حِلف الأطلنطي وراء ضرب عبد الناصر ومحاولة تصفيته١
إن ما حدث في ٥ يونيو ١٩٦٧م من هزيمة مشينة للعرب، أتاحت للكيان الصهيوني فرصة احتلال كامل التراب الفلسطيني، إضافةً إلى سيناء والجولان؛ كان نقطة تحوُّل في تاريخ أمتنا العربية، تحوَّلت بموجبه إسرائيل إلى قوة إقليمية كبرى، وتكرَّس دورها كقاعدة لحماية مصالح الغرب في الشرق الأوسط. وطُويت صفحة التيار القومي العربي؛ فانحسر على هامش المسرح السياسي بعد أن كان يتصدَّره، أو قُل إن شئت انحسر دور مصر الإقليمي، فانكفأت على نفسها داخل حدودها، تسعى إلى لمِّ شعث قواتها المسلحة، وإعادة بنائها لتُحرِّر سيناء، وتبحث لنفسها عن دورٍ جديد يتناسب مع عملية «التحجيم» التي فرضتها عليها هزيمة ١٩٦٧م.
ولا يعني ذلك أن إسرائيل استطاعت وحدها أن تصفِّي الدور الإقليمي لمصر لصالحها، ولكنها كانت رأس الحربة للغرب في مشروع التصفية، الذي بدأ التخطيط له في شتاء ١٩٦٤م في اجتماع عقده حلف الأطلنطي خصِّيصَى بناءً على طلب تركيا، لوضع حدٍّ للمتاعب التي يثيرها عبد الناصر في منطقة الشرق الأوسط ضد مصالح الغرب، ولذلك كانت ورقة العمل الرئيسية المقدَّمة للاجتماع من إعداد وزير الخارجية التركي، وتحمل عنوان «تصفية عبد الناصر».
مصر وزعامة عبد الناصر
بعد مقدمة طويلة شرح فيها الجانب التركي الدورَ المشاكس لمصالح الغرب الذي لعبته مصر — بزعامة عبد الناصر — منذ قيام الثورة، وخاصةً تحريضها لشعوب المنطقة ضد السيطرة الغربية، ومقاومتها لسياسة الأحلاف، ثم تبنِّيها لحركة القومية العربية التي اشتد عودها بعدما كسب عبد الناصر، سياسيًّا، من وراء حرب السويس ١٩٥٦م، وما كان من قيام الوحدة بين مصر وسوريا التي قلبت الموازين الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.
ورغم ضرب الوحدة، نجح عبد الناصر في أن يمدَّ نفوذه ووجوده الاستراتيجي إلى اليمن بمناصرته لثورتها، وتدخُّله العسكري هناك. وبذلك يضع عبد الناصر الغرب تحت رحمته؛ فهو يسيطر على قناة السويس وعلى البحر الأحمر، ومن ثَم يتحكم في الطريق البحري الذي يُنقَل عبره البترول إلى الغرب، كما أنَّ وجوده في اليمن يجعله المتحكم الفعلي في مناطق إنتاج البترول، لو تُرك له الحبل على غاربه؛ فهو يستطيع أن يُلحق ضررًا كبيرًا بالمصالح الغربية في المنطقة، وخاصةً أن لمصر علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفييتي. أما خطر عبد الناصر على المصالح الغربية في أفريقيا فلا حاجة لتأكيده، فضلًا عن تدخُّله غير المعلَن في عدن وجنوبي الجزيرة العربية والخليج.
ومضت ورقة العمل التركية تحدد الأطراف العربية التي تخشى على وجودها من اتساع مساحة الدور الإقليمي لمصر بزعامة عبد الناصر، فذكر الأردن والسعودية وليبيا، كما لفت النظر إلى توتُّر العلاقات العراقية-المصرية، والسورية-المصرية، ومن ثَم فإن الوقت ملائمٌ لتوجيه ضربة ضد عبد الناصر، تُقابَل بالتأييد من البلاد العربية في المنطقة.
وانتهت ورقة العمل التركية باقتراح خطة للتخلُّص من عبد الناصر، عن طريق تحويل الوجود المصري في اليمن إلى مستنقعٍ يصعب الخروج منه طوعًا، واتخاذه سبيلًا لاستنزاف قوة مصر العسكرية واقتصادها الوطني، يلي ذلك مساعدة إسرائيل على القيام بعملٍ عسكري كبير موجَّه ضد مصر في الوقت المناسب، الذي يحدَّد على ضوء استنزاف القوة المصرية العسكرية والاقتصادية في اليمن.
