مراد غالب يتذكَّر١

الدكتور مراد غالب نجمٌ تألَّق في سماء الدبلوماسية المصرية مع ثورة يوليو ١٩٥٢م، ويُعَد من أبرز خبراء العالم بشئون الاتحاد السوفييتي؛ فقد خدم بسفارتنا بموسكو أربعة عشر عامًا، كان في معظمها سفيرًا، اقترب خلالها من دائرة صُنع القرار في الاتحاد السوفييتي، وربطته روابط الصداقة بقادة الاتحاد، وخاصة خروشوف، كما اقترب — أيضًا — من دائرة صُنع القرار في بلاده. في مكتب الرئيس جمال عبد الناصر، وفي وزارة الخارجية، وقد عدَّه الجميع «رجل عبد الناصر» وهي حقيقة يعتز بها ولا ينكرها، ولا شك أن رجلًا مثله لديه الكثير من المعلومات عن الحوادث التي شارك فيها، والتي شهدها، ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الذي صدر أخيرًا متضمنًا ذكرياته.

ورغم هذا الدور البارز الذي لعبه مراد غالب في السياسة المصرية زمن الحرب الباردة، لم يفكر الرجل في أن يدوِّن مذكراته عن عمله، بحجة أن ما قد يذكره ربما يسبِّب ضيقًا لبعض الشخصيات التي قد يأتي على ذكرها، وهو الطبيب الذي يداوي الجراح ولا ينكؤها، حتى استطاع الكاتب الأستاذ عاطف الغمري أن يقنعه بأن يروي له ذكرياته في جلساتٍ عقدها معه على مدى شهرين، كان عاطف الغمري فيها مستمعًا، يتوقَّف أحيانًا عند بعض الأمور، يناقشه فيها، حرص على أن يسجلها في المقدمة التي كتبها للكتاب الذي صدر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، بعنوان: «مع عبد الناصر والسادات: سنوات الانتصار وأيام المِحن، مذكرات مراد غالب»، عارضًا — بأمانة — لإجابات مراد غالب على ما طرحه عليه من تساؤلات.

وقد جاء الكتاب خُلوًّا من الحديث المستفيض عن فترة التكوين: الطفولة والصبا، وظروف النشأة، رغم أهميتها القصوى في تشكيل الشخصية، سوى معلومات مُقتضَبة ذكرها مراد غالب في معرض تأصيل علاقته بالضباط الأحرار. نعرف من تلك المعلومات أنه وُلِد بحي الصليبة بالقاهرة عام ١٩٢٢م، لأسرة لم يذكر عنها شيئًا، انتقلت للإقامة في حي مصر الجديدة بعد مولده بعامَين، وقد ربطته — أيام الدراسة بمدرسة مصر الجديدة الابتدائية — صداقةٌ حميمةٌ بثلاثة زملاء أصبحوا — فيما بعد — من الضباط الأحرار، هم كمال رفعت، وحسن التهامي، وصلاح دسوقي.

وامتدت الصداقة عبر المرحلة الثانوية بمدرسة القُبة الثانوية، ثم تفرَّقت بهم سُبل الدراسة؛ فتوجَّه مراد غالب إلى دراسة الطب، بينما أصبح أصدقاؤه الثلاثة ضباطًا، ربطتهم ظروف العمل الوطني بعضوية خلية سرية جعلتهم على صِلة حميمة بالفريق عزيز المصري، ومن هنا جاءت صلات مراد غالب بالضباط الأحرار، وبزعيمهم جمال عبد الناصر.

