الأنامالية …!١
ما جدوى ما تكتبون ما دام أحد لا يستجيب لكم، بل ما جدوى ما تفعله المعارضة بتلك الصحف التي تفيض بالمقالات التي ترفع الغطاء عن «بكابورت» الفساد، وتُخرِج روائحه النتنة لتزيد الجو تلوثًا، وماذا عاد عليكم من كشف طغيان أجهزة القمع وامتهان كرامة الإنسان المصري؛ ما دامت تلك الممارسات، المخالِفة لشرائع السماء وقوانين الأرض، تحدث يوميًّا بلا انقطاع؟!
وما الذي عاد علينا من صيحات المعارضة ضد التوريث والتعديلات الدستورية؛ فالأمور تسير وفق مرامي عصابة السلطة: يُعَد المسرح لجلوس الوريث على عرش مصر، ويتم تبديد ثروات البلاد، وكأنكم «تنفخون في قِربة مقطوعة» … أنتم في وادٍ، والناس في وادٍ آخر.
كثيرًا ما سمعت هذا الحديث يدور بين أناس يعُون تمامًا خطورة ما يجري في مصر، أو ما يجري على الساحة العربية، ولكنهم لا يريدون التورُّط في إبداء الاستنكار علنًا. إذا طلبت من أحدهم — مثلًا — التوقيع على بيان احتجاج أو تضامن في قضية وطنية ما نفر منك، أو نصحك بعدم التورط «فيما لا يعنيك»، أو قال لك العبارة الممجوجة: «أنا مالي … هي المشرحة ناقصة قتلى»!
هذه «الأناماليَّة» تمثِّل راية السلبية الخفَّاقة في هذا البلد، التي تعبِّر عن حالة مَرضية من الإحباط واليأس، بقدر ما تعبِّر عن أزمة مزمنة تعاني منها الحركة السياسية المصرية التي عجزت عن تقديم مشروع وطني بديل وعن التواصُل مع الجماهير. هذه السلبية ليس مبعثها العزوف عن الاهتمام بالشأن العام، لأنك لا تكاد ترى مصريًّا لا يقص عليك وقائع لأمورٍ ربما فاقت ما تخوض فيه أقلام كُتَّاب المعارضة، بل تسمع في اليوم الواحد عددًا من النِّكات السياسية اللاذعة التي تشي بإدراك الناس لحقيقة السلطة، وتكاد تلمس بيدك أن انفجارًا ثوريًّا قد يقع في أية لحظة بعدما «بلغت القلوب الحناجر».
ولكن الشمس تشرق كل يوم على واقعٍ يزداد سوءًا، وكلٌّ مشغول بهمِّه الشخصي، ومشهد المواطنين والمواطنات الذين يكلِّم كلٌّ منهم نفسَه في الشارع أو المواصلات العامة والخاصة مشهدٌ مألوف، وأخبار العنف الأسري لا تكاد تخلو منها الصحف الصباحية: أب يقتل زوجته وأولاده لعجزه عن إعالتهم … أو أب ينتحر للسبب نفسه، أو أم تبيع أحد أطفالها … كل ذلك يعبِّر عن حالة اغتراب يعاني منها المواطن المصري مبعثها اليأس من إمكانية أن يجد في المجتمع حلًّا لمشكلاته الشخصية، التي هي بدورها أزمة المجتمع كله.
أخطر ما في الأمر أن العُصبة الحاكمة تراهن على هذه السلبية المشاعة بين المواطنين؛ فتتعامل معهم وكأنهم سوائم، بلغ الفساد الماء والغذاء والدواء ومصادر الرزق، وأُهدرت حقوق الإنسان، وما زالت الأمور «تحت السيطرة» من وجهة نظر السلطة وزبانيتها، حتى لو قام الفلاحون بحركاتٍ احتجاجية على حرمانهم من أطيانهم هنا وهناك، أو قام الصيادون بالاحتجاج على تضييق أبواب الرزق أمامهم، أو قام العُمال بإضراباتٍ هنا وهناك احتجاجًا على بيع مصانعهم وقطع أرزاقهم، فما زالت الأمور «تحت السيطرة»، وما زالت قُطعان الأمن المركزي في حظيرة الولاء للنظام، فهؤلاء وأولئك يمكن تلقينهم دروسًا تُلزِمهم حدودَ الأدب، وتجعل كلًّا منهم لا يهتم إلا بذاته … يتغنَّى بعبارة «أنا مالي» في كل حين وآنٍ.
