الفريق أول محمد فوزي والعسكرية المصرية١
ودَّعت مصر الفريق أول محمد فوزي، الذي لقي ربه بعد حياة حافلة بالخدمة الوطنية، تضعه في مقدمة بُناة الجيش المصري الحديث، ليس فقط من خلال تربيته لأفواجٍ من الضباط الذين تعلَّموا على يديه أستاذًا بالكلية الحربية ومديرًا؛ لما يربو على الخمسة عشر عامًا، ولكن لفضله ودوره في جمع ما بقي من حُطام القوات المسلحة بعد كارثة يونيو ١٩٦٧م، الذي أعاد به بناء الجيش المصري في زمنٍ قياسي لم يتجاوز السنوات الثلاث، حتى أصبح مهيًّأ لخوض معركة التحرير، وهي السنوات التي شهدت بحقٍّ حربًا متصلة مع العدو، زوَّدت القوات المسلحة بالخبرات التي مكَّنتها — فيما بعد — من كسر أسطورة التفوق الإسرائيلي، وتحقيق التوازن العسكري مع العدو؛ عُدةً وأداءً؛ حتى استطاعت مصر أن تحقق ما تم إنجازه في حرب أكتوبر ١٩٧٣م، فكانت عملية إعادة بناء القوات المسلحة، وإبقاء جذوة المعركة متقدة، في الوقت نفسه، إنجازًا تاريخيًّا على درجة عالية من القيمة، حقَّقته هِمة الفريق أول محمد فوزي.
وإذا كان محمد فوزي لم يستطع استيعاب سياسة أنور السادات التي اتَّجهت إلى تجميد قرار المعركة تمهيدًا للتحوُّل من استراتيجية المواجهة إلى استراتيجية المصالحة، فإن ذلك يرجع إلى اقتناعه تمامًا بأن «ما أُخذ بالقوة لا يُسترَد بغير القوة»، ويقينه من خطورة التوجُّه الجديد على بِنية القوات المسلحة، والخطط التي بُذِل في وضعها الدماء والعرق، ففضَّل فوزي أن يستقيل حتى يبرئ ذِمته من مغبَّة مسايرة التحوُّل الذي لا يرى فيه مصلحة بلاده، وقد كلَّفه ذلك الموقف حريته الشخصية لما يزيد على العامين، قضاهما في السجن تنفيذًا لحكم بالسجن خمسة عشر عامًا، أصدره مجلس عسكري عُقد خصِّيصَي لمحاكمته بتهمة «العصيان والتمرد»، تمامًا كما حوُكِم أحمد عرابي قبله بتسعين عامًا. وعندما خرج من السجن — بعد صدور عفو السادات عنه — لم ينقطع انشغاله بالهَم الوطني، ولم ينسَ مسئوليته أمام أمَّته وأجيال المستقبل من القادة العسكريين؛ فقدَّم خُلاصة تجاربه في مذكراتٍ نُشرَت في أربعة كتب ستظل مرجعًا تاريخيًّا مهمًّا لكل مَن يتصدَّى لكتابة تاريخ مصر المعاصر، وتاريخ القوات المسلحة المصرية.
وُلِد محمد فوزي في ٥ مارس ١٩١٥م، وكان والده البكباشي أمين أفندي فوزي ضابطًا بالجيش المصري، تُوفي قبل التحاق ابنه بالكلية الحربية عام ١٩٣٤م، ولذلك وردَ بملف محمد فوزي الطالب بالحربية اسم عبد الوهاب أفندي زهدي؛ سكرتير مدرسة الأورمان الابتدائية والمقيم بالعباسية كولي أمرٍ للطالب — ولعله كان خاله — ولا يعنينا من هذا إلا ما له من دلالة على الانتماء الاجتماعي لمحمد فوزي، فهو من أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة الصغيرة، التي اشتعلت من بين صفوفها جَذوة العمل الوطني على مَر تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وقدمت لمصر معظم روَّاد العمل الوطني والفكر والثقافة.
