كمال الدين حسين؛ نموذجٌ لجيلٍ نادر١

ما كادت مصر تودِّع عبد اللطيف البغدادي إلى مثواه الأخير؛ حتى فوجئت برحيل كمال الدين حسين، رفيق نضاله وصديقه الحميم، ليلحقا معًا بمن رحل من زملائهم صُنَّاع ثورة يوليو ١٩٥٢م. رجال كانوا رمزًا لجيلٍ لم يكن له إلا هَمٌّ واحد يشغله، ويُوقِف حياته كلها من أجله، هَم تخليص مصر من الهيمنة الأجنبية، وتحقيق الاستقلال الوطني، والعمل على إيجاد سبيل لتحقيق العدالة الاجتماعية، والنهوض بالبلاد.

شغلهم الهَم الوطني وهم — بعد — فِتية صغار، وصاحبهم وهُم في شرخ الشباب، وتحدَّدت علاقة كلٍّ منهم بالثورة التي شارك في صُنعها على ضوء رؤيته لما يظنه الطريق الأمثل لتحقيق الأهداف الوطنية، ناضلوا بشرف، وابتعدوا عن الأضواء بعزة نفسٍ وكرامة، فلم تُسوِّل لأيٍّ منهم نفسه الانقلاب على الثورة، على نحو ما عرفته الدنيا من سلوك الضباط الذين يشاركون في الانقلابات العسكرية، في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا؛ فأولئك يدبِّرون الانقلابات بليلٍ لخدمة مصالح جهات معينة، خارجية وداخلية، أو بهدف الوصول إلى السُّلطة. أما «الضباط الأحرار» صُناع ثورة يوليو فكان خروجهم لقلب نظام الحكم جهادًا في سبيل الوطن، من أجل تحقيق غدٍ أفضل لبلادهم، وليس من أجل تحقيق مغانم شخصية لأنفسهم، أو لقوًى خارجية أو محلية.

انتمى كمال الدين حسين وزملاؤه من الضباط الأحرار إلى ذلك الجيل النادر الذي جاء إلى الدنيا قُبيل ثورة ١٩١٩م أو بُعيدها، وشنَّف آذانه في طفولته ما كان يسمعه من آبائه وإخوته الكبار ومعلِّميه من حوادث النضال الوطني خلال تلك الثورة المجيدة، وردَّد أناشيدها وتغنَّى بالعبارات الوطنية المتأجِّجة التي أُثِرت عن زعامتها، ولكن ما كاد يشبُّ عن الطوق، وتتسع مداركه، ويتفتح وعيه، حتى صدمته الحقيقة المُرَّة؛ إذ اكتشف أن كل ما قدَّمه الشعب المصري من تضحيات في ثورة ١٩١٩م من أجل تحقيق الاستقلال الوطني قد تبدَّد، فما حصلت عليه مصر من استقلالٍ في إطار تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م كان وهمًا وزيفًا. أصبحت مصر مملكةً دستوريةً، غير أن جيش الاحتلال ظل في مواقعه، والمندوب السامي البريطاني ظل يلعب دور المحرِّك الحقيقي لكل ما يدور على مسرح السياسة المصرية، والاقتصاد المصري ظل نهبًا للأجانب، وبقيت الامتيازات الأجنبية على ما كانت عليه؛ عقبةً في طريق التنمية الاقتصادية، وأداةً جعلت من المصري غريبًا في بلاده.

•••

أدرك أبناء ذلك الجيل البَون الشاسع بين ما بُذِل من تضحيات في ثورة ١٩١٩م، ومصر التي تفتَّح عليها وعيهم في أوائل الثلاثينيات، والتي كانت مرتعًا للإنجليز ومغنمًا للأجانب، يزداد فيها الأغنياء ثراءً، والفقراء فقرًا، تجمَّعت مقاليد السلطة في أيدي الإنجليز والقصر، وأصبح الحكم النيابي أُكذوبةً كبرى بعد العصف بدستور ١٩٢٣م، واستكانت النخبة السياسية الحاكمة إلى التفاوض مع المحتل الغاصب، كسبيلٍ لتحقيق الاستقلال؛ فخرجت من كل جولة من جولات التفاوض صفر اليدين.

