المسكوت عنه في تاريخ اليهود المصريين١

عواطف عبد الرحمن

قرأتُ الحوار الذي أجراه محمد فرج مع المؤرخ الإسرائيلي الأمريكي جويل بينين، والذي نشرته البديل بعدد ٢٦ أكتوبر، وأبرز المحاوِر في صدر عناوينه تهمة المعاداة للسامية التي وجَّهها المؤرخ الإسرائيلي للمؤرخ المصري المرموق الدكتور رءوف عباس، وأدهشني الأسلوب الذي أدار به المحاوِر الحديث؛ إذ لم يحاول أن يفنِّد هذه التهمة بطرح التعريف الصحيح لمعاداة السامية باعتبارها تهمةً عنصرية صهيونية المنشأ.

وقد نجح الغرب في تصديرها إلى العالم العربي متجاهلًا عن عمدٍ ما يشير إليه علماء الأجناس من أن العرب ينتمون إلى العِرق الجنسي السامي والحامي، وأن هذه التهمة أجدر أن تُوجَّه إلى الأوروبيين والنازيين الذين اضطهدوا اليهود، وخلقوا ما يُعرَف بالمشكلة اليهودية، وعندما فشلوا في حلِّها قاموا بترحيلها إلى العالم العربي، الذي كان يخضع آنذاك للسيطرة الاستعمارية الأوروبية، ونجحوا — دون وجه حقٍّ — في غرسها في التربة العربية في إطار المشروع الاستعماري والإمبريالي الأوروبي والأمريكي.

وها هم الآن يروِّجون لما يُسمَّى «بالإسلام فوبيا» كأطروحة جديدة لتبرير كراهيتهم للإسلام والمسلمين بعد أحداث ١١ سبتمبر، وهكذا تتوالى حلقات المسلسل الاستعماري والهيمنة الغربية، ولكن في صِيغ جديدة ضد الشعوب العربية والإسلامية، والواقع أن الدكتور رءوف عباس ليس في حاجة إلى تبرئة نفسه — وغيره من العلماء المصريين والعرب — من هذه التهمة المبتذلة الممجوجة، والتي تكشف عن عُمق روح التعصُّب والعنصرية وتغلغلها لدى العديد من الكُتَّاب والمثقفين الغربيين الذين يحاولون التدثُّر بغطاء الموضوعية والنزاهة العلمية، وهم أبعد ما يكونون عن شرف الالتزام بها.

هل للحقيقة وجهان؟

قرأتُ — في العدد نفسه من البديل — مقالًا بعنوان: «نهاية عصر امسك يهودي»، ولقد أثار دهشتي هذا العنوان، وكان الأحرى أن يكون العنوان: «هل انتهى عصر امسك صهيوني في مصر»؟! وكان الأجدر بكاتب المقال، السيد أحمد زكي عثمان أن يطَّلِع على الدراسات العلمية العديدة التي قام بها الباحثون المصريون والعرب عن النشاط الصهيوني في مصر والعالم العربي، والتي تميَّزت بدرجة رفيعة من الدقة العلمية، واستهدفت إبراز الحقيقة التاريخية عن الصهيونية وأطماعها التوسُّعية في فلسطين والأساطير، التي استندت إليها في تبرير إقامة ما يُسمَّى الوطن القومي لليهود في فلسطين، والتي تنبَّه لها بعض المفكرين الأجانب وأبرزوها، وعُوقِبوا بسببها.

ولعل أكثرها سطوعًا ما قامت به الدوائر الصهيونية ضد المفكر الفرنسي روجيه جارودي عقابًا له على كتاباته عن الأساطير الصهيونية، والمؤرخ الإسرائيلي الجنسية «آلان بابيه» الذي طُرد من الجامعة العبرية بسبب دعمه للباحث تيودور كاتز، طالب الماجستير الذي قدَّم رسالة عن الملابسات التاريخية التي أحاطت بمذبحة بلدة «طنطورة» التي ارتكبها الجنود الصهاينة، وقُتِل فيها العشرات من الفلسطينيين عام ١٩٤٨م، وقد رُفضَت الرسالة، وتمت تصفية الحساب مع «بابيه» في الوقت المناسب، ولا يزال مسلسل الاضطهاد مستمرًّا ضد المؤرخين الجُدد في إسرائيل.

