هذا الدور المريب للجامعة الأمريكية١
حرصت الجامعة الأمريكية منذ نشأتها عام ١٩١٩م على أن تنأى بنفسها عن المجتمع المصري، وأن تظل جزيرةً منعزلةً مغتربةً، تقدِّم الثقافة الغربية من منظورٍ أمريكي إلى طلابها، مع نُتَف من الثقافة العربية. وبدأت منذ الأربعينيات تقدِّم، من خلال قسم الخدمة العامة، بعض المحاضرات العامة المتصلة بالشأن المصري العام في مواكبة الاهتمام الأمريكي المتزايد عندئذٍ بالشرق الأوسط. وكان من الطبيعي أن يتسع نشاطها ويتنوَّع منذ عهد الرئيس أنور السادات، الذي لم يكتفِ بالاعتراف بشهاداتها، بل أبرم اتفاقيةً جعلت من أرض الجامعة الأمريكية أرضًا أمريكية، شأنها في ذلك شأن السفارة الأمريكية، لا مكان للقانون المصري داخل أسوارها.
ومنذ السبعينيات من القرن الماضي حتى اليوم ازداد اهتمام الجامعة الأمريكية بالشأن العام العربي والمصري، سواء في برامجها الدراسية أو في برامج المحاضرات العامة. واهتمَّت بمشروع دراسات الشرق الأوسط، الذي شاركت فيه وأدارته جميع الأقسام المعنيَّة بالدراسات الاجتماعية والإنسانية: التاريخ والاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والدراسات العربية.
وكان البرنامج يمنح الدارسين فيه درجة الماجستير في دراسات الشرق الأوسط، ويحرص على التمسُّك بالطابع الأكاديمي وليس السياسي، فيعالج مختلف القضايا — ومن بينها القضية الفلسطينية — بصورة متوازنة، تعرض لمختلف وجهات النظر، دون تغليب واحدة على أخرى. وقد شاركتُ في التدريس بهذا البرنامج أيام عملي أستاذًا متفرغًا بتلك الجامعة ١٩٩١–١٩٩٥م، بل استضاف البرنامج شخصياتٍ أكاديمية أمريكية عُرفَت بمواقفها المعارضة للسياسات الإمبريالية الأمريكية، ونقدها الشديد للممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، مثل نعوم تشومسكي.
وعلى صعيد النشاط الطلابي بالجامعة؛ كانت الجامعة الأمريكية منذ أوائل التسعينيات ساحةً للنشاط الطلابي الحر، المَعني بالشأن العام، من خلال تنظيم المحاضرات وحلقات النقاش التي شاركت فيها بعض الشخصيات العامة من مختلف الاتجاهات السياسية من مصر والوطن العربي.
ولعلنا نذكر دور طلاب الجامعة الأمريكية وأساتذتها من المصريين والعرب في معارضة الحرب الأمريكية على العراق، ونجاحهم في احتلال ميدان التحرير، مما جعل وزارة الداخلية تستفيد من ذلك الدرس، وتحوَّل الميدان إلى ثكنة عسكرية.
ويبدو أن تلك التطورات التي حوَّلت الجامعة الأمريكية من حالة الاغتراب إلى المشارَكة قد أزعجت من يتولَّون أمور الجامعة التي تُقبِل على مرحلة توسُّع هائلة؛ تشيِّد حرمًا كاملًا بالقاهرة الجديدة، تكلَّف مليارات الدولارات، لا بد أن تكون الجامعة قد حصلت عليها من جهات أمريكية مانحة، ولعل تلك الجهات طلبت من إدارة الجامعة ترشيد برامجها الدراسية بما يخدم الاتجاهات الصهيو-أمريكية، وكان مشروع دراسات الشرق الأوسط حجر الزاوية — على ما يبدو — في هذا الترشيد.
اختير لتولي أمر المشروع جويل بينين الأمريكي الإسرائيلي لكونه وجهًا مقبولًا ومعروفًا عند بعض فصائل اليسار المصري، ولاتساع دائرة صِلاته وعلاقاته بمصر، منذ جاءها لجمع مادة رسالته للدكتوراه عن العُمال المصريين في أواخر الستينيات، وما أشيع عن تعاطفه مع الفلسطينيين، ولتأييده لحركة «السلام الآن» في إسرائيل؛ وجهٌ مقبول لتسويق الدور الجديد للجامعة الأمريكية.
