بينين يتمتع بقدراتٍ بحثيةٍ فريدة؛ ولكن دور السياسي طغى على دور الباحث
انتابتني دهشة كبيرة، عندما طالعت الحوار الذي أجرته «البديل» مع المؤرخ الإسرائيلي-الأمريكي يوئيل بن نين في عدد الجمعة ٢٦ أكتوبر، فبدلًا من أن يتحدث مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية عن كتابه الصادر بالعربية «شَتات اليهود المصريين»، أخذ يوزع الاتهامات بمعاداة السامية على المؤرخين المصريين، ويخص الدكتور رءوف عباس بالنصيب الأكبر منها، ويحكي عن انطباعاته الشخصية عنه.
للسيد «يوئيل» وﻟ «البديل» وﻟ «دار الشروق» في عنقي «توضيح وشهادة، وعتاب».
أما التوضيح فإنني مثل الغالبية العظمى من المثقفين المصريين، نفرق جيدًا بين «اليهودي» و«الصهيوني» و«الإسرائيلي»، أعترف أنني قابلت في حياتي يهودًا معادين للصهيونية، كان من بينهم صديقي الطبيب الأمريكي «دافيد هنيلي»، الذي كان من نشطاء حركة الاحتجاج على حرب فيتنام، والذي هاجر بعدها إلى السويد، والذي التقيته في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان، مع غيره من يهود شرفاء، وقفوا إلى جانب الشعب الفلسطيني ضد الصهيونية، وكانت أرواحهم مهدَّدة بفعل قنابل الطائرات الإسرائيلية. أقرُّ — أيضًا — بأن تعاطفي مع القضية الفلسطينية، والذي أدى إلى ارتباطي بالمقاومة، قد أثارته قراءة في كتابين في بواكير الشباب للمناضلة اليهودية الشيوعية «فيلتسيا لانغر»، تلك المحامية الإسرائيلية التي دافعت عن المعتقلين الفلسطينيين في الستينيات، وكان كتاباها «أولئك إخواني» و«بأم عيني» وثيقتَي دمغ واضحة للصهيونية العنصرية، فضَّلت «فيلتسيا» أن تهاجر من إسرائيل، وترجع إلى بلدها الأصلي «ألمانيا» ليتسق موقفها الحياتي العملي مع معتقدها الفكري المعادي للصهيونية؛ لذا فإن اتهام المثقفين المصريين بالمعاداة للسامية نوع من البلطجة والإرهاب الفكري الذي لن يخيفنا، ولن نقبله.
لعل إحدى القضايا التي تشغل اهتمامي وتفكيري هي قضية التطبيع مع إسرائيل، وبالأخص محاولة فتح أبواب له عبر لافتة «حوار اليسار العربي واليسار الصهيوني»، أو عبر الادِّعاء بأن «يهود إسرائيل من الأصول الشرقية الأكثر تفهمًا للمطالب العربية هم «اليهود المصريون».» لقد لفت انتباهي بشدة كتاب «بن نين» المُعنوَن «ما زال العلم الأحمر يرفرف هناك» الصادر عن دار الثقافة الجديدة؛ لقد دعا «يوئيل» في هذا الكتاب إلى حوارٍ بين اليسار العربي واليسار الصهيوني، متتبِّعًا الجذور التاريخية التي تمثَّلت في محاولات البعض إجراءه.
ثم طالعت في جريدة «العربي» منذ حوالي ثمانية أعوام عرضًا لكتاب «شتات اليهود المصريين» قدَّمه الدكتور قاسم عبده قاسم، ظللت أبحث عن الكتاب بدأبٍ حتى تمكَّنت من تنزيله من شبكة الإنترنت كاملًا، ثم استطعت اقتناء النسخة الأصلية من الخارج، والحق أن الكتاب يتضمن كمًّا هائلًا من المعلومات عن اليهود المصريين ومصيرهم، مما جعلني أعرضه على الدكتور رءوف عباس. أود أن أشير هنا إلى قدرة «يوئيل بن نين» الكبيرة على امتلاك أدوات البحث العلمي واستخدامها، وفي نفس الوقت الظروف التي مكَّنته من التنقُّل بين إسرائيل ومصر وأمريكا وأوروبا لجمع مادة هذا الكتاب الثرية.
لقد تحمَّس الدكتور رءوف — وتحمَّست معه — لوجوب نشر هذا الكتاب بالعربية، رغم أن «يوئيل» قد طغى عليه فيه دور السياسي على دور الباحث، ولعل ذلك هي إحدى آفات البحث في العلوم الاجتماعية؛ حيث يتم انتقاء المعطيات ولي عنق النتائج لتبرير معتقدات وآراء الباحث السياسية.
بدأت بالفعل في ترجمة الكتاب، وقامت الدكتورة شُهرت العالم مدير التنسيق والمتابعة بالمشروع القومي للترجمة بالاتصال بالمؤلف، كانت المفاجأة أن «يوئيل» في البداية قد تساءل عن أهمية ترجمة كتابه للقارئ العربي مبديًا أنه موجَّه للقارئ الغربي، ثم وضع شروطًا تعجيزيةً لترجمة الكتاب؛ كان أهمها ألا تتم كتابة مقدمة للكتاب، وخاصة من د. رءوف عباس، وألا يسمح للمترجم بكتابة هوامش توضيحية أو تعقيبية على الصفحات.