لقد قرأت المقال والحوار، وفُوجئت بكمٍّ هائل من الخلط والالتباس، وإلقاء التهم جزافًا، وطعن فجٍّ في النزاهة العلمية للعلماء والمفكرين المصريين، فضلًا عن تسفيه آرائهم والسخرية من تمسُّكهم بالاتجاه القومي، وذلك في محاولة غريبة للتعمية على وحشية المجازر، وحرب التجويع والإبادة التي تشنُّها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، وهي محاولة جديدة لاختراق العقل المصري وترويضه من خلال منهج انتقائي تفكيكي، دأبت الدوائر الصهيونية على استخدامه مستهدفةً طمس الذاكرة الوطنية لدى الشعب المصري، الذي عارض، بجميع شرائحه، معاهدة الصلح مع إسرائيل، وقاطعت منظماته الشعبية والنقابية ومؤسساته الأكاديمية النشاط الصهيوني في مصر.

وإذا كان المؤرخ الإسرائيلي الأمريكي جويل بينين قد حرص على أن يُبرِز في كتابه «شَتات اليهود المصريين» الوجه البريء لليهود المصريين، وتأكيد وطنية الجماعة اليهودية في مصر، متجاهلًا عن عمدٍ ذِكر دورهم في الدعاية للمشروع الصهيوني في فلسطين، من خلال الصحف وسائر الأنشطة الدعائية للحركة الصهيونية. إذا كان الأمر كذلك فإن واجبي — كباحثة مصرية عربية — أن أوضِّح الحقيقة التاريخية عن اليهود المصريين، ليس فقط بهدف تصحيح الرؤية المتحيِّزة المضلِّلة للرأي العام التي تبنَّاها المؤرخ الإسرائيلي-الأمريكي جويل بينين، ولكن أيضًا من أجل تنشيط الذاكرة الوطنية والقومية لدى الأجيال الجديدة في مصر والعالم العربي.

يقول كاتب المقال إن هذا الكتاب (شَتات اليهود المصريين) يحمل في طياته أكثر من عملٍ توثيقي، والتوثيق يقتضي الأمانة والشمول والرصد الدقيق لوقائع التاريخ، وتكشف دراسة جويل القراءة الانتقائية المبتسرة لتاريخ الطائفة اليهودية في مصر؛ إذ يستنكر استبعاد المؤرخ المصري طارق البشري لليهود من مفهوم الجماعة الوطنية، واقتصاره على الثنائية الدينية (المسلمين والمسيحيين). ويحاول المؤرخ الإسرائيلي-الأمريكي أن يرد على ذلك موضحًا محاولات الطائفة اليهودية في مصر للانخراط في الجماعة الوطنية، مثل غيرها من الطوائف، في سبيل بناء دولة تقوم على المواطنة، خصوصًا في الفترة التي أعقبت ثورة ١٩١٩م، وهنا يجدر بنا الإشارة في إيجازٍ إلى تاريخ الطائفة اليهودية، والدور الذي لعبته في خدمة الحركة الصهيونية.

نجحت الصهيونية في اختراق النخب الليبرالية تحت غطاء حرية الفكر

لقد ساعدت الظروف الذاتية والموضوعية لكلٍّ من المجتمع المصري والطائفة اليهودية منذ منتصف القرن ١٩ على أن يحتل اليهود مع سائر الأجانب مكانةً كبرى في تشكيل الواقع الاقتصادي في مصر، وقد بلغت سيطرة اليهود على مجالات في العمل «التجارة والصناعة والبنوك» حدًّا بلغ أن الرأسماليين اليهود كانوا يساهمون في إدارة وتوجيه حوالي ٩٥٪ من الشركات المصرية، ويسيطرون على جانبٍ ضخم من رءوس أموالها.

ورغم أهمية وخطورة الدور الذي لعبه اليهود في الحياة الاقتصادية المصرية، إلا أن مشاركتهم في الحياة السياسية تميَّزت بالضآلة، واقتصرت على بعض الأدوار الفردية، وقد تميَّز الوضع السياسي لليهود في مصر منذ عهد محمد علي وحتى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م بالاستقرار بسبب العلاقات الوثيقة التي كانت تربطهم مع جميع الحكام الذين توالوا على مصر، مما ساعدهم على الاحتفاظ بامتيازاتهم في ظل جميع العهود السياسية.