الخلفية السياسية

ويروي لنا مراد غالب كيف بدأ وعيه السياسي يتفتَّح كأحد المعجبين بالوفد في إطار ذكريات ثورة ١٩١٩م، وكفاح الوفد بزعامة مصطفى النحاس للمطالبة بالحقوق الدستورية للأمة، غير أنه تأثر بما كان يبثُّه ناظر المدرسة الابتدائية في تلاميذه من إعجابٍ أسطوري بالألمان، باعتبارهم العدو اللدود للإنجليز، الذين قد يساعدون مصر على التخلُّص منهم، كما أُعجِب بمصر الفتاة وزعيمها أحمد حسين، واهتم بالتعرُّف إلى الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية تحت تأثير الإعجاب بما حقَّقه الاتحاد السوفييتي من انتصارات، ولكن مراد غالب حرص على ألا يرتبط بأي حزب بروابط تنظيمية؛ فهو يريد أن يكون له تفكيره وموقفه المستقل، أقرب ما يكون إلى الليبرالية.

بهذه الخلفية السياسية بدأ مراد غالب عمله الدبلوماسي في ظروفٍ بالغة الطرافة؛ فقد كان مدرسًا للطب بجامعة الإسكندرية عند قيام الثورة، ونظرًا لصِلاته الحميمة بالفريق عزيز المصري، أصر الأخير عندما عرض عليه عبد الناصر منصب السفير في ألمانيا (١٩٥٣م) أن يكون في صُحبته أصدقاؤه الأربعة من الشباب: كمال رفعت، حسن التهامي، صلاح دسوقي، مراد غالب. فاعتذر له عبد الناصر عن عدم إمكانية الاستغناء عن الضباط الثلاثة في هذه الظروف، وكلَّف مراد غالب بهذه المهمة، فنُقِل من الجامعة ليشغل وظيفة السكرتير الثاني بالخارجية حتى يعمل مع عزيز المصري في ألمانيا.

ولكن العلاقات مع ألمانيا قُطعَت بسبب مسألة التعويضات التي قدمتها لإسرائيل، فتغيَّرت السفارة التي أُرسِل إليها عزيز المصري؛ فأصبحت موسكو بدلًا من بون، وهكذا بدأ مراد غالب عمله الدبلوماسي بالاتحاد السوفييتي، فتعلَّم اللغة الروسية ليتعرف على البلد وأهله وثقافته، حتى يخدم بلاده — في موقعه — على خير وجه.

مهمته الأولى بموسكو

كان عبد الناصر قد طلب منه استكشاف الاتحاد السوفييتي، والنظام السوفييتي، وكيفية الاستفادة منه في صراعٍ حيوي وخطير مع الغرب، ومدى إمكانية مدِّه لمصر بالبترول في حالة قيام الإنجليز بقطع إمدادات بترول خليج السويس، ومدى إمكانية شرائهم للقطن المصري في حالة تعرُّضنا للمقاطعة الغربية، وأخيرًا مدى إمكانية تقديم السلاح لمصر، ومهام كهذه كانت تتطلَّب معرفة جيدة بالاتحاد السوفييتي، حرص مراد غالب أن يُعِد نفسه لها خير إعداد.

وانتهت مهمة مراد غالب في موسكو في فبراير ١٩٥٧م، ليعمل في رئاسة الجمهورية في لجنة خاصة رأسها حسين ذو الفقار صبري، كانت تتولى دراسة القضايا المهمة، وبعد مناقشات مستفيضة تسجَّل في مضابطها، تُرفَع توصياتها لرئيس الجمهورية، وغالبًا ما كان رأي هذه اللجنة يرجِّح رأي الوزارات المعنية، وخاصة الخارجية. وقد سُميَت هذه اللجنة «لجنة الرئاسة»، ويشير مراد غالب إلى مهام المكاتب الأخرى بالرئاسة مثل مكتب الشئون العربية برئاسة كمال رفعت، ومكتب الشئون الأفريقية برئاسة محمد فايق، وكانت هذه المكاتب تمد الرئيس بالمعلومات، إضافةً إلى تقارير المخابرات، ومتابعة عبد الناصر للإذاعات. أما محمد حسنين هيكل فكان أحد المصادر المهمة للمعلومات عن الغرب، وأمريكا خاصةً، وكان تعامُله مع الرئيس مباشرةً.