أما الشرط الغريب الثالث الذي وضعه «بن نين» فقد كان أن يتم الرجوع في المقتطفات الفرنسية والعبرية التي قام هو بترجمتها إلى الإنجليزية إلى الأصل، لتتم ترجمته إلى العربية، قد يكون مفهومًا أن يتم الرجوع في المقتطفات العربية إلى الأصل العربي، وخاصة أن الترجمة موجَّهة إلى القارئ العربي، أما الحديث بشأن «الفرنسية» أو «العبرية» فيُلقي بالشك على ترجمة «بن نين» الإنجليزية لها، والتي يُفترض أن تكون أمينةً، ثم ظهر الملعوب؛ فلقد طلب أن يتم الرجوع إلى الأصول العبرية وترجمتها بواسطة المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة التابع للسفارة الإسرائيلية، والذي يصر المثقفون المصريون على مقاطعته، هنا كان قرار الدكتور جابر عصفور هو رفض شروط بن نين، والعدول عن ترجمة الكتاب، وعند هذه النقطة أتمنى ألَّا يوجِّه يوئيل اتهاماته بالعداء للسامية إلى الدكتور جابر، وفي نفس الوقت أتساءل هل وافقت دار الشروق على شروط «بن نين» بما فيها الرجوع إلى الأصول العبرية بالمركز الأكاديمي الإسرائيلي؟!
ولعل «العتاب» أوجِّهه أولًا إلى الأصدقاء في جريدة «البديل»، التي لم أكن أتوقع أن تقع في خطأ مهني جسيم كالذي فعلته عندما وضعت صورة رءوف عباس مع عنوان «رءوف عباس مؤرخ معادٍ للسامية»، هكذا دون علامة تعجب أو استفهام، أو حتى دون الإشارة إلى قائل العبارة يوئيل، وكأنه إعلان يطلب رأس مؤرخ مصري مرموق حيًّا أو ميتًا.
لم أتوقَّع أن تكون تهمة العداء للسامية رائجةً على صفحاتها ضد مصريين عرب، هم بالأساس ساميو الأصل، دون تعليق من «البديل» التقدمية المعادية للصهيونية.
رغم أن كتاب «بينين» هو إضافة للمكتبة العربية، دون شك، مع الإشارة إلى ما يحتويه من مغالطات سياسية وعلمية تستوجب التعقيب، فإنني أوجه عتابًا شديدًا لدار الشروق. مَن يطالع الكتاب يتأكد أنه لم تتم مراجعته بأي شكل من الأشكال، مفاهيم مغلوطة تستحق التعقيب، أخطاء في الترجمة مُهينة للثقافة المصرية ارتكبها المترجم، لقد تحوَّل المفكر المصري «أنور عبد الملك» على يديه إلى السيدة «أنوار عبد الملك» عالمة الاجتماع المصرية، وتحوَّل الباحث المصري الراحل «أنس مصطفى كامل» إلى أنيس مصطفى كامل، دون أن يرمش له جفن، وتحوَّلت «الدولية الاشتراكية» إلى «الحركة الدولية التعاونية العُمالية» على يد المترجم.
وإذا كانت تلك العينة قد أماطت اللثام عن محدودية الثقافة السياسية لدى المترجم، وإن كان أستاذًا في الأدب الإنجليزي، فإن المصيبة بلا شكٍّ أعظم عند ترجمة المصطلحات الخاصة بالحركة الصهيونية، ولعل تلك الإشكالية أيضًا تعني مأساة الترجمة في بلادنا؛ حيث لا تكفي معرفة اللغة الأجنبية فقط في إنجاز ترجمة صادقة وصحيحة، بلا شكٍّ لم تكن دار الشروق موفَّقة في إنجاز هذا الكتاب بهذه الصورة، وأشك كثيرًا أن يكون أحد مستشاريها قد اطَّلع على مضمونه الخطير، والذي يحتاج إلى تعقيبٍ وإشاراتٍ متعددة تنبِّه القارئ العادي إلى المضامين السياسية المغلوطة التي يحتويها، يبدو أن «دار الشروق» قد انبطحت موافقةً على شروط المؤلف التي رفضها من قبل جابر عصفور والمسئولون عن مشروع الترجمة القومي.
لا أوجِّه عتابًا إلى السيد يوئيل ولا لومًا؛ فالرجل قد أخطأ في حق كتابه وبحثه العلمي أكثر من مرة، لم يكن حريصًا على إيصاله للقارئ العربي بترجمة سليمة مُتوافِقة مع مصطلحات موضوعه، وعندما أراد الدعاية لكتابه لم يعرض مضمونه في الحوار الذي أجراه مع «محمد فرج»، بل فضَّل أن يوجِّه الاتهامات بمعاداة السامية لكل المؤرخين المصريين دون سبب ودون داعٍ، ثم هو يرفض أن يتناقش مناقشة علمية حول كتابه مع أصحاب التخصص، ويتعالى بكل عنصرية وصلافة على المؤرخين العرب والمصريين، حتى إنه غادر أحد البرامج التليفزيونية غاضبًا لمجرد أن الدكتور قاسم عبده قاسم أراد أن يقوم بمداخلة تليفونية حول كتابه.
أي بحث علمي أو موضوعي هذا الذي يتفادى المناقشة والجدال؟! أليس من حقنا، بعد كل ذلك، وبعد ملابسات توجيه الاتهامات بالعداء للسامية غير المبرَّرة ألَّا نوجِّه لومًا أو عتابًا إلى السيد «يوئيل»؟ وأن نوجِّه إليه اتهامًا واضحًا بأن أجندته السياسية التي ينفذها في الجامعة الأمريكية، ووسط المثقفين المصريين، هي التي تحركه، وليس — كما يدَّعي — جهده العلمي؟
ورغم ذلك نجد لِزامًا علينا أن نناقش كتاب «يوئيل بن نين» «شَتات اليهود المصريين» لأنه بقدر ما يحتوي على معلوماتٍ هائلة، فإنه ينطوي أيضًا على مغالطاتٍ علمية وسياسية، ويشير إلى أجندة سياسية خطيرة.