تنظيم الضباط الأحرار في مذكرات رجال الثورة١

تُعَد المذكرات التي ينشرها بعض مَن يشاركون في صُنع الأحداث في بلادهم، مصدرًا مهمًّا لدراسة ذلك الحدث، أو تلك الحقبة التي لعب فيها صاحب المذكرات دورًا في الحياة السياسية لبلاده، غير أن المذكِّرات لا تتساوى بعضها مع البعض من حيث الأهمية التاريخية؛ فالحرص على تدوين مذكراتٍ عن الأعمال التي شارك السياسي في صُنعها يتطلَّب وعيًا عميقًا بالتاريخ، وحرص صاحب التجربة على أن يوصل صوته لمن يعنيهم أمر التأريخ للمرحلة، بقدر ما يحرص على أن تبدو صورته أمام الرأي العام على النحو الذي يريد.

وغالبًا ما تكون المذكِّرات التي يعتمد صاحبها في كتابتها على يوميات يسجِّل فيها الأحداث من زاوية رؤيته لها أولًا بأول أكثر قيمة من غيرها، ونادرًا ما يقع فيها خلط في الأحداث والوقائع، على عكس المذكرات التي يكتبها صاحبها بعد تقاعده من العمل العام معتمدًا على ذاكرة أوهنها الزمن، وهي التي نعتبرها، ذكريات لا يُعوَّل عليها كثيرًا كمصدرٍ للتاريخ.

ورغم نُضج الوعي بالتاريخ عند جمال عبد الناصر وعُمقه، لم يحاول — فيما نعلم — أن يسجِّل يوميَّاته التي كان من شأنها أن تقدِّم إضافة مهمة لمصادر دراسة ثورة يوليو، تسد الفراغ الكبير الذي تركه موته المفاجئ، دون أن تُتاح له فرصة كتابة المذكرات الخاصة به، أو إملائها على من يتولَّى صياغتها، ولعل ذلك يرجع إلى غلبة شخصية قائد التنظيم السري على التكوين النفسي لعبد الناصر — إذا صحَّ ما قيل — من تفضيله الأوامر الشفهية أو التوقيعات (التأشيرات) على ما يُعرَض عليه من أوراق، وألَّا يعرف معاونوه عمَّا يسنده إليهم من موضوعات إلا ما يريدهم هو أن يعرفوه؛ بحيث تظل الخيوط كلها مجمَّعة بين يديه.

وهناك أربعة — على الأقل — من رجال الثورة كان لديهم وعيٌ متميز بالتاريخ، وحرصٌ بالغ على تدوين مذكراتهم، يأتي أنور السادات في مقدِّمتهم؛ فقد كان أسبق زملائه إلى نشر مذكراته عن الكفاح الوطني فيما قبل الحرب العالمية الثانية وأثنائها، والسنوات الأولى للثورة، وهي المذكرات التي نشرها كتاب الهلال في يوليو ١٩٥٧م بعنوان «أسرار الثورة المصرية»، والذي تُرجم إلى الإنجليزية والفرنسية تحت عنوان «ثورة على ضفاف النيل».

ثم عاد أنور السادات إلى كتابة مذكراته مرة أخرى — في السنوات الأخيرة — من حكمه وعمره (معًا)، الذي حمل عنوان «البحث عن الذات»، والذي حرص فيه أن يرسم لنفسه صورةً براقة اقتضت صياغة المعلومات التي سبق له ذكرها في «أسرار الثورة المصرية» لتتفق مع ما يريد توصيله إلى القارئ.

فبعد أن كانت علاقته بعبد الناصر بعد التخرج من المدرسة الحربية (١٩٣٨م) في منقباد، تقوم على مشاركة مجموعة من الضباط الشبان الهم الوطني في أحاديث المساء داخل المعسكر، نجده ينسب تأسيس تنظيم الضباط الأحرار إلى هذا التاريخ، ويُوحي للقارئ أنه مؤسسه، وأنه أوكَل الأمر إلى جمال عبد الناصر عندما اعتُقِل في قضية الجاسوس الألماني أثناء الحرب (على نحو ما جاء في «البحث عن الذات»).

