بل هي أفكارٌ قديمةٌ لديه١
تحت عنوان «هذا الدور المريب للجامعة الأمريكية»، نشرت جريدة «العربي» في عددها الماضي ٥/١٣ مقالًا مهمًّا لأستاذ التاريخ المرموق الدكتور رءوف عباس، أزاح فيه النقاب عن طبيعة الدور الذي نهضت به الجامعة الأمريكية بالقاهرة، منذ مبتدأ أمرها، وماهية مشروع دراسات الشرق الأوسط الذي تولَّى شأنه جويل بينين، عبر نشرته الإلكترونية التي توخَّت في عددها الأول التعبير عن (وجهة النظر الإسرائيلية المحضة) وفي عددها الثاني (الترويج لفكرة عدم وجود ما يُسمَّى بالعالم العربي والدول العربية).
ثم عرج سيادته إلى الندوة التي عقدتها الجامعة الأمريكية يوم ٢٤ من أبريل، وغطَّت أعمالها صحيفة «الديلي ستار» المصرية التي تصدر في مصر بالإنجليزية، وكانت باسم (الاحتجاجات السياسية والاجتماعية في مصر … عرض لجهود ثلاثين عامًا) غير أن عنوانها «المقاومة من منظور عربي»، حرص من خلالها على الترويج للتوجُّه الجديد للجامعة الأمريكية، ولكن في خدمة المشروع الصهيوني بوضوحٍ تام هذه المرة، على حد تعبيره.
وهنا أود أن أشير في هذا السياق إلى أن جويل بينين أستاذ التاريخ بجامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا الأمريكية، والذي يجيد العربية قراءةً وكتابةً، سبق له وأن طرح الأفكار سالفة الذكر في كتابه الذي حمل اسم «العلم الأحمر … هل كان يرفرف هناك؟: السياسات الماركسية والنزاع العربي الإسرائيلي» الذي ترجمه الأستاذ كمال السيد، ونشرته دار «الثقافة الجديدة» عام ١٩٩٦م، وفيه يركز الاهتمام على ما دعاه ﺑ «محاولة لإعادة تشكيل مفهوم تاريخ النزاع الفلسطيني العربي-الإسرائيلي من خلال عدسات تاريخ السياسات الماركسية، والغرض من القيام بهذا هو دراسة العملية التي تحققت بها هيمنة السياسات القومية، وتأكيد الوجود التاريخي لسياسات بديلة مع تحليل أسباب فشلها» (ص١٣).
وتعمَّد طول الوقت تجنُّب استخدام مفهوم «الصراع العربي-الصهيوني»، كما يمثل لنا في إسرائيل، نافيًا وجوده بذلك من الأساس، وكأنه مجرد نزاع أو حاجز نفسي يزول بالتطبيع الرسمي ومشروع التسوية المفروض عنوةً واقتدارًا على المنطقة العربية من قِبَل أعدائنا التاريخيين، وراح يخلط الأوراق بعضها ببعض إصابةً لأهدافه المُرتجاة؛ فرأى أن النظام الناصري لم يسعَ إلى تحقيق فهم أكثر جدية لمصادر قوة إسرائيل، وما الذي قد تعنيه هذه القوة بالنسبة لمصر والعالم العربي بأكثر مما فعل النظام القديم، وهكذا استمر سوء فهم الشعب المصري لطبيعة إسرائيل والصهيونية.
ثم يؤكد بعدها «أن العداء للسامية من الطراز الأوروبي لم يكن جدَّ بارزٍ في مصر قبل الحرب العالمية الثانية، ولم تصبح التفرقة الصريحة ضد غالبية اليهود المصريين — الذين لم يكونوا شيوعيِّين — والصهيونيين، واضطهادهم شائعة إلا بعد مهاجمة إسرائيل لمصر في ١٩٥٦م» (ص٢٤).
