أطالب هيكل بتسليم ما لديه من وثائق للدولة١
يكتسب الحوار مع الدكتور رءوف عباس أهميةً خاصة في مناسبة الحديث عن ثورة يوليو، لأنه واحد من المؤرخين المصريين المشهود لهم بالنزاهة والموضوعية، كما أنه عضو في معظم الهيئات العلمية التي يُوكَل إليها كتابة تاريخ مصر والعرب الحديث والمعاصر، هذا إلى جانب إشرافه العلمي على إعداد أجيالٍ جديدة من الباحثين الذين ستُتاح لهم الفرصة لكتابة تاريخ الثورة عندما تظهر وثائقها الغائبة.
هنا حوارٌ معه عن وثائق ثورة يوليو الغائبة، وعن «حُمَّى المذكرات»، وعن الكيفية التي يمكن من خلالها كتابة تاريخ الثورة بشكلٍ علمي صحيح.
سألتُ الدكتور رءوف عباس
– ما دامت وثائق الثورة غير متاحة فإن عملية ضبط الحوادث بالنسبة لأي كاتبٍ عملية صعبة؛ لأن ما هو منشور من مواد أولية عن الثورة قليلٌ جدًّا، ويقتصر على البيانات الرسمية، والتغطيات الصحفية، التي كانت محدودةً جدًّا بسبب الرقابة. جيلي كله كان ينتظر ما يكتبه محمد حسنين هيكل يوم الجمعة لمعرفة أحداث الأسبوع كله، بوصفه الرجل الناطق بلسان عبد الناصر؛ لذلك فإن كتابات هيكل تكتسب قيمة كبيرة، لكن كلام هيكل عن الوثائق الموجودة تحت يده، يثير أكثر من علامة استفهام، كما يثير الفزع أيضًا حول مصير تلك الوثائق، لأنه مهما كانت درجة وعيه بها، تظل عُرضةً للضياع، ومما يعطي لأوراق هيكل ووثائقه أهميةً كبيرة أن بعضها منسوخ من وثائق خطية بيد الرئيس عبد الناصر، وهيكل نفسه لا ينكر هذا، وعندما سئل في ندوة في كلية الاقتصاد: لماذا لا يقوم بتسليم هذه الوثائق إلى دار الوثائق القومية؟ قال: إنه لا يثق في أية جهة حكومية، لكنه على استعدادٍ لتسليمها إلى أية جهة بحثية علمية، وهذه وجهة نظرٍ فضفاضة، لأن أي مركز بحثي وعلمي في مصر هو في التحليل الأخير جهة خاضعة لسلطة الدولة، والواضح أن هيكل يريد بهذا الكلام أن يبرر لنفسه منطقه في عدم إتاحة أرشيفه المهم للباحثين.
وهناك شخصٌ كبير وصل إلى أرفع المناصب في الدولة في عهد عبد الناصر مات وترك أوراقه الخاصة في «سحَّارة» داخل «فيلته» الخاصة، وعندما باع الورثة هذه الفيلا، عرض عليهم المالك إما تسليمهم هذه «السحَّارة» أو التخلص منها، وهذا يعكس عدم الوعي بأهمية الوثائق.
مثالٌ آخر؛ عند خروج الدكتور عاطف صدقي من الوزارة، نشرت الصحف أن هناك «لوري» خرج من مجلس الوزراء يحمل أوراقه الخاصة، والسؤال: هل الأوراق الموجودة في مكتب رئيس الوزراء تُعتبَر أوراقًا خاصة؟ وبالقياس إلى هذا المثال، هناك وثائق في غاية الأهمية، خاصة بالثورة، ولا أحد يعرف مصيرها، بل إنني علمت أن هناك دولة عربية كبيرة بدأت جمع هذه الوثائق والأوراق المهمة، وحجبها عن الباحثين، لأنها تسيء إلى فترة معينة في تاريخها، ولا ترغب في نشر ما تعتبره «تاريخًا أسود».
– لا يمكن التسليم بصحة هذه المقولة على إطلاقها، بمعنى أن الوثيقة مادة من المواد التي تمكِّن المؤرخ من الإلمام بالحدث التاريخي، وهي تعبِّر، في كل الأحوال، عن وجهة نظر كاتبها، وبالتالي فهي عُرضة للنقد، وهذا جزءٌ أساسي من عمل المؤرخ. وعندما تُتاح للمؤرخ كل الوثائق، يستطيع من خلال عمليات النقد ومقارنة الروايات التوصُّل إلى أقرب وجهات النظر إلى الحقيقة عند تركيب الحدث التاريخي، والتوصل إلى صورة مشابهة لما حدث بالفعل.
