الولايات المتحدة الأمريكية من العُزلة إلى الهيمنة١

حرصت الولايات المتحدة الأمريكية منذ استقلالها عن بريطانيا على أن تنأى بنفسها عن التورُّط في مشاكل العالم القديم، وأن يظل العالم الجديد بعيدًا عن تداخلات السياسة الأوروبية، فقد كانت أمامها مهمة طويلة شاقة تتمثل في بناء اقتصادها القومي، والتوسُّع غربًا في اتجاه المحيط الهادي، واستطاعت أن تحقق ذلك كله مع منتصف القرن التاسع عشر؛ حيث بلغت قامة الاقتصاد الأمريكي قامة اقتصاد بلاد أوروبا الغربية بفضل وفرة الموارد الطبيعية والمواد الخام، ونقل التكنولوجيا وتطويرها محليًّا على أيدي المهاجرين الأوروبيين، الذين قصدوا العالم الجديد بحثًا عن حياة أفضل.

وجاء مشروع قناة بنما ليحقق الاتصال البحري بين شرق البلاد وغربها، وبين قوتها البحرية في المحيطَين الأطلنطي والهادي، مما مكَّن الولايات المتحدة من أن تمد نطاق نشاطها التجاري إلى عالم المحيط الهادي؛ فأجبرت اليابان على فتح موانيها للتجارة (١٨٥٤م)، وأجبرت الصين على أن تمنحها نصيبها من الامتيازات التي حصلت عليها الدول الأوروبية في مواني الصين وتجارتها، كما بدأت تجارتها واستثماراتها تزحف على أمريكا الجنوبية، تسحب البساط من تحت أقدام القُوى الأوروبية ذات الوجود التاريخي هناك، حتى استطاعت أن تبرز كقوة اقتصادية ضخمة مع مشارف القرن العشرين.

كل ذلك وعلاقات الولايات المتحدة بالعالم القديم علاقات تجارية وثقافية محضة في إطار الحرص على إقامة علاقاتٍ ودية مع الجميع، وعدم التورُّط في نزاعات العالم القديم، ووضع «مبدأ مونرو» في مطلع عشرينيات القرن التاسع عشر أُسس سياسة العُزلة على أساس أن تظل أمريكا (العالم الجديد) للأمريكيين، أو بعبارة أخرى تظل الأمريكتان مجالًا حيويًّا للولايات المتحدة، لا تسمح لأوروبا بالتدخل فيه، في مقابل أن تظل الولايات المتحدة بعيدةً عن التدخل في صراعات أوروبا، وقد ساعدت تلك العُزلة الولايات المتحدة على بناء اقتصادها القومي مستفيدةً من موارد العام الجديد، معتمدةً على سوقها ذات الإمكانات الهائلة، دون أن تواجه بإنفاق عسكريٍ كبير تتطلَّبه السياسة العالمية الناشطة فيما لو فكرت في مثل تلك السياسة.

ورغم أن الرئيس ودرو ولسون فكر في كسر جدار العُزلة عندما مد يد العون للحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وأطلق مبادئه الشهيرة التي تضمَّنت حق تقرير المصير للشعوب الخاضعة للدولة العثمانية، كما تضمَّنت الدعوة لإقامة هيئة دولية تضم الأمم جميعًا، تسعى إلى حل الصراعات التي تنشب بينها بالطرق السلمية تحت اسم «عصبة الأمم»، إلا أن الرئيس الأمريكي لم يحظَ بتأييد الكونجرس الذي فضَّل التمسُّك بسياسة العُزلة؛ ولم يوافق على انضمام الولايات المتحدة إلى العصبة التي ساهم رئيسها، بفكره وجهده، في إنشائها.

وجدت جماعات الضغط الأمريكية من ممثِّلي الرأسمالية أن مصالحها التجارية واستثماراتها في العالم القديم تحتاج إلى سياسة تقوم على عدم التورُّط في مشاكله السياسية؛ حتى يستطيع الاستفادة من جميع الأطراف، فتتغلغل في نسيج النظام الرأسمالي العالمي دون أن تستثير ضدها ردود أفعال غير مواتية قد تجلبها سياسة التورط في مشاكل العالم القديم، والاضطرار إلى تحديد مواقف معينة قد تُغضِب أطرافًا بعينها، وتعود بالنتائج السلبية على المصالح الاقتصادية الأمريكية.

