الطريق إلى الحقيقة
نشرت «البديل» في عدد يوم الجمعة الماضي حوارًا مطولًا مع المؤرخ الأمريكي المثير للجدل جوئل بينين لم نكن نهدف من ورائه إلا إتاحة الفرصة أمام القارئ لتكوين وجهة نظر حول المنهج الذي اعتمده بينين في كتابه «شتات اليهود المصريين» فضلًا عن الكشف عن مبررات اختلافه مع عددٍ من المؤرخين المصريين وفي مقدِّمتهم المؤرخ الكبير رءوف عباس، وبطبيعة الحال كنا نتوقع أن يثير الحوار المزيدَ من الجدل حول أفكار بينين، وطريقة إدارته لمركز «دراسات الشرق الأوسط» التابع للجامعة الأمريكية في القاهرة، وهو الجدل الذي يأتي مكملًا لجدلٍ آخر تفجَّر حوله قبل ستة شهور، الأمر الذي جعل كتابه الجديد يحظى باهتمامٍ غير عادي في الأوساط المهتمة بالموضوع.
واليوم تنشر «البديل» ردًّا على الحوار، كتب الرد الدكتور رءوف عباس الذي نعتز به كقيمة كبيرة في حياتنا الثقافية، على الرغم من الصيغة المستفزة التي نُشر بها رأي بينين فيه حين اتهمه بالعداء للسامية. وفي الرد يقدم المؤرخ الكبير رواية أخرى لعلاقته مع جوئل بينين، وهي رواية تقدِّم سردًا مغايرًا لما رواه بينين في الحوار كما تشير بدقة إلى مبررات الخلاف بين الاثنين، فضلًا عن الكشف عما يعتبره عباس آليات عمل بينين ومنهجه في إدارة موقعه بالجامعة الأمريكية. و«البديل» — وهي تنشر الرد والتعليق — لا تهدف إلا توخي الحقيقة.
رءوف عباس يكتب عن أدب الحوار في «البديل»
تلقَّيت يوم الجمعة الماضي «٢٦ أكتوبر» مكالماتٍ عدة من بعض الأصدقاء تلفت نظري إلى أن عدد «البديل» يحمل لقاءً مع المؤرخ الإسرائيلي الأمريكي يوئيل بن نين، لم يناقشه فيه محاوره «محمد فرج» عن كتبه أو أفكاره، ولكن دار الحوار كله حول رأي بن نين في شخصي، اختار المحاوِر منه اتهامه لي بمعاداة السامية «وهي تهمة رخيصة إسرائيلية المنشأ والمعنى»، اختارها فرج ليجعل منها عنوانًا فرعيًّا يتوسَّط المقال ومعه صورتي، هو: «رءوف عباس مؤرِّخ معادٍ للسامية» «في صندوق مساحته ١٠ × ٥سم».
لم تكن «البديل» قد وصلتني لا لنفاد العدد، ولكن لأن تعليمات المباحث لباعة الصحف تقضي بعدم عرض الجريدة على «الفرش»، ولا يبيع البائع من النسخ القليلة التي تصله إلا لمن يعرفه من الزبائن؛ لهذا السبب لم أكن قد قرأت العدد الذي يوجِّه إليَّ فيه محمد فرج تهمةً بالخط العريض على مساحة ٥٠ سنتيمترًا مربعًا!
وبعد الظهر «حوالي الثانية» اتصل بي محمد فرج ليبلغني بأنه أدار لقاءً مع جوئل بينين (الاسم الذي يحمله يوئيل بن نين كمواطن أمريكي)، وأن «الأمانة الصحفية» اقتضت نشر الحديث بنصِّه الكامل، وقد جاء فيه ما يمسُّني، فإذا «شئت الرد» فصفحات «البديل» مفتوحة أمامي، وعندما سألته عن رقم الفاكس زوَّدني به، ولكنه طلب أن يوجَّه الرد إليه، بعد ذلك بقليل كان عدد «البديل» بين يدي.
ويبدو أن «البديل» مفتوحة لكل من هبَّ ودب، حتى لو تورط في السب والقذف دون مبرر!
