيهات الإسترلينية، ويُشترَط لصرفه هذا المبلغ أن يتقدم بما يُثبِت اعتزامه استغلال المبلغ في مشروع استثماري صغير، وأن يُثبِت ذلك بوثيقة معتمَدة من الدولة التي يقيم فيها، فإذا تمَّت هذه الخطوة، حصل بعد ذلك على باقي مستحقاته من قيمة التعويض على دفعاتٍ سنوية في مدًى زمني يتراوح بين خمس سنوات وعشر.
وإذا أمعنَّا النظر في تلك الشروط، نجد أن اللاجئ الفلسطيني سوف يخرج من هذه التسوية الجائرة صفر اليدين، فمن المعروف أن معظم اللاجئين خرجوا من ديارهم يلتمسون النجاة بأرواحهم دون أن يحملوا معهم وثائق ممتلكاتهم، ومشروع التسوية يشترط تقديم هذه الوثائق للحصول على التعويض، ويفترض حسن النية في المغتصِب الذي يُقدِّم — عن طيب خاطر — الوثائق التي تتيح لصاحب الحق أن ينال التعويض عن مِلكيَّته السليبة، وتُدخِل اللاجئ في سراديب البيروقراطية بالبلد المُضيف ليثبت أنه سوف يستثمر المبلغ فيما يخدم اقتصاد ذلك البلد، فلا يسلم من الابتزاز والاستغلال، هذا إذا استطاع تجاوز عقبات إثبات حقِّه فيما سُلِب منه.
معنى هذا أن ما تعلَّق بالتعويضات في مشروع التسوية كان شكليًّا، رُوعيت فيه مصالح الكيان الصهيوني وحده، وكذلك كانت الحال بالنسبة لمن يُفضِّل العودة إلى وطنه السليب … فلسطين.
نصَّ مشروع التسوية على إلزام مَن يرغب في العودة إلى فلسطين بما يلي:
التقدُّم بطلبٍ إلى اللجنة المختصة التي تشكِّلها الأمم المتحدة، يتضمن تحديد موطنه الأصلي داخل فلسطين، وما له من أقارب فيها، ومهنته الأصلية ومؤهلاته.
تنقل اللجنة الطلبات إلى السلطات الإسرائيلية، التي يحقُّ لها قبول الطلب أو رفضه «وفق مصالحها الأمنية».
في حالة قبول الطلب، يتقدَّم اللاجئ بطلب الحصول على تأشيرة دخول إسرائيل مقرونًا بتعهُّد القبول بأن يصبح مواطنًا إسرائيليًّا.
إذا حصل اللاجئ على تأشيرة دخول إسرائيل، يظل فترةً (لم يُحدِّد مشروع التسوية مداها الزمني) يعيش مع أقرانه في «معزل» يُقام على الحدود «على أن يتم تحديد مواقع المعازل باتفاقٍ يُبرَم بين الحكومة الإسرائيلية ولجنة الأمم المتحدة»، حتى يتسنَّى للحكومة الإسرائيلية تحديد أماكن الإقامة لطلاب العودة.
لا تلتزم حكومة إسرائيل بتدبير فرصة عملٍ للاجئ العائد، بل عليه أن يسعى لذلك بنفسه، فإذا كانت له مِلكية ثابتة أو منقولة، وأراد استردادها، عليه اللجوء إلى القضاء الإسرائيلي، ولا يحق له المطالَبة بالتعويض.
وهكذا لم يكن طالب العودة (على ضوء مشروع التسوية) أسعد حظًّا من طالب التعويض؛ فعليه أن يتخلَّى عن هُويته الفلسطينية وعن ممتلكاته، وأن يقبل الإقامة في معزل على الحدود (لعل صناع مشروع التسوية كانوا يرَون في تلك المعازل المقترَحة ما يُناظر معازل الهنود الحمر في أمريكا، والأفارقة في جنوب أفريقيا) لمدة غير معلومة، يكون فيها في وضعٍ يُشبِه وضع السجين، هذا إذا قبلت به إسرائيل التي قد تقبل فردًا دون أسرته، لأن طلبات العودة فردية وليست عائلية.
-
وادي الأردن: ٣٠ ألف أسرة.
-
سيناء: ١٥ ألف أسرة.
-
سوريا: ١٥ ألف أسرة.