ولا أظن أن أحدًا من الزمرة الحاكمة قد سمع عن المؤرخ المقريزي الذي قال عن المصريين: «قوم يجمعهم الطبل وتفرِّقهم العصا»، ولكنهم يتعاملون مع المصريين من هذا المنطلق، منطلق القمع والبطش الذي يحُول دون الحشد الجماهيري من أجل مطالِب معيَّنة. وهكذا تمضي العُصبة الحاكمة في تنفيذ برنامجها الجهنمي دون خوفٍ أو تحسب لحركة الجماهير: تبيع مصادر الثروة الوطنية، وترهن ما تبقَّى منها لديونٍ تُثقِل كاهل الأجيال القادمة، وتنعم بجهودها الخارقة التي أدَّت إلى دخول مصر حلبة السباق على المراكز الدنيا في كل شيء: التعليم، والاقتصاد، والتنمية، والخدمات الاجتماعية، وحتى الرياضة، مع دولٍ لم يكن لها وجود على خريطة العالم قبل الحرب العالمية الثانية، أي قبل نحو السبعين عامًا!
هذه النظرة الدُّونية للجماهير التي تعبِّر عنها الزمرة الحاكمة بسياساتها القمعية هي نفسها التي كانت تمثِّل إطار سياسة الاحتلال البريطاني، فلا يقتصر وصف المصريين بالتخلُّف والجبن على اللورد كرومر — واضع أُسس السياسة الاستعمارية في مصر — الذي يشاركه اللورد أحمد نظيف في رأيه أن المصريين لم ينضجوا بعد ليصبحوا مؤهَّلين للحكم الديمقراطي «قالها اللورد كرومر عام ١٩٠٧م، وقالها اللورد أحمد نظيف عام ٢٠٠٦م»، ونكاد نجد تطابقًا تامًّا بين نظرة باشوات الأمن المتعالية إلى المواطن المصري، ونظرة اللواء راسِل باشا حكمدار بوليس القاهرة الإنجليزي بالثورة الشعبية عام ١٩١٩م، والذي قال: «إن ثورة المصريين تُطفَأ بصدقة»! فهل يرى باشوات اليوم غير ما رآه أستاذهم راسِل باشا؟!
لعل من الطريف أن يعلم القارئ الكريم أن أستاذًا (إسرائيليًّا) هو جابرييل بير اهتم بدراسة التاريخ الاجتماعي لمصر، وله فيه بحوث رصينة، اهتم بتحقيق مقولة «جُبن المصريين وسلبيَّتهم»، خاصة أن الجندي المصري كان (في سَالف العصر والأوان) العدو الأساسي للكيان الصهيوني، تناول جابرييل بير هذه القضية في دراسة عن «الفلاح المصري بين الخضوع والمقاومة»، واختار لزمن الدراسة القرن التاسع عشر، لأنه يعلم أن الجندي المصري الفلاح في ستينيات القرن العشرين (تاريخ نشر الدراسة) هو حفيد فلاح القرن التاسع عشر، ولم يشأ جابرييل بير أن يذهب بعيدًا في تاريخ مصر الوسيط والقديم الذي يحفل بحركات الاحتجاج العنيفة والثورية ضد مظالِم السلطة منذ عهد الدولة في مصر القديمة حتى العصر العثماني مرورًا بالعصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية.
ويقف جابرييل بير طويلًا (في الدراسة التي نشرها بالعبرية — أولًا عام ١٩٦٢م، ثم أعاد كتابتها بالإنجليزية، ونشرها عام ١٩٦٩م) أمام انتفاضات الفلاحين ضد مظالِم السلطة في عهد محمد علي بالصعيد، فرصد ثلاثًا منها: واحدة بإحدى قرى قنا عام ١٨٢١م استمرت شهرين استولى فيها الفلاحون على السلطة، وطردوا عُمَّال الحكومة، وقام الشيخ أحمد زعيم الفلاحين بتعيين عُمَّال للإدارة من قبله، حتى أرسل محمد علي تجريدة عسكرية قضت على الحركة، ولكن دون أن يقع زعيمها في أيدي عسكر محمد علي، والثانية: وقعت عام ١٨٢٢م بقُرى الأقصر تزعمها الشيخ أحمد المهدي، وقاومت قواته عسكر الحكومة ببسالة لمدة عام كامل، وانضم إليها المجنَّدون الجُدد من الجيش المصري الحديث، واستغرق القضاء عليها جهودًا قتالية شديدة، قُتِل فيها نحو ألف من الفلاحين. وعادت جذوة الثورة لتشتعل من جديدٍ بقيادة شخص يُدعَى أحمد (ويبدو أنه اسم حركي اتخذه قادة الانتفاضات الثلاث) في أوائل عام ١٨٢٤م، استمرت عدة أسابيع قبل أن يتم القضاء عليها.
