المفاهيم الملتبِسة ومكر التاريخ١

أسامة عرابي

هل جاء حوار الدكتور جوئل بنين — رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط، التابع للجامعة الأمريكية — بجريدة «البديل» ٢٦ / ١٠، وهجومه القديم-الجديد على الأستاذ الدكتور رءوف عباس — أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب، جامعة القاهرة — ليعكس حالة من حالات اللاأدريَّة واللايقين التي يعيشها عالم اليوم إثر المستجدات التي عصفت به على مختلف الأصعدة؟ أم هو ضرب من الطهرانية الزائفة التي تحمل بعضًا من يقين الرأسمالية البروتستانتية القديمة؟

على أي حال … هناك في كل سردٍ ينام إدراك لوعي ما، يستبصره المتلقي بنيويًّا ووظيفيًّا، وهنا نتوقف عند الفقرة التي وردت في كتاب الدكتور «بنين» الذي حمل اسم «العلم الأحمر … هل كان يرفرف هناك؟ السياسات الماركسية والنزاع العربي-الإسرائيلي»، وفيها يقول ما نصه: «يمكن تخيُّل — لاحظ تخيُّل هذه — أن نظامًا مصريًّا أكثر ثباتًا في سعيه للسلام وأقل التزامًا بالقومية العربية، ربما كان قادرًا على التوصُّل لتسوية مع إسرائيل مماثِلة لتلك التي تحققت في ١٩٧٩م» (ص٢٥)، وكأن التاريخ يمكن تعليله بالأماني، لا بمجمل الشروط الموضوعية التي اتسم بها المشروع الصهيوني منذ نشوئه، أي نهوضه على أساس التناقض الرئيسي بين نموه والمصالح التاريخية للشعوب العربية … الأمر الذي من شأنه أن يفضح طبيعة الوجود الاستعماري الصهيوني في فلسطين، والأهداف المرجوَّة من ورائه.

لذا كان طبيعيًّا في هذا السياق أن يؤكد «بنين» (ص٢٤) أن التفرقة الصريحة ضد غالبية اليهود المصريين — الذين لم يكونوا شيوعيين ولا صهيونيين — واضطهادهم، لم تصبح شائعةً إلا بعد مهاجمة إسرائيل لمصر في ١٩٥٦م. وكلمة «اضطهادهم» الواردة في هذه العبارة، يكذِّبها «بنين» نفسه في كتابه «شتات اليهود المصريين» الذي يؤكد فيه أن صهيونية البعض كانت وراء إلقاء القبض عليه، والذي شمل أيضًا الكثير من المسلمين والأقباط، ولم يكن وقفًا عليهم فقط.

كما يذكر الأستاذ لطف الله سليمان في كتابه «فلسطين … نحو تاريخ بلا أساطير» الذي ترجمه الأستاذ محمد مستجير مصطفى، ص١٣٦، أنه في أيام الامتيازات (قبل ١٩٣٦م) اختار كثير من اليهود جنسيات أجنبية، وبوجه خاص الجنسيَّتان البريطانية والفرنسية.

ففي تلك الأيام، كان هذا يتيح لهم كثيرًا من المزايا. وبعد إلغاء الامتيازات — عقب معاهدة ١٩٣٦م — احتفظوا بجنسيتهم البريطانية أو الفرنسية. وفي عام ١٩٥٦م طردتهم حكومة عبد الناصر شأنهم في ذلك شأن كل البريطانيين وكل الفرنسيين الآخرين. ولم يكن بعض هؤلاء اليهود المطرودين يعرفون أن آباءهم قد اختاروا جنسية أجنبية، وكانوا يعتبرون أنفسهم مصريين.

غير أن «بنين» راح يحدد هدفه بوضوحٍ لا لبس فيه على النحو التالي: ورغم أننا قد لا نكون قادرين على تعلُّم دروس تاريخ النزاع الفلسطيني/العربي-الإسرائيلي، فإن دراسة ما حدث لأولئك الذين ناضلوا للحفاظ على مبادئ تقرير المصير، والاعتراف المتبادَل، والتعايش السِّلمي توفر جزءًا آخر؛ إذ تظل هذه القِيَم مهمةً للنزاع حاليًّا، والواقع أنها تحظى باعترافٍ مطَّرد باعتبارها مكوناتٍ أساسية في حل النزاع (ص٣١) … الأمر الذي حدا به إلى القول: لكن تفانيه — أي تفاني هنري كورييل — الذي لا يهِن لإقامة صلة بين العرب والإسرائيليين الساعين لتعايُشٍ سلمي، أمر ينبغي تقديره (ص١٤٢-١٤٣). وتعلم الكافة أن ﻟ «هنري كورييل» ورقة عنونها باسم «ملاحظات» حول المشكلة الفلسطينية (لاحِظ أن الصراع العربي-الإسرائيلي — والقضية الفلسطينية في القلب منه — صارا محض مشكلة فحسب) كان حريصًا على تقديمها إلى كل مؤتمر تعقده «منظمة التضامن» التي أسَّسها كورييل مع رِفاق له آخرين، جاء فيها:

