كيف تحرر علم الآثار المصرية من السيطرة الأجنبية؟١
ما زالت الآثار المصرية القديمة تخلب لُب العالم، وتثير اهتمام الرأي العام المعني بالتراث الإنساني، ولا أدل على ذلك مما شهده صيف هذا العام من متابعة عالمية للجهود الأخيرة التي بُذلَت للكشف عن إحدى حجرات الهرم الأكبر، استُخدمت فيها أحدث الأساليب التقنية، ورعتها أهم هيئة علمية دولية. ولا عجب أن نسمع أن هذا الحدث قد حظي بأعلى نسبة مشاهدة للبث التليفزيوني، رغم أنه لم يكشف عن جديد مثير. ورغم أن البث تم في غضون الأيام السابقة على ذكرى كارثة «١١ سبتمبر» التي ركزت عليها آلة الإعلام الدولي. هذا فضلًا عما أثارته التجربة ذاتها، والوسائل المستخدَمة فيها من جدلٍ على الصعيد العلمي بين مؤيد ومعارض، مما يعكس مدى «الولع» بالآثار المصرية التي لم تبُح بكل أسرارها بعدُ.
أضِف إلى ذلك، ما تُخرجه المطابع من كتب بمختلف اللغات عن الحضارة المصرية القديمة، ولعلَّنا نذكر العمل المهم الذي وقع في مجلدَين بعنوان: «أثينا السوداء» الذي يُرجِع مؤلفه «برنال» أصول الحضارة الإغريقية إلى الحضارة المصرية القديمة، ملقيًا أضواءً باهرة على دور «أكاديمية الإسكندرية» (التي نعرفها باسم مكتبة الإسكندرية) في بلورة العلوم والفلسفة في العصر الهلِّلينستي وإثرائها، والجذور المعرفية عند علماء ذلك العصر التي تغوص في أعماق حضارة مصر القديمة، وقد أثارت هذه النظرية — وما زالت — الكثير من الجدل بين المتخصصين في مختلف أرجاء العالم.
ولم تنجُ الحضارة المصرية القديمة من ادعاء الصهيونية بأن لليهود الفضل في بناء ما تركته تلك الحضارة العظيمة من آثارٍ تقف شاهدًا على عبقرية صُنَّاعها، وهم يزعمون أن اليهود كانوا بُناتها عندما استعبدهم المصريون قبل أن يُبعث موسى «لتحريرهم». وزايدَ «مناحم بيجن» بتلك الفرية عندما حرص على أن يطير فوق الأهرام ليشهد «عمل أجداده»، عند حضوره إلى مصر — لأول مرة — لمقابلة الرئيس السادات بالإسماعيلية، رغم أن الأهرام بُنيَت قبل ظهور العبرانيين في التاريخ بما يزيد على الألف عام.
وهكذا أصبح تراث مصر القديم — وسيظل — يحتل بؤرة اهتمام العالم، ودليلًا على عبقرية المصري القديم، وقدرته على الإبداع، غير أنه لقي الإهمال من أحفادهم قرونًا عديدة، ويرجع ذلك الإهمال إلى ظرفٍ تاريخي محدَّد، يتصل باعتناق المصريين المسيحية، واتخاذها أداةً في النضال الوطني ضد حكم الرومان، فقد أدى التحمُّس للدين الجديد والعقيدة الجديدة، إلى نبذ كل ما اعتُبر وثنيًّا، وبذلك حدث انقطاعٌ بين ذلك التراث القديم والعقيدة الجديدة، نُبذت فيه المعابد القديمة، وتعرَّضت نقوشها للتشويه، وكذلك بعض تماثيلها، وخاصة في المعابد التي تحوَّلت جوانب منها إلى كنائس في صدر المسيحية. وزاد الانقطاع مساحةً؛ فتحوَّل إلى قطيعة عندما استقلَّت المسيحية المصرية بكنائسها وأديرتها، وبعُدت عن المعابد القديمة.
ولكن تلك «القطيعة» مع الآثار القديمة، لم تكن قطيعة مع التراث الثقافي المصري القديم الذي يكمن في الإنسان ذاته، وليس في الآثار المُشيدة، تعبيرًا عن إبداع ذلك الإنسان. وتجلَّى ذلك في الموروث الثقافي من العادات والتقاليد، بل والإطار الإيماني للمصري، قبطيًّا كان أو مسلمًا (وأعني بذلك ما يسميه علماء الاجتماع «الدين الشعبي») كما كانت اللغة القبطية تغترف من منهَل اللغة المصرية القديمة، لتفيض — فيما بعد — في اللهجة المصرية العامية من اللغة العربية.