ومن أولئك الثُّوار الأربعة — أيضًا — عبد اللطيف البغدادي، الذي بدأ يكتب يومياته منذ أزمة مارس ١٩٥٤م حتى يترك للأجيال قضية النضال الوطني، والثورة التي كان مِن أبرز مَن شاركوا في صُنعها، ولكنه لم ينشر مذكراته التي اعتمد في كتابتها على يومياته إلا عام ١٩٧٧م.

وقد أثار نشر هذه المذكرات ثائرة أنور السادات؛ لأن دوره فيها يُغايِر الصورة التي كان يريد أن يرسخها في أذهان الرأي العام، إلى حد تحرُّكه «لتنظيم» الكتابة عن تاريخ الثورة، فشكَّل لجنة تسجيل تاريخ الثورة، لهذا الغرض، وأصدر قانونًا يحرِّم نشر الوثائق التاريخية قبل مرور خمسين عامًا دون الحصول على إذن مسبق. ولم يُلقَ الضوء على مذكرات البغدادي في وسائل الإعلام، ولم يُنشَر — فيما أذكر — إعلان عنها بالصحف سوى مرة واحدة، ومع ذلك تُعَد مذكرات البغدادي مصدرًا مهمًّا لدراسة تاريخ الثورة.

والثائر الثالث الذي ترك مذكرات عن دوره في الثورة هو محمد نجيب، الذي نشر كتابه «كلمتي للتاريخ» في بيروت عام ١٩٥٧م، وصدرت في الوقت نفسه ترجمة له بالإنجليزية بعنوان «مصير مصر»، وقد كتبها بعد إزاحته من السُّلطة أثناء وجوده في البيت الذي حُدِّدت فيه إقامته، ونجح في تهريبها إلى الخارج، ومُنِع تداول الكتاب في مصر بطبعتَيه العربية والإنجليزية، وأخيرًا أعيد طبعه في مصر (عام ١٩٨١م).

أما كتابه الآخر «كنتُ رئيسًا لمصر، مذكرات محمد نجيب» الذي نُشر عام ١٩٨٤م، فقد كتبه أحد الصحفيين مستخدمًا معلومات «كلمتي للتاريخ» إضافةً إلى أحاديث — أو قُل إن شئت «دردشات» — أجراها مع محمد نجيب في ظروفٍ كان الزمن قد فعل فعله بذاكرة الرجل، وزاد من حدة تأثيرها مدة الاعتقال الطويلة التي سلبته الحرية الشخصية، وأثَّرت على تقييمه للأمور.

أما الثائر الرابع الذي حرص على تسجيل يومياته عن الظرف التاريخي لقيام الثورة، ونشر مذكراته عنها في كتاب الهلال أيضًا فهو «جمال حمَّاد» صاحب «٢٣ يوليو أطول يوم في تاريخ مصر» (أبريل ١٩٨٣م)، الذي لا يكتفي فيه بشهادته، ولكنه يعرض ويمحِّص شهادات الآخرين، ويحلِّل شخصياتهم، ومن ثَم أصبح كتابه مرجعًا أساسيًّا عن تلك اللحظة التاريخية الفريدة في تاريخ مصر.

وفيما عدا ثروت عكاشة الذي نشر مذكرات مهمة عن دوره في ثورة يوليو، غلب عليها دوره في تأطير العمل الثقافي وتنميته، وتضمَّنت شهادته السياسية، ونُشرت في مجلدَين بعنوان «مذكراتي في السياسة والثقافة» ١٩٨٧م، فيما عدا هذا العمل الذي صاغه صاحبه بقلمه الرشيق، جاءت معظم المذكرات التي نشرها جمع كبير (نسبيًّا) من رجال الثورة مجرد ذكريات، أملوها في شيخوختهم على مَن صاغها، وأخرجها في كتابٍ يظهر اسمه في بعضها، ويتوارى في معظمها، ولكنها عندما تُنشَر تحمل اسم صاحبها.