ولم ينجح اليهود فحسب في السيطرة على مفاتيح الاقتصاد المصري، فضلًا عن قدرتهم البارعة في استقطاب اهتمام ورعاية القيادات الوطنية ورؤساء الحكومات ورجال القصر، بل امتد نفوذهم في محاولاتٍ متصلة لاجتذاب مساندة القيادات الفكرية والسياسية وعطفها، إلى الحد الذي ضمنوا به امتناع هؤلاء الكُتَّاب عن كتابة أي شيء يؤدي، بشكلٍ أو آخر، إلى كشف النيَّات الحقيقية للنشاط الصهيوني الذي كان يحاول التخفِّي خلف القناع الديني لليهود المصريين، والذي بدأ منذ زيارة هرتزل لمصر عام ١٩٠٤م لبحث مشروع الاستيطان اليهودي مع السلطات المصرية، وأسفرت زيارة هرتزل عن تأسيس جمعية بن زيون (بني صهيون) ١٩٠٨م، التي أعلنت تبنِّيها لبرنامج مؤتمر بال الصهيوني ١٨٩٧م.

وقد تركز نشاط الجمعية في البداية في تنظيم المحاضرات والاحتفالات التي تدعو إلى تحقيق أهداف المنظمة الصهيونية العالمية، ثم شاركت في تسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وبانتهاء الحرب العالمية الأولى اتَّسعت أشكال الاختراق الصهيوني لمصر. وتمثَّلت في منظمات الشبيبة الصهيونية، ورابطة نوادي المكابي، وتوِّج ذلك النشاط بتأسيس أول فرع للمنظمة الصهيونية العالمية عام ١٩١٨م برئاسة ليون كاسترو، وإصدار المجلة الصهيونية كلسانٍ ناطقٍ باسم المنظمة الصهيونية، وكأداة فعَّالة لنشر الدعوة الصهيونية.

كما كان فرع الكيرن كايميث «الصندوق القومي لليهود» وسيلة أخرى لجمع التبرعات من اليهود المصريين لشراء أراضي فلسطين، وكانت الجمعية المصرية لأصدقاء الثقافة العبرية وسيلة فعَّالة لنشر الثقافة العبرية بين أبناء الطائفة، وكانت تقوم بإيفاد بعثاتٍ دورية من يهود مصر إلى فلسطين؛ حيث كان يتم تزويدهم بالفكر الصهيوني، ثم يعودون إلى مصر بعد أن يصبحوا كوادر قادرة على نشر هذا الفكر وترويجه.

والواقع أن الحرب العالمية الثانية قد أتاحت للنشاط الصهيوني في مصر فرصة الاتساع والتنوع بسبب وجود العديد من اليهود من جنود جيوش الحلفاء، خصوصًا من المتطوعين الصهاينة الذين رحَّبت بهم المنظمة الصهيونية في مصر، وأتاحت لهم سُبُل المشاركة مع شباب الطائفة الإسرائيلية في مصر في الأنشطة الدعائية وجمع الأموال والتبرعات وإرسالها إلى الوكالة الصهيونية في فلسطين.

وقد ظل فرع المنظمة الصهيونية في مصر يمارس نشاطه كقاعدة رئيسية للاختراق الصهيوني داخل المجتمع المصري تحت اسم الاتحاد الصهيوني حتى إعلان قيام دولة إسرائيل عام ١٩٤٨م، وما كان للنشاط الصهيوني أن يُوجَد أصلًا في مصر، فضلًا عن اتساعه لولا التسهيلات التي قدمتها السلطات المصرية، خصوصًا أجهزة الأمن المصرية التي كانت في أيدي الإنجليز كليةً في ذلك الحين.

كذلك العلاقات الوثيقة التي كانت تربط الطبقة الحاكمة المصرية مع كبار الرأسماليين اليهود الذين كانوا يمثِّلون قوة أساسية في بنك مصر، واتحاد الصناعات المصري بقدرٍ ملحوظ في استمرار النشاط الصهيوني، لقد كانت خريطة الأعداء والحلفاء واضحةً في أذهان الساسة الصهاينة وركائزهم في مصر، كما أن الازدواجية وتغيير المواقع بما يتفق مع طبيعة كل مرحلة من مراحل النشاط الصهيوني كان يُعَد إحدى السِّمات المدروسة بالنسبة للتحرك الصهيوني في مصر.