لكن ذلك لا يعني أن «لا شيء يأتي من الغرب يسر القلب»، وأن جميع أهل الغرب نظروا إلى تراثنا — وما نتج عن تقصيرنا في رعايته — تلك النظرة السلبية؛ فهناك من وضعوا تراثنا الحضاري في موضعه الصحيح من خلال الدراسة العلمية الدقيقة، وهناك من اهتم — عند تأريخه لعلم الآثار المصرية — بما بذل روَّادنا من جهدٍ في العناية بآثارنا في مختلف العصور.
من هنا تأتي أهمية كتاب جديد صدر منذ ثلاثة أشهر عن دار نشر جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة حمل عنوان: «فراعنة من؟: الآثار والمتاحف والهُوية الوطنية المصرية من نابليون حتى الحرب العالمية الأولى»، ليسد فراغًا في الدراسات التاريخية الخاصة بتاريخ العلوم، وتاريخ علم المصريات على وجه الخصوص، وهو مجالٌ ندر التأليف فيه عمومًا، وغاب التأليف فيه عندنا.
لقد سار علم الآثار — كما يُلاحِظ المؤلف — مع الإمبريالية والهيمنة الغربية يدًا بيدٍ، فهناك من علماء الغرب، ورحَّالته، وقناصله في مصر وغيرها من البلاد التي كانت تخضع للدولة العثمانية، مَن كانوا يرَون أن أهل البلاد لا حقَّ لهم في تلك الآثار التي يتم العثور عليها، فهم لا يقدِّرون قيمتها، ولا يعنيهم من أمرها إلا ما قد يدرُّه عليهم بيعها من مال، والأولى بها الأوروبيون الذين يفردون لها الأماكن اللائقة بها، في متاحفهم باعتبارها تراث الإنسانية؛ فلا علاقة للمصريين أو العراقيين أو الفلسطينيين (المتخلِّفين) بما يتم العثور عليه من آثار في بلادهم، فهي تخص حضاراتٍ أرقى، لا يمتُّ إليها أولئك (الهمج) بصِلة.
من هذه المقولة التي ردَّدها المؤلف — غير مرة — في فصول كتابه القيِّم، كان انطلاقه لتأليف الكتاب لدحضها، متخذًا من حالة مصر ومن علم المصريات مدخلًا للدراسة؛ فيبدأ — للوهلة الأولى — بتلك الفِرية التي كادت أن تصبح حقيقة مسلَّمة في الثقافة الغربية، بل كانت كذلك — على أقل تقدير — في القرن التاسع عشر. فيعدِّد دونالد مالكولم ريد كُتَّاب الخطط الذين ذكروا الآثار المصرية، وقدَّموا وصفًا لها في العصر الذي كتبوا فيه قبل القرن التاسع عشر بعدة قرون، ولكنه يُلقي المزيدَ من الضوء على اهتمام الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، ورفاعة رافع الطهطاوي، وعلي باشا مبارك، لا بالآثار وحدها، ولكن بتاريخ مصر القديم، وبين ما تدل عليه كتاباتهم من وعيٍ بالقيمة التاريخية لما يقع على أرض مصر من شواهد أثرية تدل على تراثها الحضاري العريق.
ومن ثَم يصبح اتهام المصريين خصوصًا، والعرب عمومًا، بعدم إدراك القيمة التاريخية للحضارات القديمة التي قامت في بلادهم مجرد مبرر — من وجهة نظر المؤلف — لاستلاب المصريين آثارهم الثمينة لتعمُر بها متاحف أوروبا، وتزدان ميادينها بالمسلات المصرية.
وإذا كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر يمثِّل عصر نضج الثورة الصناعية في أوروبا، الذي شهد هيمنة غرب أوروبا على الأسواق العالمية لتصريف بضائعها واستثمار فائض رءوس أموالها، وضمان الحصول على المواد الخام اللازمة للصناعة بأبخس الأثمان، فهو العصر الذي لعب فيه الأوروبيون الدور الرئيس في وضع أسس «علم المصريات»، وفي إرساء دعائم علم الآثار والعناية بها، وإقامة المتاحف في مصر. ففيما بين عامَي ١٨٥٨م و١٩٠٨م سيطر الأوروبيون على الإدارة التي عُنيت بالآثار، وعلى المتاحف التاريخية الأربعة التي أقيمت خلال تلك الفترة: المتحف المصري (الأنتيكخانة) الخاص بتاريخ مصر في العصر الفرعوني، والمتحف اليوناني-الروماني بالإسكندرية، والمتحف القبطي بمصر القديمة، ومتحف الفن العربي (الذي عُرف بمتحف الفن الإسلامي فيما بعد). وهكذا سيطر الأوروبيون على الآثار المصرية في الوقت نفسه الذي كانوا يُحكِمون فيه السيطرة على مصر ذاتها من خلال الهيمنة على اقتصادها وماليَّتها ثم احتلالها.