سياسة الباب المفتوح

وهكذا تبنَّت الولايات المتحدة، في فترة ما بين الحربين العالميتين، سياسة «الباب المفتوح»، التي تتيح لمصالحها الاقتصادية، وخاصة الاستثمارات والتجارة، فرصة الحركة في العالم القديم دون عائق. وفي إطار تلك السياسة الحذِرة استطاعت الولايات المتحدة أن تفتح الطريق أمام استثماراتها في بلادٍ كانت مناطق نفوذٍ لبلاد غرب أوروبا، من ذلك مثلًا الاستثمارات البترولية الأمريكية في العراق والسعودية.

كما ضمنت لتجارتها حرية الحركة دون التعرض إلا لمضايقاتٍ غير ذات بالٍ من جانب بريطانيا وفرنسا، وقد حققت هذه السياسة بُعدًا استراتيجيًّا جديدًا اكتسبته المصالح الأمريكية المتشعبة في العالم القديم؛ في أوروبا، والشرقَين الأقصى والأوسط، أملى على صُناع السياسة الأمريكية توجهاتٍ جديدة، بدأت تتبلور بخُطًى سريعة عند قيام الحرب العالمية الثانية، جذبت الولايات المتحدة إلى الساحة الدولية لتصبح اللاعب الرئيسي الذي يتصدَّى للدفاع عن مصالح العالم الغربي الرأسمالي في مواجهة العالم الشرقي الاشتراكي، الذي برز بعد الحرب بزعامة الاتحاد السوفييتي، فيما عُرِف «بالحرب الباردة» والتي انتهت عمليًّا عام ١٩٨٩م بالتغيرات الجذرية التي شهدتها أوروبا الشرقية، ثم بتفكُّك الاتحاد السوفييتي نفسه.

وهذه الرحلة القصيرة (بمعيار الزمن) التي نقلت الولايات المتحدة من موقف المتفرِّج القابع في جانب قصيٍّ من الساحة السياسة الدولية، يرقب ما يدور عليها، إلى لاعبٍ رئيسي على الساحة الدولية، تمثَّلت في الحرب العالمية الثانية، ولم تُجَر الولايات المتحدة جرًّا للعب دور رئيسي، وإنما أعدَّت نفسها خلال فترة ما بين الحربين للقيام بهذا الدور بعد تشعُّب مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.

ولم يغِب عن ذهن صُناع السياسة الأمريكية تهيئة بلادهم للعب هذا الدور منذ بدأت آفاق الموقف الدولي تتلبَّد بغيوم الحرب مع مطلع الثلاثينيات، فكان على الولايات المتحدة أن تتأهَّب للدفاع عن مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، وخاصةً أن اليابان — القوة الصاعدة في عالم المحيط الهادي — كانت تمثِّل تهديدًا لتلك المصالح، وكانت سياسة الولايات المتحدة في المحيط الهادي ترمي إلى مقاومة الأطماع اليابانية، ففرضت حكومة الرئيس روزفلت عقوباتٍ اقتصادية على اليابان (يوليو ١٩٤٠م).

وتدهورت — نتيجةً لذلك — العلاقات اليابانية الأمريكية، وخاصةً عندما قام الرئيس الأمريكي بتجميد الأموال اليابانية في البنوك الأمريكية ردًّا على غزو اليابان للهند الصينية، ثم ما لبثت اليابان أن شنَّت هجومها المفاجئ على قاعدة بيرل هاربور (٧ ديسمبر ١٩٤١م)، فأعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا الحرب على اليابان في اليوم التالي؛ مما دعا ألمانيا وإيطاليا (حليفتَي اليابان) إلى إعلان الحرب على الولايات المتحدة (في ١١ ديسمبر ١٩٤١م)، وبذلك أصبحت الولايات المتحدة طرفًا أصيلًا في الحرب العالمية الثانية، وقع عليها معظم عبء المجهود الحربي في المحيط الهادي حتى نهاية الحرب، كما وقع عليها عبء دعم جبهة الحلفاء في أوروبا وشمالي أفريقيا، فضلًا عن دعمهم اقتصاديًّا من خلال «قانون الإعارة والتأجير» الذي أصدره الرئيس الأمريكي ليتيح للحلفاء فرصة الحصول على ما يحتاجونه من مؤنٍ وعتاد.

