تجريف الذاكرة
للتاريخ دورٌ حيوي في تحديد مسار الأمم في الحاضر والمستقبل؛ فهو يقدم خُلاصة خبرات الأمم ذات الحضارات التي صاغت التراث الإنساني وتجاربها، تلك الخبرات والتجارب التي تقدِّم مَعينًا لا ينضب من الدروس المستفادة منها، والتي تتكشَّف كلما تعمَّق الباحثون في التاريخ، يجلُون غوامضه، ويسلِّطون الضوء على دلالته بمختلف الوسائل المنهجية، ولأن التاريخ «حمَّال أوجه» يختلف طرحه باختلاف المؤرخين من حيث انتماءاتهم الاجتماعية وثقافاتهم وأيديولوجياتهم، مما ينعكس على رؤية المؤرخ وتفسيره للظاهرة أو الحدث الذي يتصدى له بالدراسة، فكثيرًا ما يوظَّف التاريخ لخدمة أهداف معينة؛ سياسية أو استراتيجية أو حتى ثقافية، عندئذٍ يتصدى فريق من المؤرخين لخدمة هذه الغاية، يستخدمون — في الغالب — أسلوبًا انتقائيًّا في التعامُل مع المادة التاريخية التي يفسرونها بما يخدم أغراض «توظيف» التاريخ لصالح أمة معينة أخرى.
ولعل تاريخ أمتنا من أبرز مجالات التاريخ التي كانت هدفًا للتوظيف على مدى القرنين الأخيرين لتبرير إخضاعنا للهيمنة الغربية تحديدًا، وللتهوين من شأن مساهمتنا في الحضارة الإنسانية. وعندما قام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، استخدم في صراعه ضدنا كل الأسلحة الممكنة، بما في ذلك سلاح «التاريخ»، الذي كان أداة مهمة في يد الصهيونية لتؤكد حق اليهود «التاريخي» في فلسطين، بل وتعمل على صناعة دورٍ حضاري إنساني للعبرانيين، من خلال الترويج لأكذوبة بنائهم للأهرامات في مصر، رغم أن بناء الأهرامات سبق ظهور العبرانيين في التاريخ بما يزيد على الألف عام.
وقد لعبت الصهيونية في هذا المجال دورًا كبيرًا في الربط بين دعواها وبين تاريخ الثقافة الغربية، من خلال صياغة مفهوم «الثقافة اليهودية-المسيحية» التي تُعَد البنية الأساسية للثقافة الغربية المعاصرة، وهو مفهوم استُخدم سياسيًّا بمهارة لاستقطاب اليمين المسيحي الأمريكي والأوروبي، وحشد تأييده للكيان الصهيوني، واستُخدم ثقافيًّا عن طريق تبني الدراسات التي تستخدم المنهج التفكيكي — في العَقدين الأخيرين من القرن المنصرم — والتي تُعيد دراسة التاريخ الإسلامي من منظورٍ أركيولوجي وأنثروبولوجي تفكيكي يستمد جذوره من مفهوم الثقافة اليهودية المسيحية.
تجليات العنصرية
فعلى الصعيد السياسي؛ استَخدمت الصهيونية تصاعُد المد الأصولي المسيحي الذي أصبح له دور مؤثر على الساحة السياسية في الولايات المتحدة وأوروبا بين صفوف اليمين، لتؤكد أن العرب والمسلمين أدعياء لا وجود لهم في التاريخ، بدليل غياب ذكرهم في الكتاب المقدس، الذي لا يقرُّ أحدًا سوى اليهود والمسيحيين، وما العرب وما يدَّعون من ثقافة إسلامية إلا قوم متطفِّلون يكفي أن يسمح لهم — على أحسن الفروض — بالعيش على هامش «الكيان الصهيوني» الذي يمثِّل قاعدة أمامية للدفاع عن الوجود «التاريخي» للثقافة اليهودية-المسيحية في الشرق الأوسط، وغالبًا ما يتولى الترويج لهذه الأفكار عناصر من اليمين المسيحي، مستخدمين في ذلك مختلف فنون الدعاية والإعلام، ومختلف الوسائط الناقلة لتلك الأفكار من الصحافة والكتب، إلى البرامج الإذاعية المسموعة والمرئية، إلى المواقع الخاصة على الإنترنت.