لقد عرف المصريون علم الآثار عن طريق الأوروبيين، ولكنهم ما لبثوا أن عملوا على امتلاك ناصيته، وتوظيفه لخدمة أمانيهم الوطنية، وإذا كان سعيد باشا هو أول من أنشأ متحفًا للآثار الفرعونية عام ١٨٥٨م، وإدارة للآثار رأسهما معًا مارييت بك الفرنسي، فقد أسَّس الخديو إسماعيل عام ١٨٦٩م أول مدرسة مصرية عُليا لدراسة المصريات عُرفت باسم «مدرسة اللسان المصري القديم» تولى «نظارتها» عالم الآثار الألماني هنريش بروجش، والتحق بالمدرسة عشرة من الطلاب المصريين الذين اختيروا من بين المتفوقين في اللغة الفرنسية، باعتبارها لغة التدريس بالمدرسة. وقد درس أولئك التلاميذ الكتابة المصرية القديمة واللغة القبطية، إضافة إلى الألمانية والإنجليزية، وتاريخ مصر القديم، وأصول علم الآثار. وإضافةً إلى إدارته لهذه المدرسة، وتكوينه للطلاب المصريين، قام هنريش بروجش بإلقاء محاضرات في تاريخ مصر القديم بدار العلوم، كان يلقيها بالفرنسية، ويترجمها أحد تلاميذه أو معاونيه إلى العربية، ونشر بعضها بمجلة «روضة المدارس المصرية» التي رأس رفاعة الطهطاوي تحريرها. كذلك نشر بروجش جدولًا بملوك مصر القُدامى، ومقالات في أصول الكتابة المصرية القديمة بالمجلة نفسها، مما أتاح فرصة نشر المعرفة بالمصريات وتاريخ مصر القديم لأول مرة باللغة العربية. وتدرَّب الطلاب بمدرسة «اللسان المصري القديم» على الحفريات الأثرية في الصعيد.
وفي عام ١٨٧٢م تخرَّج في أول مدرسة للآثار المصرية سبعة طلابٍ، كان على رأسهم أحمد كمال (الذي أصبح أول عالِم مصرياتٍ مصري فيما بعد). ولكن مارييت باشا مدير الآثار رفض قبولهم للعمل بإدارة الآثار؛ خشية أن يؤدي وجودهم فيها إلى إنهاء الوجود الأوروبي — خاصة الفرنسي — بالإدارة. وكان قد بدأ يضايق الطلاب منذ افتتاح المدرسة؛ فأصدر أوامره لموظفي المتحف بمنع الطلاب من نسخ النصوص المصرية القديمة. ولما لم يجد أولئك الخريجون مكانًا لهم في مجال الآثار عُيِّنوا مدرسين ومترجمين للغتين الفرنسية والألمانية. وهكذا بدَّدت السيطرة الأوروبية على إدارة الآثار الجهود التي بذلها إسماعيل لإعداد أول أثريين مصريين؛ فقد أُغلقَت مدرسة «اللسان المصري القديم» في السنة التي تخرج فيها أولئك الطلاب السبعة نفسها.
ورغم ذلك أثمرت جهود المدرسة وناظرها — وما نشرته مجلة «روضة المدارس المصرية» من محاضرات الدكتور بروجش في دار العلوم، وغيرها من المقالات والدراسات التي نُشرت مترجمةً إلى العربية، أو كتبها بعض طلاب المدرسة — في نشر الوعي بتاريخ مصر القديم بين المتعلمين ورجال السياسة، وتجلَّى ذلك في الخطاب السياسي والثقافي الذي تغنَّى بمجد مصر القديم، سواء كان ذلك في كتابات رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، وميخائيل عبد السيد، أو في أحاديث السيد جمال الدين الأفغاني، وأحمد عرابي، وعبد الله النديم، أو في تصميم الجناح المصري في معارض لندن وباريس والولايات المتحدة على النسق الفرعوني، أو في اتخاذ الأهرام وأبي الهول رمزًا لمصر على طوابع البريد وغيرها، واتخاذ «الأهرام» اسمًا لأبرز الصحف التي صدرت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. هذا الوعي بالتراث المصري القديم ما كان ليتحقق لولا ذلك الدور البارز الذي لعبته أول مدرسة للمصريات «مدرسة اللسان المصري القديم» — رغم قصر عهدها — وساهمت في نشره أهم مجلة ثقافية مصرية «روضة المدارس».