-
إسرائيل: ١٥ ألف أسرة.
-
لبنان: ١٠ آلاف أسرة.
-
غزة: ٢٥ ألف أسرة.
-
الأردن: ٣٥ ألف أسرة.
-
أصحاب المشروعات الصغيرة من مستحقي التعويضات: ٥ آلاف (تُوزَّع في دول الجوار).
-
الإجمالي: ١٥٠ ألف أسرة.
ونصَّ مشروع التسوية على أن يستمر عمل «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين» لفترة زمنية أطول مع تعهُّد بريطانيا والولايات المتحدة بالمساهمة في دعمها حتى يتم إدماج اللاجئين في مناطق الاستيطان المخصَّصة لهم.
ثانيا: ترسيم الحدود وتنازل إسرائيل عن بعض الأراضي
تضمَّن مشروع التسوية النص على ضرورة ترسيم الحدود بين إسرائيل وجاراتها العربيات، مع التنازل للأردن ومصر عن مُثلثَين صغيرين من الأراضي، ترتكز قاعدة أولهما على الطرف الجنوبي الشرقي للضفة الغربية، وترتكز قاعدة المثلث الآخر عند حدود شمال شرق غزة، ويلتقي رأسَا المثلثين عند الطريق المؤدي إلى إيلات، حيث تحدَّد نقطة العبور بين المثلثين إما فوق الطريق (عن طريق إقامة جسر) أو تحته (عن طريق شق نفق)، فيتم بذلك الربط بين غزة والضفة الغربية، ويتم نقل تبعية غزة للمملكة الأردنية الهاشمية، وهكذا تختفي فلسطين إلى الأبد ككيان على نحو ما رأى أصحاب مشروع التسوية، كما يفقد شعبها هويته الوطنية.
ثالثا: الإطار السياسي للتسوية
فإذا كان مشروع التسوية قد كفل إنهاء الوجود الفلسطيني كيانًا وشعبًا وهُوية، فلا بد من تكريس ذلك بمعاهدة «سلام» تُبرَم بين إسرائيل وجميع الدول الموقِّعة على اتفاقيات هُدنة مع إسرائيل، وهي: مصر، والأردن، ولبنان، وسوريا، وذلك في إطار توصيات اللجنة الخاصة بفلسطين، التي أُقيمت بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (في ١١ ديسمبر ١٩٤٩م)، وأُلحِق بمشروع معاهدة «السلام» المقترَحة، ملحق يحدِّد الحدود المشتركة لكلٍّ من إسرائيل ومصر والأردن ولبنان وسوريا.
تصدَّر مشروع المعاهدة النص على «تعهُّد الدول الموقِّعة باللجوء إلى الأمم المتحدة في حالة نشوب نزاع بينها، وعدم اللجوء إلى استخدام القوة، والقبول بالحدود المشتركة الواردة بملحق المعاهدة.» كما نصَّ المشروع على «أن يقوم كل طرفٍ بإجراء التعديلات الدستورية اللازمة بما يتماشى مع نص المعاهدة، على ألَّا يترتب على ذلك المساس بارتباطات أي طرف مع الدول من غير الأطراف الموقِّعة على المعاهدة، ولا يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة، وتلتزم الأطراف الموقِّعة على المعاهدة بالتشاور معًا في حالة وقوع نزاعٍ بين الأطراف الموقِّعة على المعاهدة».
وقد رُوعي في صياغة نص مشروع المعاهدة تفادي النص على «إنهاء حالة الحرب» أو على «الاعتراف» بإسرائيل، وإقامة علاقات دبلوماسية معها، وإن كانت بنود المعاهدة قد شملت ذلك ضمنًا؛ فالتشاور بين الأطراف في حالة وقوع أزمة ما، يقتضي وجود قنوات وآليات للاتصال، والاعتراف بخطوط الحدود الواردة بالمُلحَق يعني الاعتراف بإسرائيل.
موقف إسرائيل من مشروع التسوية
وبدأت خطواتها الأولى في اتجاه البرنامج النووي، الذي أدَّى إلى إقامة مفاعل ديمونة وإنتاج القنابل الذرية، وسعت — في الوقت نفسه — إلى تخريب العلاقات الأمريكية المصرية، من خلال عملية «سوزانا» التي استهدفت تخريب المنشآت الأمريكية والبريطانية في مصر، والتي تم كشفها فيما عرف ﺑ «فضيحة لافون».