«إننا ننطلق من حق الجماعات الوطنية المقدس، والذي لا يسقط بالتقادُم، في أن تعيش في وطنها. إذن نحن نعترف بحق يهود إسرائيل في الوجود الوطني، ولكن هذا الحق يجب بالأحرى منحه لعرب فلسطين. صحيح أن كلًّا من الطرفين ينكر حقوق الطرف الآخر المشروعة، وبهذا فإنه بدفاعنا عن حقوق الفلسطينيين العرب، فإننا لا ندافع عن قضية عادلة فحسب، بل نخلق الظروف المناسبة لاعتراف العرب بالحقوق الشرعية لليهود الإسرائيليين» (راجع كتاب: هنري كورييل: رجل من نسيج خاص، تأليف جيل بيرو، ترجمة لطيف فرج، ص٤١١).

لهذا لم يجد «جوزيف حزان» بأسًا من الاتصال بهنري كورييل تليفونيًّا، والاتفاق معه في الرأي حول أن ذهاب السادات إلى القدس عمل طيب (المرجع السابق، ص٤١٢).

بعد ذلك يأتي السيد «بنين» ليهاجم في حوار «البديل» ٢٦ / ١٠، وفي الهامش ٧٨، ص٢٤٠، من كتاب «العلم الأحمر»، الدكتور رءوف عباس، والسيدة عزة رياض التي نهضت بترجمة كتاب «أوراق هنري كورييل» بدعوى أن المقدمة التي كتبها عباس ورياض تلخِّص الاتهامات التي وجَّهها — إلى كورييل — رفاقه السابقون وخصومه ومنافسوه.

وللأسف فإنها تحتوي على مغالطاتٍ وأخطاء كثيرة حول الحقائق والتفسيرات، بما يعكس المشاعر المعادية للصهيونية بلا تمييز، والتي قد لا تراعي التمييز بين العداء للصهيونية والعداء للسامية السائدة حاليًّا بين المثقفين القوميين المصريين، وهو رد فعل مفهوم، وإن كان ضارًّا لاتفاقية كامب ديفيد وفشلها في تأمين الحقوق القومية للفلسطينيين. ولا يتواضع «بنين» فيجلو لنا علاقة الخلاف السياسي معه ومع كورييل بالعداء للسامية — تلك التهمة التي دأبت الصهيونية على توجيهها إلى كل مَن يناقضها جذريًّا — بفشل كامب ديفيد في تأمين الحقوق القومية للفلسطينيين؟

وبالمناسبة، هل كان منوطًا ﺑ «كامب ديفيد» تأمينها أم إهدارها؟ تعالَوا نتذكر ما قاله «موشيه دايان» عن هذه الاتفاقية والهدف من إبرامها، وذلك في الجلسة التي عقدها «الكنيست» في ٢٠ / ٣ / ١٩٧٩م، لمناقشتها واتخاذ القرار بشأنها:

«إن اتفاق السلام المصري الإسرائيلي المعروض علينا الآن، ليس اتفاق سلام رعويًّا، ولا تجسيدًا لنبوءة يوم الآخرة القائلة: «ولا يرفع الغريب على الغريب حربة»، إنه اتفاق سلام له ملاحقه العسكرية، ومعه وعود لزيادة قوة الجيش الإسرائيلي … إن الاتفاق هو انتصار لإسرائيل، وانتصار لطريق إسرائيل.»

وعدَّ «دايان» تسليم العرب بوجود إسرائيل انتصارًا لإسرائيل … فكيف يمكن الاتفاق مع «بنين» حول ما يدعو إليه من اعترافٍ متبادَل وتعايُش سِلمي؟! في الوقت الذي يهاجم فيه كتاب المرحوم الأستاذ عبد المنعم الغزالي: «إسرائيل قاعدة للاستعمار وليست أمة» الذي أصدرته «دار الفكر» عام ١٩٥٨م، قائلًا ما نصه:

«فقد ادَّعى الغزالي — وهو يستخدم حُججًا تاريخيةً زائفةً — تُفرط في التركيز على مدى التأييد الأمريكي لإسرائيل، وأهمية الاختلافات في السياستين الأمريكية والفرنسية في الشرق الأوسط، أن الفضل في وجود إسرائيل يرجع فقط للدعم المالي والعسكري الإمبريالي (الأمريكي في المحل الأول)، ثم طالب بإزالة دولة إسرائيل وكل المؤسسات الصهيونية، وإلغاء مشروع الأمم المتحدة لتقسيم وإنشاء دولة عربية في فلسطين كلها.»