وساهم الأجانب المقيمون في مصر — أيضًا — في ذيوع الاهتمام بالتراث المصري القديم، ففي عام ١٨٥٩م أسست مجموعة من نخبة الجاليات الأجنبية في مصر «المجمع المصري» بالإسكندرية؛ حيث كان الوجود الأجنبي بها كثيفًا. وجاء إنشاء «المجمع المصري» مصاحبًا للبدء في أعمال حفر قناة السويس، وقد كانت ذكريات «المجمع العلمي المصري» الذي أقامه نابليون بونابرت في مصر أيام الحملة الفرنسية، حاضرةً في أذهان مؤسِّسي المجمع المصري، فأرادوا إحياءه تحت رعاية الوالي محمد سعيد باشا، ولكن ليصبح اهتمامه مركَّزًا على الآثار المصرية والتراث المصري القديم. وتعاقب على رئاسته (فيما بعد ١٨٦١–١٩١٧م) أربعة فرنسيين، ثم خلَفهم يعقوب باشا أرتين وكيل نِظارة المعارف، وضمَّ المجمع في عضويته — بالإضافة إلى الفرنسيين — إنجليزًا، وإيطاليين وألمانًا، وكانت اللغات الأربع لغات معتمدةً لمنشورات المجمع ومحاضراته، بينما كانت الفرنسية لغة مجلس الإدارة، وحدَّد المجمع هدفه بالعمل على «إحياء المعارف القديمة على ضِفاف النيل، تلك المعارف التي تعود إليها عظمة مصر القديمة مهد الآداب والعلوم والفنون.» وقد انتقل «المجمع المصري» إلى القاهرة عام ١٨٨٠م.
ورغم أن الأجانب كانوا يمثِّلون أغلبية أعضاء «المجمع المصري» فقد وجدت نخبة العلماء المصريين لنفسها مكانًا بين الأعضاء، وكان على رأس تلك النخبة رفاعة الطهطاوي، وإلى جانبه علي باشا مبارك ومحمود الفلكي (الذي كان العضو المصري الوحيد بمجلس الإدارة).
وتجلَّى اهتمام «المجمع المصري» بالآثار المصرية من اختيار مارييت نائبًا للرئيس، وغلبة الموضوعات الأثرية على محاضرات المجمع ومنشوراته، فألقى مارييت ومحمود الفلكي محاضراتٍ حول تاريخ مصر القديم، وقدَّم الفلكي دراسةً لفرع النيل الكانوبي الذي كان يصل فرع رشيد بالإسكندرية. وقد نُشرت دراسات الفلكي بالفرنسية في عددٍ من الدوريات العلمية الأوروبية الشهيرة عندئذٍ، وانضم أحمد كمال (أول عالِم آثار مصري) إلى المجمع عام ١٩٠٤م.
كذلك اهتمت «الجمعية الجغرافية الخديوية» التي أسَّسها الخديو إسماعيل عام ١٨٧٥م، اهتمامًا جزئيًّا بالآثار المصرية القديمة. وكانت تلك الجمعية تضم في عضويتها أغلبية من الأجانب الممثلين للجاليات الموجودة — عندئذٍ — بمصر، على نحو ما رأينا في «المجمع المصري»، ولكن تميزت «الجمعية الجغرافية الخديوية» بوجود أعضاء أمريكيين من الضباط الذين عملوا في قيادة الجيش المصري في عهد الخديو إسماعيل.
ويربط المؤلف بين اشتراك مصر في المعارض الدولية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ورواج حركة السياحة الأوروبية والأمريكية المتجهة إلى مصر لمشاهدة الآثار المصرية، ويلفت المؤلف الأنظار إلى مواكبة الاهتمام بزيارة مصر مع بدء حركة السياحة الأوروبية الخارجية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث نضجت مرحلة الرأسمالية الصناعية، واتسع نطاق الطبقة الوسطى ذات الدخول الكبيرة، وزاد ميلها إلى الاستمتاع بجانبٍ من فائض مدخراتها في السياحة الخارجية، وخاصةً زيارة مصر وفلسطين؛ حيث مهد الحضارة القديمة، ومسرح الأحداث التي سجَّلها الكتاب المقدس.
فقد جاء اشتراك مصر في «المعرض الصناعي الدولي الكبير» الذي أقيم بلندن عام ١٨٥١م بجناحٍ صُمِّم على الطراز الفرعوني، مثيرًا لاهتمام الأوروبيين والأمريكيين الذين جاءوا لزيارة أول معرض دولي يُقام في العالم، وبهرتهم مظاهر الحضارة المصرية القديمة التي عبَّر عنها «الجناح المصري»، وحدث الأثر نفسه عندما اشتركت مصر في «المعرض الدولي» الذي أُقيم في باريس عام ١٨٥٥م، وكذلك عام ١٨٦٧م، خاصة أن المعرض الأخير شهد جناحًا مصريًّا متميزًا عبَّر عن التراث المصري القديم ببُعدَيه الفرعوني والإسلامي.