من ذلك مذكرات كمال رفعت التي أعدَّها مصطفى طيبة، ونُشرت بعنوان «حرب التحرير الوطنية» (١٩٦٨م) وهي تتضمن تسجيلًا لأعمال الكفاح المسلَّح في منطقة القناة، كما تضم نصوصًا لبعض بيانات التنظيمات السِّرية ومنشوراتها، وخاصةً منشورات الضباط الأحرار.

من ذلك أيضًا؛ مذكرات عبد المنعم عبد الرءوف التي صاغها (بعد وفاة صاحبها) أحمد عيد، ونُشرت بعنوان «أرغمت فاروق على التنازل عن العرش» (١٩٨٨م)، ومذكرات حسين حمودة التي نُشرت بعنوان «أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمين» (١٩٨٥م)، وقد حرص كلٌّ من عبد المنعم عبد الرءوف، وحسين حمودة على نسبة الثورة للضباط الإخوان، مما يعني أن عبد الناصر «استولى» على التنظيم من الإخوان، وفتحه للضباط غير الملتزمين دينيًّا، فحاق بالثورة غضب الله، فكانت هزيمة ١٩٦٧م (!).

فقد بدأ عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وحسن إبراهيم وكمال الدين حسين نشاطهم السياسي في رحاب الإخوان المسلمين، بل وأقسم بعضهم يمين الولاء والبيعة للمرشد العام حسن البنا، ومن هنا يرى عبد الرءوف وحمودة أن ترك تنظيم الضباط الإخوان كان ردة، بل وسلبًا لدور الإخوان المسلمين، وعدم التزام بالشريعة (!).

ولا نجد فيما نُشر من كتبٍ تضمَّنت مذكراتٍ أو أوراقًا خاصة ما يحاول التقليل من شأن دور عبد الناصر في الثورة (على نحو ما فعل السادات في «البحث عن الذات») سوى تلك المجموعة من الأوراق التي أعدَّها أربعة من رجال الثورة بسلاح الفرسان (مصطفى نصير – عبد الحميد كفافي – سعد عبد الحفيظ – جمال منصور) والتي قاموا بجمعها تلبيةً لطلب لجنة تسجيل تاريخ الثورة، وأرفقوا بها مذكرة عن دور تنظيم ضباط الفرسان في ثورة يوليو.

وقد طَرق جمال منصور بعض الأبواب من أجل نشرها، ومن بينها باب عبد العظيم رمضان الذي سارع بنشرها ضمن سلسلة تاريخ المصريين (١٩٩٧م)، بعنوان «ثورة يوليو والحقيقة الغائبة»، وقدَّم الكتاب بمقدمة قصيرة أبدى فيها سعادته باكتشاف الحقيقة الغائبة، وهي أن هؤلاء الضباط الأربعة هم مؤسِّسو تنظيم الضباط الأحرار. وأن انضمام أصحاب الرتب الأكبر (جمال عبد الناصر ورفاقه) إليهم عام ١٩٤٩م، جعل حقيقة كونهم أصحاب الثورة تصبح غائبة، فلزم التصويب خدمةً لتاريخ مصر (على حد قولهم، وقول صاحب السلسلة التي نُشر فيها الكتاب).

شهادة يوسف صديق

كذلك نُشِر بالسلسلة نفسها (١٩٩٨م) كتاب يضم بعض أوراق يوسف صديق، تضمَّن شهادته أمام لجنة تسجيل تاريخ الثورة التي قدَّمها كتابةً، ومعها بعض الأوراق، وتتصل جميعًا بدوره البارز في الاستيلاء على قيادة القوات المسلحة ليلة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، والذي يُعزى إليه ما حققته الثورة من نجاحٍ في توجيه ضربتها الأولى للنظام، فاق كل التوقعات، ثم اختلافه مع مجلس قيادة الثورة حول قضية الديمقراطية.