وهذه مغالطات لا تنطلي على أحد؛ لأن موقف الشعب المصري من إسرائيل لم يبدأ من عام ١٩٥٦م، بل بدأ انطلاقًا من هزيمة فلسطين، وإعلان دولة الجيش العبري عام ١٩٤٨م، بما مثَّله من انتقاصٍ للهُوية القومية العربية وإذلالٍ سياسي لشعوبنا، وإخضاعها لقهرٍ واستغلال دائمَين؛ لذا غدا من المثير للضحك ما حاول جويل بينين تمريره عبر قوله: خلال لحظتين في تاريخ إسرائيل لم يحظَ فيهما التوسُّع الإقليمي بتأييدٍ كبير، ولم يكن عاملًا أساسيًّا في منظور قيادتها السياسية خلال مطلع الخمسينيات، وبعد الانسحاب الإسرائيلي من سيناء وغزة في ١٩٥٧م، يمكن تخيُّل أن نظامًا مصريًّا أكثر ثباتًا في سعيه للسلام، وأقل التزامًا بالقومية العربية، ربما كان قادرًا على التوصُّل لتسوية مع إسرائيل مماثِلة لتلك التي تحققت في ١٩٧٩م (ص٢٥).
قافزًا بالطبع على مجمل الشروط الموضوعية التي اتسم بها المشروع الصهيوني منذ نشوئه؛ أي قيامه على أساس التناقض الرئيسي بينه وبين المصالح التاريخية للشعوب العربية، الأمر الذي جعل كل تراخٍ في اليقظة العدوانية لدى إسرائيل، وكل نقص في وحدتها الداخلية، وبالتالي في طاقتها الهجومية الإجمالية، يشكِّل خطرًا يُضمر لها الموت. وبذلك تحدَّد فهم إسرائيل واستقر للسلام المدَّعى بوصفه استسلامًا كاملًا وقبولًا مطلقًا من لدُنَّا لإملاءاتها، من هنا جاء حرص بينين على استخدام مفهوم «خطاب سياسي وطني مهيمن» في مصر وإسرائيل على حدٍّ سواء، اتِّكاءً على التحليل الذي صكَّه بندكت أندرسون للأمم بوصفها مجتمعاتٍ «متصوَّرة»، ينبغي بناؤها وإعادة إنتاجها عن طريق كلٍّ من العلاقات الاجتماعية والمؤسسات التي تعمل بداخلها، وبذلك تدعم الحدود الوطنية والممارسات الاستطرادية التي تفسر الظواهر الثقافية والسياسية الماضية والراهنة في إطارٍ وطني (ص٢٧).
وبالتالي تتخلَّص من شرٍّ مستطير لدى «بينين» مفاده «انتصار القومية التي لا تعرف الحل الوسط» (ص٣٢).
لكن بما أننا لم نعُد قادرين على تعلُّم دروس تاريخ النزاع الفلسطيني/العربي-الإسرائيلي، فإن دراسة ما حدث لأولئك الذين ناضلوا للحفاظ على مبادئ تقرير المصير، والاعتراف المتبادَل والتعايش السلمي توفر جزءًا آخر؛ إذ تظل هذه القِيَم مهمة للنزاع حاليًّا، والواقع أنها تحظى باعترافٍ مطَّرد باعتبارها مكوناتٍ أساسية في حل النزاع (ص٣١). ثم يزيد الأمر وضوحًا في نهاية كتابه هذا فيقول: «إن الشعب الفلسطيني لا يدَّعي لنفسه الآن حقًّا يزيد عما يدَّعيه الشعب الإسرائيلي لنفسه، دولة ذات سيادة تعيش في سلام مع جيرانها، وهذا التأكيد على المساواة هو نبذٌ بليغ لكلٍّ من الاتجاه الكولونيالي للمشروع الصهيوني، والسلاح الأول للشعب الفلسطيني، وهو المقاومة» (ص٢٣١، ٢٣٢).
وعلى هذا النحو تمسي دعوة بينين إلى تشديد النبر على «فشل الكفاح المسلَّح في فلسطين» بعد أن «انتهى عصر التحرُّر الوطني من الوجود» على حد زعمه، محاولةً مفضوحةً لوأد الانتفاضة الفلسطينية ونهج المقاومة والحركات الشعبية المنظَّمة، بعد أن تدنَّى، بفضل الانتفاضة، الاستثمار في الإسكان وفي الشركات الناشئة وفي الآلات والمعدات، فضلًا عن الأضرار التي لحقت بقطاع السياحة؛ فتردَّت أسعاره، وبلغت خسارة الناتج المحلي الإجمالي المباشرة معدلات غير مسبوقة، وفق تقديرات دائرة الأبحاث في بنك إسرائيل المركزي، كما توقفت عمليات تهجير يهود العالم إلى أرض فلسطين المحتلة، التي تحوَّلت إلى قوة طاردة لهم، ألم تُجبِر العمليات الاستشهادية إسرائيل على قبول تنفيذ القرار ٤٢٥ في لبنان، والإسراع بالخروج من المستنقع اللبناني؟ واليوم تضيء العمليات الاستشهادية سماء العراق، كما أضاءت سماء فلسطين، وستحررهما وإن رغمت أنوف.