وعلى الصعيد الثقافي، نشرت بعض الأعمال التي تعيد كتابة التاريخ الإسلامي من المنطلق نفسه، وفي إطار مفهوم الثقافة «اليهودية-المسيحية» صاحبة السيادة والتفوق التي أنبتت «للإنسانية» الحضارة الغربية «العظيمة» واستخدم أصحاب تلك الأعمال المنهج التفكيكي في محاولة لإثبات أن الإسلام كان عالةً على الثقافة اليهودية-المسيحية، ومجرد إعادة صياغة لها؛ ومن ثَم التهوين من دور الإسلام الحضاري والتاريخي لصالح «الأصل» المزعوم (الثقافة اليهودية-المسيحية) أي لصالح الغرب الذي ترتكز مكانته الحضارية المعاصرة على «الكيان الصهيوني» الذي يُعَد — بهذا المفهوم — شريكًا أصيلًا، وندًّا لليمين المسيحي الغربي، والذي يعتبر نفسه حاميًا لهذا التراث المشترك.
وربما يتساءل بعض القراء حول الإشارة بإصبع الاتهام إلى الصهيونية باعتبارها راعيةً لاتجاه إعادة كتابة التاريخ الإسلامي من منظور تفكيكي، وقد يعدونها أمرًا شبيهًا بصيحة «الذئب … الذئب»، أو استمرارًا للسلوك العربي التقليدي لتبرير قصورنا وعجزنا عن التصدي الإيجابي لمن يستهدفنا بتعليق الاتهام في رقبة «الصهيونية»!
ولعل القارئ يتساءل لماذا لا نفترض أن أصحاب تلك الدراسات كانت دوافعهم ذاتيةً، أو أنهم رأوا أن يطبقوا المنهج التفكيكي على موضوع الدراسة الذي كان «مصادفةً» التاريخ الإسلامي!
إن ما نعرفه عن المجال الثقافي والأكاديمي الغربي يبرر ما نذهب إليه من أن الصهيونية ليست بعيدةً عن ذلك الاتجاه، بل وتلعب دور المنسِّق والمحرِّك له، لأنها — ببساطة — المستفيدة منه سياسيًّا، ليس على الصعيد الإقليمي فحسب، بل وعلى الصعيد العالمي. فمثل هذه الأعمال «الأكاديمية» تُخصَّص لها المنح الدراسية السخية عن طريق المؤسسات الداعمة للنشاط الثقافي والعلمي، كما ترحب بها دور النشر الكبرى ذات السمعة المرموقة، فذلك يعطي مصداقية لتلك الأعمال. وصناعة القرار في المؤسسات الغربية المانحة للنشاط الثقافي والأكاديمي، وفي دور النشر العالمية الكبرى، ليست بعيدة عن خدمة الأغراض والأهداف السياسية.
وغالبًا ما تلتقط «قرون الاستشعار» عند بعض الباحثين التوجُّهات التي تحقق الاستجابة لها الفوز بالمنحة الدراسية لتمويل متطلبات البحث والتفرغ له، وضمان فرصة النشر، وما قد يلحق بذلك من مغانم شخصية أخرى، ومن المعروف أن الموضوعات الخاصة بالإسلام تحتل الأولوية في اهتمام المؤسسات المانحة، تليها الموضوعات الخاصة بالنوع، ثم حقوق الإنسان، وكلها مجالات تحتل أهميةً خاصةً في «أجندة» السياسة الغربية.
ولا يتسع المجال هنا لنلقي نظرات نقدية على بعض تلك الدراسات التفكيكية للإسلام والثقافة الإسلامية؛ فالمسألة أخطر من مجرد تفنيد ما تسوقه تلك الدراسات من تزييف للتاريخ العربي الإسلامي، ووجه الخطورة أن تلك الأعمال تُكتَب بالإنجليزية، وتُترجَم إلى العديد من اللغات الأوروبية وغير الأوروبية، وبذلك تتسع دائرة متلقِّيها لتشمل أهل الأرض أجمعين، مما يؤثر على رؤية الناس لثقافتنا، ويسحب من رصيدنا التاريخي والثقافي والسياسي — بغير حق — لصالح القُوى التي تستهدفنا.
ومن هنا يجب أن نعمل جاهدين على مواجهة الأهداف الخفية والظاهرة لتفكيك تاريخنا وتشويهه وتزييفه، ولا يعني ذلك أن نشن حملة في وسائلنا الإعلامية ضد حركة التزييف؛ فذلك لا يجدي نفعًا، ولا يقلص من حجم الأضرار التي تسببها تلك الحركة لنا، لأن خطاب التفكيك موجَّه أساسًا إلى الرأي العام الغربي خاصةً، والرأي العام العالمي عامةً، ومن ثَم وجب علينا أن نتوجه بخطابنا لدحض الافتراء على تاريخنا ودورنا الحضاري إلى أولئك الذين استهدفتهم تلك الحملة، وبالطريقة نفسها، أي من خلال الدراسات التاريخية الرصينة، التي تلتزم بمناهج البحث، وتبني نتائجها على أسسٍ علمية، وليس من خلال إصدار البيانات أو إعلان الشجب والاستنكار على نحو ما نفعل في الكثير من الأحيان.