وهكذا أصبحت الولايات المتحدة حليفًا أساسيًّا ضد المعسكر الفاشي بزعامة ألمانيا، وأدَّت أسلحة ترساناتها ومواردها أجلَّ الخدمات للحلفاء في أحلك الأوقات، وأتاح لها ذلك فرصة الاشتراك الكامل في الجهود الدبلوماسية للحلفاء لتنسيق المواقف قبيل نهاية الحرب، فأتيح لها حق الاشتراك في صياغة عالم ما بعد الحرب.

بل سعت بريطانيا في العامَين الأخيرين للحرب إلى التوصُّل إلى اتفاقٍ مع الولايات المتحدة حول تقسيم مناطق النفوذ في الأقاليم ذات الأهمية الاستراتيجية الخاصة، مثل الشرق الأوسط؛ فاستفادت الولايات المتحدة من المباحثات التي دارت بهذا الصدد في التعرُّف إلى أفكار حليفتها، دون أن تلتزم بشيء محدَّد. فقد أصبح واضحًا في أواخر الحرب أن الاتحاد السوفييتي سوف يبرز كقوة كبرى، وأن ثمة كتلة تتشكَّل في أوروبا الشرقية مشايعة له، كما أثبتت المراحل الأخيرة للحرب أن بريطانيا التي تزعَّمت غربي أوروبا قد أصبحت مُثخَنة بالجراح، وأنها لن تستطيع قيادة الغرب في عالم ما بعد الحرب لافتقارها إلى مؤهلات تلك القيادة، التي توافرت — في الوقت نفسه — للولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثَم بدأت الأخيرة تتهيَّأ للعب دورها الجديد.

وكان الأمر يحتاج إلى إصدار شهادة ميلاد للقوة الجديدة تُقنِع الأصدقاء، قبل الخصوم، بأهلية الولايات المتحدة لتلك الزعامة؛ فجاء ضرب هيروشيما ثم نجازاكي بالقنبلة الذرية (٦–٨ أغسطس ١٩٤٥م) رغم أن اليابان كانت على شفا الاستسلام، وكانت تتصل بالاتحاد السوفييتي ليُقنِع الحلفاء بشروط استسلامٍ معقولة؛ فقد جاء استخدام القنبلة الذرية إعلانًا عن مولِد القوة الجديدة، قصد به توجيه رسالة مزدوجة إلى الحليف اللدود (الاتحاد السوفييتي)، وإلى الحليف الودود (بريطانيا) مفادها أن لكل زمان دولة ورجالًا.

دور خطير لأمريكا

وهكذا لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورًا رئيسًا في صياغة تسويات ما بعد الحرب، وتقسيم ألمانيا، وإقامة هيئة الأمم المتحدة، التي اتخذت من نيويورك مقرًّا لها، وأصبحت واحدةً من القُوى الخمس الكبرى التي تمتعت بحق الفيتو في مجلس الأمن، ولعبت الدور الأكبر في صياغة ميثاق شمال الأطلنطي، الذي أوجد تحالفًا غربيًّا بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي نهاية عام ١٩٤٧م صدر «قانون معونة أوروبا» (الشهير بمشروع مارشال)، الذي قدَّمت الولايات المتحدة بمقتضاه معوناتٍ اقتصادية لإعادة تعمير بلاد الحلفاء؛ فدعم ذلك موقف الولايات المتحدة كزعيمة للعالم الغربي أمام شعوب تلك البلاد.

وتبنَّت الولايات المتحدة سياسة تصفية الاستعمار التقليدي القديم لتكسب ودَّ شعوب المستعمرات من ناحية؛ وتجتذبهم إلى سياسة الأحلاف التي تزعَّمتها لمواجهة الاتحاد السوفييتي وحماية المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الأمريكية، وخاصة أن الإمبريالية طوَّرت من نفسها، وأصبحت قادرةً على الهيمنة على شعوب العالم الثالث دون حاجة إلى الاحتلال العسكري، من خلال روابط التبعية الاقتصادية بين منتِجي المواد الأولية، ومستهلكي السلع المصنَّعة بالعالم الصناعي الرأسمالي الغربي، والتي تستند إلى تأييد القُوى المحلية المتعاونة مع الإمبريالية ودعمها.