حصل محمد فوزي على الابتدائية عام ١٩٢٩م، وعلى الكفاءة عام ١٩٣٢م، وعلى شهادة البكالوريا (القسم الأدبي) عام ١٩٣٤م، والتحق في أكتوبر من العام نفسه بالكلية الحربية، وتخرَّج في يونيو عام ١٩٣٦م، ليُعيَّن ملازم أول بيادة (مُشاة)، وخدم خلال الحرب العالمية الثانية في الدفاع المضاد للطائرات عن القواعد البحرية الجوية في الإسكندرية وبورسعيد وقناة السويس، عامَي ١٩٤١-١٩٤٢م.
كما خدم في حرب فلسطين عام ١٩٤٨م، ولفت الأنظار إليه عندما طوَّر استخدام المدفعية المضادة للطائرات في تدمير أهداف أرضية؛ حيث دمَّر برج المياه الإسرائيلي في دير سنيد، وهو أمر غير مسبوق في استخدامات المدفعية المضادة للطائرات، وكان لقاء محمد فوزي مع جمال عبد الناصر في عام ١٩٤٨م على أرض فلسطين؛ حيث ربطتهما صداقة حميمة إلى جانب رفقة السلاح، فلا غرابة أن نجد محمد فوزي من أوائل من انضموا إلى تنظيم «الضباط الأحرار» في خلية كان يتولى مسئوليتها زكريا محيي الدين، وظل بعد قيام الثورة في موقعه كضابط بالقوات المسلحة؛ فلم يشغل باله بالعمل السياسي أو التطلُّع للمناصب على نحو ما فعل بعض زملائه من «الضباط الأحرار»، وأدَّى واجبه في الدفاع عن البلاد خلال العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦م.
وكان محمد فوزي قد حصل على شهادة أركان الحرب عام ١٩٥٢م وعُيِّن كبيرًا للمعلمين بالكلية الحربية عام ١٩٥٣م، ثم أصبح مديرًا للكلية الحربية عام ١٩٥٨م، وعُرِف بين الطلاب بالحزم والإفراط في الانضباط، حتى قيل إنهم أطلقوا عليه «الرجل الصخري»، ولكنهم كانوا يحبونه، ويرَون فيه القدوة والمثل الذي يُحتذَى، (وهي الصفات التي جعلت جمال عبد الناصر يختاره لحمل عبء إعادة بناء القوات المسلحة بعد كارثة ١٩٦٧م)، ولم يترك إدارة الكلية الحربية إلا ليُعيَّن رئيسًا لهيئة أركان حرب القوات المسلحة عام ١٩٦٤م، وليُصبِح — في الوقت نفسه — أمينًا مساعدًا عسكريًّا بالجامعة العربية، حتى عيَّنه جمال عبد الناصر في ١١ يونيو ١٩٦٧م قائدًا عامًّا للقوات المسلحة، ثم وزيرًا للحربية في ٢٠ / ١ / ١٩٦٨م.
إعادة تنظيم القوات المسلحة
توثَّقت صلة محمد فوزي بالرئيس جمال عبد الناصر بعد أن أصبح رئيسًا للأركان العامة، وبلغت ذروتها عام ١٩٦٦م، وكان هذا المنصب العسكري الرفيع قد أتاح لمحمد فوزي الوقوف على أحوال الجيش المصري وقدراته — عندئذٍ — وأعدَّ خطة شاملة لإعادة تنظيم القوات المسلحة على أُسس عملية؛ قد راعه تدهور مستوى القوات المسلحة، والقصور في تجهيز مسرح العمليات للمواجهة مع العدو، وخروج أعداد ضخمة من القادة والضباط من الخدمة لأسبابٍ سياسية خلال حقبة زمنية قصيرة؛ مما كان له آثاره السلبية في الخبرة العسكرية والتقاليد العسكرية المتوارثة.