ولكن من يتولى هذه المهمة؛ المؤرخون العرب كأفراد، أم المؤسسات العلمية الرسمية والخاصة؟
من البديهي أن يضطلع المؤرخون العرب بمهمة تبنِّي مشروع عربي لكتابة تاريخنا الثقافي والسياسي بأسلوبٍ منهجي عصري، ولكن ذلك يتطلَّب امتلاك المؤرخين لناصية المنهج ومتابعة كل جديد فيه، وهو أحد مظاهر القصور التي تعانيه الدراسات التاريخية عندنا، التي يغلب عليها أسلوب القص التاريخي الذي يتخذ من السرد أداته، مع ندرة التحليل ومحدودية القدرة على استخلاص النتائج. وهذا القصور مردُّه إلى ضعف التكوين المنهجي في أقسام التاريخ في جامعاتنا، وما تتسم به برامج الدراسة فيها من تخلُّف عن مواكبة التطور العالمي في هذا المجال؛ لأسبابٍ يطول شرحها، وليس لدينا إلا أفراد معدودون من المؤرخين الذين يمثِّلون استثناءً عن هذه الظاهرة السلبية، باستطاعتهم تبنِّي مثل هذا المشروع الثقافي القومي المهم، لو وجدوا الرعاية الكافية من جانب المؤسسات الثقافية والعلمية العربية الرسمية والخاصة.
وكان من الممكن أن تلعب «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» التابعة لجامعة الدول العربية هذا الدور لو توافر لديها الوعي بخطورة ما يجري على الساحة الثقافية الدولية من تشويه لتاريخنا، ولكنها تهيم في وادٍ آخر؛ إذ ينعكس عليها واقع الحال في جامعة الدول العربية.
معنى ذلك أن المؤسسات الخاصة هي الأنسب لتبنِّي مثل هذا المشروع، الذي يمكن أن تدعمه مِنح مالية مقدَّمة من مختلف الجهات الحكومية والخاصة، ومن الأفراد ما دامت كانت هذه المِنح لا تقترن بشروطٍ تقيِّد حرية البحث، أو توجِّهه لغير الهدف المنشود، عندئذٍ تستطيع المؤسسة التي تتبنَّى المشروع أن تلجأ إلى ثقات المؤرخين للتخطيط للمشروع، وإسناد العمل فيه إلى الباحثين الأكفاء، ووضع جدول زمني محدَّد للنشر، على أن يتضمن ذلك نشر إصداراتٍ باللغتين الإنجليزية والفرنسية.
وقد يكون من المناسب — أيضًا — لمواجهة ظاهرة تشويه تاريخنا أن تتولى إحدى الجمعيات العلمية المعنية بالدراسات التاريخية أو بعض مراكز البحوث العربية المستقلة إصدار دورية ثنائية اللغة (فرنسية/إنجليزية) تلعب دور النافذة التي تطل من خلالها وجهة النظر العربية في تفسير تاريخنا الثقافي والسياسي على المتلقي الغربي، وحبَّذا لو أُعطيَت مثل هذه الدورية الأولوية، وكان حظها من التحرير جيدًا، ويمكن في مثل هذه الدورية أن تُناقش الأفكار المطروحة في الدراسات التفكيكية مناقشةً علميةً تُفنِّدها وتدحضها، وتكشف أوجه القصور فيها.
إن مواجهة الأهداف الخفية والظاهرة لتفكيك تاريخنا ضرورة حيوية في معركتنا السياسية في مواجهة الصهيونية وعنصريتها، وتصحيح صورتنا الحضارية عند الرأي العام العالمي التي يستهدف هذا التيار العنصري النَّيل منها، وهي لا تقل أهميةً عن جبهات المواجهة الأخرى، والاستخفاف بها والتهوين من شأنها على نحو ما فعلنا في مواجهة ما زعمه اليهود من فضلٍ لأنفسهم في بناء الأهرامات وصناعة الحضارة المصرية القديمة، يُعَد تقصيرًا شديدًا في واجبنا، وإهدارًا لحقِّنا في رد العدوان علينا، لن يغفره لنا التاريخ.