كما تبنَّت الولايات المتحدة سياسة الأحلاف العسكرية الموجَّهة ضد الاتحاد السوفييتي والرامية إلى الهيمنة على المناطق الاستراتيجية المهمة، والسيطرة على بلادها، وتوجيه سياستها بما يخدم المصالح الأمريكية باسم التحالف؛ فراحت مشروعات الأحلاف تترى؛ من حلفٍ يحمل اسم «منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط» إلى حلفٍ يحمل اسم «الحزام الشمالي»، قصد به أن يضم تركيا، وإيران، وباكستان، وأفغانستان، وبلاد المشرق العربي، إلى حلفٍ أُطلق عليه اسم «الحزام المحمَّدي»، قُصِد به أن يضم البلاد الإسلامية الآسيوية، بما في ذلك إندونيسيا، ثم ما لبث أن استُبدل به حلف جنوب شرقي آسيا.

ورغم الجهود التي بذلتها بعض الحركات الوطنية لمقاومة سياسة الأحلاف، وخاصةً دور مصر بزعامة عبد الناصر في مقاومة حِلف الحزام الشمالي، الذي أصبح يُعرف باسم «حلف بغداد»، وقيام حركة عدم الانحياز — بجهود بعض زعماء العالم الثالث — لمقاومة سياسة الأحلاف، استطاعت الولايات المتحدة أن تقيم بعض تلك الأحلاف التي أعطتها مزايا استراتيجية مهمة، وأتاحت لها فرصة الحلول محل القُوى الاستعمارية التقليدية، باسم الأحلاف وما تتطلَّبه من إشرافٍ على القوات المسلحة للدول المشتركة فيها، والمعونات الاقتصادية التي تقدَّم في إطار الحلف، وما تتطلَّبه من توجيه لاقتصاد تلك الدول، وهي سياسة وُوجِهت بالرفض والمقاومة من جانب شعوب تلك الدول.

واقتضت استراتيجية الهيمنة على الساحة الدولية باسم مواجهة الشيوعية قيام الولايات المتحدة بالمساهمة الرئيسية في شن حربَين محليَّتين في آسيا، هما: حرب كوريا، وحرب فيتنام، بما ترتب عليها من نتائج سلبية عانت منها شعوب الشرق الأقصى وجنوب شرقي آسيا، غير أنها استخدمت أداة لتسويق نظام الأحلاف الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية، والذي أتاح لها الاحتفاظ بالعديد من القواعد العسكرية في المحيط الهادي، وفي اليابان وكوريا والفلبين وبعض بلاد الهند الصينية، فضلًا عن الأساطيل الأمريكية التي تجوب بصفة مستمرة أعالي البحار، وتظهر في مناطق معينة عند وقوع أزمات سياسية، لتفرض دور الشرطي الأمريكي الذي تقمَّصته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

كذلك اقتضت استراتيجية الهيمنة على الساحة الدولية ضرب الحركات الوطنية التي تهدف إلى تحقيق استقلالٍ وطني لا تشوبه شائبة التبعية، وذلك في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية للمصالح الأمريكية، ولا أدل على ذلك من ضرب حركة القومية العربية وتأييد إسرائيل — وهو أسلوب تكرر حدوثه في مواقع أخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية — عندما تشعر الولايات المتحدة بأن ثمة خطرًا يتهدَّد مخططات السيطرة والاحتواء التي تضعها لتلك البلاد.

وإذا كانت أوروبا قد استشعرت خطر الهيمنة الأمريكية، الذي ازداد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؛ فراحت تسعى إلى درب الوحدة السياسية والاقتصادية لحماية مصالحها، وإيجاد قُطب مقابل للولايات المتحدة على الساحة الدولية، وهو ما أخذ شكل صراع مصالح يُنذِر بحربٍ تجارية ما لم تستجب الولايات المتحدة لمتطلبات الاقتصاد الأوروبي، فما أحوجنا في العالم النامي إلى إيجاد منظَّمة ترعى مصالح البلاد النامية! بل ما أحوجنا في العالم العربي إلى صيغةٍ ما تضمن ألَّا نتحوَّل إلى مجرد أدواتٍ في أيدي قُوى الهيمنة الأجنبية!

١  مجلة الهلال، ديسمبر ١٩٩٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