هكذا تكلم خالد محيي الدين١

خالد محيي الدين من بين القلائل من صُناع ثورة يوليو الذين حظَوا بقبولٍ ملحوظٍ عند الجماهير، فضلًا عن تمتُّعه باحترام مَن يتفقون معه، ومَن يختلفون على حدٍّ سواء، ولعل ذلك يرجع إلى تمسُّك الرجل بمبادئه، التي لا يحيد عنها ولا يُساوم بها، وهي المبادئ نفسها التي نقلته من بؤرة الضوء في العامَين الأوَّلين للثورة إلى مساحة عريضة من الظلال، وهي المبادئ نفسها التي جعلته يُوقِف حياته لخدمة بلاده في حدود الهامش الضيق الذي أُتيح له، ولعل ذلك يرجع — أيضًا — إلى ما امتاز به الرجل من نزاهة وعزة نفس جعلته يترفَّع عن التورُّط في صراعات الصغار، ويتمسَّك بأسلوبٍ رفيع من الحوار السياسي.

وفي الشهر الماضي فاجأ خالد محيي الدين الرأي العام المصري والعربي بكتابه «والآن أتكلم»، الذي سبق ونشر بعض فصوله المهمة على صفحات «الأهرام» و«الأهالي» مما جعل مادته موضع حوارٍ بين المصريين على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية … في البيوت والشوارع ومواقع الإنتاج.

والكتاب — كما صرَّح بذلك مؤلفه — هو الجزء الأول من ثلاثة أجزاء وعد بإصدارها تباعًا، ويضم شهادته عن السنوات السابقة على الثورة (سنوات الإعداد)، ثم الأحداث التي شهدتها مصر مع بداية الثورة؛ من خلال موقعه في جماعة القيادة أو مجلس قيادة الثورة حتى خروجه من مصر في أعقاب أزمة مارس ١٩٥٤م، منفيًّا إلى سويسرا، ثم ذكرياته في المنفى حتى العودة قرب نهاية ١٩٥٥م.

صورٌ بلا رتوش

وسر الشعبية التي حظيت بها مذكرات خالد محيي الدين «والآن أتكلم» يعود إلى الأسلوب الرفيع الذي كُتبَت به، ولا أعني بذلك براعة اللغة وبلاغتها فحسب، بل أسلوب معالجة الأحداث التي تناولها الرجل، وخاصة عند حديثه عمَّن اختلف معهم في الرأي؛ فكان دائمًا يُقنِع القارئ بموضوعيته، فهو يتناول ما لتلك الشخصيات وما عليها، ويترك للقارئ الفطِن أن يدرك الأمور كما يشاء، فأنصف الجميع: عبد الناصر، والسادات، والبغدادي، وصلاح سالم، ومحمد نجيب وغيرهم، ولكنه رسم للجميع صورًا بلا رتوش، فكانت معالجة خالد محيي الدين دربًا من الكتابة السياسية الراقية، التي قال من خلالها ما يريد، دون أن يترك لأحدٍ فرصة مؤاخذته على شيء، ومن هنا يعبِّر الكتاب عن حنكة سياسية فائقة.

وقد كتب خالد محيي الدين مذكراته في صورة سيرة ذاتية، حدَّثنا فيها عن نشأته في بيت جده لأمه شيخ طريقة السادة النقشبندية، وكان من الممكن أن يخلف جدَّه في شياخة الطريقة لولا توجيهه وجهةً أخرى، ثم طفولته ورحلاته خلال العطلات الصيفية إلى بلدته «كفر شُكر»؛ حيث أسرته من الفلاحين الأثرياء، وتفتَّح وعيه السياسي في الثلاثينيات بمدرستَي فؤاد الأول، ثم فاروق الأول بالعباسية — حي الطبقة الوسطى المصرية عندئذٍ — ثم التحاقه بالكلية الحربية عام ١٩٣٨م بعد حصوله على شهادة الثقافة.