وقد نشر أربعة آخرون من رجال الثورة ذكرياتهم عن أدوارهم في الثورة، تحت عناوين مختلفة، ويأتي في مقدمة هؤلاء خالد محيي الدين، الذي اختار لذكرياته عنوان «والآن أتكلم» (١٩٩٢م)، ثم حلمي السعيد، صاحب «شهادتي للأجيال»، وأحمد طعيمة صاحب «شاهد حقٍّ»، وقد نُشِر الكتابان الأخيران (عام ١٩٩٩م)، وأخيرًا ذكريات عبد المحسن أبو النور، التي حملت عنوان «الحقيقة عن ثورة يوليو» (٢٠٠١م).

وقد اعتمدت هذه الكتب على ما جادت به ذاكرة أصحابها، وعلى كتابات من سبقهم من زملائهم في نشر مذكراته، وقليلًا ما استخدم بعضهم بعض ما لديه من أوراق خاصة، أو نشر صورًا منها، ولكن حرص جميعهم على تزويد كُتبهم ببعض الصور التي تسجل شبابهم الباكر، وجوانب من الأدوار التي لعبوها في السلطة في عهد الثورة.

وإذا كانت هذه المذكرات التي ضمَّها (١٥) كتابًا قد سجَّلت رؤية أولئك الرجال الذين ساهموا في صنع ثورة يوليو، وشاركوا في مسيرتها، فقد تفاوتت — أحيانًا — رؤية بعضهم للتنظيم الذي خطط الثورة ونفَّذها وحدَّد مسيرتها، ونعني بذلك «تنظيم الضباط الأحرار»، وهذا ضد الاختلاف في الرؤية، إما لأسبابٍ سياسية نتجت عن طبيعة تكوين التنظيم من ضباط ذوي اتجاهاتٍ سياسية مختلفة، يجمعهم العمل الوطني، والرغبة في تقويض أركان النظام السياسي القائم، وما ترتب على هذا التبايُن في التوجهات السياسية من خلافٍ مع مجلس قيادة الثورة حول السياسة التي تم اتِّباعها بعد الاستيلاء على السلطة.

القضاء على الفساد السياسي

ويُفهَم من مجمَل تلك المذكرات، ومن غيرها من المصادر المتاحة، أن الجيش المصري أصبح يمُوج بالحركات السياسية التي انضم إليها الضباط الشبان، والتي كانت تهدف إلى تخليص البلاد من الوجود البريطاني، وتحقيق الاستقلال الوطني.

واتَّسعت آفاق بعضهم لتشمل القضاء على الفساد السياسي، وإقامة نظام ديمقراطي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأملت طبيعة الجيش على أولئك الضباط صيغة التنظيم السِّري، وكان الرباط الذي يجمع أعضاء التنظيم الواحد هو الصداقة والشعور الوطني، والرغبة في تحقيق الاستقلال.

وعلى حين رأى بعضهم في القيام بعملياتٍ محدودة ضد المعسكرات البريطانية والجنود الإنجليز تتضمَّن التخريب للمنشآت وقتل الأفراد، رأى بعضهم الآخر أن يمتد نشاطهم إلى اغتيال عملاء الإنجليز من الساسة المصريين، أما أولئك الذين التمسوا حلًّا أشمل للمسألة المصرية، يجعل مصر تتبوَّأ مكانتها اللائقة بها، ويحقق مستوى معيشة أفضل للمصريين، فراحوا يطرقون أبواب التنظيمات السياسية المدنية مثل: «الإخوان المسلمين» و«المنظمات الماركسية» و«حزب مصر الفتاة». وعلى حين استقر بعضهم في واحدٍ من تلك التنظيمات، مَر بعضهم الآخر عليها جميعًا، ثم رأى أن طريق الخلاص لمصر من قيودها وواقعها لا يمر عبر تلك التنظيمات.