شمَّر بينين عن ساعد الجِد، وأجرى ما أجراه من تغييرات على مشروع دراسات الشرق الأوسط، وفي طليعة ذلك نشرة إلكترونية، كتب فيها منذ العدد الأول من زاوية وجهة النظر الإسرائيلية المحضة، وفي العدد الثاني اعتبر ما يُسمَّى بالعالم العربي وهمًا بيِّنًا لأنه لا يوجد كيان يحمل هذا الاسم، ولكن كيانات سياسية، لكلٍّ منها مصالحه وسياساته وارتباطاته وعلاقاته التي قد تتعارض مع غيره من الكيانات الإقليمية، تحليلٌ قريب مما يقول به المتخصصون العرب في معرض تناولهم للواقع العربي، ولكن من باب الدعوة إلى رأب الصدع.
ولا أحد يطلب من الجامعة الأمريكية تبني وجهة النظر العربية بهذا الخصوص، ولكن الترويج لفكرة عدم وجود ما يُسمَّى بالعالم العربي والدول العربية لا علاقة له بالبحث الأكاديمي، ولكنه موقف سياسي واضح، يمد البساط أمام المخططات الصهيو-أمريكية الخاصة بالشرق الأوسط على اختلاف القياسات، ويبعث إلى التساؤل حول حقيقة الدور الجديد للجامعة الأمريكية.
غير أن التساؤل لم يُترَك معلقًا في الهواء؛ ففي ٦ أبريل نشرت «المصري اليوم» لقاء مع الرئيس الجديد للجامعة الأمريكية، ذكر فيه بوضوحٍ ما يعني أن الجامعة غير معنية بالثقافة العربية، في معرض ذكره لخريجي الجامعة ممن يعملون في السلك الدبلوماسي المصري، وكان بطرس غالي قد فتح أبواب الخارجية على مصاريعها لخريجي الجامعة الأمريكية منذ عهد السادات، وقوله إنهم لا يعرفون شيئًا عن ثقافتهم، بل ولا يُحسنون اللغة العربية، وعندما سُئل عن مشاركة باحثين إسرائيليين في أحد مؤتمرات الجامعة في الصيف الماضي، قال إننا نقبل كلَّ إسرائيلي يحصل على تأشيرة دخول مصرية.
ومن الغريب أن يمرَّ هذا التصريح دون أن يلفت نظر أحد سوى أحد قراء «المصري اليوم»، الذي علَّق عليه في بريد القراء؛ لأن ذلك يعني خرقًا من جانب الجامعة الأمريكية لموقف الأكاديميين المصريين من التطبيع، وهو ما حرصت الجامعة على احترامه من قبل، كما يعني العودة بالجامعة إلى شَرنقة الاغتراب، وما ذكره عن ضعف اهتمام الجامعة بالثقافة العربية يؤكد ذلك.
فالرئيس الجديد يدشِّن سياسة جديدة تُضفي على الجامعة الأمريكية دورًا يتلاءم مع مرحلة إعادة ترتيب أمور الشرق الأوسط يتوافق مع المشروع الصهيو-أمريكي للهيمنة على المنطقة.
الملفِت للنظر هنا ورقة قدَّمها جويل بينين، لا صلة لها بموضوع الندوة، عنوانها: «المقاومة من منظور عربي»، حرص من خلالها على الترويج للتوجُّه الجديد للجامعة الأمريكية، ولكن في خدمة المشروع الصهيوني بوضوحٍ تام هذه المرة.
قدَّم بينين في ورقته حصرًا زمنيًّا لانتصارات العرب وانكساراتهم منذ العام ١٩٤٨م، وخلص من ذلك إلى أن الانتصارات تحوَّلت إلى هزائم في مصر والجزائر وفلسطين لماذا؟ لأن خطاب المقاومة العربية حُمِّل بفكرة رومانسية عن التاريخ، أسقطت من اعتبارها أحداث السنوات الثلاثين التي انقضت، وأنَّ على العرب أن يبحثوا عن بديلٍ لتلك الفكرة الرومانسية لمواجهة الصهيونية والولايات المتحدة، واقترح أن يستبدل به ما أسماه هوية المقاومة، وما أطلق عليه هوية المشروع، وأن ذلك يعني التوصُّل إلى صيغة هجين، تدمج ما هو تاريخي بما هو سياسي، تضع في اعتبارها حقائق الأمور، وتهيِّئ الجميع لمواجهة طغيان السوق.