وبعد أن كان قدوم الأجانب إلى مصر قَصرًا على الرحالة والمغامرين، وأعضاء البعثات التي جاءت إلى مصر بقصد جمع الآثار للإتجار بها في أوروبا، أو لحساب المتاحف الأوروبية، شهدت مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قدوم الأفواج السياحية التي نظمها بيت سياحي بريطاني ما لبث أن اكتسب شهرة عالمية كأول مشروع يعرفه العالم في هذا المجال، ونعني به «توماس كوك وولده»، الذي بدأ نشاطه عام ١٨٤١م بتنظيم رحلات داخلية بالقطار من وسط إنجلترا إلى لندن، واتسع نشاطه مع إقامة «المعرض الصناعي الكبير» عام ١٨٥١م، فزادت رحلاته الداخلية إلى لندن لمشاهدة المعرض، ثم نظم رحلات خارجية — لأول مرة — لزيارة معرض باريس ١٨٥٥م، وكذلك رحلات لزيارة جبال الألب وإيطاليا.
وجاء تنظيم توماس كوك للرحلات السياحية إلى مصر ليحوِّل هذا البيت السياحي إلى مشروع دولي كبير، ربط أوروبا وأمريكا بمصر من خلال الرحلات السياحية التي قام بتنظيمها مُستخدمًا السفن البخارية، ومبتدعًا خطوط البواخر النيلية، ومشجعًا ومشاركًا في إقامة الفنادق لإقامة السياح بالأقصر وأسوان والقاهرة، ثم جاء امتداد الخطوط الحديدية إلى أسوان قبيل نهاية القرن ليساعد على اختزال زمن الرحلة، ومن ثَم تخفيض الكُلفة المادية، وزيادة أعداد الرحلات السياحية المتجهة إلى مصر. وهكذا صنع «توماس كوك وولده» إمبراطورية سياحية كبرى ظلت تسيطر على هذا المجال كبيتٍ عائلي حتى تم بيعها لشركة «عربات النوم الدولية» لتتحوَّل بذلك إلى شركة مساهمة عالمية عام ١٩٢٦م.
ولم تكن زيارة المواقع الأثرية وحدها على جدول زيارات الأفواج السياحية الأوروبية والأمريكية التي كان يجلبها «توماس كوك وولده» إلى مصر، بل كانت زيارة المتحف المصري بالقاهرة من أهم المواقع التي تتجه إليها أفواج السائحين، وكان المتحف قد أقيم — على نحو ما رأينا — عام ١٨٥٨م في عهد سعيد باشا على شاطئ النيل عند بولاق (وهو الموقع الذي يقع الآن بين مبنى التليفزيون ومبنى وزارة الخارجية على كورنيش النيل). وكان اختيار الموقع يهدف إلى تيسير نقل الآثار التي ترِد من الصعيد على المراكب النيلية، واشتمل المبنى على «مصلحة الأنتيكخانة» (التي كانت تابعة لنظارة الأشغال العمومية)، وصالات عرض التحف الأثرية، ومقر إقامة مدير الآثار.
ولكن ما لبث المكان أن ضاق بمقتنياته وزواره، فتم نقل المتحف في أواخر عهد الخديو إسماعيل إلى قصر الحرملك بالجيزة (وكان يقع على مشارف حديقة الأورمان)، واستمر هناك حتى أقيم له مبنًى خاص بميدان الخديو إسماعيل (التحرير الآن). وهو المبنى الحالي الذي افتُتح في عهد الخديو عباس حلمي الثاني عام ١٩٠٢م، وينوء الآن بما يحتويه من آثار بعد قرن من الزمان دون أن تسعى الحكومات المتعاقبة إلى التفكير في إقامة متحف آخر إلا في السنوات الأخيرة، ولم يتجاوز الأمر حدودَ التفكير بعد!
وظلَّت الآثار الفرعونية وحدها موضع الاهتمام حتى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، عندما بدأ الاهتمام بالآثار اليونانية-الرومانية، وكذلك الآثار العربية (الإسلامية) لتُضاف بذلك نواة لمتحفَين آخرَين لهذين العصرين، وجاء الاهتمام بالعصر القبطي متأخرًا (في أوائل القرن العشرين)، وأسفر ذلك الاهتمام عن إقامة المتحف القبطي، لتكتمل بذلك دُور العرض المتحفي للآثار المصرية على مَر العصور.