لذلك كان من الطبيعي أن تُناط بجويل بينين مهمة الترويج لهذه الأفكار المشبوهة عبر الجامعة الأمريكية، التي أطلقت اسم الشيخ كمال أدهم على أحد أقسامها، واختارت وليم رايس الذي دُعي بعد ذلك باسم عبد الله شليفر عميدًا له، وعلاقة كليهما بالأجهزة الأمريكية وثيقة الصلة بدوائر صُنع القرار جد معروفة، وأن تُصدر كتابًا للسيدة سينثيا نلسون عميدة كلية الآداب السابقة بعنوان «امرأة مختلفة: درية شفيق»، أنجزته من خلال الإجازة المدفوعة الأجر التي حصلت عليها من الجامعة الأمريكية في القاهرة، ومن وعي «درية شفيق» ﺑ «الخطر الكبير» من فلسفة عبد الناصر البيروقراطية المركزية ومن تجربته الاشتراكية، ومن الشيوعية باعتبارها نقمة على ما تؤمن به من قيمة أساسية، ألا وهي الحرية الفردية، ثم تذكر في تضاعيف حواشي الكتاب، نقلًا عن هيرمان أيلتز — السفير الأمريكي الأسبق في مصر والمملكة السعودية — في حديث شخصي معه أن الصحفية الأمريكية دوروثي تومسون — رئيسة ما أُطلق عليه «الأصدقاء الأمريكيون للشرق الأوسط» في الفترة الممتدة بين ١٩٥١–١٩٥٨م، أنها قد عاونت جمال عبد الناصر في صياغة فلسفة الثورة، وهو كلام يفتقر إلى دلائل تسنده، ومنطق يسوغه، على الرغم من اعتراف المؤلِّفة بأن إضراب درية شفيق عن الطعام في السفارة الهندية حتى تُجاب إلى مطالبها السياسية قد جاء متفِقًا مع طبيعتها وميلها للتصرفات المسرحية.
إن الهدف المنشود من وراء هذه الأبحاث والكتب والأفكار التي تروِّج لها الجامعة الأمريكية، من العينة التي سلفت الإشارة إليها، هو محاولة «إنكار الماضي الملتبس والخِلافي»، والتأكيد على الطابع الحصري لسعي الليبرالية الجديدة لتعليب المفاهيم وتصديرها، والتعامل مع الآخر بوصفه موضوعًا لا ذاتًا مستقلة، وهو ما يتفق مع الهدف الذي رجاه البروتستانت من تأسيسها، في إطار البحث عن قنواتٍ تتيح بث الأفكار الليبرالية الأنجلو-سكسونية في الشرق الأوسط.
بيدَ أن هذا كله لا يُفضي بحالٍ إلى ضربٍ من خلطٍ متسرِّع لجرف المواقف وطمسها بين الجامعة كمؤسسة تمثِّل لحظةً تشكَّلت في سياق نمو العلاقات السياسية والاقتصادية للمجتمع الأمريكي في مرحلة تاريخية محدَّدة، هي المرحلة الرأسمالية، وبين استقلالية بعض أساتذتها، وطُلابها الساعين إلى غرس أشكال جديدة من الفهم والممارسة، تتجاوز الأفق الليبرالي الذي قامت عليه هذه الجامعة كاحتواءٍ أخلاقي لها؛ ومن ثَم لا يوجد عاقل بمقدوره القول بتماهي وعي كل الأفراد والمؤسسة، ذلك لا شك محض وهمٍ، لا ينشأ إلا في مخيَّلة النظام التوتاليتاري الذي لا يعبأ بأي فعلٍ وإرادة بشريَّين، ويخاله قادرًا على الدمج ما بين «الشرعية البرجوازية» والعدالة.
لكن هذا — أيضًا — لا ينهض دليلًا على كرم حاتمي للجامعة الأمريكية؛ فالتعليم مثله في ذلك مثل غيره لا يسبح في المُطلَق، بل تحركه أيديولوجيا، وتضبط حركته أدواتٌ لإنتاجه، ونُظُم تنتهج رؤًى معينة.