ففيما بين ١٩٥٢–١٩٦٧م، كان عدد القادة والضباط الذين طُردوا من الخدمة يفوق كثيرًا عدد زملائهم المُحالين إلى التقاعد بحكم السن، أو الوفاة، أو الاستشهاد؛ مما نتج عنه عدم وجود تدرُّج هَرَمي مقرون بزمنٍ معقول للاحتفاظ بالخبرة العسكرية، كذلك لعب الصراع الخفي بين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر، وانفراد الأخير بالسلطة الفعلية على القوات المسلحة، دورًا بارزًا في التأثير السلبي على صُنع القرار العسكري الاستراتيجي للدولة.
ناهيك عن فقدان القوات المسلحة المُسانَدة المعنوية من الشعب، بسبب الممارسات التي اتَّسمت باستعراض القوة واستغلال النفوذ، والخلط بين السلطات، وعدم الانضباط والتعالي والمبالغة الإعلامية في قدرات القوات المسلحة (مقولة أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط). كل ذلك جعل محمد فوزي يستشعر الخطر، ويفكر في تقديم «وصفة» لعلاج أمراض القوات المسلحة، ولمَّا كان ولاؤه للقائد الأعلى، صديقه القديم جمال عبد الناصر، فقد تحايل لتجاوز التسلسل القيادي الذي يُلزِمه بالاتصال بالمشير عامر أولًا، وقدَّم خطته لتطوير القوات المسلحة إلى الرئيس جمال عبد الناصر مباشرةً عام ١٩٦٦م.
كان الزمان صيف ١٩٦٦م، والمكان الإسكندرية، وقد استحسن عبد الناصر الخطة التي اقترحها محمد فوزي، ولكنه نصح بتأجيل مناقشتها حتى يتم الفراغ من المأزق الذي كانت تواجهه القوات المسلحة في اليمن، وفي التاسعة إلا الربع من صباح ٥ يونيو ١٩٦٧م، اتصل محمد فوزي تلفونيًّا بالرئيس عبد الناصر ليبلغه أن الكارثة قد وقعت؛ وهكذا لم تُتَح لمحمد فوزي فرصة تنفيذ فكرته لإعادة تنظيم القوات المسلحة إلا بعد كارثة ١٩٦٧م، عندما عُيِّن في ١١ يونيو ١٩٦٧م قائدًا عامًّا للقوات المسلحة، ولم يعُد الأمر أمر إعادة تنظيم، ولكنه أصبح إعادة بناء لحُطام القوات المسلحة في أصعب الظروف وأكثرها حرجًا. وقد كشفت المحنة عن معدن الرجل، وسجلت اسمه في مقدمة أسماء بناة الجيش المصري الحديث.
الصمود والمواجهة والتحدي
قسَّم محمد فوزي فترة السنوات الثلاث التي شهدت إعادة بناء القوات المسلحة إلى ثلاث مراحل هي: الصمود، والمواجهة، والتحدي والردع.
امتدت المرحلة الأولى من يوليو ١٩٦٧م حتى مارس ١٩٦٨م، وشهدت ضغوطًا سياسية للتوصُّل إلى حلٍّ منفرد مع إسرائيل بطريق التفاوض المباشر، وعلا مد الحرب النفسية لخفض معنويات القوات المسلحة والشعب المصري.
وجاء صمود القوات المسلحة المصرية من خلال ثلاث معارك صغيرة ناجحة ليُعيد الثقة في نفس المقاتل المصري. وكان إنشاء أول نسق دفاعي غرب القناة، وتماسك الجبهة الداخلية وراء قيادة عبد الناصر، وتأييد الدول العربية الذي تحقَّق في مؤتمر القمة بالخرطوم، واستمرار تدفُّق الأسلحة والمعدات من الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى؛ سندًا قويًّا للقوات المسلحة المصرية في مرحلة الصمود.