ويبدو أن معلوماتٍ كاملة عن «الخطة ألفا» قد تسرَّبت إلى إسرائيل، وما سمعته عن استعداد عبد الناصر للقبول بتسوية في إطار قرارات الأمم المتحدة، على أن يقدم ذلك حلًّا شاملًا للقضية الفلسطينية وليس اتفاقًا فرديًّا، جاء ذلك في ملاحظة أبداها عبد الناصر تعليقًا على سؤالٍ طرحه عليه إيدن (رئيس الوزراء البريطاني) عند زيارته مصر في ٢٠ فبراير ١٩٥٥م بشأن إمكانية التوصُّل إلى حلٍّ للنزاع العربي-الإسرائيلي، فقد شنَّت إسرائيل غارتها الكبرى على غزة بعد أربعة أيام فقط من هذه المقابلة، واستمرت غاراتها تتوالى على غزة من حين لآخر، حتى وقعت غارة كبرى أخرى في أغسطس ١٩٥٥م، ردًّا على تصريح لدالاس — وزير الخارجية الأمريكية — أعلن فيه: «ضرورة إعادة اللاجئين في الحدود الممكنة عمليًّا، وتعويض من لا يمكن إعادتهم إلى ديارهم، ووعدَ بأن الولايات المتحدة سوف تساعد إسرائيل على دفع التعويضات.»
وهكذا، في الوقت الذي تم فيه بلورة مشروع تسوية القضية الفلسطينية، وبدأت الاتصالات بشأنه مع مصر؛ سارعت إسرائيل بشن عدوانها المتواصل على غزة لتقنع مصر بأن صوت السلاح يعلو على صوت الدبلوماسية، ولتجعل مصر هي الطرف الذي يرفض التسوية، حتى تقنع إسرائيل أمريكا بأنها ضحية «التطرُّف» العربي، وأنها الأقدر على حماية مصالح الغرب في الشرق الأوسط.
موقف مصر
كان أول ذكرٍ لقضية فلسطين في لقاءٍ رسمي مع جمال عبد الناصر؛ هو ذلك الذي تم في لقاء إيدن-عبد الناصر سالف الذكر، وقد اعتبره إيدن إشارةً تبشِّر بقبول عبد الناصر لمشروع «ألفا» حين تُعرَض تفاصيله عليه.
ويبدو أن جمال عبد الناصر — أيضًا — كان يعلم أنَّ ثمة ما يدور بين الكواليس من خلال مصادر أخرى؛ فقد اكتشف السفير البريطاني في القاهرة أن نديم دمشقية على علمٍ بمشروع «ألفا» من خلال شارل مالك السفير اللبناني بواشنطن، والمُقرَّب إلى الخارجية الأمريكية.
ولعله كان من بين الخبراء القلائل الذين تمت استشارتهم في بعض جوانب مشروع التسوية، ولمَّا كان دمشقية وثيق الصلة بجمال عبد الناصر (حتى إن عبد الناصر أرسله — فيما بعد — في مهمة غير رسمية إلى الإدارة الأمريكية)، ربما وصلت إلى جمال عبد الناصر بعض الإشارات عن هذا الطريق، وبذلك لم يكن خالي الذهن، عندما لمَّح له إيدن بأهمية عقد صُلحٍ مع إسرائيل؛ فالطريقة التي تعامل بها عبد الناصر مع المشروع تدل على علمه بإطاره العام — على أقل تقدير — رغم أن المشروع لم يُعرَض بنصه الكامل على أيٍّ من الأطراف المعنية.
على كلٍّ، خفَّ السفير الأمريكي هنري بايرود للقاء الدكتور محمود فوزي (وزير خارجية مصر)، في الأول من أبريل ١٩٥٥م، وتحدث معه طويلًا حول مختلف الموضوعات، ولكنه فوجئ بفوزي يقول له: «إن المستفيد الوحيد مما يدور في المنطقة من صراعٍ حول الحلف التركي-العراقي هو الاتحاد السوفييتي … ولا يمكن إزالة أسباب الاحتقان بالمنطقة إلا بالبحث عن حلٍّ للمعضلة الأساسية، وهي الصراع العربي-الإسرائيلي.»