وحين أُبرمَت معاهدة ١٩٣٦م، التي وصفها النحاس باشا بمعاهدة «الشرف والاستقلال» كانت مكاسب بريطانيا فيها كبيرة، ولم تكسب مصر إلا إلغاء الامتيازات الأجنبية عام ١٩٣٧م، ووجودًا رمزيًّا في السودان، وما لبثت الحرب العالمية الثانية أن كشفت حجم الغَرم الذي تحمَّلته مصر خدمةً لمصالح (حليفتها) بريطانيا بسبب معاهدة «الشرف والاستقلال». فلا غرابة — إذن — أن يكفر ذلك الجيل بالنظام السياسي الذي أقامه تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م، ودشَّنه دستور ١٩٢٣م، وأن يبحث عن بدائل لأطروحة «الليبرالية» الزائفة التي ادَّعاها ذلك النظام. ومن ثَم كان البحث عن بديل، إما بالسعي لتجربة أطروحات أيديولوجية، برزت على الساحة الدولية بعد الحرب الأولى كالاشتراكية والفاشية، أو تبنِّي صيغةٍ تراثية إسلامية، لعلَّ في هذه أو تلك يكمن العلاج الناجع لمعاناة الوطن.

وهكذا اتجه فريقٌ من أبناء ذلك الجيل إلى ارتياد مجال العمل الاشتراكي، وكسبَ التيار الفاشي أرضيةً واسعة بين الشباب، ممثَّلًا في حركة مصر الفتاة، وأخذت جماعة الإخوان المسلمين تجتذب أعدادًا من الشباب.

وعلى حين كانت جماهير الفلاحين والعُمال والأعيان تناصر الوفد باعتباره القيادة الوطنية التقليدية منذ ثورة ١٩١٩م، اتجه شباب الطبقة الوسطى بمختلف شرائحها إلى الانخراط في حركات الرفض الاجتماعي والسياسي الثلاث: الاشتراكية، والفاشية، والإخوانية، ولم يكن جيل صُناع ثورة يوليو استثناءً؛ فمن يبحث في جذور الانتماء السياسي والأيدلوجي للضباط الأحرار يجد من استقر منهم عند واحدةٍ من تلك الحركات، ومن اختار واحدة منها بعدما تجوَّل بينها جميعًا، ومن تقلَّب بين صفوفها جميعًا، ولكنه لم يرَ في أيٍّ منها الأمل الذي يسعى إليه لخلاص الوطن من معاناته السياسية والاجتماعية.

جيلٌ يتطلَّع إلى وطنه

وكان كمال الدين حسين ممن اجتذبتهم حركة الإخوان المسلمين، وتأثَّروا بها، وكان تأثُّر عبد اللطيف البغدادي أكثر بمصر الفتاة، بينما تجوَّل خالد محيي الدين بين تلك الحركات، واستقر على ضِفاف الحركة الاشتراكية، على حين مَر جمال عبد الناصر بها جميعًا، دون أن يجد في أيٍّ منها ضالته المنشودة لتحقيق ما كان يتطلَّع إلى تحقيقه لوطنه. جيل عانى القلق النبيل من أجل أمَّته؛ فكان رافضًا لأيدلوجية النظام السياسي القائم، وصاغ لنفسه فكرًا جاء مزيجًا غريبًا من أفكار حركات الرفض الاجتماعي والسياسي السالفة الذكر.

كان كمال الدين حسين واحدًا من أبناء ذلك الجيل، وُلِد عام ١٩١٨م لأسرة ريفية متوسطة الحال، والتحق بالكلية الحربية ضمن الدفعة التي قُبلَت بعد إبرام معاهدة ١٩٣٦م؛ إذ أوصى الإنجليز بالتوسُّع في قبول الطلاب بالكلية الحربية، تحسبًا للدور الذي قد يُوكَل إلى الجيش المصري لخدمة أهداف بريطانيا في الحرب العالمية الثانية.

واشتغل كمال الدين حسين بالعمل الوطني بين صفوف الضباط، الذين كوَّنوا خلايا سرية ثورية خلال الحرب العالمية الثانية، وانتمى إلى الإخوان المسلمين في مطلع الأربعينيات، وشارك جمال عبد الناصر في تدريب عناصر النظام الخاص (التنظيم السري للإخوان) على استخدام السلاح وفنون القتال، وبادر بالتطوُّع في كتائب القتال ضد الصهيونية في فلسطين عام ١٩٤٨م، تحت قيادة البطل أحمد عبد العزيز، ونقل عنه قوله إن المعركة الحقيقية ميدانها مصر، حيث بلغ الفساد السياسي ذروته، وشارك في حرب فلسطين عام ١٩٤٨م، عندما دخلتها الجيوش العربية ومن بينها جيش مصر؛ حيث أبلى بلاءً حسنًا كضابطٍ بسلاح المدفعية. وكان عضوًا مؤسِّسًا لتنظيم الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر عام ١٩٤٩م، وشارك في الإعداد للثورة، وكان عضوًا بارزًا في مجلس قيادة الثورة.