ومن خلال وجود مراد غالب عضوًا بلجنة الرئاسة، كان الاحتكاك الأول مع المشير عبد الحكيم عامر، عندما أسند الرئيس إلى لجنة الرئاسة تقييم تجربة حرب ١٩٥٦م (العدوان الثلاثي)، وخاصةً أوجه القصور التي شابت أداء القوات المسلحة، وانتهت اللجنة من دراستها إلى نتيجة مؤدَّاها أن الحرب القادمة مع إسرائيل ستكون جوية، لسلاح الطيران فيها دور حاسم، وأن الأسلحة الأخرى سيكون الغرض منها السيطرة الميدانية واحتلال الأرض تحت الغطاء الجوي، فغضب المشير عندما أُبلِغ بتوصيات اللجنة، وعدَّه تدخلًا في شئون الجيش، وكان من بين القضايا التي درستها لجنة الرئاسة «الوحدة مع سوريا، وثورة العراق عام ١٩٥٨م، والتدخُّل الإنجليزي في الأردن والأمريكي في لبنان».

وفي عام ١٩٦٠م عُيِّن مراد غالب سفيرًا لمصر في الكونغو؛ حيث عاصر أزمته السياسية، ولعب دورًا مهمًّا فيها؛ إذ كان مصدر الصلة الوحيد مع «لومومبا» في مخبئه، وقام بتهريب زوجة «لومومبا» وأولاده إلى القاهرة، ولكن مقتل لومومبا وتولي موبوتو قلَب مقاليد الأمور، وغلَّب كفَّة المصالح الاستعمارية، فتم طرد السفير مراد غالب ورجاله، وأُغلِقت السفارة المصرية، والمعلومات التي يوردها مراد غالب عن الكونغو على درجة كبيرة من الأهمية.

بين عبد الناصر وعامر

ومرة أخرى، يجد مراد نفسه — دون أن يدري — طرفًا في لعبة الصراع بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر؛ فقد أعدَّت وزارة الخارجية العُدة لإيفاده إلى نيويورك رئيسًا للوفد المصري للأمم المتحدة، ومهدت لذلك في أوائل ١٩٦١م، بإرسال كل الطاقم الذي كان يعمل معه بسفارة مصر بالكونغو إلى نيويورك، ولكنه فُوجئ باختيار عبد الناصر له، سفيرًا في موسكو بدلًا من نور الدين قُرة مرشَّح المشير لهذا المنصب، ومن ثَم عامله المشير — في زيارته لموسكو — بتحفُّظٍ باعتباره «رجل عبد الناصر»، غير أن مراد غالب استطاع أن يذيب الجليد بينه وبين المشير، وأن يكسب ثقته.

سفيرًا في موسكو

وكان وجود مراد غالب سفيرًا في موسكو اختيارًا موفقًا؛ فقد استطاع أن يوحِّد عمل المكاتب المصرية المختلفة في موسكو تحت رئاسة السفير بعد أن كان كلٌّ منها يعمل بمعزلٍ عن السفارة، وكان ذلك موضع انتقاد السوفييت، وأصبح السفير قناة الاتصال الوحيدة بين الرئيس عبد الناصر والقيادة السوفييتية.

واستفادت مصر من صداقة مراد غالب لخروشوف استفادةً كبيرة؛ فقد استطاع أن يُزيل سوء التفاهم بين عبد الناصر وخروشوف خلال زيارة خروشوف لمصر (مايو ١٩٦٤م) للمشاركة في احتفالات السد العالي، وقد أورد في الكتاب الانتقادات التي وجَّهها خروشوف لتجربة التنمية في مصر، وما قدَّمه من نصائح في هذا الخصوص، وحرصه على تأكيد أن الاتحاد السوفييتي لا يود التدخل في شئون مصر؛ فاختيار الطريق الذي تسلكه من شأنها وحدها.