وهناك التقى بكثيرين ممن شاركوا في صُنع ثورة يوليو ١٩٥٢م بدرجاتٍ متفاوتة، منهم مجدي حسنين، ولطفي واكد، وثروت عكاشة، وحسن إبراهيم، وصلاح سالم، وكمال الدين حسين، وعبد اللطيف البغدادي، وصلاح هدايت، جميعهم من فتية الثلاثينيات الذين عاصروا أزمتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. رأَوا دستور ١٩٢٣م يترنَّح أمام ضربات القصر، وبهرت بعضهم الحركات السياسية المتأثرة بالفاشية؛ مصر الفتاة، والإخوان المسلمين.

خالد — نفسه — كان معجَبًا بأحمد حسين، زعيم مصر الفتاة، أيام كان طالبًا بالثانوي، كما طَرق مع جمال عبد الناصر باب الإخوان المسلمين نحو منتصف الأربعينيات قبل أن تستهويه الماركسية بتأثير صديقه عثمان فوزي، فانضم لإيسكرا أيامًا، ثم ما لبث أن تركها عندما وجد أن مسئول الضباط بالمنظمة موظف إداري بالجيش، واحتفظ بصداقة حميمة مع «حدتو» ورجالها (وخاصةً أحمد فؤاد) دون أن يرتبط بالمنظمة؛ تنفيذًا لطلب جمال عبد الناصر أن يظل أعضاء تنظيم الضباط الأحرار بعيدًا عن تأثير التنظيمات السياسية الأخرى.

اللقاء مع عبد الناصر

كان لقاؤه بجمال عبد الناصر عام ١٩٤٤م عن طريق عبد المنعم عبد الرءوف — الشخصية الغامضة حتى الآن — واستمر يعمل معه في تنظيم الضباط الأحرار منذ تأسيسه عام ١٩٤٩م، (وهو التاريخ الذي أكده المؤلف، ليقطع بذلك حِبال الشك التي مدَّتها الكتابات الأخرى حول بدايات التنظيم)، ويؤكد زعامة عبد الناصر للتنظيم منذ البداية، في ردٍّ غير مباشر على أراجيف السادات في «البحث عن الذات».

كان أعضاء التنظيم في السنوات الأولى يتفقون على هدفٍ واحد، هو إنهاء الفساد، وتحرير البلاد، دون أن يربطوا أنفسهم ببرنامج محدَّد. وعندما صاغ خالد محيي الدين ذلك البرنامج، وعرضه على لجنة القيادة تردَّد الجميع في تبنِّيه رسميًّا، وطلبوا من خالد أن يُطلِع عليه الضباط فقط، دون أن يتولى طباعته وتوزيعه، حتى اسم «الضباط الأحرار» الذي عُرف به التنظيم كان من اقتراح بعض ضباط «حدتو»، الذين انضمُّوا إلى التنظيم كأفراد.

حدث كل ذلك رغم أن التنظيم كان يمثِّل جبهةً وطنية، والبرنامج يمثِّل الإطار الذي يجمع حوله الجبهة الوطنية، غير أن عبد الناصر — على ما يبدو — لم يشأ أن يفتح الباب لجدلٍ نظري حول البرنامج، في الوقت الذي يتطلَّب فيه الموقف وحدة الجهود والقلوب؛ لذلك قبِل عبد الناصر انضمام ضباط من مختلف الاتجاهات إلى التنظيم؛ منهم مَن عُرفوا بميولهم الفاشية، ومنهم من كانوا أعضاءً في الإخوان المسلمين أو مناصرين لها، ومنهم من كانوا شيوعيين، ولكن … أحدًا لم يكن عضوًا بأي حزبٍ من الأحزاب الليبرالية — بما في ذلك الوفد — فقد كان شباب الثلاثينيات قد كفروا بتلك الأحزاب، مما سيكون له انعكاسه على موقف مجلس القيادة من الأحزاب بعد الثورة.