جاء الاهتمام بالعصر اليوناني-الروماني من خلال البحث في تاريخ مدينة الإسكندرية، ويعود إلى العالِم المصري محمود الفلكي فضل ريادة الحفائر الأثرية بالإسكندرية (عام ١٨٦٥-١٨٦٦م) بهدف التحقق من بعض مواقع الإسكندرية القديمة، ونشر خريطة الإسكندرية القديمة محقَّقة في مجلة المجمع العلمي المصري (١٨٦٨-١٨٦٩م) مع تقرير بنتائج الحفائر، وقد نُشر أيضًا بكوبنهاجن، وقد استفاد محمود الفلكي من خبرته كمهندس في تحديد مواقع الحفر وتنفيذه في وقتٍ لم يكن قد عُرفت فيه — بعدُ — الأصول العلمية والفنية لتنفيذ الحفائر الأثرية، ومن ثَم كان عمل محمود الفلكي مبتكرًا في هذا المجال، ولم يتابع أحدٌ بعده الحفر بالإسكندرية بشكلٍ علمي منظم حتى نهاية ذلك القرن.
وفي ١٨٩١م أسس بعض الإيطاليين والإنجليز بالإسكندرية «الجمعية الأثينية»، ونجحت الجمعية في إقناع المجلس البلدي بالإسكندرية باتخاذ قرارٍ بإنشاء المتحف اليوناني-الروماني، ومكتبة البلدية، ووافقت الحكومة على القرار بعد تردُّد لبعض الوقت، على أن يخضع المتحف لإشراف مصلحة الآثار المصرية، وتتحمَّل البلدية نفقات إقامته. وتأسست «جمعية آثار الإسكندرية» عام ١٨٩٣م لترعى إقامة المتحف دون أن يكون بين أعضائها مصريٌّ واحد، بل ضمَّت نخبة الجاليات الأجنبية بالمدينة من المثقفين ورجال الأعمال، ونجحت الجمعية في إقامة المتحف اليوناني-الروماني عام ١٨٩٧م. وظلَّت إدارة المتحف بأيدي الإيطاليين حتى مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، على حين ظلت إدارة «المتحف المصري» بأيدي الفرنسيين حتى ذلك التاريخ أيضًا.
واستطاعت «جمعية آثار الإسكندرية» أن تجمع أموالًا كوَّنت «صندوق الاكتشافات المصرية» تم الإنفاق منه على الحفائر الأثرية المتعلقة بالعصر اليوناني-الروماني، وشراء التحف لعرضها بالمتحف، وكذلك أوراق البردي اليونانية التي تم جمعها من خلال الحفائر.
أما عن الآثار الإسلامية، فيعود الاهتمام بها إلى «لجنة حفظ الآثار العربية» التي شكَّلها الخديو إسماعيل عام ١٨٦٩م بناء على اقتراح من مهندس نمساوي (أوجست سالزمان) لترميم مسجد الظاهر بيبرس، ولكن الأمر لم يتجاوز حد صدور القرار بتشكيل اللجنة، ولم يتم دعوتها للانعقاد حتى نهاية عهد إسماعيل، وفي ديسمبر ١٨٨١م أعاد الخديو توفيق تشكيل اللجنة من شخصياتٍ أجنبية: إنجليز وفرنسيين وإيطاليين وألمان، وكانت اللغة المُستخدَمة في أعمال اللجنة هي اللغة الفرنسية، وقد عقدت اللجنة أول اجتماعاتها في فبراير ١٨٨٢م، ثم تعطَّلت أعمالها بسبب حوادث الثورة المصرية، ووقوع الاحتلال البريطاني لمصر، فاجتمعت في ديسمبر ١٨٨٢م برئاسة ناظر الأوقاف محمد زكي باشا، والذي أصبحت اللجنة تتبع وزارته.
وظل عمل اللجنة قصْرًا على النظر في ترميم المساجد القديمة التاريخية في حدود الميزانية الفقيرة التي ظلت في حدود ما يقل قليلًا عن أربعة آلاف جنيه سنويًّا، حتى عام ١٨٩٦م، عندما قفزت الميزانية المُخصَّصة لها إلى عشرين ألفًا من الجنيهات، ولم يتجاوز ما تم إنفاقه على ترميم الآثار الإسلامية حتى عام ١٩٠٦م (أي بعد ربع قرن من إنشاء اللجنة) ٢٠٥ آلاف من الجنيهات.