وقد كان خرشوف متفهمًا لظروف مصر، مقدِّرًا لعبد الناصر، مجيبًا لطلبات المساعدات التي تلقَّاها من مصر، متجاوزًا في ذلك صلاحياته، ويذكر مراد غالب أن من الأمور التي حُوسِب عليها خروشوف أمام اللجنة المركزية، وكانت من بين أسباب عزله في ١٤ سبتمبر ١٩٦٤م، إسرافه في تقديم المساعدات لمصر وكوبا، ورغم حساسية موقف مراد غالب باعتباره صديقًا حميمًا لخروشوف، استطاع أن يكسب ثقة القيادة الجديدة؛ فاستمر في عمله بنجاح، وأكدت القيادة السوفييتية حرصها على دعم مصر ومساعدتها.

أسرار حرب ٦٧

ويُلقي مراد غالب أضواءً على حرب يونيو ١٩٦٧م من الجانب الذي عمل معه، أي الجانب السوفييتي؛ فيتحدث عن خطة الخداع الاستراتيجي التي استخدمتها إسرائيل، من خلال إقناع الروس بأن هناك حشودًا إسرائيلية على حدود سوريا، ويُرجِع مراد غالب ذلك إلى إمكانية وجود اختراق إسرائيلي للمخابرات الروسية، وكذلك الدور الذي لعبه الروس في نصيحة مصر بأن تتجنَّب القيام بالضربة الأولى (بناء على طلب الرئيس الأمريكي)، وقد استنتج مراد غالب من قدوم الملك حسين (ملك الأردن) المفاجئ إلى مصر، وطلبه من عبد الناصر تعيين قائد مصري للجبهة الأردنية (٣٠ مايو)، أنه كان ضالعًا في خطة التمويه الاستراتيجي لتوريط عبد الناصر في حربٍ قد يترتب عليها تصفية نظامه.

ونظرة من الجانب الآخر — الذي لم يرَه مراد غالب — جانب حلف الأطلنطي، تكشف وثائق الحلف أن اجتماعًا خاصًّا عُقِد على المستوى الوزاري عام ١٩٦٤م، وبناءً على طلب تركيا، لوضع خطة التخلُّص من عبد الناصر ونظامه عن طريق إلحاق هزيمة مهينة به، تُستخدَم فيها إسرائيل، من خلال خطة خداع استراتيجي محكمة، ووُزِّعت الأدوار (على ما يبدو) بين أعضاء الحلف (ومن بينهم الولايات المتحدة الأمريكية) وأصدقاء الغرب في المنطقة، وفي مقدمتهم الملك حسين.

ولعل أهم ما في الكتاب حديثه (بالغ الاقتضاب) عن موقف السوفييت من هزيمة ١٩٧٦م، وخاصةً أنهم استُخدموا في خطة الخداع الاستراتيجي، ورأيهم في كيفية تناول الكارثة التي ترتَّبت على الهزيمة؛ فيتحدث عن تردُّد السوفييت في مد مصر بالأسلحة الهجومية ذات الآثار الفعالة لموازنة ما لدى إسرائيل من نظائر لتلك الأسلحة، وكيف اضطر السوفييت — أمام تهديد عبد الناصر، بالاستقالة من منصبه — إلى قبول مد مصر بنظامٍ للدفاع الجوي، أدَّى إلى إنهاء الهجمات الإسرائيلية على العمق المصري في حرب الاستنزاف، وحسَّن وضع مصر فيها، وكذلك أشار مراد غالب إلى الدور الذي لعبه السوفييت في إعادة بناء القوات المسلحة من خلال الخبراء السوفييت، وما كان لحرب الاستنزاف من أثرٍ إيجابي لتدريب القادة والضباط على الحرب الفعلية، فكان له مردوده الإيجابي في حرب أكتوبر ١٩٧٣م.