وهنا تحوَّلت دفة الحديث بين بايرود وفوزي إلى تصوُّر محمود فوزي لحل تلك المعضلة، فقد خشي بايرود أن يُستدرَج إلى الكشف عن فحوى المشروع «ألفا».
-
إن القيادة المصرية تدرك تمامًا أن القضية الفلسطينية هي نقطة الخلاف الأساسية مع الغرب.
-
إنها ترى أن حل هذه القضية سوف يفتح الباب على مصراعيه لتعاون خلاق مع الغرب، لأن القيادة المصرية تمقت الشيوعية.
-
إن الحل يجب أن يكون شاملًا في إطار قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالتقسيم، وحل مشكلة اللاجئين.
-
إن تصوُّر مصر للحل يتضمن تنازل إسرائيل عن بعض الأراضي التي استولت عليها لإيجاد اتصالٍ أرضي (وليس مجرد ممر) بين مصر والأردن حتى تتخلص مصر من العُزلة التي فُرضَت عليها.
-
إن مصر تدرك تمامًا أن عودة جميع اللاجئين إلى ديارهم أمرٌ صعب التحقيق، ولا تمانع في عودة جانب منهم في إطار حلٍّ شامل لمشكلة اللاجئين.
نقل بايرود ما دار بينه وبين محمود فوزي إلى زميله السفير البريطاني بالقاهرة الذي أبرق إلى حكومته بفحوى الحديث بدلًا من بايرود الذي خشي أن يكون فوزي قد قدَّم له طُعمًا، وأبرقت الخارجية البريطانية بما دار في اللقاء إلى الخارجية الأمريكية، وفي اليوم نفسه تلقَّى بايرود تعليمات صريحة من واشنطن بمفاتحة عبد الناصر حول مشروع التسوية.
وهكذا طلب السفير الأمريكي هنري بايرود مقابلة جمال عبد الناصر، وتمت المقابلة يوم ٦ أبريل ١٩٥٥م، واشتمَّ السفير من حديث رئيس الوزراء المصري (وهو المنصب الذي شغله عبد الناصر)، ما يُفيد تأكيد ما سمعه من محمود فوزي، ولكن عبد الناصر أكد ضرورة وجود اتصال أرضي «معقول» مع الأردن، وليس مجرد «ممر»، واستنتج السفير من ذلك أن عبد الناصر يهمه التخلُّص من غزة وضمها إلى الأردن، لأن عبد الناصر لم يهتم بالسؤال عن مكونات التسوية عندما أبدى السفير بايرود استعداده لذلك، طالبًا منه إرجاء الموضوع برمَّته إلى حين عودته (أي عبد الناصر) من مؤتمر باندونج.
وفي السابع من أبريل ١٩٥٥م استدعى محمود فوزي السفير الأمريكي للقائه بوزارة الخارجية، ليتحدث معه في تفاصيل ما أوجزه عبد الناصر، فقال فوزي: «إن مصر لا تقبل إلا بتسوية تضع مدينة «بئر سبع» كنقطة جنوبية لحدود إسرائيل، على أن تصبح النقب كلها أرضًا عربية تضم الأردن»، وفضَّل السفير الأمريكي أن يُرجئ الحديث في الموضوع ليناقشه برمَّته مع عبد الناصر شخصيًّا بعد عودته من باندونج.
كان الرهان الأمريكي-البريطاني؛ هو كسب مصر إلى منظومة الدفاع الغربي عن الشرق الأوسط، بعد انتهاء تلك التسوية التي جاء بها مشروع «ألفا»، وكان الظن أن قبول مصر بالتسوية سوف يضع نهايةً أبدية للقضية الفلسطينية، ويمحو تمامًا اسم فلسطين والهُوية الوطنية الفلسطينية من الوجود، ويفتح الباب أمام القبول بإسرائيل كشريكٍ فاعل في المنطقة، وزاد من دعم تلك الظنون «الاطمئنان إلى عدم فهم جمال عبد الناصر للسياسة الدولية ومزالقها، لغياب الخبرة عنده، وأن كل ما يهمُّه تثبيت أركان نظام حكمه في مصر».