وتولَّت لجنة «حفظ الآثار العربية» إقامة «متحف الفن العربي» عام ١٨٨٤م في فناء مسجد الحاكم بأمر الله؛ حيث تكدست التحف المجموعة من هنا وهناك دون اتِّباع لأساليب العرض المتحفي، ودون أن يكون هناك خبراء بالفن العربي (الإسلامي) بذلك المتحف، ولم تهتم كتب «الدليل السياحي» الخاصة بمصر بذكر ذلك المتحف إلا نادرًا، وفي عام ١٨٩٨م تم رصد اعتماد لبناء مبنًى بباب الخلق يضم دار الكتب الخديوية ومتحف الفن العربي معًا؛ حيث تم افتتاح المتحف عام ١٩٠٣م، ويُعرَف الآن بمتحف الفن الإسلامي.
وجاء الاهتمام بإقامة «المتحف القبطي» بمبادرة شخصية من مرقص سميكة — أحد أعيان الأقباط — الذي راعه ما تتعرض له التحف القبطية من ضياع؛ فأخذ على عاتقه مهمة جمعها، والدعوة لإقامة متحف للفن القبطي للحفاظ عليها، وكان مرقص سميكة قد سعى لمد اختصاص «لجنة حفظ الآثار العربية» ليشمل ترميم الكنائس والأديرة التاريخية، وهو ما كان محلَّ اعتراض البابا كيرلس الخامس.
وفي ١٨٩٦م تم تعديل تشكيل اللجنة لينضم إليها عضوان من الأقباط، وتم رصد اعتماد لترميم الكنيسة المعلَّقة، ولكن كيرلس الخامس ظل معترضًا على تدخُّل اللجنة في أعمال ترميم الكنائس باعتباره أمرًا يخص الكنيسة وحدها، وأخيرًا وافق البابا على ترميم الكنيسة المعلَّقة عام ١٩٠٦م (وهو العام الذي أصبح فيه مرقص سميكة عضوًا باللجنة)، كما وافق على إقامة «متحف قبطي» عام ١٩٠٨م مقابل مساندة مرقص سميكة له في مواجهة دعاوى الإصلاح التي تبنَّاها المجلس الملِّي للأقباط الأرثوذكس، واشترط أن يكون «المتحف القبطي» تابعًا للكنيسة، وتم افتتاح المتحف القبطي عام ١٩١٤م.
وقد حرص دونالد مالكولم ريد في هذا الكتاب «فراعنة من؟» على أن يؤرخ لرواد علم الآثار المصريين ممن مارسوا العمل الأثري ليدحض مقولة إن علم الآثار علم غربي لا شأن لأهل الشرق به. وهكذا رأيناه يحرص على تسجيل اهتمام الكُتَّاب المصريين بالآثار، ويلقي الضوء على الوعي بتاريخ مصر القديم وتراثها الحضاري عند المصريين، كما سجَّل فضل محمود الفلكي في ريادة الحفائر الأثرية في الإسكندرية — على نحو ما رأينا — ولكنه أفرد مساحة أوسع من دراسته لثلاثة من رواد العمل الأثري المصريين: أحمد كمال، وعلي بهجت، ومرقص سميكة (باعتباره صاحب فكرة المتحف القبطي).
ورغم اضطرار أحمد كمال إلى العمل كمدرس للغتين الفرنسية والألمانية بالمدارس بعد تخرُّجه من «مدرسة اللسان المصري القديم» ظل يتطلع إلى العمل بالآثار، ولم يستطع الحصول على وظيفة مترجم بالمتحف المصري إلا بوساطة مصطفى رياض باشا رئيس الوزراء (١٨٨١م). وسرعان ما أثبت أحمد كمال كفاءته للعمل كأثري، وأسند إليه ماسبيرو مهمة إدارة مدرسة صغيرة أقيمت بالمتحف لتعليم خمسة من المصريين علم المصريات، وكان أحمد كمال يتولى تدريس الكتابة المصرية القديمة، واللغة الفرنسية والتاريخ براتبٍ قدره ثمانية جنيهات شهريًّا، وعاونه ثلاثة من المدرسين المصريين لتدريس اللغة العربية والرياضيات والجغرافيا.
وفي أبريل ١٨٨٢م أضاف ناظر الأشغال العمومية عشرة طلاب آخرين إلى المدرسة من أبناء الأعيان، كان من بينهم أربعة من الأقباط. وفي عام ١٨٨٥م تم تخريج طلاب المدرسة المصرية الثانية لعلم المصريات، ولم يجد ماسبيرو سبيلًا لتعيينهم كمفتشين للآثار إلا بإلغاء المدرسة، وتحويل اعتماداتها المالية لتمويل الوظائف التي عُيِّن عليها الخريجون.
