سبُّوبة الديمقراطية١
يتعرض المواطن العربي يوميًّا لسيلٍ من الكتابات التي تعمر بها الصحف التي تضع على وجهها بُرقع الليبرالية والديمقراطية، تبشِّره بعالمٍ جديد تقوده أمريكا، يختفي فيه التسلُّط والقهر، وترفرف عليه أعلام الحرية والديمقراطية (التيك أواي)، وإذا قلب هذا المواطن الغلبان صفحات الصحف القومية؛ طاردته مقالات كتيبةٍ محترِفة من حَمَلة الأقلام، تبشِّر بالعولمة التي لا فكاك منها، ونهاية عصر الدولة الوطنية، وكل ما هو وطني؛ فلا يبقى إلا عالم القرية الواحدة، التي يحتل فيها البيت الأبيض مكان دوَّار العمدة.
فإذا ضاق المواطن الغلبان ذرعًا بطوفان الكتابات، وراح يتابع الفضائيات العربية، أطلَّت عليه الوجوه نفسها، تبث الأفكار ذاتها، وقد حمل كلٌّ منها صفة الخبير والمحلِّل السياسي، إلى غير ذلك من صفاتٍ تؤكد معرفة المعلِّق ببواطن الأمور، ويبيت المواطن المسكين كما يبيت خروف العيد يتهيَّأ لمصيره المحتوم.
فقد كُتب على البشر أن يكون القرن الحادي والعشرون عصر الإمبراطورية الأمريكية التي لن يرتاح لها بالٌ إلا إذا سادت العالم الديمقراطية، وكأن الديمقراطية قبعة، أو رداء يضفي على مَن يرتديه طابع الديمقراطية، ويضع على قفاه ختم النسر الأمريكي، فلا تخطئه العين عند إحصاء من مسَّهم هذا السحر الجديد.
ويغلب الحماس أولئك الكُتَّاب والمعلِّقين فيسفِّهون أفكار المتحجِّرين الذين ما زالوا يعارضون الإمبريالية، ويحرصون على الدولة الوطنية بكل خصائصها، وينشدون مجتمعًا يحظى فيه المواطن بنصيبٍ عادل من ثروة بلاده، يكفل له حياةً كريمةً، ويوفر له الخدمات الأساسية من التعليم إلى العلاج إلى الإسكان إلى وسائل الترفيه الضرورية، في إطار نظامٍ سياسي يسمح للمواطنين بالمشاركة في صياغة سياسة بلادهم، فمثل هذه الأفكار عند كُتَّاب العولمة، ومروِّجي الدعوة لعصر القرية الواحدة تُعَد من أفكار عصور خلَت وانقضى زمانها، وليس لها مكان إلا المتاحف.
ويتساءل المواطن الغلبان عن سر ظاهرة التبشير بالعولمة، وعصر السيد الديمقراطي الأوحد في السنوات العشر الأخيرة تحديدًا، فيأتيه الجواب بشهادة شاهدٍ من أهل أمريكا، ولكنه من المعارضة التي تقف ضد الحرب، وترى في المشروع الإمبراطوري ما يهدد أمن المواطن الأمريكي وحياته ومستقبله.
كتب جاستن رايموندو مقالًا في ٢٨ يناير على موقع مناهضة الحرب بعنوان «كُتَّاب أُجراء يروِّجون للحرب» كشف فيه أن البيت الأبيض أنفق ٢٥٠ مليون دولارٍ خلال الرئاسة الأولى لبوش الصغير، على شكل مكافآت دُفعَت من خلال شركة علاقات عامة ذات صِلة بالمصالح المالية لآل بوش، لعددٍ من الكُتَّاب والمعلِّقين الإذاعيين على شكل مبَالغ شهرية للترويج للمشروع الإمبراطوري، والترويج لعملية نشر الديمقراطية في العالم.
وأن مكافآتٍ من هذا النوع دخلت جيوب كُتَّاب وإعلاميين من الشرق الأوسط معظمهم من البلاد العربية، وذكر الكاتب الأمريكي المعارِض أن المبلغ المتوقع إنفاقه في الرئاسة الثانية لبوش سيصل إلى نصف مليار دولار. وأن قائمة الكُتَّاب الأجراء سوف تتسع لتضم مروِّجي «التحوُّل الديمقراطي العالمي»، وهو الاسم الحركي للمشروع الإمبريالي الأمريكي، ولا يدخل في هذا المبلغ ما ينفق رسميًّا على إصدار الصحف والإذاعات المسموعة والمرئية، وبرامج التأهيل الديمقراطي؛ فلذلك اعتمادٌ خاص ضمن ميزانية الاتحاد، ولا يدخل فيه أيضًا ما تنفقه المخابرات المركزية والبنتاجون للترويج للمشروع الإمبراطوري.
أصبح مجال الارتزاق متسعًا، والرزق يحب الخِفيَّة؛ خِفَّة القلم، وخِفَّة الضمير، وعلى المصلحة الوطنية السلام.