ولو كان مراد غالب قد اهتم بكتابة مذكرات حقيقية مستفيضة، وليس مجرد ذكريات يرويها على الغير، لقدَّم لنا مذكرات بالغة القيمة، تتناول بتفصيلٍ أعمق الموقف السوفييتي من حرب يونيو، وحرب الاستنزاف، وما تصوَّروه سبيلًا لحل ما يُسمَّى بمشكلة الشرق الأوسط، ولا شك أن لدى مراد غالب معلومات بالغة الأهمية كان عليه أن يسجلها للتاريخ، فلديه وحده الإجابة عن عشرات التساؤلات المتعلِّقة بهذا الجانب من العلاقات المصرية-السوفييتية.

وكان حديث مراد غالب عن الأيام الأخيرة لعبد الناصر مؤثرًا؛ فقد كان الرجل يعاني من مرض السكر الخبيث الذي كانت له أثاره الخطيرة على الأوعية الدموية والقلب، ورغم ذلك كان يعمل الساعات الطويلة في جوٍّ دولي وإقليمي بالغ التوتر، وكان الروس ينصحون مراد غالب بأن يكاشفه بحقيقة مرضه حتى يتخفف من الأعباء ويتجنَّب التوتر.

والأضواء المحدودة الخافتة التي ألقاها مراد غالب على شخصية عبد الناصر، بالغة الأهمية، فهو يشير إلى أسلوب الرجل في العمل، وحرصه على جمع مقاليد السلطة في يده حتى يحقق أحلامه في بناء دولة قوية متحضرة، وأشار إلى موقفه من القُوى الكبرى، فرغم ميله إلى الغرب اضطر إلى التعامل مع السوفييت لمصلحة مصر الوطنية، ودعمًا لاستقلالها الوطني، وهنا أيضا لم يوفِّ غالب هذا الجانب حقَّه، رغم ما لديه من معلومات كثيرة ومهمة عنه.

فترة حكم السادات

ويروي لنا مراد غالب ما أصاب السوفييت من حيرة وهم يراقبون الأمور في مصر بعد رحيل عبد الناصر، وخاصةً عندما علموا أن هناك من يدعون في مجلس الأمن القومي إلى عدم تجديد مبادرة روجرز، ومعنى ذلك العودة إلى الأعمال العسكرية ضد إسرائيل في وقتٍ لم يتم فيه بعد تكوين الأطقم المصرية التي تعمل على حائط الصواريخ وشبكة الدفاع الجوي.

كما انزعج السوفييت لما طرحه السادات من فكرة الانسحاب الإسرائيلي ١٢ كيلو مترًا شرق القناة، على أن يتم تطهير القناة وفتحها للملاحة، ثم التفاوض حول السلام، لأن هذا العرض، لو قبلته إسرائيل سوف يؤدي إلى تثبيت أقدام إسرائيل في سيناء مع طول فترة تطهير القناة، وطول أمد المفاوضات، ولم يرتَح الروس إلا عندما رفض الأمريكان والإسرائيليون اقتراح السادات، كذلك أزعجهم تصفية السادات لرجال عبد الناصر (١٥ مايو)، وهنا يقدم مراد غالب شهادةً مهمة في حق من سماهم «رجال عبد الناصر». وما أسمتهم دعاية السادات «مراكز القُوى»، فذكر أنهم جميعًا كانوا على درجة عالية من الوطنية والتفاني في أداء مهامهم، وأن ولاءهم كان لمصر وعبد الناصر، ونفى أي شبهة قيام علاقة خاصة بين أيٍ منهم والسوفييت.

وأرجع الأزمة التي وقعت بينهم والسادات إلى أنهم كانوا منفذين للأوامر من الطراز الأول، يفعلون بدقة ما يؤمرون به، ولم يتم تدريبهم على اتخاذ المبادرة، والرؤية الخاصة، وقد أربكهم رحيل عبد الناصر، وجعلهم يتخبطون في التعامل مع السادات، وعندما أقيل علي صبري، لم يجدوا سوى سبيل التصرف السلبي بتقديم الاستقالات، ظنًّا منهم أن ذلك سيؤدي إلى نوع من الشلل للأجهزة المهمة التي كانت تحت إمرتهم، فعصف بهم السادات.