ورغم وحدة الهدف الصهيوني، ووضوح معالمه، فإنه اتخذ عدة أشكالٍ متباينة كانت تصب جميعها في المجرى الرئيس للنشاط اليهودي، ولعل أسطع مثال على ذلك موقف ليون كاسترو الذي انضم إلى قيادة الحركة الوطنية المصرية ممثَّلةً في حزب الوفد، وتمكَّن من اكتساب ثقة الزعيم سعد زغلول، الذي صحبه معه في وفد المفاوضات إلى لندن، وقام بتكليفه بالتحدث باسم الوفد في أوروبا، كما صرح له بإصدار صحيفة Lalherte، ونجح ليون كاسترو من خلال الدور المزدوج الذي لعبه في استثمار هذه الإمكانات التي أتاحتها له الحركة الوطنية المصرية لصالح الحركة الصهيونية، فقد جنَّد صحيفته الوفدية كبرلمان للفكر الصهيوني، وكان يقوم بتحويل الاعتمادات المخصَّصة للدعاية للقضية المصرية في الخارج إلى الصندوق القومي اليهودي لشراء الأراضي الفلسطينية، وإقامة مستعمرات صهيونية عليها.

ورغم هذا النشاط الصهيوني المتزايد، والذي قُوبِل بتساهُلٍ مريب من السلطات الحاكمة، وبرغم الحملات العنصرية التي اتَّسمت بالعداء الشديد، التي نظَّمها الإخوان المسلمون ومصر الفتاة، وكانت تستهدف طرد اليهود المصريين بعد انكشاف دورهم في خدمة الأطماع الصهيونية في فلسطين، إلا أنه وحتى عام ١٩٤٨م لم يهاجر إلى فلسطين من اليهود المصريين سوى عدد ضئيل، فقد هاجر ٢٠ ألف يهودي من مصر عام ١٩٤٩م، ولم يتجه منهم إلى إسرائيل سوى ٧ آلاف يهودي، بينما استقر الباقون في أوروبا بعد تهريب أموالهم من مصر، وهذا يعني أن التيار الصهيوني كتيارٍ استعماري قد اعتمد على عناصر ذات انتماءاتٍ أوروبية، ولم ينجح في أن ينبثق من فئات اجتماعية مصرية.

ولا شك أن الطبيعة التي تميَّزت بها الطائفة اليهودية في مصر قد حالت دون مشاركتها في الحركة الوطنية المصرية، بل خلقت منها تربةً خصبةً للدعوة للصهيونية بسبب تعدُّد جنسيات اليهود المصريين الذين اختاروا — خصوصًا الشرائح العليا، منذ مجيء الاحتلال البريطاني إلى مصر — الجنسية البريطانية أو الفرنسية، طمعًا في الاستمتاع بالامتيازات الأجنبية، وقد ظلُّوا محتفظين بجنسياتهم الأوروبية حتى بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية عقب معاهدة ١٩٣٦م، وعندما طردتهم حكومة عبد الناصر عقب العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م كان ذلك بسبب انتمائهم للجنسيَّتين البريطانية والفرنسية، وليس بسبب ديانتهم اليهودية.

هذا وقد تواكبت أساليب الاختراق الصهيوني لمصر مع مراحل تأسيس ما يُسمَّى بالوطن القومي لليهود في فلسطين، فإذا كانت مرحلة العشرينيات، التي شهدت صدور وعد بلفور، قد استلزمت اللجوء إلى أساليب اتَّسمت بالحذر، ومحاولة التخفِّي وراء أقنعة مختلفة، مستهدفةً التأثير على الرأي العام المصري، وكسب تأييده إلى جانب الحركة الصهيونية على أساس أن اليهود يسعَون إلى إيجاد ملجأ في فلسطين للمضطهدين منهم في أوروبا، فقد كان من الخطورة أن تُفصِح الحركة الصهيونية عن استراتيجيتها قبل أن تتضح الظروف لصالحها.