ومن الطريف أن كلَّ مَن عالجوا — في كتاباتهم — فترة الإعداد للثورة فهموا علاقة الضباط بالتنظيمات الأخرى فهمًا خاطئًا؛ فالإخوان المسلمين ينعون على جمال عبد الناصر نكثه بالوعد، وخروجه على التنظيم، وظن البعض أن عبد الناصر كان عضوًا «بحدتو» يحمل اسمًا حركيًّا هو موريس (وهي واقعة صحَّحها خالد محيي الدين عند حديثه عن منشورات الضباط؛ فقد كان هذا الاسم هو الذي استخدمه عبد الناصر عند استلامه المنشورات من أحد أعضاء حدتو من الأرمن المصريين ليس إلا)، وظل عبد الناصر يمارس لعبة دقيقةً حذِرة، وهي الاستفادة بكل هؤلاء لخدمة الهدف.

الرجل الكتوم

كان عبد الناصر يمسك بكل الخيوط داخل التنظيم قبل الثورة، وداخل مجلس قيادة الثورة بعد ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، ولم يكن يسمح لكل زميل من زملائه إلا بخيطٍ واحد فقط، ومن هنا جاءت روايات كل من كتب من رجال يوليو — بمن فيهم خالد محيي الدين — تعبِّر عن جانبٍ واحد مما حدث، هو ذلك الذي شارك فيه صاحب المذكرات وألمَّ به، وحتى عندما نجمع تلك الكتابات معًا، تظل هناك مساحات باهتة في الصورة، لا يمكن أن يوضحها إلا شخص واحد هو: ذلك الرجل الكتوم الذي كان يجيد الإصغاء إلى محدِّثيه، بينما عقله يعمل بدقة لربط كل شيء بعضه ببعض، ويحرِّك الجميع دون أن يستثيرهم، إنه جمال عبد الناصر.

ولكن لسوء حظ المؤرخين أن عبد الناصر لم يترك مذكرات خاصة، فمن اقتربوا منه يؤكدون أنه كان يميل إلى التعامل الشفوي بعد امتلاكه زمام السلطة، وكأنه كان يتَّبع أسلوب العمل السري ذاته؛ حيث يحرص على ألَّا يترك وراءه دليلًا يُستخدَم ضده، ولكن لا بد أن أوراق عبد الناصر تحمل الكثير، ولا يمكن أن يُكتَب تاريخٌ دقيقٌ لثورة يوليو دون الرجوع إلى تلك الأوراق، وإلى وثائق مجلس قيادة الثورة، ووثائق رئاسة الجمهورية في فترة حكم عبد الناصر، ولكنها ما زالت — للأسف الشديد — بعيدةً عن متناول المؤرخين، ولا ندري ماذا فعل السادات ورجاله بلجنة كتابة تاريخ الثورة التي شكَّلها، ولا نعرف أين ذهبت المادة التي جُمعَت، أو حتى طبيعة تلك المادة.

لقد قُيِّض لتاريخ أسرة محمد علي أن يُحفَظ من الضياع بفضل عزيمة الملك فؤاد الأول الذي أسَّس دار الوثائق التاريخية، وألحقها بقصر عابدين، وجمع الوثائق ورتَّبها، ونظَّم سلسلةً من الدراسات لتاريخ محمد علي وإبراهيم وإسماعيل؛ فأفادت هذه الوثائق كلَّ مَن كتب في تاريخ مصر. أما ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، فلم يُقيَّض لها مَن يحفظ تاريخها من الضياع، ومن هنا تأتي أهمية كتاب خالد محيي الدين باعتباره كشفًا عن أحد الخيوط التي أمسك بها عبد الناصر.