ولا يتضح من العرض الذي قدَّمته الدايلي ستار لوقائع الندوة، ما إذا كان جويل بينين قد قدَّم إيضاحًا لما أسماه هوية المشروع، ولكن يُفهَم منه التلميح إلى ضرورة إغلاق ملف المقاومة، وأن تتسع آفاق العرب والانتباه إلى أن الأرض لم تعُد موضوع الصراع، ولكن طغيان السوق في عصر العولمة، وهو صراع يتطلَّب من العرب إدراك حقائق الأمور والالتحام بالكيان الصهيوني في إطار المشروع الصهيو-أمريكي للشرق الأوسط الذي يحدد قياسه الترزي الإسرائيلي.
هذا الفهم الذي خرجت به ليس فيه أي تجنٍّ على جويل بينين رغم أني لم أقرأ نص الورقة، لسببٍ بسيطٍ، هو أنني لم أُدعَ أصلًا لهذه الندوة، لأن موضوعها الاحتجاجات السياسية والاجتماعية في مصر، ويبدو أن مُنظِّمي الندوة رأَوا الخير، كل الخير، في إعفائي من حضورها لسببٍ ما، لا يعلمه أحد سواهم، ولكن هذا الفهم للفكرة التي يروِّج لها بينين يستند إلى ما أوردته الدايلي ستار عن مُداخلات الحضور على ورقة بينين.
عندما اعترض أحد أصحاب المداخلات على عمومية طرح جويل بينين لمَا أسماه هوية المقاومة العربية، ولفت نظره إلى أن الأوضاع بين الفلسطينيين وإسرائيل ذات طابع خاص، ردَّ بينين بالنص: «الاستعمار الاستيطاني غير قابلٍ للهزيمة، ومن الممكن أن يصبح الفلسطينيون، إذا استمروا في المقاومة، مثل هنود أمريكا، ينتهي بهم الأمر إلى العيش في معازل»! رغم أن هذا سيناريو غير مثالي، واستطرد قائلًا: «دعونا نواجِه حقائق الأمور؛ لقد فشل الكفاح المسلَّح في فلسطين، ولم نعُد نعيش مرحلة التحرر الوطني؛ لقد انتهى عصر التحرر الوطني من الوجود!»
وفي ردِّه على مداخلة أخرى عن قدرة الأمة العربية على المقاومة، تساءل ساخرًا عن معنى الأمة العربية، وعدَّها وهمًا، هناك دول عربية تعكس جامعة الدول العربية حالها، وتبيِّن حقيقة وزنها، وهكذا استخدم بينين حقيقةً ماثلة للعيان ليبرر ما ذهب إليه من إنكار وجود ما يُسمَّى الأمة العربية.
ولست بحاجة هنا إلى تفنيد أُطروحة بينين والرد عليها؛ فالمسألة لا علاقة لها بالبحث العلمي، ولكنها سياسية خالصة، تعمل على تسويق المشروع الصهيو-أمريكي عندنا، وتعبِّر عن اتجاه جديد للجامعة الأمريكية لأن صاحب هذه الآراء، التي تبشِّر بحصر الفلسطينيين في معازِل، شأنهم في ذلك شأن الهنود الحمر في أمريكا، والذي يدعونا إلى أن نعي حقائق الأمور، ونبرأ من نزق المقاومة، ونسلم بالهيمنة الصهيو-أمريكية هو نفسه الرجل الذي اختارته الجامعة الأمريكية لهذه المهمة، مهمة الترويج للمشروع الصهيو-أمريكي؛ لذلك يجب أن ندرك تمامًا خطورة الدور الذي تلعبه الجامعة الأمريكية على أرض مصر، ونعمل على مواجهته.