لقد روى بن نين تاريخ علاقته بي بأسلوبٍ انتقائي «كعادته دائمًا في كل ما كتب»، فقد كنت أول باحث مصري يلتقيه وصاحبه زكري لوكمان «زكريا لقمان»، عندما جاءا إلى مصر لجمع مادة رسالتهما للدكتوراه عن العمال المصريين، بحكم كوني صاحب دراسة أكاديمية عن «الحركة العُمالية في مصر»، وتعاونت معهما، ودللتهما على مَن أعرفهم مِن مصادر، ومن شخصيات نقابية، وجلسا معي بقسم التاريخ عدة جلسات يحاورانني فيها حول مادة موضوعهما، كان ذلك — على ما أذكر — عام ٧٠-١٩٧١م، ثم انقطعت الصلة بهما شأنهما في ذلك شأن غيرهما من الباحثين الأجانب، فلم أرهما أو أسمع منهما، ولكني قرأت كتابهما «عُمال وادي النيل» الذي ضم رسالتيهما في عمل واحد.
ولم يزعجني كثيرًا أن أجدهما لم يذكرا اسمي ضمن من وجَّهوا إليهم الشكر «حسب التقاليد العلمية»، ولكن لفت نظري تحليلهما لأسباب ضعف الحركة العُمالية المصرية، فأرجعاه إلى عدم اتحاد العمال المصريين مع رفاقهم اليهود في إسرائيل لمواجهة العدو المشترك، وذلك في إطار وحدة الطبقة العاملة.
ظهر يوئيل بن نين في القاهرة «نحو منتصف الثمانينيات» وجاء إلى مكتبي بالجامعة، فاستقبلته مرحبًا، شاكرًا له حرصه على الزيارة، مهنئًا على صدور كتاب «عمال وادي النيل»، سائلًا عن رفيقه زكريا لقمان، لكن الزيارة لم تكن وديةً «كما ظننت» بل كان اتصال بن نين — هذه المرة — من أجل الحصول على نسخة من رسالة ماجستير عن الحركة العمالية المصرية «١٩٥٢–١٩٦١م» أعدتها إحدى تلميذاتي، فاعتذرت له عن عدم إمكانية ذلك دون استئذان صاحبة الرسالة التي تعيش بالأردن، ولا أعرف لها عنوانًا.
عندئذٍ قال بن نين «إن لك في الرسالة ما للطالبة من حقوق لأنك المشرف، وعلى كلٍّ لديَّ صفقة أريد أن أبرمها معك، هل يهمك الحصول على نسخة من مذكرات هنري كورييل؟» وعندما كان الرد بالإيجاب، أبدى استعداده أن أحصل على نسخة منها مقابل حصوله على نسخة من رسالة تلميذتي، فوافقت، وكلَّفت أحد أبنائي المعيدين بتصوير النسختين، وخلال الفترة التي استغرقتها عملية التصوير سألته عن مصدر المذكرات، فعلمت أنه حصل عليها من يوسف حزان «الرفيق سوسو» بصفة شخصية.
وعندما سألته عما إذا كان باستطاعتي استخدامها علميًّا أو نشرها بالعربية «وكانت بالفرنسية»، فلم يمانع في ذلك، ولكنه اشترط عدم ذكر اسمه، وهو ما فعلته تمامًا عند نشر مذكرات هنري كورييل، وعندما أثار النشر ضجةً في مصر، كان لا بد أن يصاب بن نين بالحرج، خُلاصة الأمر أنني لم أخدعه، ولكنه أبرم معي «صفقة» بشروطه التي التزمت بها.
وحدث أن فكرت جمعية دراسات الشرق الأوسط بأمريكا في تكريم أول باحث من الشرق الأوسط — في إطار تقليدها لتكريم الباحثين البارزين في هذا الحقل — كان هناك مرشَّحان هما: أمنون كوهين المؤرِّخ الإسرائيلي المختص بالعصر العثماني، ورءوف عباس، وعند التصويت بمجلس إدارة الجمعية رجحت كفَّتي، ودُعيت حيث نظمت لي جولة محاضرات في عددٍ من الجامعات الأمريكية، كان من بينها جامعة ستانفورد التي يعمل بها بينين، وقد حرص على لقائي بالمطار، وتوجَّهنا مباشرة إلى بيته لتناول العشاء قبل الذهاب إلى الفندق، ثم دعاني للغداء في اليوم التالي بصحبة زميل فلسطيني متخصص في الأدب العربي، وأدار المحاضرة العامة التي ألقيتها، ودعاني إلى حضور أحد دروسه.