وشهدت الفترة من مارس ١٩٦٨م حتى بداية عام ١٩٦٩م مرحلة المواجهة، التي اتسمت بسرعة دوران عجلة تدريب وإعداد القوات المسلحة، واستكمال بناء التشكيلات الجديدة المقاتلة، ودفعها إلى منطقة التجميع الرئيسي غرب القناة، وإنشاء قيادتَي الجيشين الثاني والثالث الميدانيَّين، وتحمُّل مسئولياتهما في المنطقة الدفاعية، وبدء الانتقال إلى مرحلة الدفاع الإيجابي، والعمل ضد العدو شرق قناة السويس ليلًا ونهارًا بعملياتٍ برية، وهجمات جوية اتخذت طابع الاستنزاف لقوات العدو ومعداته، ومنشآته الميدانية.
فكانت مواجهة العدو وقتاله بروح الثأر أحسن فرصة لرفع كفاءة القوات المسلحة وقدرتها على القتال، والحصول على معلوماتٍ ميدانية قيِّمة عن العدو، كانت ذات فائدة كبيرة في المرحلة التالية، واتسع نطاق المواجهة جنوبًا ليشمل خليج السويس؛ مما زاد من أعباء العدو، واضطره إلى مواصلة تعبئة قواته حتى بدأ يشعر بالاستنزاف الحقيقي لقواته وموارده.
أما المرحلة الثالثة؛ فامتدت من مارس ١٩٦٩م حتى يوليو ١٩٧٠م، واتَّسمت بتحدِّي العدو والقيام بمبادراتٍ حربية من قواتنا ضد العدو في العمق التعبوي داخل سيناء بريًّا وجويًّا وبحريًّا، فوصلت إلى العريش شمالًا وإيلات جنوبًا، مما أجبر العدو على نشر قواته وزيادة عددها في مناطق بعيدة، واضطر إلى إشراك قواته الجوية في العمليات في عمق مصر وعلى خطوط المواجهة.
ولكن ردع قواتنا، وخاصةً الدفاع الجوي، وبدء إنشاء حائط الصواريخ «سام» الشهير غرب القناة، ووجود الطيارين السوفييت وعناصر الدفاع الجوي من الصواريخ في عمق مصر؛ منع العدو من استخدام قواته الجوية ضد العُمق المصري، وانتهت المرحلة بتحقيق خسائر في القوات الجوية للعدو، التي تعرَّضت لصواريخ سام، فتحوَّل العدو في سيناء إلى الدفاع التقليدي، وكان لهذه المرحلة مردودها السياسي، فبدأت الولايات المتحدة الأمريكية تتجه نحو طرح الحلول السلمية للتسوية الشاملة؛ فقدَّمت مشروع روجرز لوقف إطلاق النار المؤقت.
وعندما ناقش الرئيس جمال عبد الناصر مبادرة روجرز مع محمد فوزي رأى قبول وقف إطلاق النار لمدة تسعين يومًا حتى يتم خلالها استكمال بناء المواقع الاحتياطية لصواريخ الدفاع الجوي، وزحزحة حائط الصواريخ كله إلى الشاطئ الغربي لقناة السويس. وعندما تحدد وقف إطلاق النار في الواحدة من صباح ٨ / ٨ / ١٩٧٠م استطاع محمد فوزي تحريك أربع عشرة كتيبة صواريخ بعد غروب يوم ٧ / ٨ / ١٩٧٠م، لتصل إلى شاطئ القناة قبل الواحدة من صباح ٨ / ٨ / ١٩٧٠م، وبوقف إطلاق النار كانت القوات المسلحة قد وصلت إلى قدرات عسكرية ومعنوية عالية وإمكانيات بفضل المعارك المستمرة والصدام والمواجهة مع العدو التي استمرت طَوال ثلاث سنوات. وبالتدريب الشاق المتواصل في الوقت نفسه، كما تم اختبار جميع التشكيلات الميدانية في جميع أفرع القوات المسلحة على واجبات عمليات تحرير الأرض في إطارٍ من التنسيق والتعاون.