ولم يخلُ الوجه البحري من انتفاضات الفلاحين، في المنوفية عام ١٨٢٢م، وفي الشرقية عام ١٨٢٤م، واضطر محمد علي إلى إصدار قانون الفلاحة عام ١٨٣٠م الذي يحدِّد حقوق الفلاح وواجباته، ويتضمن مادة تحدِّد عقوبة كل من يثور أو يحرِّض على التمرد ضد السلطة. ويرصد جابريل بير ثورة فلاحية كبرى كان مركزها أبو تيج بأسيوط، وقعت عام ١٨٦٣م، في بداية عهد الخديو إسماعيل احتجاجًا على السُّخرة واستنزاف الضرائب لثمرة كد الفلاحين، ظلَّت قائمة لمدة عامين بين مدٍّ وجزر، لم ينجح إسماعيل في إخمادها إلا باستخدام المدفعية.
كما أضرب الفلاحون عن زراعة أراضي الخديو توفيق عام ١٨٨٢م (أيام الثورة المصرية التي عُرفَت بالعرابية) في الشرقية، ولكن هذا الإضراب لم يُواجَه بالعنف، بل تمَّت تسويته سلميًّا بالاستجابة لمطالِب الفلاحين.
ويقف المؤرخ (الإسرائيلي) طويلًا أمام الدور الثوري للفلاحين في عام ١٩١٩م، وانتهى الباحث إلى ضرورة إعادة النظر في الفكرة الشائعة عن استكانة الفلاح المصري أمام هذا السِّجل الحافل بالانتفاضات الثورية، ولكنه يرى أن الفلاح المصري ليس عدوانيًّا بطبعه؛ وإنما يدفعه الظلم وضيق العيش إلى الثورة التي تتخذ دائمًا طابعَ العنف.
وإذا كان جابرييل بير قد وقف بالبحث عند ثورة ١٩١٩م فلا يعني ذلك أن تاريخ القرن العشرين قد خلا تمامًا من انتفاضاتٍ لمصريين ضد السلطة واستبدادها؛ فهناك حركات احتجاجية متفرقة للفلاحين بلغت أقصى ذروتها في الأربعينيات (تفاتيش بهوت وكفور نجم)، كما استمرت إضرابات العُمال من ثورة ١٩١٩م حتى إضراب عُمال كفر الدوار في أوائل أيام ثورة ١٩٥٢م، مرورًا بإضرابات الثلاثينيات والأربعينيات، بل انضم جنود بلوكات النظام (ما أصبح يُسمَّى الآن بالأمن المركزي) إلى الإضرابات في يناير ١٩٥٢م، ولكن يجب أن نتذكر أن الحركة السياسية كانت ناشطة بين الجماهير، وأن النضال السياسي اقترن بطرح برامج وطنية تبنَّتها بعد ذلك ثورة يوليو.
«الأنامالية» لن تستمر إلى الأبد؛ فالانفجار الشعبي آتٍ لا ريب فيه، ولكنه سيكون له تأثير الانفجارات الحربية نفسه، لن يخلف وراءه إلا الدمار والخراب ما لم يتحوَّل إلى طاقة للتغيير من خلال مشروعٍ وطني بديل تتبنَّاه جبهة وطنية تضم قُوى المعارضة.
اليأس والقنوط حالة مَرضية مبعثها الهم والغم، وضيق ذات اليد، وتدهور الحال، ولكن تراكم ذلك كله من شأنه زيادة الضغط إلى مرحلة لا يمكن بعدها الصبر والاحتمال … نقطة يقع عندها الانفجار الشعبي الشامل، حالة «الأنامالية» والقنوط لم تصل إلى حدوث تليُّفٍ في الوعي السياسي والاجتماعي عند المواطن المصري؛ فهو يدرك تمامًا كل المهازل التي تدور على أرض الوطن، يحتاج إلى من يُعدُّه للسير على طريقٍ بديل، يحتاج إلى قيادة وطنية تفرزها جبهة وطنية تطرح مشروعًا لإنقاذ الوطن، تحشد حوله الجماهير، في تاريخنا المعاصر تجربة الجبهة الوطنية عام ١٩٣٥م، وتجربة الجبهة الوطنية عام ١٩٤٦م (اللجنة الوطنية للطلبة والعُمال).
فهل نعي دروس النضال الوطني، وننسى خلافاتنا الصغيرة من أجل هدفٍ سامٍ نبيل … إذا لم نعمل من أجل ذلك فلن يرحمنا أحفادنا، ولن يغفر لنا التاريخ.