سياسة الباب الموارب

ودليلنا على أن عبد الناصر أبقى لنفسه الكثير مما لم يُطلِع عليه أقرب الناس إليه إلا بقدرٍ معلوم، ومما لم يُطلع عليه مجلس قيادة الثورة، أن كتاب خالد محيي الدين، وكذلك مذكرات كل من كتب من رجال يوليو جاءت خُلوًّا من ذكر أخطر التطورات التي كانت تجري على صعيد السياسة الخارجية، دون أن تُطرح على بساط البحث في مجلس قيادة الثورة، الذي تُركَت له، على ما يبدو، أمور السياسة الداخلية.

من تلك التطورات الاتصالات الأمريكية مع عبد الناصر بشأن إشراك مصر في منظومة الأحلاف التي تخطط لها الولايات المتحدة الأمريكية، ومُراوغة عبد الناصر على طريقة «الباب الموارب»؛ فلا يرفض صراحةً، ولا يقبل صراحةً، وإنما يطلب أولًا مساعدة الولايات المتحدة لمصر اقتصاديًّا، ومدَّها بالسلاح لتصبح ندًّا لغيرها، ومساعدتها على إنهاء الوجود البريطاني في مصر، وحل مشكلة فلسطين، حتى تُصبِح مطلَقة اليد في النظر إلى مسألة التحالف. في هذا السياق كانت الاتصالات المصرية الإسرائيلية التي ذكر خالد أنه سمع بها، وكانت من خلال الولايات المتحدة؛ وهي الاتصالات التي طلب فيها عبد الناصر تأمين اتصال أرضي بين مصر والشرق العربي من خلال جعل النقب عربيةً، وعندما رفضت إسرائيل، واعتبرت الموضوع ابتزازًا يهدف إلى بتر نصف أراضيها، تعلَّل عبد الناصر أمام الأمريكان بالتعنُّت الإسرائيلي، إلى غير ذلك من تفاصيل نجدها في الوثائق البريطانية والأمريكية، ولا نجد لها صدًى عند خالد محيي الدين ولا غيره.

وكان خالد واضحًا تمامًا عندما أكد أنه لم يكتب إلا ما شارك فيه، وما استطاع تحقيقه من أحداثٍ من خلال رفاقه من شهود العيان، ولذلك نفهم من غياب تلك الاتصالات — من روايته وروايات غيره — أن عبد الناصر كان يُدير أخطر الأمور منفردًا — حتى في ذلك الوقت المبكر — دون أن يُطلِع مجلس قيادة الثورة على فحوى تلك الاتصالات، أو بعبارة أخرى أدار عبد الناصر — على ما يبدو — دفَّة السلطة بالطريقة نفسها التي كان يدير بها دفَّة تنظيمه السري؛ التكتُّم الشديد والريبة والحذر، ولعل ذلك يفسِّر عشقه للمعلومات (الذي حدَّثنا عنه خالد) وحرصه على جمعها واهتمامه بأجهزتها حتى نمت نموًّا سرطانيًّا خنق النظام نفسه في نهاية الأمر، ولعل ذلك — أيضًا — يفسر اعتماد عبد الناصر على ضباط الصف الثاني الذين ملأ بهم المواقع الحسَّاسة في السلطة، رغم حداثة عهدهم بالتنظيم، وحرصه على التخلُّص من الحرس القديم تدريجيًّا، فلا عجب — إذن — أن نجد خالد يكتب بقلمٍ يقطر مرارةً عن تفشِّي نفوذ هؤلاء، رغم أن بعضهم حقَّق مكانته من خلال الوشاية بالآخرين أيام أزمة مارس ١٩٥٤م، ولكنها لعبة السيطرة الفردية التي أجادها عبد الناصر.