– علميًّا هناك ثلاثة أنواع من الكتابات التي تسميها الصحافة «مذكرات»: النوع الأول؛ اليوميات التي يكتبها المعاصرون للأحداث، النوع الثاني؛ المذكرات التي يكتبها الكُتاب والمعاصرون اعتمادًا على يومياتهم المُدوَّنة عن الأحداث، أما النوع الثالث؛ فهو الشائع حاليًّا، وهو كتابة الذكريات لا المذكرات، والفارق بين الأنواع الثلاثة ضروري، لأن صاحب الذكريات عادةً ما يكتبها بعد تقاعُده، أو ابتعاده عن مراكز التأثير، وبالتالي تتسم بطابع تبريري، وغالبًا ما تختلط على كاتبها الأمور، ويعلم المؤرخون المتخصصون أن اليوميات يكتبها أصحابها، لا بغرض النشر، وإنما بغرض تسجيل الأحداث، بالتالي فإن مصداقيتها أكبر.
وعلى سبيل المثال فإن ما نُشِر تحت اسم «مذكرات سعد زغلول»، لا يمت إلى المذكرات بصلة، وإنما هي يوميات كتبها سعد زغلول؛ لذلك فإنه يتحدث فيها عن إدمانه للعب القمار، ويُطلِق فيها اللعنات على أشخاص فاعلين في الحياة السياسة، وهذه الجرأة تميز اليوميات، ولو أن سعد زغلول كتبها بغرض النشر، لكان أكثر تحفُّظًا؛ لأنه سيخشى على صورته كزعيمٍ سياسي. ومن وجهة نظري: فإن كل ما نُشر من ذكريات عن يوليو، يكتسب درجةً أقل في الأهمية، لأن المصداقية فيها أقل، وطابعها التبريري واضح.
وعلى سبيل المثال تبدو مذكرات عبد اللطيف البغدادي «باهتةً»، رغم أهمية الأحداث التي عاشها صاحبها، وذلك لأنه ظل مشغولًا طوال صفحاتها بانتقاد عبد الناصر وانفراده بصناعة القرار، رغم أنه يعلم جيدًا أن عبد الناصر كان ينظر إلى نفسه باعتباره رئيسًا لتنظيمٍ سري، وذلك بحكم بداية الثورة من خلال تنظيم الضباط الأحرار؛ ولذلك فقد جمع ناصر كل الخيوط في يده، وأعتقد أن تاريخ الثورة لن يُدرس إلا بالاطلاع على الأوراق الخاصة بعبد الناصر.
– أعتقد ذلك، وهذه الأوراق تنقسم إلى مجموعتين؛ الأولى أوراق مجلس قيادة الثورة، وهي غير متاحة حتى أمام اللجنة التي تتولى الآن جمع المادة العلمية الخاصة بمتحف مجلس قيادة الثورة، وكل ما تيسَّر لهذه اللجنة جمعه عبارة عن شهادات أقرب إلى «الذكريات»، لكنها لا تقدم إجابة واضحة عن السؤال الرئيس وهو: أين أوراق ثورة يوليو؟
أما المجموعة الثانية من الأوراق المهمة للثورة، فهي الأوراق الخاصة بناصر، والتي كانت بحوزة السيد سامي شرف، والتي لا يعرف عنها أي شيء، وربما كانت لدى هيكل نسخة خاصة من هذه الأوراق، وأنا — كما قلت — مندهش، لأنه لم يسلِّمها، حتى الآن، إلى دار الوثائق القومية. أما على مستوى الأرشيفات المهمة، التي تتضمن أوراقًا مهمة بالنسبة للثورة، وهي غير متاحة حتى للباحثين والمؤرخين؛ فهي أرشيفات الرئاسة، وأهمها أرشيف «سراي القبة» الذي لا يزال مغلقًا، وغير مسموح للباحثين — إطلاقًا — الاطلاع عليه، ولا يتم حتى الآن إيداع نسخة من هذه الوثائق في دار الوثائق القومية، رغم أن القانون يُلزِم هذه الجهات بإيداع نسخة من وثائقها في دار الوثائق القومية.
وأي باحث مبتدئ يعرف أن كل وثيقة رسمية كانت تخرج من مكتب عبد الناصر، تخرج منها نسخٌ تُوجَّه إلى جهات وهيئات معينة، وبطبيعة الحال تختلف درجة الوثيقة وسريتها بحسب أهميتها. ومن الأرشيفات المهمة — أيضًا — بالنسبة لتاريخ الثورة «أرشيف الأجهزة الأمنية»، لأنها لعبت دورًا أساسيًّا في فترة عبد الناصر، ومعها — أيضًا — أرشيف جهاز الأمن القومي بمختلف فروعه، وأعتقد أنه قد آن الأوان للسماح بالاطلاع على هذه الوثائق، خاصة أننا بعد عامين سوف نحتفل بمرور خمسين عامًا على قيام الثورة، وهو ما يعني أننا تجاوزنا الحد الأقصى من قانون سرية الوثائق، والمطلوب أن يأمر الرئيس مبارك — شخصيًّا — بإيداع نُسخ من هذه الوثائق في دار الوثائق القومية، ليُكتَب تاريخنا بشكلٍ علمي.
– لا توجد في المركز أية أوراق تكتسب مصداقية عن الثورة، وهذه كارثة أخرى.