وثائق حِلف الأطلنطي
وقد عقد مجلس حلف الأطلنطي ثلاث جلسات لمناقشة ورقة العمل التركية، اطلعت على محضر الجلسة الأولى منها في النسخة البريطانية من وثائق الاجتماع، أما الجلستان الأخريان فلن يُسمَح بالاطلاع عليهما إلا بعد مرور خمسين عامًا «أي عام ٢٠١٤م».
وفي الجلسة الأولى «المتاح الاطلاع عليها» عارضت كلٌّ من اليونان وإيطاليا ما ذهب إليه الجانب التركي من أن عبد الناصر قد بلغ من الخطر حدًّا كبيرًا على مصالح الشعوب يتطلَّب تصفيته، بل ذهب الجانب اليوناني إلى حد استنكار اتهام عبد الناصر بالعمل في الشرق الأوسط لصالح السوفييت، وأكد أن عبد الناصر حريصٌ على استقلال بلاده، وأنه ربما يكون قد تجاوز الخط الأحمر بتدخُّله في اليمن، ولكن هذا التدخُّل مؤقت، بل إن زعامة عبد الناصر تشكِّل عنصر استقرارٍ سياسي في المنطقة، وأكد الجانب الإيطالي أن سياسة عبد الناصر تجاه الغرب تتسم بالاعتدال، وأن سياسة مصر الخارجية متوازنة، فيما يتصل بالعلاقة مع كلٍّ من الغرب والاتحاد السوفييتي، أما الجانب الفرنسي فطالب بعدم التسرُّع في استخلاص النتائج قبل دراسة الوضع دراسة متأنية، لأنه يرى أن المخاوف التركية لا تخلو من مبالغة لا مُبرِّر لها.
تصفية عبد الناصر
ونحن لا ندري ما تم التوصُّل إليه في الجلستين التاليتين اللتين تدخلان في نطاق السرية، ولكننا نعتقد أن فيهما، تحديدًا، أكثر وضوحًا لما استقر عليه الرأي بالنسبة لخطة «تصفية عبد الناصر»، ولا ندري ما إذا كان جميع المشاركين في الاجتماع على عِلم بها؛ فذلك ما سنعرفه تمامًا عند الكشف عن الوثائق الخاصة بالجلستَين، ولعل ما تمتاز به النسخة البريطانية من وثائق الأطلنطي اشتمالها على المشاورات الجانبية مع الجانب الأمريكي، واستطلاع آراء أصدقائها وحلفائها بالمنطقة، ومن بينهم الملك حسين.
لعل ما جاء بملفَّي الجلستين من اتفاقاتٍ جانبية يتضمَّن سيناريو ما حدث في ٥ يونيو ١٩٦٧م، خاصةً أن بريطانيا كانت تواقةً إلى الثأر من عبد الناصر لما لحق بها وبهيبتها في المنطقة والعالم، بعد فشلها في تحقيق أهداف حرب السويس ١٩٥٦م.
ودليلنا على ذلك التصعيد المستمر للموقف ضد الوجود المصري في اليمن منذ ١٩٦٤م، واستخدام المرتزقة من مختلف الجنسيات الأوروبية، وعمليات نقل السلاح إلى اليمن التي فضحها الطيَّارون العرب، والانقسام الذي حدث بين قيادات الثورة اليمنية ذاتها، كل ذلك يبيِّن بوضوحٍ أن اقتراح تحويل اليمن إلى مستنقعٍ يصعب الخروج منه بسلامٍ يستهدف استنزاف قوة مصر العسكرية والاقتصادية قد تحقق بالفعل على مدى السنوات الثلاث ١٩٦٤–١٩٦٧م.
كذلك يتضح دور إسرائيل في التحرُّش بمصر في الإعلان عن مشروع تحويل مجرى نهر الأردن، بما ترتب عليه من تصعيدٍ مستمر للتوتر، حاول عبد الناصر احتواءه عن طريق مؤتمرات القمة. فلم يكن الدخول في حربٍ ضد إسرائيل، يومًا ما على جدول أعمال عبد الناصر، بل صرَّح ذات مرة في خطابٍ علني أنه ليس مستعدًّا في الدخول في حرب ضد إسرائيل إذا سعت لجرِّنا إليها، ومن ثَم كان التصعيد الإسرائيلي للموقف له دلالته باعتباره من المقترحَات الأساسية التي أوردها الجانب التركي في خطة «تصفية عبد الناصر» التي عُرضَت على الاجتماع الوزاري لمجلس حلف الأطلنطي.