نجيب والضباط الأحرار

ومن الاكتشافات المهمة التي نجدها عند خالد محيي الدين ما ألقاه من أضواء على محمد نجيب، فهو يؤكد أن الرجل كان وثيق الصلة بالضباط الأحرار، شأنه شأن غيره من الضباط الوطنيين، وأنه كان يعلم بقيام الثورة ورئاسته لها، وإن كان خالد لم يقل إنه كان عضوًا بالتنظيم، فرتبته الرفيعة تحُول دون أن ينضم لتنظيمٍ يرأسه أحد صغار الضباط، ولكن خالد بدَّد أسطورة الاتجاه الديمقراطي لمحمد نجيب، مؤكدًا أنه كان دائمًا في صف الانصراف عن الديمقراطية، وأن السُّلطة كانت همَّه الأول؛ لذلك عندما أصبح مهدَّدًا بفقدها تمسَّك بأهداب الديمقراطية، علَّها تُبقيه في السلطة إذا كسب الجماهير في صفِّه ضد مجلس قيادة الثورة، ونجح في تحقيق أهدافه.

ويجرُّنا ذلك إلى الحديث عن قضية الديمقراطية التي تحتل جانبًا كبيرًا من كتاب خالد، والتي اختصم بسببها مع زملائه حتى ناقشوا أمر اعتقاله في مواجهته، ثم كلَّفه حريته، وأبعده عن السلطة عندما كان الوحيد الذي رفض مبدأ: إما الثورة وإما الديمقراطية، ذلك المبدأ الذي طرحه عبد الناصر على المجلس بعد أن غذَّى هذا الاتجاه مستشارو المجلس من رجال القانون (عبد الرازق السنهوري، وسليمان حافظ) ودعَّمته صحافة أخبار اليوم بالمقالات التي كان يكتبها مصطفى أمين وعلي أمين ضد الديمقراطية.

نموذج للطبقة الوسطى

لم يقف خالد محيي الدين وحده في صف الديمقراطية داخل مجلس القيادة، بل كان وحده الذي وقف في صفِّها في بيته، وبين أفراد أسرته، التي تُعَد نموذجًا دقيقًا للطبقة الوسطى المصرية.

والحق أن الديمقراطية الليبرالية، كما فهمها خالد، ودافع عنها، لم تُعطَ فرصةً حقيقية في التجربة المصرية؛ فقد جاء دستور ١٩٢٣م مُدعِّمًا للسلطة الأوتوقراطية للملك من خلال الصلاحيات التي كانت له؛ ومن بينها: حق تعطيل الدستور، وفض البرلمان، وإقالة الوزارة، وإصدار قوانين بمراسيم.

ومن ثَم كانت الانقلابات الدستورية التي أطاحت بدستور ١٩٢٣م، هذا فضلًا عمَّا شاب التجربة الليبرالية، في ظل الدستور، من سلبيات تمثَّلت في تزييف إرادة الشعب بالتلاعُب في صناديق الانتخاب، والتلاعب في تحديد الدوائر الانتخابية، والمحسوبية التي تمثَّلت في الاستثناءات الشهيرة، وإعلان الأحكام العُرفية لفتراتٍ طويلة، بما يتبعها من تقييد الحريات. وشاركت الأحزاب السياسية الليبرالية في ذلك كله بدرجاتٍ متفاوتة — بما في ذلك الوفد — مما جعل شباب الثلاثينيات (الذين جاء منهم رجال يوليو) يمقتون الليبرالية، ويبحثون عن بدائل لها، بل كان فساد الحكم والسيطرة الأجنبية على البلاد واقتصادها القومي من بين أسباب سخط الضباط الذين التفُّوا حول تنظيم الضباط الأحرار، وما لبث أن تمَّ الربط بين مثالب التجربة، وسلبياتها كما عرفتها مصر، والديمقراطية كنظامٍ سياسي، ولذلك كان اختبار مجلس القيادة القائم على استحالة الجمع بين الديمقراطية والثورة، الذي قُصد به استحالة استمرار الثورة مع عودة الأحزاب الليبرالية التقليدية، والحياة النيابية التقليدية له ما يبرره.