لذلك تضمَّن أسلوب عرض مشروع التسوية عليه (حال عودته من باندونج) التلويح بأن قبول الغرب لتمويل مشروع السد العالي، وتقديم المعونات الاقتصادية لمصر، والنظر في طلبات تسليح الجيش المصري مرهون بقبول مصر للتسوية، التي تضمَّنت فكرة المثلثين من الأراضي المقترَح تنازُل إسرائيل عنهما للأردن ومصر، مع فكرة المعبَر بين المثلثين من فوق أو تحت طريق إيلات، مع استبعاد فكرة ضمِّ النقب للأردن، ولكن جمال عبد الناصر «صغير السن قليل الخبرة» أثبت أنه مناور سياسي من الطراز الأول؛ فقد كان يعرف تمامًا أن الهدف من التسوية هو إسقاط آخر حُجج مصر التي رفعتها في وجه الدعوة إلى الانضمام إلى التحالفات الغربية، وهو ما كان يناقض تمامًا خط الاستقلال الوطني الذي كان أساسيًّا عند ثورة يوليو.
كذلك فهم عبد الناصر حقيقة الصراع العربي-الإسرائيلي باعتباره صراعَ وجود لا صراع حدود، وأن الكيان الصهيوني هو — في حقيقة أمره — كيان استعماري استيطاني عنصري، يسعى إلى إقامة (إسرائيل الكبرى)، ولا يقبل بحدودٍ غير تلك التي رسمتها الأساطير الصهيونية لإسرائيل الكبرى. وأدرك عبد الناصر أن الغرب لن يزوِّد مصر بالسلاح، لأنه يريد أن يظل الجيش المصري مهيض الجناح، وجاءت الغارات (الإسرائيلية) لتحسم الخيار بين القوة والدبلوماسية.
ومن باندونج أرسل جمال عبد الناصر إشارةً ذات مغزًى إلى الولايات المتحدة والغرب، عندما لعب دورًا بارزًا في كشف حقيقة إسرائيل ومنعها من حضور المؤتمر، كما حدث تقارب بينه ورئيس وزراء الصين الشعبية شو إن لاي، ورئيس وزراء الهند، جواهر لال نهرو، ومن باندونج بدأت الخطوات الأولى لإبرام صفقة الأسلحة السوفييتية التي استخدمت تشيكوسلوفاكيا غطاءً لها، ومن باندونج — أيضًا — أعلن عبد الناصر التزام مصر بمبدأ «الحياد الإيجابي».
وعندما أحسَّت القاهرة باكتمال صفقة السلاح السوفييتي، وتسرَّبت أنباؤها إلى الدوائر الغربية، وتحركت الولايات المتحدة للتدخُّل بتوجيه إنذار إلى مصر، قطع عليهم عبد الناصر الطريق بحضور افتتاح معرضٍ للصور أقامته القوات المسلحة (يوم ٢٧ سبتمبر ١٩٥٥م)؛ حيث أعلن على الشعب المصري والعالم كله نبأ صفقة السلاح.
ورغم ما سبَّبه هذا المتغير الاستراتيجي المهم من إزعاجٍ للغرب، إلا أن الولايات المتحدة رأت بذل محاولة أخرى لتمرير مشروع «ألفا» لتسوية القضية الفلسطينية، فتم إيفاد أندرسون مبعوثًا رسميًّا ممثِّلًا للرئيس أيزنهاور، والتقى المبعوث الأمريكي عبد الناصر عدة مرات، ولكن عبد الناصر أصرَّ على أن تكون المنطقة من «الظهرية» إلى «الخليل» إلى غزة أرضًا عربية، وأن يكون مثلث سمخ والمنطقة المحيطة ببحيرة طبرية في يد سوريا، وأعلن أندرسون أن هذه المَطالِب غير قابلة للتفاوض.
وفي أعقاب فشل مهمة أندرسون، أعلنت مصر اعترافها بالصين الشعبية، وردَّت الولايات المتحدة (في ١٩ يوليو ١٩٥٦م) بسحب عرض تمويل السد العالي، فوجَّه جمال عبد الناصر ضربةً قاضيةً للغرب بإعلان تأميم شركة قناة السويس (٢٦ يوليو)، ومن ثَم بدأ العد التنازلي للعدوان الثلاثي الذي التهمت نيرانه مشروع «ألفا» وتسوية للقضية الفلسطينية لم ترَ النور.