الخطة ٢٠٠ وتحرير الأرض
تم إعداد خطة تحرير الأرض (الخطة ٢٠٠) في خطٍّ موازٍ لعملية بناء القوات المسلحة وتنمية قدراتها القتالية، وكان يتم تطويرها كل ستة شهور، ويروي محمد فوزي أن الرئيس جمال عبد الناصر دعا إلى اجتماعٍ مصغَّر في آخر أغسطس حضره ممثِّلان عن مجلس الدفاع الوطني، هما وزير الخارجية ووزير الحربية لعرض الموقف السياسي والعسكري بعد وقف إطلاق النار المؤقت، وبعد مناقشة الموقف أقرَّ وزير الخارجية أن الموقف السياسي الخارجي لن يكون أفضل من الموقف الحالي. وأبدى محمد فوزي استعداد القوات المسلحة لبدء معركة التحرير فور انتهاء فترة وقف إطلاق النار، وأنهى الرئيس الاجتماع بعد أن حدَّد لفوزي استعداده للتصديق على خطط العملية الحربية المرحلية والشاملة لتحرير الأرض في مرسى مطروح في الأسبوع الأول من سبتمبر ١٩٧٠م.
وسافر محمد فوزي مع الرئيس بالقطار إلى مرسى مطروح ومعه ١٤ خريطة تشمل قرارات (الخطة ٢٠٠) الشاملة، والخطة (جرانيت) المرحلية، وكذلك خطة القوات المسلحة السورية لتحرير الجولان موقَّعًا عليها من وزير الدفاع السوري، أما الخطط المصرية فلم يكن ينقصها سوى توقيع الرئيس باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة. ويذكر فوزي أن الرئيس شُغِل بزيارة مفاجئة قام بها القذافي، ثم وقعت حوادث الأردن (أيلول الأسود)؛ فلم يتمكَّن من الانفراد بالرئيس عبد الناصر لتوقيع الخطط، ولكنه أبلغه شفويًّا بالتركيز على تنفيذ الخطة (جرانيت) المرحلية بعد انقضاء الفترة الأولى لوقف إطلاق النار في ٧ / ١١ / ١٩٧٠م، ولكن وفاة عبد الناصر في ٢٨ سبتمبر حالت دون استمرار التخطيط الزمني المقرَّر لبدء معركة التحرير.
ويؤكد محمد فوزي أن قياس قدرات قواتنا على قوات العدو في أواخر ١٩٧٠م وأوائل ١٩٧١م كانت لصالح قواتنا عددًا وتسليحًا وكفاءةً، وأن توقيت تنفيذ الخطط الموضوعة للتحرير، والتي تم التدريب عليها عمليًّا، كان توقيتًا مخطَّطًا تخطيطًا سليمًا. وقد أحسَّت إسرائيل بذلك الاختلال في ميزان القُوى فعزَّزت قواتها عامَي ١٩٧٢م و١٩٧٣م بتسليحٍ أمريكي إضافي، وخاصةً في قواتها الجوية والمدرَّعة، بما يوازي ثُلث قوتها العسكرية عام ١٩٧١م؛ وبذلك بدأ ميزان القُوى يتحوَّل لصالح إسرائيل ابتداءً من عام ١٩٧٣م، مما يؤكد — مرة أخرى — أن توقيت معركة التحرير في أواخر ١٩٧٠م أو أوائل ١٩٧١م كان توقيتًا سليمًا.
•••
كانت وفاة عبد الناصر وتصفية المقاومة الفلسطينية في الأردن في سبتمبر ١٩٧٠م لهما تأثيرهما على الموقف الاستراتيجي العربي عامةً، ولكنها لم تؤثر على التفوق العسكري العربي على إسرائيل، وبدأ السادات يرسل إشاراتٍ تلمِّح إلى استبعاد معركة تحرير الأرض بالقوة، عندما أعلن عن مبادرته من أجل حلٍّ جزئي في ٤ فبراير ١٩٧١م، موضِّحًا أمله في إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي عن طريق الحل السلمي، مما أدَّى إلى وقوع خلافاتٍ في الرأي بينه وبين المجموعة القيادية التي ورثها عن عبد الناصر، وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على موقف فوزي من الرئيس الجديد، الذي رأى أن يماطل ويسوِّف في تنفيذ خطة التحرير.