وبدلًا من مناقشة كتاب «الغزالي» مناقشةً جادة، يلجأ «بنين» إلى إطلاق الأحكام المبتسرة والاتهامات، على نحو ما أردف به كلامه السابق قائلًا: «بيدَ أن «دار الفكر» كان يديرها أعضاء «حدتو» السابقون المقرَّبون لكورييل، واستعدادهم لنشر الكتاب يوضح تخلِّيهم العنيف عن وجهة نظرهم التاريخية، ويعني نهاية محاولة الشيوعيين وضع منظور بديل لمنظور النظام الناصري بشأن حل النزاع العربي الإسرائيلي» (ص١٧٤ من كتاب: العلم الأحمر).

إذن مَن لا يعترف بإسرائيل ويطبِّع معها، فهو قومي ناصري معادٍ للسامية وفق المنظور الصهيوني ﻟ «جوئل بنين». وهو ما ذكَّرني بخطاب «دايان» الذي سلفت الإشارة إليه منذ قليل، وفيه يقول ما نصه:

«تخلَّى السادات بعد حرب يوم الغفران عن التصوُّر الناصري الذي كان يقول: إن ما أُخذ بالقوة لن يُسترَد إلا بالقوة. لقد تخلَّى عن النظرية الناصرية والمصرية القائلة: «إذا فشلنا هذه المرة فسنستعد للحرب القادمة». لقد تحوَّل إلى طريق آخر تمامًا، إلى طريق إقامة علاقات سلام مع إسرائيل، بدلًا من حالة الحرب.»

ولماذا لم يُعنَ «بنين» بالرد على ما أثارته أستاذة الأدب الإنجليزي والمقارن بالجامعة الأمريكية الدكتورة فريال غزول، عن ذهابه إلى عميدة كلية الآداب والعلوم الاجتماعية في الجامعة الأمريكية، وطلبه منها فصل أستاذة مرموقة في قسم الدراسات العربية من لجنة دراسات الشرق الأوسط لكونها وقَّعت على الرسالة المشتركة — التي وُجِّهت إلى جريدة الجامعة الأمريكية الأسبوعية «القافلة» — مسجلةً اعتراضها على توجُّه نشرة مركز دراسات الشرق الأوسط التي يُشرف عليها بنين، وتأييدها لإسرائيل، كما أنه طلب من الإدارة أن يُعفى الطلاب من المواد التي يدرِّسها الموقِّعون على الرسالة.

وعلى الرغم من خرق الأستاذ جوئل بنين لكل الأعراف الأكاديمية والجامعية بطلبه فصل من لا يتفق معه، فقد تم فصل الأستاذة المذكورة من اللجنة المُشار إليها نزولًا على رغبته، وفق ما ورد في مقالها بجريدة «العربي» «عن تحوُّلات الجامعة الأمريكية بالقاهرة: شاهدة من أهلها» بتاريخ ٢٧ / ٥ / ٢٠٠٧م، ثم استطردت تقول:

«ومع أنه لم يحضر أي نشاط من الأنشطة المواكِبة للقضية الفلسطينية بالجامعة الأمريكية، فهذا من حقِّه، ولا يُدان على ابتعاده عن هذه الأنشطة، لكن عندما يوقِّع على بيان يقول أصحابه: نحن اليهود الإسرائيليين … نحن يهود إسرائيل … (البيان على الشبكة الإلكترونية بتاريخ ٢٠٠٤م) فماذا يعني هذا غير أنه يوقِّع بصفته إسرائيليًّا، كما استنتج رءوف عباس في مقاله في العربي بتاريخ ٢٠ / ٥ / ٢٠٠٧م.»

أليس في مناقشة هذه الأفكار وسواها، حضور لهُوية، وتأكيد لذات، كما علَّمنا «جاك دريدا» في قراءته ﻟ «هوسرل»؟ ثم … كيف يمكن يا «دكتور بنين» تناول تاريخ اغتصاب فلسطين، بمنأًى عن «عقيدة الترانسفير» القارَّة والراسخة في الفكر الصهيوني.

١  جريدة البديل، ٢٩ من أكتوبر ٢٠٠٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