وفي ١٨٩١م أصبح أحمد كمال أمينًا مساعدًا للمتحف المصري، وظل أحمد كمال يراقب الأجانب الأقل كفاءةً يتخطَّونه إلى منصب أمين المتحف حتى عام ١٩١٤م، ولم يستجب أحد لشكواه المتكررة من التحيُّز للأجانب على حساب المصريين. ورغم ذلك كان أحمد كمال محل تقدير ماسبيرو (الأدبي)، فأشركه معه ضمن لجنة من علماء الآثار في أوروبا للمشاركة في إعداد كتالوج الآثار المصرية الذي نُشر بالفرنسية والإنجليزية والعربية، كما أصبح أحمد كمال عضوًا بالمجمع المصري عام ١٩٠٣م، وقام بتدريس تاريخ مصر القديم بالجامعة المصرية عند تأسيسها عام ١٩٠٨م، وأقنع وزارة المعارف بإنشاء قسم لعلم المصريات بمدرسة المعلمين العليا عام ١٩١٠م، تخرجت أول دفعة منه (عشرة طلاب) عام ١٩١٢م، وساهم أحمد كمال وتلاميذه في الحفائر التي تمت حتى قيام الحرب العالمية الأولى، وكتب عددًا من الكتب، ونشر ٢١ تقريرًا عن الحفائر بالفرنسية في مجلة المجمع العلمي ومجلة الجمعية الجغرافية الخديوية.
أما علي بهجت (رائد علم الآثار الإسلامية) فقد كان موظفًا بديوان وزارة المعارف، ونُقل عام ١٩٠٠م إلى «لجنة حفظ الآثار العربية» لإنقاذه من دانلوب (مستشار الوزارة) بوساطة يعقوب أرتين باشا (وكيل الوزارة). وفي عام ١٩٠٢م عُيِّن أمينًا مساعدًا بمتحف الفن العربي، وظل (كصاحبه أحمد كمال) دون ترقية حتى عام ١٩١٤م بسبب تفضيل الأجانب على المصريين رغم قلة كفاءتهم، وقد استطاع عام ١٩١٢م أن يدير حفائر الفسطاط بكفاءة كبيرة جعلته رائدًا للآثار الإسلامية، وأصبح أول أمين مصري للمتحف الإسلامي عام ١٩١٤م، ولكن أمانة المتحف انتقلت إلى الأوروبيين مرة أخرى بعد وفاته (عام ١٩٢٤م).
وخلال تتبُّعه لتاريخ علم الآثار المصرية والمتاحف من حملة نابليون بونابرت حتى عام ١٩١٤م، لم يُسقِط المؤلف من اعتباره التطور العلمي والمعرفي والثقافي في مصر القرن التاسع عشر، بل اتخذ منه إطارًا عامًّا لدراسة موضوعه الأساسي؛ فرسم للقارئ معالم النهضة العلمية والثقافية التي صاحبت مشروع محمد علي من إقامة نظام التعليم الحديث إلى حركة الترجمة إلى الاتصال المعرفي بالحضارة الأوروبية الحديثة، كذلك وضع بين يدي القارئ العلاقة بين التطورات التي شهدتها مصر في عهد الخديو إسماعيل، ومشروعه الثقافي الشامل الذي تولى صياغته علي مبارك بمساعدة رفاعة الطهطاوي. كما لم يفصل المؤلف بين الاهتمام بالآثار من جانب الأجانب والموجة الإمبريالية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر التي استهدفت فتح الأسواق لاستثمار فائض رءوس الأموال وتصريف الإنتاج، وسعت إلى حماية مصالحها من خلال الهيمنة السياسية على مصر.
وهو إذ يتحدث عن محاولات الأجانب إبعاد المصريين عن ميدان الآثار، يضع أمام القارئ صورة الصراع الذي دار بين المصريين والأجانب من أجل تحرير بلادهم من الهيمنة الأجنبية، ويعالج العلاقة بين الرواد مثل: أحمد كمال وعلي بهجت، والأجانب، في سياق العمل الوطني الذي يهدف إلى الحفاظ على الهُوية المصرية، ويحرص في خاتمة الكتاب على أن يُلقي الضوء على ما حدث لعلم الآثار من تطورات بعدما ملكت مصر أمرها بيدها، وما تركته الكشوف الأثرية المهمة (مثل اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون) من آثار إيجابية على الحركة الوطنية المصرية.
لقد سبق للمؤلف أن قدم تاريخًا ثقافيًّا لمصر في القرن العشرين من خلال دراسته لجامعة القاهرة، وكتابه الذي بين أيدينا اليوم يقدم تاريخًا ثقافيًّا لمصر في القرن التاسع عشر من خلال دراسته لتاريخ علم الآثار والمتاحف في مصر، وهو ما يضفي على العمل أهميةً خاصةً، ويجعله مرجِعًا أصيلًا لمن يريد الوقوف على تطور مصر الثقافي في القرن الذي شهد التحولات الكبرى في تاريخ مصر الحديث.