سقطت ورقة التوت

أي حوارٍ تطالبون به بين الصحافة والنظام؟١

تابعتُ مع غيري من المصريين سقوط ورقة التوت التي كانت تستر عورة النظام الاستبدادي الفردي، والتي حملت اسم «حرية التعبير». لم يأتِ سقوطها فجأةً وعلى غير توقُّع، عندما أصدر أحد قضاة الأمن حكمًا بالسجن على فرسان الوطنية الأربعة: عبد الحليم قنديل، وإبراهيم عيسى، ووائل الإبراشي، وعادل حمودة أصحاب الأقلام الشريفة. فما حدث يمثِّل آخر مراحل كشف النظام المنتهي الصلاحية عن حقيقته القمعيَّة بعدما شهد العالم كله ما حدث للمتضامنين مع قُضاة مصر الشرفاء من أعمال بطشٍ همجية تضمَّنت هتك الأعراض على رءوس الأشهاد، والتنكيل بالمشاركين في الوقفات الاحتجاجية السِّلمية على أيدي قطعان الأمن المركزي، وشن حرب شعواء على المدونات وأصحابها، أضِف إلى ذلك قمع كل تحرُّك جماهيري طُلابي أو عُمالي أو فلاحي وكتم أنفاسه.

الحكم الأخير على فرسان القلم والوطنية الأربعة رسالة مفضوحة يوجهها النظام إلى الصحافة المستقلة الوطنية الحرة، إلى المعارضة السياسية بمختلف أطيافها وتوجهاتها ومواقعها، تُنذِرها بالويل إن خرجت عن نطاق الصمت، ومتابعة كل ما يجري بحكمة «لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم» البغيضة، حتى يتمَّ المراد، ويتم الانتقال «السلمي» للسلطة إلى الوريث، ويتم بيع ما بقي من أصول الاقتصاد المصري، وحتى يواصل أركان النظام حماية الفساد، وتهيئة المناخ له دون مضايقاتٍ من جانب الذين يحقدون على أصحاب الثروات، ودون سماع أصوات الملايين، بل عشرات الملايين من المصريين الذين يعلو خط الفقر فوقهم، ويعانون العوز والعطش، ويزاحمون الموتى في القبور.

الهجمة التتارية على الصحافة الحرة الوطنية والمعارضة إنذار نهائي لكل من تسوِّل له نفسه «الحاقدة» الاعتراض على تجريف مجانية التعليم، حتى لا يتطاول أبناء الفقراء إلى مزاحمة أبناء الأكابر، أو إثارة مشكلة البطالة التي أعلن رئيس الحكومة أن مسئوليتها تقع على عاتق الأهالي، الذين لم يحسنوا اختيار نوع التعليم لأبنائهم الذي يتمشى مع حاجة سوق العمل، أو إثارة قضية المواطنة، و«مزاعم» التمييز بين أبناء الوطن الواحد، ناهيك عن التطرق إلى أمورٍ لا يليق برعية الأسرة الحاكمة الخوض فيها؛ مثل موضوع الحريات وانتهاك حقوق المواطن، وإهدار آدميته، وإفساد الحياة السياسية، والاعتراض على مشاركة الأموات في الانتخابات، وحرمان الأحياء من حق التصويت.

بالاختصار … ومن الآخر … الهجمة التتارية على الصحافة ليست استثناءً، ولم يكن الرئيس مبارك بحاجة إلى نصيحة أحد رؤساء التحرير على الطائرة الرئاسية-المَلكية، الذي قيل إنه طالبه باستخدام العصا، فمن قال يا سادة إن عصا النظام لازمت مهجعها منذ ما يزيد على ثلاثة عقود؟ ألم تقرءوا حيثيات الحكم المشئوم التي جعلت التطاول على الحزب الحاكم و«رموزه»، من جانب الأقلام الناقدة، يدخل في باب الخيانة العظمى. ولا أدري ماذا يفعل قُضاة الأمن لو رفع محامٍ قضية باسم «حزب الأمة» ضد مَن يتطاول على رئيسه وقيادته، هل سيحظى حزب الأمة «ورئيسه خال واحد من الرموز» بمثل ما حظي به حزب الرئيس؟!

لذلك أصابتني الدهشة لمَا استقر عليه رأي قيادات نقابة الصحافيين في الاجتماع الذي ناقش موضوع أحكام السجن والهجمة البربرية على الصحافة، وسياسة تكميم الأفواه، وما جاء على بعض الألسنة والأقلام من أن «حرية الصحافة» هي الإنجاز الحقيقي للرئيس مبارك، ومن ثَم لا يجب إهدار هذا الإنجاز العظيم والعودة إلى الوراء! والجهد الذي بذله الأستاذ مكرم محمد أحمد لإقناع الزملاء بإعطاء الفرصة «للحوار» مع الحكومة لإلغاء الأحكام، والرجوع عن سياسة تكميم الأفواه وقصف الأقلام، وتأجيل القيام بأي إجراءاتٍ احتجاجية إلى حين يمُنُّ الله على الصحافة، ويحنِّن قلب النظام ببركة الأيام المفترجة! فإذا انقضت المهلة يصبح من حق النقابة اتخاذ ما تراه من إجراءاتٍ احتجاجية، بما في ذلك احتجاب الصحف المستقلة عن الصدور.

الحوار يا سادة لن يجعل ريما تتراجع عن عادتها القديمة، والحكم الذي صدر على الزملاء حكمٌ رثٌّ معيب قانونًا، ولا مناص من اللجوء إلى محكمة الاستئناف لإلغائه، وهناك كتيبة من كبار المحامين جاهزة للدفاع، وفي القضاء المصري قُضاة شرفاء لا بد أن يردوا للزملاء حقَّهم، وللصحافة اعتبارها.

إن الهجمة التتارية لفتت أنظار الرأي العام الدولي إلى ممارسات النظام التعسفية، وكبتِه لحرية التعبير، وهناك هيئات حقوقية دولية اهتمت بالقضية، كما اهتم بها الرأي العام في مصر والعالم العربي، والركون إلى الحوار يُوقِع الجميع في مأزق احتواء الآثار الناجمة عن هذه الهجمة، وفي وقت يجب فيه حشد جميع إمكانيات النقابة لتنظيم حركة احتجاجية قوية يدور على هامشها الحوار المزعوم، وإتاحة الفرصة لكل هيئات العمل المدني المحلية والدولية، والقُوى الوطنية المعارِضة للمشاركة في عملٍ منظم يواجه الداء، ولا يصرف اهتمامه إلى الأعراض الظاهرة. ما حدث يمثِّل أعراض مرض السلطة الغاشمة المستبدة، وهو الداء الذي تعاني منه مصر، الذي يجب تركيز الجهود لشفائها منه.

١  جريدة البديل، ٢١ من سبتمبر ٢٠٠٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