لم يكن الأمر يتطلَّب جهدًا خارقًا، أو مالًا وافرًا حتى يتحرك الشارع المصري ضد استمرار الديمقراطية، طالما ارتبط ذلك في أذهان الناس بتجربةٍ مريرة تمتد من ١٩٢٣م حتى ١٩٥٢م، لم يستطع النظام خلالها أن يحل أزمة مصر السياسية والاجتماعية. وارتسم في أذهان الجماهير أن عودة النظام السياسي بصيغته القديمة يعني ضياع المكاسب القليلة التي حققتها الثورة، وكان من المأمول أن تحقِّق ما هو أكثر منها، وخاصةً الإصلاح الزراعي وإلغاء الألقاب وغيرهما من المكاسب السريعة التي تحققت في العامين الأوَّلين للثورة؛ لذلك كان هناك ربط بين الديمقراطية وعودة النظام القديم، جعل من السهل أن تنفر الجماهير منها، وهي اللعبة التي لعبتها «أخبار اليوم» وصاحباها علي ومصطفى أمين؛ ومن ثَم كان الاختيار للثورة بغير ديمقراطية أمرًا متوقعًا، وهو ما لم يستوعبه خالد محيي الدين في ذلك الحين.

المشاركة في صُنع القرار

ومهما كان الأمر، فإن ما يثير الدهشة حقًّا ما أورده خالد محيي الدين عن موقف عبد الناصر من فكرة المشارَكة السياسية للشعب، عند لقائه مع ضباط المدفعية في اجتماع «الميس الأخضر» الشهير؛ إذ ذكر أن الشعب لا يستطيع تقدير مصلحته الحقيقية بسرعة، وربما لا تكفي ثلاث سنواتٍ كفترة انتقالية؛ لأنَّ الشعب لا يمكنه تحمُّل مسئولية الحرية، وقال: «الشعب الذي لا يستطيع أن يتحمَّل مسئولية الحرية، لا يمكنه أن يستمتع بها»! وفي اجتماعٍ آخر لمجلس قيادة الثورة وصفَ أحد الأعضاء الشعبَ المصري بعباراتٍ نابية، عفَّ قلم خالد عن ذكرها، وهنا نتساءل: هل خرج أولئك الضباط يحملون رءوسهم على أكُفِّهم في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م من أجل شعبٍ لا يتحمَّل مسئولية الحرية؟ أم خرجوا لتعليمه الحرية؟ وهل هناك علاقة بين هذا الفهم، وما قاله عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية يوم أطلق عليه الإخوان الرصاص «… زرعتُ فيكم العزة، زرعتُ فيكم الكرامة، إن مات جمال عبد الناصر، أو قُتِل جمال عبد الناصر، فكلكم جمال عبد الناصر»؟ هل خرجت طليعة الضباط الأحرار لتفرض وصاية طبقتها الاجتماعية (الطبقة الوسطى الصغيرة) على الجماهير المصرية؟

وهل لهذا كله علاقة بموقف جمال عبد الناصر من الجماهير طَوال حكمه؛ فهو يتعامل معها من خلال الإصلاحات الجذرية التي تخدم مصالحها، ولكنه لا يسمح لها بالمشاركة الحقيقية في صُنع القرار على أي مستوًى، والاكتفاء بتوجيه حركة الجماهير من خلال أجهزة الإعلام، والخطب السياسية، مما أدَّى إلى السلبية الشديدة التي نشكو منها، والتي قضت، في نهاية الأمر، على أهم ما حقَّقته ثورة يوليو من مكاسب، دون أن تتحرك الجماهير التي تعوَّدت أن تجلس في مقاعد المتفرجين للدفاع عنها.

