حقيقة «جويل بينين»١
الآن وقد تحوَّل بعض أصدقاء جويل بينين من العرب إلى أعداءٍ له، لنا الحق في أن نعرف ماذا حدث. كل التُّهم الموجَّهة لجويل لم تقنعني؛ قالوا إنه إسرائيلي الجنسية وهذا غير صحيح، قالوا إنه صرَّح بأن الفلسطينيين سيلاقون مصير الهنود الحُمر وهذا غير صحيح أيضًا، وأنا كنت حاضرًا في الندوة التي نُقِل عنه فيها ذلك، وأشهد أن ذلك غير صحيح، قالوا إنه فتح باب المجلة التي يُشرف عليها في الجامعة الأمريكية لتحليلات فيها مواقف مُبطَّنة منحازة لإسرائيل، وهذا شيء مفهوم في الحقل الأكاديمي، ألا تحجب تحليلات وراءها مواقف سياسية تختلف معها.
في الحقل الأكاديمي التحليل يُواجَه بالتحليل، والعدمية الأخلاقية تُقابَل بأخلاقية شجاعة تواجهها، وهي لكي تواجهها يجب أن تستدعيها إلى النور. هناك عبارة تُكتَب على المجلات الأكاديمية مفادها أن الكتابات المنشورة في المجلة لا تعبِّر بالضرورة عن رأي هيئة تحرير المجلة. نحن لا نأخذ هذه العبارة مأخذ الجِد لأن مجلاتنا تضع هذه العبارة من باب الزينة، من باب ادِّعاء احترام حرية التعبير، ولكن هناك مجلات أخرى تضعها من باب احترام آداب المهنة التي تنتمي إليها. يجب أن نسأل أنفسنا مرارًا وتكرارًا، هل هذه العبارة من باب الزينة، أم باب احترام حقيقي لآداب المهنة؟
أنا فعلًا لا أفهم هذه الحملة على بينين، هل معقول أن المشكلة في أنه قال إن العمل المُسلَّح لن يأتي بنتيجة في النضال الوطني الفلسطيني؟ هذا موقف سياسي يقوم على حسابات باردة، ولا يقوم على التشكيك في شرعية العمل المُسلَّح لتحرير الأرض، مَن يختلف مع هذا الموقف له كل الحق أن ينتقده ويفنده. هل الحملة منطلقة من سوء تفاهم؟ أتمنى أن يكون ذلك كذلك، وأتمنى أن ندخل في نقاشٍ هادئ وموضوعي حول مَن الصهيوني ومَن غير الصهيوني؟ المشكلة الآن لا تتعلق بجويل بينين، ولكنها تتعلق بعلاقتنا باليهود، مَن اليهودي الصهيوني، ومَن اليهودي غير الصهيوني؟
كان هناك تيار في الحركة الوطنية المصرية والعربية يُصر على التمييز الواضح بين اليهودي والصهيوني، وهذا التمييز لم يكن نابعًا فقط من اعتباراتٍ أخلاقية حريصة على ألَّا تحمِّل كل اليهود جرائم البعض منهم، ولكنها كانت مدفوعةً باعتباراتٍ سياسية، مفادها أن كسب المعركة ضد الصهيونية يتطلب عدم التشتُّت، والتركيز مع العدو الأساسي، الفوز بأنصار من اليهود.
هكذا نحتفي بنعوم تشومسكي، وهكذا كنا نفخر بيوسف درويش، وصادق سعد، وشحاتة هارون، وغيرهم، يبدو أن هذا التيار خفَتَ، وأن خطابه ومفرداته تراجعت مقابل خطاب ومفردات تَستخدم كلمة يهودي وصهيوني بالتبادُل، وهي مصيبة كبرى، ليس فقط من مُنطلَق أخلاقي، ولكن من منطلق سياسي أيضًا، لأننا لو ناصبنا العداء لليهود فلن نجد في العالم من يقف معنا سوى الفاشيِّين، وأعتقد أنه لا يشرِّفنا بأي حال من الأحوال أن نلتقي مع الفاشية في أي شيء؛ وفي كل الأحوال، الفاشية تكره العرب كما تكره اليهود.
المنطق القائل: «كم من اليهود غير صهاينة؟» هو منطق مرفوض، لأنه لو فرضنا، جدلًا، أن كل اليهود صهاينة باستثناءٍ واحد فقط فنحن نحتاج إلى هذا اليهودي الواحد لكي نُثبِت بشكلٍ عملي أن مواقفنا ليست عنصرية، وأننا أصحاب مواقف أخلاقية وإنسانية، أتمنى أن تكون الحملة على جويل بينين ليست لها علاقة بديانته.
الجامعة الأمريكية من أفضل المؤسسات التعليمية في مصر، وكاتب هذه السطور تعلَّم فيها الكثير، نعم هي موصومة بكلمة أمريكية، صراعنا مع النظام الأمريكي لا يجب أن يحجب أن هذه الجامعة أخرجت لمصر عناصر عظيمة الكفاءة، صِراعنا مع النظام الأمريكي لا يجب أن يحجب — أيضًا — أن لنا مواقع هناك في عُقر دارهم، والجامعة الأمريكية في القاهرة هي أحد مواقعنا هناك التي يجب أن نحافظ عليها.
لا يجب أن نتخلَّى عن أصدقائنا في هذه المواقع، أنا ما زلت أعتبر جويل بينين أحد الأصدقاء، لا أشك لحظة أنه من معسكر الأصدقاء؛ فكفانا ذبحًا لأصدقائنا. مَن يختلف مع جويل في نظرته لكيفية حل مشكلة فلسطين عليه أن يواجهه وينتقده، وللناس أن تحكم. مَن يقول إن جويل من الأعداء فعليه أن يقدِّم معلومات موثَّقة، غير ذلك سأستمر في اعتباره صديقًا، وصديقًا مخلصًا أيضًا.
جويل بينين هو كاتب أحد أهم الكتب عن الطبقة العاملة المصرية «عُمال على ضفاف النيل» لم ينبذ اهتمامه بعُمال مصر، بالرغم من أن الصراعات الطائفية والدينية طغت وعربدت في المنطقة، صحيح أن اهتمامه قَلَّ بالطبقة العاملة، ولكن من منَّا لم يقِل اهتمامه بالعُمال؟ العقد الماضي كان عقد صراع يتخذ من الهوية والدين عنوانًا له، لكنه عاد وكتب مقالةً عن تحرُّكات العُمال الأخيرة؛ يعني هو يبحث عن بارقة أملٍ في هذا البلد.
جويل بينين هو محرِّر أحد الكتب عن الانتفاضة الفلسطينية، ذلك الكتاب الذي كتب مُقدِّمته إدوارد سعيد، والناس هنا لا تدري ما الثمن الذي يمكن أن تدفعه هناك مقابل تحرير كتاب من هذا القبيل.
جويل بينين لا يستحق ما يتعرض له؛ فهو لم ينتقل لمعسكر الأعداء، هو لا يزال في معسكرنا، المشكلة أننا لا نرى معسكرنا بوضوح، فأصبحنا نقتل بعضنا البعض بنيران صديقة، شيءٌ مؤسف.