كان هذا هو التحليل الذي قدَّمه مراد غالب لجروميكو عندما أبدى له مخاوفه من الاتجاه اليميني للقيادة الجديدة في مصر، وكان غالب على يقين — بينه وبين نفسه — أن السادات سيسلك طريقًا مختلفًا، لاعتقاده أن أمريكا ستحل له القضية. ولكن السوفييت كانوا يتوجَّسون خيفةً من السادات؛ فأصروا على أن يوقِّع معهم معاهدة صداقة وتعاون.

وبعد انقضاء ثلاثة أشهر على توقيع المعاهدة، فوجئ مراد غالب بتعيينه وزير دولة للشئون الخارجية، وفهم من ذللك أن السادات يريد إبعاده عن موسكو، تمهيدًا لبداية سياسة جديدة تمامًا، وقد تحقق ظنه، فقد بدأ السادات يصدر من الإشارات ما ينم عن ضيقه بالسوفييت، وأحس أن هيكل — وكان وزيرًا للإعلام — يلعب دورًا مهمًّا في الاتصال بالسفراء الغربيين، والمشرف على المصالح الأمريكية، وأحس من مقابلات الأخير له أنه يريد التعرف على اتجاهات وزير خارجية عاش في موسكو سفيرًا لعشر سنوات، وقد تولى مراد غالب بناء على اقتراح السادات ومساعديه إجراء اتصال غير رسمي مع الإسرائيليين في الأمم المتحدة لم يسفر عن نتيجة، كما كلفه السادات بعد أن ظل بلا عمل نحو ثمانية أشهر، بالسفر إلى العراق والكويت وسيطًا في النزاع بين البلدين.

وأثناء وجوده ببغداد، أصدر السادات قرارًا بتعيينه وزيرًا للإعلام خلفًا لهيكل، ثم سُحبَت بعض اختصاصاته وأُعطيَت لعبد القادر حاتم، مما جعله يشعر بالضيق، ويحيل كل ما اتصل بالإعلام إلى حاتم، وشرح الظروف التي عيَّنه فيها السادات وزيرًا للوحدة مع ليبيا في مجلس الوزراء الليبي. وذهب لاستلام عمله في ليبيا يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣م، وكأن السادات سعى لإبعاده عن مصر عند قيام الحرب.

وقد روى مراد غالب ما حدث في حرب أكتوبر، وما صحبها من جهود دبلوماسية، وأخيرًا عيَّنه السادات سفيرًا، في يوغوسلافيا عام ١٩٧٤م، وبين كيف قدم استقالته بعد الإعلان عن زيارة السادات للقدس في ١٩ نوفمبر ١٩٧٧م.

وختم مراد غالب كتابه بإلقاء نظرة على رئاسة الجمهورية في عهد السادات، فتحدث عن رجال السادات الجدد، وعن إصرار الفريق صادق في كل الاجتماعات على إخراج الخبراء السوفييت من مصر، وأشار إلى أنه كان هناك اتفاق بين تيتو وعبد الناصر بالنسبة للوجود السوفييتي في مصر، يعطي الرئيس اليوغوسلافي الحق في الاتصال بالرئيس الأمريكي لإقناعه بمقايضة الوجود العسكري السوفييتي وإنهائه في مقابل انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتُلت عام ١٩٦٧م، غير أن هذا الاتفاق لم يجرب.

وحديث مراد غالب عن «رجال السادات» على اقتضابه الشديد بالغ الأهمية، وخاصةً حديثه عن أسلوب عمل السادات، وكنا ننتظر منه أن يستفيض في ذلك الحديث. وعلى كلٍّ فهذه «الذكريات» بالغة الأهمية، لعلها تقنع مراد غالب بأهمية كتابة «مذكرات» يعتمد في كتابتها على أوراقه الخاصة (ولا شك أن لديه منها ما يكفي لذلك) خدمةً لتاريخ الوطن الذي خدمه بإخلاص.

١  مجلة الهلال، فبراير ٢٠٠٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