لذلك تدرَّجت في أساليبها الدعائية؛ بحيث كانت تنسق مع حجم الإنجاز الصهيوني الذي كان يتم على الأرض الفلسطينية. ففي العشرينيات صدرت صحيفة «إسرائيل» ١٩٢٥م، وفي الثلاثينيات صدرت «الشمس» ١٩٣٤م، وعندما وصلت الهجرة اليهودية إلى فلسطين إلى الحد الذي يمثِّل سندًا فعليًّا للحركة الصهيونية وتجسيدًا ماديًّا لوعد بلفور اختلفت أساليب الدعاية كمًّا ونوعًا، ففي الأربعينيات عندما أصبح تحقيق الوطن القومي اليهودي في فلسطين قاب قوسين أو أدنى، وانكشف تمامًا الخطر الصهيوني أمام أعين الرأي العام المصري والعربي من خلال الصدامات الدامية التي وقعت بين الحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهة الحركة الصهيونية المدعومة بالمساندة البريطانية؛ حينئذٍ أصبح لِزامًا على الحركة الصهيونية أن تعيد النظر في أساليبها الدعائية، فلم تُقدِم على إصدار صحف صهيونية جديدة.

ولكن عوضًا عن ذلك فُوجِئ الرأي العام المصري بأسلوبٍ دعائي صهيوني جديد تمثَّل في إصدار مجلة مصرية ذات طابع ثقافي، ضمَّت نخبةً من كبار المثقفين المصريين، وبتمويل يهودي صهيوني، وتحمل واجهةً حضارية لا تحتمل إثارة الشكوك، وهي مجلة «الكاتب المصري» التي صدرت في أكتوبر ١٩٤٥م، وكان يرأس تحريرها طه حسين، وقد تعرَّضت لحملة عنيفة من جانب الصحف المصرية متهمةً إياها بالخضوع لسيطرة اليهود الصهاينة، وأن الهدف من إصدارها هو استقطاب المثقفين المصريين لصالح الحركة الصهيونية، وشراء صمتهم إزاء الصراع العربي-الصهيوني في فلسطين. وبالفعل فقد ثبت، من متابعة وتحليل مضمونها، تجاهُلها الكامل وشبه المتعمَّد للقضية الفلسطينية، في الوقت الذي بلغت الصدامات العربية الصهيونية ذروتها، ولم تخلُ صحيفة مصرية من متابعة هذه الأحداث بألوانٍ شتَّى من الكتابة والتغطية الصحفية، وكانت «الكاتب المصري» لا تمنح القضية الفلسطينية أكثر من عمودٍ أو اثنين كحدثٍ هامشي، وكانت تقتصر على المعالجات الخبرية دون التعليق أو التحليل.

وعندما كشفت عن هذا الجانب في كتابي «الصحافة الصهيونية في مصر» الصادر عام ١٩٨٠م وُوجِهت بعاصفة حارة من النقد من جانب كثير من المثقفين المصريين، الذين أصيبوا بصدمةٍ بسبب الخلط وسوء الفهم، حيث تعاملوا مع القضية بمنظورٍ أحادي يركز على استنكار تورُّط عميد الأدب العربي طه حسين مع بعض اليهود المصريين الموالين للصهيونية واستبعاده، وأغفلوا الجانب الأهم من القضية الذي ينبِّهنا إلى ضرورة فهم طبيعة الاستراتيجية الصهيونية التي استثمرت جميع القُوى لخدمة أهدافها التوسُّعية؛ فهي مسلَّحة بدرجة عالية من التنظيم والنفس الطويل الذي تميزت به الحركة الصهيونية، ومارسته بخبثٍ ودهاء وقدرة بارعة على الخداع طَوال مسيرتها منذ مؤتمر بال ١٨٩٧م.

وفي إطار الالتزام بهذه الاستراتيجية تمكَّنت الصهيونية من اختراق معظم التيارات الفكرية والسياسية في مصر، عدا التيارات القومية والإسلامية، وتحت غطاء حرية الفكر والثقافة وضرورة نشر الفكر العقلاني والتنويري نجحت الصهيونية في اختراق نخبة المثقفين الليبراليين بزعامة طه حسين، كما نجحت في اختراق الماركسيين المصريين من خلال إقناعهم بأولوية الصراع الطبقي وتهميش الصراع القومي، وأن السبيل الوحيد للنهوض بفلسطين يكمُن في وحدة الطبقة العاملة اليهودية والعربية، وهكذا نجحت الصهيونية في استقطاب أهم التيارات الفكرية والسياسية الفاعلة على الساحة المصرية، وتمكَّنت من تحييد مواقفهم إزاء الصراع الفلسطيني-الصهيوني، حتى يتم لها تحقيق حلمها التوسُّعي، وإقامة دولتها على الأرض الفلسطينية المغتصَبة.