وما زلنا نذكر خطبة عبد الناصر الشهيرة ردًّا على مظاهرات الطلبة عام ١٩٦٨م مطالبين بالحرية (عاوزين حكومة حرة … العيشة بقيت مُرَّة!) فأبدى عبد الناصر دهشته من المطالَبة بالحرية، وتساءل: أليست الحرية هي تكافؤ الفرص، وإتاحة الفرصة للجميع في التعليم والعمل؟!

في المنفى

وما كادت تنقشع أزمة مارس ١٩٥٤م بانتصار فكرة استمرار الثورة على حساب الديمقراطية حتى كان على عبد الناصر أن يتخلَّص من خالد محيي الدين؛ لأنه «زي العسل» ووجوده سيجلب حوله الذباب (يقصد الضباط المؤيدين للديمقراطية من رجال الفرسان)، وطلب منه أن يغادر البلاد إلى سويسرا؛ حيث ظل هناك مع أسرته منفيًّا، بينما أخذ نجم جمال عبد الناصر يرتفع كثيرًا حتى أصبح من قيادات العالم الثالث في أعقاب مؤتمر باندونج.

وسبق ذلك عقد صفقة السلاح مع الاتحاد السوفييتي، ورفض سياسة الأحلاف، وتبنِّي سياسة الحياد الإيجابي؛ كل تلك التطورات كانت دلالاتٍ على الاتجاه التقدُّمي للنظام، ولكن البوصلة كانت لا تزال تشير إلى عكس اتجاه الديمقراطية. ويبدو أن خالد محيي الدين قد استفاد من فترة المنفى في مراجعة تامة لموقفه، بدأت بتسجيل مذكراته في «الكراسة الزرقاء»، كما انكبَّ على القراءة في الأدبيات السياسية، وداعبته فكرة العودة لمتابعة النضال على أرض الوطن في إطار التغيُّرات التي حدثت، وشجَّعه على العودة — بل وألحَّ عليه في ذلك — هنري كورييل مؤسِّس «حدتو» الذي كان مهتمًّا عندئذٍ بفتح قنوات اتصال بين النظام الجديد في مصر وبين إسرائيل، سعيًا وراء إبرام سلام بين البلدَين يدعم وجود إسرائيل في المنطقة.

كانت هذه هي المرة الأولى التي يشير فيها خالد إلى كورييل، ولكنه لم يفسِّر لنا سر هذا التأثير السحري الذي تمتع به كورييل على المناضل المصري؛ فرسم له طريق الاتصال بعبد الناصر، وشجَّعه على الكتابة إليه، فهل كانت هناك صلة ما بين عبد الناصر وكورييل، عن طريق ثروت عكاشة الذي كان ملحقًا عسكريًّا بباريس، وكان على صِلة وثيقة بهنري كورييل، وهو الذي أعطى كورييل عنوان خالد في سويسرا، ورتَّبت اللقاء سيدة يهودية من «حدتو»، كانت زوجة لعثمان فوزي صديق خالد؟ هذه كلها تساؤلات تتضمَّن أبعادًا لا تزال خفيَّة، لا نجدها في كتاب خالد الذي لم يكتب — طبعًا — إلا ما أراد لنا أن نعرفه، وما زال يحتفظ — على ما يبدو — بالكثير.

وعلى كلٍّ، فإن كتاب خالد «والآن أتكلم» يضع بين أيدينا — كمشتغلين بالتاريخ — خيطًا جديدًا من خيوط ثورة يوليو ١٩٥٢م، ويُلقي أضواءً مهمة على جوانب كانت غير واضحة من أحداث الثورة، منذ أن كانت تنظيمًا جنينيًّا حتى اشتد عُودها. ولعل الجزأين التاليَين يلقيان المزيد من الأضواء على الأحداث التي عاصرها خالد من وراء كواليس السلطة. ويحدونا الأمل أن تجد ثورة يوليو ١٩٥٢م مَن يقتدي بالملك فؤاد فيُنقذ وثائق الثورة من الضياع، ويُتيحها للباحثين.

١  مجلة الهلال، مارس ١٩٩٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