من ناحيتي؛ أعتقد أن ما كتبه خالد محيي الدين في «الآن أتكلم» من أفضل ما كُتب من الناحية العلمية، رغم بُعده عن السلطة في فترة مبكرة، أما الوحيد الذي لم يكتب مذكرات رغم أهمية دوره، فهو كمال الدين حسين، والواضح أنه كتب مذكرات فعلًا، لكنها لم تُنشَر بعد، وقد اتضح ذلك من إجاباته عن الأسئلة التي وجَّهها له أحمد حمروش، ونُشرَت في كتاب «ثورة يوليو وعقل مصر» لأنها إجابات تعكس وعيًا شديدًا بتفاصيل الأحداث، خاصة أن كمال الدين حسين ظل لفترة طويلة في موقع أمين عام مجلس قيادة الثورة، وأظن أن مذكراته لو نُشرَت ستضيء جوانب مهمة من الثورة، رغم أنه نفى بشكل قاطع وجودها أمام بعض الباحثين الذين طلبوا الاطلاع على أوراقه الخاصة.
– في حقيقة الأمر، فإنه منذ ظهور قانون إنشاء دار الوثائق القومية، ظهرت عدة محاولات وقوانين وقرارات جمهورية حاولت سد ثغرات القانون القديم رقم ٣٥٦ لسنة ١٩٥٤م، الذي ينظم عملية الاطلاع على الوثائق، وعملَ الدار بشكلٍ عام، لكن الأمر المؤسف — بعيدًا عن النصوص القانونية — أن القانون القديم منح بعض الجهات السيادية الحقَّ في عدم تسليم ما لديها من الوثائق باعتبارها «سرية»، لكن تلك السرية تكون «لمدة محدودة» تنتقل بعدها الوثائق إلى الأرشيف القومي للدولة، لأن من حق الباحثين الانتفاع بها.
وخلال فترة رئاسة الدكتور محمود فهمي حجازي لدار الكتب والوثائق القومية، تشكَّلت لجنةٌ لإعداد مشروع قانون جديد للمحافظة على الوثائق القومية، ومعلوماتي أنه ينتظر العرض على مجلس الشعب، وقد منح هذا المشروع دار الوثائق القومية السلطة اللازمة للسيطرة على الوثائق المهمة؛ لأنه ركز على إلزام كل مَن لديه أوراق ومذكرات لها صلة بتاريخ مصر، بتسليمها إلى دار الوثائق، وطلبنا — أيضًا — كلجنة عملية أن تُمنح للدار سلطة الضبطية القضائية، بما في ذلك الأوراق الشخصية والجهات الحكومية.
والحاصل حاليًّا أن الوزارات السيادية — كالخارجية والدفاع — لا تستجيب بالقدر الكافي، وتلتزم بتسليم أوراقها ووثائقها للدار، وأخيرًا قامت وزارة الخارجية بتسليم بعض الوثائق إلى الدار، لكنها جعلت الاطلاع عليها محظورًا إلا بإذن رسمي من الوزارة، كما حظرت الاطلاع على بعض الملفات التي أودعتها بالدار نهائيًّا، وإذا كانت هناك اعتباراتٌ «أمنية» تحُول دون الاطلاع على هذه الوثائق، فالاعتبارات تتغيَّر باستمرار.
– هذا النظام معمولٌ به في كل الدول ذات الأنظمة الرئاسية، لأن تبعية دار الوثائق — أو الأرشيف القومي — لرئاسة الجمهورية يعطيها سلطة في الاستحواذ على الوثائق المهمة، ويُلزِم بعض الجهات بإيداع ما لديها من وثائق بالدار، لكن الأهم حاليًّا، هو طريقة حفظ الوثائق، لأنها لا تزال طريقة متخلفة عمليًّا، بل إنني لا أذيع سرًّا إذا قلت لك إن كثيرًا من هذه الوثائق قد تعرَّض للتلف، بسبب الرطوبة. والمطلوب — أيضًا إلى جانب الحفظ — تصنيف هذه الوثائق وفهرستها علميًّا لتسهيل مهمة الباحثين.
– هي أيضًا تعبِّر عن وجهة نظر كاتبها، وبشكل عام فإن الوثائق الإنجليزية حتى عام ١٩٥٢م تعطي صورة شبه متكاملة عن مصر من جميع النواحي، وبعد ١٩٥٢م تقل أهميتها لصالح الأرشيف الأمريكي؛ حيث بدأت الخارجية الأمريكية تهتم بمصر بصورة عملية في أثناء الحرب العالمية الثانية، وبعدها، ولا تزال — طبعًا — تُولي لها نفس الأهمية، بسبب دورها في سياسات الشرق الأوسط. ومعلوماتي تؤكد أن كل ما في الأرشيف الأمريكي من وثائق مُتاح حتى عام ١٩٦٩م، ما عدا الوثائق التي تؤثر على السياسات الأمريكية الحالية.
– هذا صحيحٌ فعلًا، وآمل أن أنتهي منه عام ٢٠٠٢م لأنني حاليًّا أقوم بفحص الوثائق الأجنبية التي حصلت عليها، ومقارنتها بوثائق وشهاداتٍ أخرى عن الثورة التي ينبغي أن يُكتَب تاريخها من زاوية الوعي بأهميتها في تاريخ مصر.