وكانت المجموعة التي شكَّلت تنظيم الضباط الأحرار في أواخر عام ١٩٤٩م، وفي سبتمبر من ذلك العام (حسب رواية جمال حمَّاد) وكوَّنت اللجنة التأسيسية بقيادة جمال عبد الناصر، وعضوية ثمانية من الضباط هم: عبد المنعم عبد الرءوف، عبد الحكيم عامر، خالد محيي الدين، كمال الدين حسين، حسن إبراهيم، عبد اللطيف البغدادي، صلاح سالم، جمال سالم، وتم ضم أنور السادات فيما بعد (أواخر ١٩٥١م أو مطلع ١٩٥٢م)، بناءً على طلب عبد الناصر لصلاته بيوسف رشاد والحرس الحديدي، وبضابط المخابرات في السفارة البريطانية (على حد قول عبد الناصر لخالد محيي الدين) فكان ضمُّه يفيد التنظيم في التعامل مع الجهتين عند الحاجة لذلك.

وبدأ التنظيم يتصل بالتنظيمات الأخرى القائمة بالجيش لضم من يتوسَّمون فيه الرغبة في العمل معهم من الضباط، فتم ضم الضباط الإخوان كأفراد، وكذلك بعض أعضاء قسم الأحذية (الجيش) بتنظيم «حدتو» الماركسي كأفرادٍ أيضًا، لأن عبد الناصر كان حريصًا على استقلال التنظيم، وعدم وقوعه تحت سيطرة تنظيمٍ سياسي معيَّن؛ لذلك عندما تحدث خالد محيي الدين مع جمال منصور حول انضمام تنظيم ضباط الفرسان إلى الضباط الأحرار اشترط عبد الناصر أن ينضم أعضاء التنظيم كأفرادٍ أيضًا.

وقد بدأ استخدام عبارة «الضباط الأحرار» في أول منشور يصدر من التنظيم في فبراير ١٩٥٠م، على نحو ما يذكر كلٌّ من أحمد حمروش (قصة ثورة يوليو)، وخالد محيي الدين، وجمال حمَّاد. ولكن عبد المنعم عبد الرءوف يزعم أن تنظيم الإخوان كان يستخدم «الضباط الأحرار» على منشوراته بدلًا من «الإخوان الضباط» منذ الأربعينيات، وأن صاحب الفكرة هو الصاغ محمود لبيب وكيل الإخوان، وذلك بهدف تضليل الأمن.

ويحدِّد جمال منصور وزملاؤه الثلاثة، بداية تأسيس التنظيم عام ١٩٤٥م، ويزعمون أنهم هم أصحاب تسميته «الضباط الأحرار»، وأنهم بدءوا استخدامها عام ١٩٥٠م (أي بعد عام من انضمامهم فُرادى إلى التنظيم) وأن تنظيم «الفرسان» (الذين أسَّسوه عام ١٩٤٥م) كان يضم سبعين ضابطًا، من بينهم خالد محيي الدين، وأنهم أصحاب المبادئ الستة الشهيرة التي أخذها عنهم تنظيم «الضباط الأحرار».

الإخوان والعمل السري

أما «الإخوان الضباط» فيعزون لأنفسهم فضل تأسيس العمل السري في الجيش، فيعتبر عبد المنعم عبد الرءوف بداية تأسيس تنظيم «الإخوان الضباط» عام ١٩٤٢م بداية للعمل السري بالجيش، وإن كان يعترف أن عدد أفراد التنظيم بلغ سبعة ضباط عام ١٩٤٤م، وظل العدد ثابتًا حتى عام ١٩٤٦م، عندما قاموا بطقوس القسم والبيعة، وكان من هؤلاء السبعة؛ جمال عبد الناصر وخالد محيي الدين، وحسن إبراهيم، وكمال الدين حسين، وقد تركوا تنظيم الإخوان عام ١٩٤٧م، لأن عبد الناصر كان يرى أن الإخوان لا يعلنون — صراحةً — منهجًا سياسيًّا محدَّدًا فيما يتعلق بالقضية الوطنية، والإصلاح الاجتماعي، ويشعر بأن هدفهم هو السيطرة على تنظيم الضباط لتنفيذ أغراض الجماعة وحدها، فنفر هو وزملاؤه منهم.