كان تعامُلي مع يوئيل في إطار علمي إنساني، باعتباره باحثًا يساريًّا أمريكيًّا مهتمًّا بتاريخ اليسار المصري، ولا يفسد هذا التعامل عدم اتفاقي معه في تفسيره لذلك التاريخ، لم أكن أعلم شيئًا عن إسرائيليته، فأنا أقبل التعامل مع أي باحث جاد من أي مكان في العالم، إلا من كان له انتماء صهيوني أو ميول صهيونية.
وهنا قد أختلف كثيرًا مع الجوقة التي تطبل وتزمر لبن نين، وتميِّز بين «اليسار» و«اليمين» في الكيان الصهيوني، باختصارٍ شديد اليسار يختلف مع اليمين في طريقة توطيد دعائم الكيان الصهيوني، فإذا كان اليمين يرى أسلوب التطهير العرقي الحل الأمثل، فاليسار «ومنهم بن نين» يرى اتباع الرحمة اكتفاءً بتخصيص «معازل» للفلسطينيين، ويحاول إقناع الفلسطينيين بعدم تفويت «فرصة» السلام المزعوم، ولتكن لهم في الهنود الحمر أسوة حسنة.
أرى أيضًا أن هناك نوعًا من توزيع الأدوار بين الطرفين، «اليمين» يتعامل مباشرة مع اللوبي الصهيوني، ومع مراكز صنع القرار في العالم، و«اليسار» يحاول كسب العرب على طريقة من ييسِّر للمريض ألم العلاج، ويهوِّن من مرارة الدواء. في النهاية الهدف الأسمى هو «أمن الدولة العبرية وسلامتها، وتحوُّلها إلى قوة إقليمية»، وهو الدور الذي يلعبه الآن بينين في مركز دراسات الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، عندما تقرر في اجتماع مجلس أمناء الجامعة بالقاهرة «فبراير ٢٠٠٥م» أن تلعب الجامعة دورًا في «تسويق» مشروع الشرق الأوسط، وسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
كان لا بد من تغيير في البرامج الدراسية والبحثية والتوجهات، وكان لا بد من اختيار مَن يُوثَق بهم لعمل هذا التغيير؛ فأُزيح العالم الكندي بهجت قرني «المصري الأصل» عن رئاسة مركز دراسات الشرق الأوسط «رغم عدم انتهاء عقده» ليحل محله يوئيل بن نين، الوجه المتقبَّل عند بعض فصائل اليسار المصري والفلسطيني، وأُزيحت سينثيا نلسون «عالِمة الاجتماع الأمريكية التي قضت ربع القرن في مصر» عن عِمادة كلية الدراسات الإنسانية، لتحل محلها زميلة لبن نين، ممن تربوا في الكيبوتز، وتحمل «مثله» مؤهلات التهوين من مرارة الدواء، وتشجيع السُّذج على تجرُّعه، والمهمة هي: «التطبيع مع الكيان الصهيوني»، وهو ما أثار اعتراض أساتذة الجامعة من المصريين والعرب، فرمتهم العميدة بتهمة «العداء للسامية»، ثم تراجعت عن هذه التهمة العلنية عندما هدَّد الأساتذة بمقاضاتها، وهو ما فعله بن نين معي في حديث محمد فرج، وهو ما تفعله إسرائيل مع كل من يوجِّه نقدًا لسياستها العنصرية.
ما رأي صديقكم بن نين، وما رأيكم في موقف الجامعيين البريطانيين من مقاطعة الأكاديميين الإسرائيليين احتجاجًا على السياسة العنصرية لإسرائيل؟ وما موقفكم من التطبيع؟! أعتقد أنه تساؤل مشروع يحتاج منكم إلى إجابة شافية، لا «بديل» لها.