دليلٌ آخر على تركيز الاتفاق على اتخاذ إسرائيل رأس حربة لتنفيذ مخطط الغرب، الاتفاق الذي أبرمه رئيس الوزراء الإسرائيلي أشكول مع الرئيس الأمريكي «جونسون» والذي وافق الأخير بموجبه على تزويد إسرائيل بأسلحة تضمن تفوقها على الدول الأربع المحيطة بها «مصر، وسوريا، ولبنان، والأردن» بنسبة ثلاثة أضعاف التسليح العربي، بعد أن كان الخط الثابت في السياسة الأمريكية تحقيق توازن بين قوة إسرائيل العسكرية وجيرانها العرب، وأعلن «أشكول» في مؤتمرٍ صحفي أثناء الزيارة أن إسرائيل تريد أن تتوسَّع لتوفِّر مكانًا لكل يهودي في العالم، حتى لو كان لا ينوي الهجرة إليها حاليًّا، وكان هذا استفزازًا علنيًّا واضحًا.
وفي غضون تلك الأيام اتخذ الكونجرس قرارًا في ٢٦ يناير ١٩٦٥م بوقف مبيعات القمح الأمريكي إلى مصر خدمةً لهدف الاستنزاف الاقتصادي لمصر؛ لأن البديل الوحيد أمام الحكومة المصرية هو شراء حاجة البلاد من القمح من السوق العالمية بأسعار السوق، بينما كانت مبيعات القمح الأمريكي تتضمَّن تسهيلاتٍ إيجابية لصالح مصر؛ فكان إيقاف مبيعات القمح الأمريكي لمصر ضربًا من الضغط لزيادة الأوضاع الاقتصادية حِدة في الوقت الذي ازداد فيه الإنفاق على القوات المصرية في اليمن زيادةً مُطَّردة.
كذلك قدَّمت ألمانيا الغربية لإسرائيل في الأسبوع الأخير من ديسمبر ١٩٦٤م، صفقةً ضخمة من السلاح تضمَّنت مدرعات، وطائرات، ومدافع، وقطعًا بحرية قيمتها مائة مليون دولار هدية دون مقابل، وكان ذلك بإيحاءٍ من الولايات المتحدة الأمريكية، وتحت رعايتها، مما فجَّر أزمة في العلاقات المصرية-الألمانية كانت على درجة كبيرة من الحدَّة، ولكن دلالة ذلك تعجُّل الولايات المتحدة لتحقيق التفوق العسكري الإسرائيلي الساحق تمهيدًا لقيام إسرائيل بلعب الدور الأخير في خطة «تصفية عبد الناصر» أو تصفية الدور الإقليمي لمصر، وتحقيق الحلم الصهيوني-الأمريكي.
وفي تاريخٍ معاصر لذلك التاريخ تقريبًا بدأت إسرائيل دخول النادي النووي ببناء مفاعل «ديمونة»، وبذلك حُسِم التفوق العسكري الإقليمي لصالحها، ولم يبقَ إلا الحصول على شهادة اعتراف بذلك على طريق شن حربٍ تُلحِق هزيمة مهينة بالعرب.
كانت المذكرة أو ورقة العمل التركية التي قُدِّمت للمجلس الوزاري لحلف الأطلنطي في شتاء ١٩٦٤م، ترى أن نجاح إسرائيل في إلحاق هزيمة بالعرب، أو احتلال أرضٍ عربية، سوف يكشف ظهر عبد الناصر، ويقضي على شعبيته، ويدفعه إلى ترك منصبه أو يقوم البعض بإسقاطه، ولكن لم يدُر بخلد وزير خارجية تركيا الذي صاغ الورقة أن الهزيمة التي ستُلحَق بالعرب ستكون بالحجم الذي كانت عليه في يونيو ١٩٦٧م، وإذا لم تكن الهزيمة قد حقَّقت هدف التخلُّص من عبد الناصر بسبب تمسُّك الجماهير به، فقد حققت الهزيمة الهدف الاستراتيجي الذي سعى إليه الغرب، وهو تحجيم مصر، وتصفية دورها الإقليمي.