جندي لا تشغله السياسة
لقد كان محمد فوزي جنديًّا لا تشغله السياسة، إلا من زاوية تأثيرها على الموقف العسكري، ولم يسبق له أن تحرك إلى ميدان السياسة بعدما قامت الثورة، فقد ظل منكبًّا على أداء واجباته كضابطٍ ومعلم ومدير للكلية الحربية، واكتفى بدور المُراقِب للصراع السياسي، وصراع السلطة بين عبد الناصر وعامر دون أن يورِّط نفسه فيه، حتى إذا وجد نفسه في السلطة قائدًا عامًّا ووزيرًا للحربية لم تشغله السياسة طَوال عمله تحت قيادة عبد الناصر؛ إلا من زاوية هدفه وواجباته، وهو بناء القوات المسلحة، وتحرير التراب الوطني، وكاد يصل إلى تحقيق الهدف بالتحرك نحو معركة التحرير التي حدَّد عبد الناصر موعدها (شفويًّا) قبل أسبوعين من وفاته.
أمَّا السادات فله باعٌ طويل في السياسة وألاعيبها؛ جعله يبقى في دائرة السلطة طافيًا على السطح، وجاء موت عبد الناصر المفاجئ ليضعه في موقع القائد الأعلى للقوات المسلحة، فكان طبيعيًّا أن يتخلص ممن عملوا مع عبد الناصر، حتى يضمن عدم التعرُّض لتوجهاته السياسية الجديدة، وبعبارة أخرى كان الصدام الذي وقع بين السادات ومجموعة القادة الذين ورثهم عن عبد الناصر صدامًا متوقَّعًا؛ فلم يكونوا رجاله، كما أنه كان يريد أن يتبع أسلوبًا مختلفًا في العمل لن يستطيع اتِّباعه إلا إذا تخلَّص منهم؛ فكان الموقف من معركة التحرير فخًّا استطاع اصطيادهم به.
ونصب السادات الفخ عندما أرسل إشاراتٍ سياسة المصالحة التي أزعجت من عملوا تحت قيادة جمال عبد الناصر للثأر من هزيمة يونيو ١٩٦٧م، وشاركوا في تحمُّل مشقَّة إعادة بناء القوات المسلحة، وعلى رأسهم محمد فوزي الذي ألحَّ على السادات أن يصدِّق على خطة معركة التحرير، فراح يماطل ويسوِّف، ثم حدَّد موعدًا ولكنه رفض توقيع الوثائق الخاصة به، فلم يطق محمد فوزي صبرًا وهو يرى أن مرور الوقت لن يكون في صالح المعركة إذا انقضى الظرف التاريخي المناسب. ولما كان قائدًا عسكريًّا ملتزمًا استقال من منصبه وقبع في داره، وتبعته المجموعة التي ضمَّت رجال عبد الناصر؛ فكان ما كان من تعرُّضهم للتصفية فيما سُمِّي بثورة التصحيح، التي جعلت من ١٥ مايو ١٩٧١م بدايةً لشرعية جديدة استند إليها السادات، وجعلها قاعدة توجُّهه السياسي الجديد.
•••
وعندما اضطر السادات إلى تنفيذ خطة التحرير، لم يكن هناك مفرٌّ من الاقتصار على الجانب المرحلي مع تحجيمه، ليصبح أداةً لتحريك الحل السياسي؛ وهو ما تحقَّق في حرب أكتوبر ١٩٧٣م، ولكنه لم يستطع أن يُنكر فضل محمد فوزي؛ فأشاد به في أكثر من مناسبة، وما تحقَّق على يديه من إعادة بناء القوات المسلحة، وإعدادها لواجب التحرير، وكان حرص الرئيس محمد حسني مبارك على الاشتراك في تشييع جنازة فوزي تقديرًا لدوره التاريخي في خدمة وطنه وأمَّته.