وحتى بعد تشكيل التنظيم الخاص بهم (الضباط الأحرار) عام ١٩٤٩م، ظلُّوا ينظرون بعين الشك إلى نشاط عبد المنعم عبد الرءوف، الذي استمرت علاقته التنظيمية بالإخوان، مما أدَّى إلى تجميد عضويته بالتنظيم قبل قيام الثورة بثلاثة شهور، رغم استمرار علاقات المودة بينه وبين عبد الناصر وقيادات الإخوان المسلمين، الذين أبلغهم عبد الناصر بنفسه بموعد قيام الثورة قبل تحرُّك القوات المشاركة في الانقلاب بثلاثة أيام.

والحق أن تنظيمات الضباط في الجيش تعود إلى أوائل ١٩٤٠م؛ عندما تأسَّست أول خلية ثورية بسلاح الطيران، ضمَّت عبد اللطيف البغدادي، وحسن عزت وغيرهما من الضباط، وضمُّوا إليهم أنور السادات فيما بعد بتزكية من حسن عزت. وقد تزامنت التنظيمات بعضها مع البعض دون اتصال بينها حتى استطاع جمال عبد الناصر أن يكوِّن منها جبهةً واحدةً عام ١٩٤٩م، كانت بمثابة التنظيم البديل والموحَّد، وساعد ذلك على نمو التنظيم بشكلٍ عنقودي، بحيث يتولَّى كلُّ عضو تجنيد أربعة آخرين لتكوين خلية برئاسته بشرط، ألا يعرفوا من التنظيم سواه؛ إذ كان الأمن يأتي في مقدمة اهتمام اللجنة التأسيسية بقيادة جمال عبد الناصر، حتى لا يؤدي إهمال ذلك إلى تعرُّض التنظيم للخطر قبل أن يحقِّق أهدافه الوطنية.

وظل جمال عبد الناصر وحده يجمع كلَّ خيوط التنظيم بين يديه، ولعل ذلك يفسر ما يرِد كثيرًا في مذكرات رجال الثورة — سالفة الذكر — في أكثر من موضعٍ أن صاحب المذكرات تحدَّث مع أحد زملائه الضباط حول الأوضاع السياسية للبلاد، ثم يعرف — فيما بعد — أن زميله عضوٌ مثله في تنظيم الضباط الأحرار، بل من المفارقات الطريفة أن هذا الاكتشاف لرفاق التنظيم من زملاء السلاح تم ليلة الثورة، عندما وزَّعت قيادة التنظيم التكليفات على الضباط.

إن مذكرات الضباط الأحرار تقدم مصدرًا لا غنَى عنه، يدعم غيره من المصادر الضرورية لدراسة تاريخ الثورة، وتعدُّد المذكرات يساعد على تحقيق الشهادات المختلفة التي ترِد بهذه المذكرات، واستخلاص النتائج منها، ورغم اعتراضنا على مبدأ قيام هيئة حكومية بالانفراد بكتابة التاريخ، ومن ثَم إحجامنا عن التعاون مع لجنة تسجيل تاريخ الثورة، فإن الفضل يعود إلى هذه اللجنة في حثِّ الكثيرين من الضباط الأحرار إلى كتابة مذكراتهم، أو الإدلاء بشهاداتهم عن أدوارهم في مسيرة الثورة، وقد قامت اللجنة بتجميع كمٍّ هائل من الأوراق الخاصة من أيدي هؤلاء وغيرهم، ممن لعبوا دورًا في الحياة السياسية قبل الثورة وفي عهدها، وكان المكان الطبيعي لهذه الأوراق والمذكرات هو دار الوثائق القومية.

ولكن بعد انتهاء عمل لجنة تسجيل تاريخ الثورة، لا نعرف أين استقرت تلك الأوراق التي يتعذَّر كتابة تاريخ دقيق لثورة يوليو دون الرجوع إليها، ونأمل أن تعود يومًا من تغريبتها إلى مكانها الطبيعي «دار الوثائق القومية»، ولعل الاحتفال بالعيد الذهبي للثورة فرصة مناسبة لتحقيق ذلك.

١  مجلة الهلال، يوليو ٢٠٠٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