البديل … الصهيوني١

محمد عبد الهادي

تواجِه إسرائيل والولايات المتحدة مقاومةً عنيفة في مصر ضد التطبيع بين المجتمع الإسرائيلي والمجتمع المصري برغم الاعتراف الرسمي بدولة إسرائيل في معاهدة ١٩٧٩م وإقامة علاقات دبلوماسية، ولا أفتئت على الحقيقة إذا قلت إن المقاومة رسمية حكومية أيضًا، فبرغم التطبيع الذي نهجته وزارة الزراعة؛ فإن القطاع الثقافي يرفض التطبيع بجميع أشكاله، وترفض وزارة الداخلية الاعتراف بالزيجات المختلطة ومنح الجنسية لأبناء المصريين من زوجات يحملن الجنسية الإسرائيلية، ناهيك عن قضاء بعض زوَّار إسرائيل ليلةً — أو ليلتين — في مباحث أمن الدولة تجعلهم يكرهون إسرائيل، ومَن وراء إسرائيل، ومَن دفعهم إلى هذه «العملة السودا».

أما المقاومة الأشد عنفًا فهي المقاومة الشعبية للتطبيع باستثناء بعض رجال الأعمال لأسبابٍ تتعلق بالمصالح وجني الأرباح من علاقة تجارية، قبل حتى أن توفِّر لهم الحكومة اتفاق «الكويز» كغطاءٍ شرعي لهذه التجارة.

ويلعب المثقفون والأكاديميون والنقابات المهنية والمالية والرموز الوطنية «الرموز بجد وليس رموز الحزب الوطني» دورًا رئيسيًّا في تشكيل الوعي العام ضد التطبيع مع إسرائيل والسياسة الأمريكية في المنطقة، وإظهار خطورة الاختراق الصهيوني للمجتمع المصري بأي شكل من الأشكال المرئية وغير المرئية.

وتسلك إسرائيل والولايات المتحدة دروبًا عدة لإجهاض المقاومة الوطنية ضد التطبيع، فعلى المستوى الرسمي الحكومي يستخدم الطرفان ورقة الترغيب والتهديد في آنٍ واحد بالحديث الروتيني عن ربط المساعدات الأمريكية بالتطبيع، أو في مناسبات معينة مثل التصريح بعدم دعم ترشيح فاروق حسني وزير الثقافة لمنصب مدير عام منظمة اليونسكو بسبب رفضه التطبيع الثقافي، وذلك على سبيل المثال.

أما في اتجاه المثقفين والرموز الفكرية الوطنية المعادية للتطبيع، فإن إسرائيل والولايات المتحدة يسلكان طريقين رئيسيَّين متوازيَين، يصبَّان في هدف واحد، ويضربان عصفورين بحجر واحد.

الأول: استخدام هيئات أمريكية كقنواتٍ خلفية غير مباشرة للتطبيع، ومن هذه الهيئات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والجامعة الأمريكية بالقاهرة، وذلك عن طريق تمويل الوكالة مشروعاتٍ بحثية وأكاديمية تستقطب أكاديميين مصريين، وتركز هذه المشاريع خصوصًا على اليساريين منهم، تحت مُسمَّى «مشاريع أكاديمية مشتركة» يشارك فيها أكاديميون إسرائيليون وأمريكيون يهود — غالبًا — متعاطفون مع دولة إسرائيل، أما الجامعة الأمريكية فتستقبل أكاديميين إسرائيليين للتدريس وإلقاء المحاضرات بها على طلبة وأكاديميين مصريين.

الثاني: تخفيف العداء للصهيونية ولإسرائيل بسبب سياساتها وممارساتها وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني، واستمرار احتلالها لأراضٍ عربية، ومن ثَم تخفيف الكراهية للصهيونية ولإسرائيل، وإعادة إنتاجهما في الذهنية المصرية في صورة طيبة، والترويج لفكرة ارتباط المصالح الوطنية المصرية بالتطبيع معها وخطأ معاداتها، وذلك من خلال الضغط على الحكومات لمراجعة المناهج الدراسية، خصوصًا الدينية والتاريخية، لحذف كل ما يتعلق منها باليهود والنزاع العربي الإسرائيلي تحت دعاوى نشر ثقافة السلام، ولإبعاد الشخصيات المعادية للصهيونية وإسرائيل، والتطبيع من مواقع تؤثر من خلال وجودها فيها على توجيه الرأي العام. ولعل البعض منا يتذكر طلب رئيس وزراء إسرائيل مناحم بيجين من الرئيس السادات بعد توقيع المعاهدة عام ١٩٧٩م «ترشيد» أحاديث فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي للتليفزيون عن اليهود في القرآن الكريم.

وإزاء فشل يواجِه إسرائيل في تليين مواقف المثقفين والرموز الوطنية والفكرية المعادين للتطبيع تلجأ آلة الدعاية الصهيونية الأمريكية إلى ملاحقتهم وعقابهم، ويُعَد تشويه السمعة إحدى وسائل العقاب، والتهمة الأنجع هذه الأيام هي تهمة «معاداة السامية» لكسر شوكتهم، ومحاولة عزلهم داخل محيطهم الأكاديمي، ووضعهم في موقع وكأنهم معادون منه لمصالح بلدهم مع إسرائيل!