مغالطات تاريخية

هذه جوانب من المسكوت عنه في السيرة الذاتية للطائفة اليهودية في مصر، والذي أغفله المؤرخ الإسرائيلي الأمريكي جويل بينين الذي يقول في كتابه: «إن مصدر بحثي كان من الصحف، ومن ثَم غابت تمامًا دراسة أشكال الانخراط السياسي والاقتصادي للطائفة اليهودية.» وقد لا يدرك أن هناك إجماعًا من جانب المؤرخين وأساتذة الصحافة على أن الصحف تُعَد وثيقةً تاريخية من الدرجة الأولى، ولكن لا يمكن الاستناد إليها وحدها، بل لا بد من دراستها في إطار السياق المجتمعي والتاريخي، وقد تحقَّق ذلك في الدراستين اللتين وجَّهت إليهما افتراءاتك، فقد اعتمدت دراستي على ما يزيد على ٣٥ مرجعًا عربيًّا، و٣٠ مرجعًا أجنبيًّا، عدا الشخصيات اليهودية المصرية، وأبرزهم الراحلون أحمد صادق سعد، ويوسف درويش، وشحاتة هارون؛ الذين أمدُّوني بكثيرٍ من الوثائق المهمة عن خريطة اليهود وأعدادهم في جميع محافظات مصر، علاوةً على شهاداتهم الواقعية وشهادة العديد من الماركسيين المصريين الذين عاصروا هنري كورييل وتعاونوا معه.

إذا كانت الحقائق التاريخية تؤكد أن مصر قد استُخدمَت كقاعدة رئيسية للدعاية الصهيونية، وأنه قد تم تجنيد اليهود المصريين لخدمة الأطماع التوسُّعية للصهيونية في فلسطين واستقطابهم، وقد نجحت في تحقيق الهدف الذي انتهى باغتصاب حقوق الشعب الفلسطيني وطرده من أرضه، كما شنَّت إسرائيل عدة حروب ضدنا (١٩٤٨م – ١٩٥٦م – ١٩٦٧م – ١٩٧٣م) لم نسمع عن استشهاد يهودي مصري واحد من اﻟ ١٢٠ ألف شهيد مصري ضحايا الاعتداءات الإسرائيلية.

يذكِّرني كتاب «شَتات اليهود المصريين» بحملة الافتراءات التي تعرَّض لها الفلسطينيون ونشرتها الحركة الصهيونية، بأنهم قد باعوا أراضيهم لليهود؛ ولذلك يستحقون ما حدث لهم من احتلال أراضيهم وطردهم منها، وقد أثبتت الدراسات خطأ هذا الافتراء؛ بل فُحشه؛ إذ إن الأرض التي كانت تحت أيدي الصهاينة عند صدور قرار التقسيم نوفمبر ١٩٤٧م لم تكن تتعدَّى ٦٪، وكانت تشمل أراضي كبار الإقطاعيين الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون خارج فلسطين، وخضعوا لإغراءات الوكالة اليهودية وباعوا أراضيهم بأسعارٍ باهظة، ولكن الفلاحين الفلسطينيين رفضوا تسليمها للوكالة اليهودية التي استعانت بحراس ودبابات سلطات الانتداب البريطاني، فاقتحمت الأراضي الفلسطينية، ودكَّت الأرض بكل ما عليها من مساكن وبشر، وسلَّمتها للوكالة اليهودية.

هذه هي إحدى الحقائق التي كشفت عنها الصحف المصرية، خصوصًا «كوكب الشرق» و«البلاغ» (الصحافة المصرية والقضية الفلسطينية، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ١٩٨٠م)، السؤال الذي يجب أن نطرحه هو لماذا تُثار هذه القضية الآن، وما هي الأهداف الحقيقية التي تكمُن خلف إثارتها بهذه الصورة المبتسرة غير المنصِفة للمجتمع المصري وزعاماته الوطنية والفكرية.

لقد دفعت ثمنًا غاليًا بسبب كتابي عن الصحافة الصهيونية في مصر، وهذه قصة تستحق أن تُروى في مقالٍ لاحق، وما زلت وسأظل أومن بالمأثورة التي تؤكدها الأحداث والشواهد التاريخية «إنك تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس طوال الوقت.»

١  جريدة البديل، ٢ من نوفمبر ٢٠٠٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