ولاءٌ لفكر الإخوان

وعلى النقيض من زملائه الضباط الأحرار الذين ارتبطوا بالإخوان المسلمين، مثل عبد المنعم عبد الرءوف، وحسين حمودة، كان ولاء كمال الدين حسين لتنظيم الضباط الأحرار وحده، منذ طلب عبد الناصر من زملائه قطع كل صلاتهم التنظيمية مع الحركات السياسية التي كان بعضهم ينتمي إليها، وإن ظل كمال الدين حسين منتميًا إلى فكر الإخوان المسلمين طوال حياته، وكان خروجه من السلطة عام ١٩٦٥م تعبيرًا عن موقفه الرافض لما أسفرت عنه محاكمات الإخوان، وما حاق بهم من معاملة لا إنسانية في المعتقلات.

وخلال مشاركته في السلطة على مدى ١٣ عامًا، قضى منها ست سنوات وزيرًا للتربية والتعليم، فوقع على عاتقه تنفيذ السياسة التعليمية للثورة، التي وسَّعت من قاعدة التعليم الابتدائي والعام، وتم تطوير التعليم الجامعي على نحوٍ أدى إلى إحكام قبضة الوزارة على الجامعات، من خلال رئاسة الوزير للمجلس الأعلى للجامعات.

كما أصبح كمال الدين حسين مسئولًا عن التعليم في الجمهورية العربية المتحدة خلال العامَين الأوَّلين للوحدة مع سوريا، وأصبح رئيسًا للمجلس التنفيذي في مصر (مجلس الوزراء) لفترة قصيرة (أقل من العام) انتهت بانفصال سوريا عن مصر، وانتهى به المَطاف نائبًا لرئيس الجمهورية، وعضوًا بمجلس الرئاسة.

ولعل المنصب الأخير رغم ضخامته النظرية كان من أسباب تبرُّم كمال الدين حسين، الذي أحس أن مشاركته في صُنع القرار أصبحت محدودةً، كما لم يشعر بالارتياح لتبنِّي النظام للاشتراكية، لتعارض ذلك مع اقتناعه الفكري.

وقد تأثر كمال الدين حسين تأثرًا شديدًا عندما فُرضَت عليه الإقامة الجبرية لفترة قصيرة، واعتكف تمامًا، ولكن ذلك لم يمنعه من الخروج من العُزلة، وعرض خدماته على عبد الناصر، عندما وقعت هزيمة يونيو ١٩٦٧م، كما لم يمنعه — أيضًا — من متابعة الأحداث، والانضمام إلى بعض رفاقه من الضباط الأحرار لمطالبة الرئيس السادات — عقب وفاة جمال عبد الناصر — بإعادة تشكيل مجلس قيادة الثورة، وهو الطلب الذي قُوبِل بالرفض والاستنكار من جانب السادات، ولعل ذلك الرفض كان وراء إصرار كمال الدين حسين على ترشيح نفسه لعضوية مجلس الشعب، ومعارضته الشديدة للسادات، التي انتهت بطرده من المجلس، وإسقاط عضويته، فعاد إلى العُزلة مرة أخرى حتى مات.

طهارة اليد

ولعل من أبرز ما يسجله التاريخ لكمال الدين حسين — وأمثاله من الضباط الأحرار — طهارة اليد؛ فرغم المناصب المهمة التي شغلها، لم يحقق لنفسه ولا لأهله مغانم مادية، وظل يعيش على معاشه الشهري وحده، وهي سِمة غالبة على رجال تلك الطليعة الثورية، التي أفنت شبابها في خدمة الوطن، وطوت قلوبها على همومه، وإن كانت هناك استثناءات محدودة لهذه القاعدة، إلا أن السِّمة الغالبة على أولئك الرجال هي الإخلاص في خدمة الوطن، وليس السعي إلى تكوين الثروات.

مات كمال الدين حسين بعدما شارك في صياغة حقبة من أهم حقب تاريخ هذا الوطن. ولمَّا كان أمينًا لمجلس قيادة الثورة، ومشارِكًا في السلطة في أهم سنوات ثورة يوليو، فلا شك أن لديه فيضًا من الأوراق الخاصة التي تحكي تاريخ تلك الحقبة، كما أن لديه مضابط اجتماعات مجلس قيادة الثورة، التي كان مُكلَّفًا بتسجيلها بنفسه، ولعل إنصاف هذا الرجل أمام التاريخ يبدأ بتجميع أوراقه الخاصة، وإيداعها دار الوثائق التاريخية القومية، لتصبح في متناول الباحثين في تاريخ مصر المعاصر، وهذه فرصة لتوجيه نداء لورثته حتى لا يضيع تراث هذا الرجل، الذي ساهم في صناعة ثورة يوليو المجيدة.

١  مجلة الهلال، أغسطس ١٩٩٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