ولا يعني نجاح خطة «تصفية عبد الناصر» أن نحمِّل أصحابها وحدهم وزر هزيمتنا في يونيو ١٩٦٧م، فلا شك أن عوامل داخلية كثيرة لعبت دورها الإيجابي في مساعدة الغرب على التخلُّص من دور مصر الإقليمي لتُعيد ترتيب أولوياتها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، في مرحلة لها طابعها الخاص من مراحل حقبة الحرب الباردة.
ولعل ما يدعم ما نذهب إليه من أن هزيمة يونيو ١٩٦٧م، تم إخراجها على يد حِلف الأطلنطي كفكرة ثم تبنَّتها الولايات المتحدة، ولعبت دور المنتِج لها بالتحالف مع إسرائيل وتركيا «صاحبة المشروع»، وكان من الطبيعي أن تُطلِع عليها بعض أصدقائها العرب الذين يهمهم التخلُّص من كابوس عبد الناصر.
لعل ما يدعم ذلك كله ما ذكره محمد حسنين هيكل في كتابه «الانفجار ١٩٦٧م» من أن الصحفي البريطاني «أنتوني بيرسوف» الذي كان يُعِد دراسة عن حادث سفينة التجسس الأمريكية «ليبرتي» التي أغرقها الطيران الإسرائيلي عمدًا؛ إذ جاء بدراسته أن مدير إدارة العمليات بالمخابرات المركزية الأمريكية عقد عدة اجتماعات عام ١٩٦٥م، مع مسئولين من الموساد، لبحث متى يمكن التخلُّص من عبد الناصر وكيف، وأن رأيهم استقر على إمكانية تحقيق ذلك من خلال هزيمة عسكرية في مواجهة بين مصر وإسرائيل تضعه في موقفٍ لا يستطيع الانتصار فيه، فإذا تراجع أو هُزم كانت نهايته.
وأشار إلى أن عقد الاجتماعات استمر بين الطرفَين في تل أبيب وفي واشنطن، وحضر تلك الاجتماعات بعض ضباط الأركان الإسرائيليين، وقد تقرَّر في هذه الاجتماعات شن حربٍ يمكن احتواؤها بين مصر وإسرائيل لا تمتد إلى الأردن وسوريا، وتم الاتفاق على استغلال مواقف عبد الناصر المتشددة، وتأييد السوفييت له، وكذلك الوضع في سوريا لإثارة الرأي العام وتهيئته لقبول الحرب، على أن تقع الحرب في إطارٍ يمكن احتواؤه، مع الاحتفاظ بعلاقاتٍ وثيقة مع الحكام العرب الذين يتمنَّون التخلُّص من عبد الناصر، مثل حسين وفيصل.
ويذكر هيكل، نقلًا عن بيرسون، أنه نظرًا لأهمية خطة احتواء الحرب، وتحديد إطارها بهزيمة مصر وحدها كان وجود السفينة «ليبرتي» لتضمن التزام الإسرائيليين بما تم الاتفاق عليه، ولكن إقدام إسرائيل على تنفيذ خطة تقوم على توسيع نطاق العمليات للاستيلاء على مجمَل أرض فلسطين، وتقدُّمها السريع في سيناء والجولان، جعلها تقصف السفينة وتُغرقها حتى لا تتحرك الولايات المتحدة لإلزامها بما اتُّفق عليه.
غير أن الولايات المتحدة غفرت لحليفتها هذه الجريمة بعدما استطاعت أن تحقِّق ما لم يدُر بخلد أمريكا، فإذا كانت إسرائيل قد استطاعت أن تفرض تفوقها الإقليمي؛ فقد نجحت في تحجيم مصر وتصفية دورها الإقليمي، وهو ما كانت تتمنَّاه الولايات المتحدة الأمريكية.
ترى … هل بدأ المشروع العُدواني على مائدة مجلس وزراء الأطلنطي، ثم تبنَّته أمريكا ونفَّذته بالاشتراك مع إسرائيل، أم أن أطرافًا أخرى في الحلف ساهمت في المشروع؟! إن كشف ما دار في الاجتماعَين الثاني والثالث لمجلس وزراء حلف الأطلنطي سيُلقي الضوء على حقيقة الأمر، وإن عام ٢٠١٤م لناظره قريب.