في نوفمبر ٢٠٠٥م أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا بتجريم إنكار المحرقة اليهودية و«معاداة السامية»، ووفَّر هذا القرار أداةً لا بأس بها في يد آلة الدعاية الصهيونية، تجعل مَن يُوجَّه إليه هذا الاتهام من الأكاديميين المصريين معرَّضًا لعقوبات من الجامعات الأوروبية والأمريكية، ومن جامعاتٍ عربية في دول مؤلَّفة قلوبها، ممنوعًا من العمل فيها أو إلقاء محاضرات في قاعاتها أو المشاركة في مؤتمرات علمية تستضيفها أو حتى دخولها، وهذا هدف رئيسي من أهداف توجيه ذاك الاتهام وعمل آلة الدعاية الصهيونية في هذا الاتجاه.

لكن العقاب الأشد وطأةً والجرح الأشد إيلامًا هو أن تستخدم آلة الدعاية تلك وسائل إعلام مصرية وطنية يسارية التوجُّه، لتوجيه هذا الاتهام من قِبَل أكاديمي إسرائيلي صهيوني يعمل بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

في عدد صحيفة «البديل» الصادر صباح الجمعة ٢٦ أكتوبر الماضي نشرت الصحيفة تصريحاتٍ للمدعو «يوئيل بن بينين» وهو أكاديمي إسرائيلي صهيوني، يعمل بمركز الشرق الأوسط — إحدى المنظمات الأمامية للتطبيع بين مصر وإسرائيل — بالجامعة الأمريكية، وهو أيضًا أحد أبناء جيل إسرائيلي تربى وعمل في «كيبوتز» صهيوني على الأراضي الفلسطينية المحتلة.

واتهم يوئيل في حديثه الدكتور رءوف عباس بأنه «متطرف قومي معادٍ للسامية»، وفق العنوان المصاحِب للحديث الذي روَّج فيه يوئيل لمزاعمه، واستخدم «البديل» منبرًا لإطلاقها تحقيقًا لأهداف آلة الدعاية، في الوقت الذي أصدرت له «دار الشروق» ترجمةً لكتابه «شَتات اليهود المصريين».

والدكتور رءوف عباس أستاذ مصري مرموق في التاريخ، ورئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وقامة وطنية وفكرية عالية في البلاد، وحاصل على جائزة الدولة التقديرية، ومن المعادين للمشروعات الصهيونية الأمريكية في المنطقة العربية للتطبيع.

لذا جاء هذا الاتهام من إسرائيلي صهيوني من منبر وطني صادمًا لأسبابٍ عدة؛ منها استخدام الصحيفة منبرًا، ونشر الاتهام في كادر خاص لإبرازه، وإطلاق الاتهام في عنوان دون نسبته إلى صاحبه، وعدم الاتصال بالدكتور رءوف عباس للحصول على رده على هذا الاتهام عملًا بقواعد المهنة، وانتظار قراءة الدكتور رءوف بنفسه هذا الاتهام — كقارئ — لكي يقوم بنفسه بالرد.

ويُزيد الشعور بالأسى إتاحة صحيفة مصرية الفرصة ليوئيل لتوجيه اتهام بهذه الخطورة لشخصية وطنية في الوقت الذي قررت فيه الجامعات البريطانية مقاطعة الجامعات الإسرائيلية والأكاديميين الإسرائيليين، مثل يوئيل، بسبب سياسات التمييز العنصري ضد الفلسطينيين داخل الجامعات الإسرائيلية … فهل جامعات بريطانيا أكثر عروبةً من التيارات اليسارية والثورية في مصر؟ وهل تعرف جامعات بريطانيا من هم المعادون الحقيقيون للسامية أكثر مما تعرفه صحفنا اليسارية؟

أثق ثقةً مطلقةً في مهنية الزملاء في «البديل»، أما وطنيَّتهم فهي ليست مطروحةً أساسًا للنقاش، وفوق ذلك أقدِّر الدكتور محمد سيد سعيد رئيس تحريرها، فقامته لا تقل ارتفاعًا عن قامة الدكتور رءوف عباس، فهو مفكر مصري، أحترم آراءه واجتهاداته السياسية والفكرية، علاوةً على أنه صديق عزيز. وما قصدت من العنوان الصادم لهذا المقال سوى إشعار الزملاء في البديل بفداحة ما ألحقه المنشور بها من أذًى للدكتور رءوف؛ عندما يُواجِه المرء موقفًا مشابهًا.

وسلفًا أعتذر للزملاء عن هذا العنوان، وأعتبر أن ما تم نشره، وعلى الصورة التي تم نشره عليها خطأ غير مقصود، لا يكفي تداركه نشر رد الدكتور رءوف، أو الاعتذار منه، بل فضح محاولات اللوبي الصهيوني الأمريكي لفرض التطبيع من أبواب خلفية، أو عبر منظمات أمامية، وكذلك فضح محاولات تشويه سمعة رموزنا الوطنية، ومساعي هذا اللوبي لاختراق اليسار المصري، وتلك قصة أخرى من قصصٍ كثيرة تُروى في هذا المجال.

١  جريدة المصري اليوم، ٧ من نوفمبر ٢٠٠٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