ثعالب شمشون في مصر

بالتفاصيل: وقائع أخطر محاولاتٍ صهيونية لاختراق جدار مقاومة التطبيع١
عزمي عبد الوهاب

كان اليهود موضوعًا لأكثر من عنوان ساخن في الفترة الأخيرة، حيث ضاع الفارق بين اليهودية كديانة سماوية والصهيونية كنزعة عنصرية، وكان «التطبيع» هو المعنى الخفي وراء أغلب هذه العناوين، لكن الاتهامات الكريهة تطايرت، لتُصَب على رأس المؤرخ الكبير رءوف عباس بعدما اتهمه جوئل بينين ﺑ «معاداة السامية»!

بينين هذا مؤلف كتاب «شتات اليهود المصريين» لا يُنكر ماضيه الصهيوني، وجنسيته التي تسمح له بالتردد على أسرته في إسرائيل من وقتٍ لآخر، وهو كذلك الذي رفض أن يكتب رءوف عباس مقدمةً لكتابه إبَّان الشروع في ترجمته وإصداره عن المركز القومي للترجمة. بالتأكيد رفض لأنه يعرف من هو رءوف عباس، فقد التقيا من قبل، وساعده د. رءوف حين منحه رسالة علمية مقابل أوراق هنري كورييل، إلى أن فاجأه بينين بأنه سيذهب إلى إسرائيل لزيارة أسرته هناك، فما كان من د. رءوف إلا أن عامله بالطريقة التي يراها واجبة في مثل هذا الموقف.

فتحت جريدة «العربي» السجال مبكرًا حول الدور الذي يلعبه «بينين» في مركز دراسات الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية في مصر، من بثِّ أفكار مناهضة للقومية العربية وداعمة للتطبيع الثقافي، الذي يظل حائطًا منيعًا، يتأبَّى على محاولات الصهاينة؛ فيضطرون إلى ممارسته سرًّا، كأن يفاجئ الحضور بوجود السفير الإسرائيلي بينهم في عرض مسرحي، أو حفل موسيقي في دار الأوبرا المصرية، مثلما حدث أن أبلغ صاحب إحدى قاعات الفن التشكيلي في مصر، عن طريق جهة رسمية، أن السيد السفير سيأتي لزيارة القاعة، وإن كان القائمون على هذه القاعة قد أغلقوها خصِّيصَى في اليوم المحدَّد أو في «التاون هاوس» بوسط القاهرة، وكثيرًا ما يحدث هذا، ولا يكف الصهاينة عن محاولات اختراق حائط الثقافة والفنون، من وقت لآخر، بعدة وسائل، لأنهم يعرفون أن الثقافة والفنون هما خط الدفاع الأول والأخير عن هُوية هذه الأمة، وقد وصل التبجُّح بالسفير الإسرائيلي أقصى غاياته، حين أعلن تحدِّيه للجماعة الثقافية، بالإصرار على عرض فيلم «زيارة الفرقة» بأي صورة في مصر، حتى لو كان ذلك على نفقته الخاصة، وذلك بعد أن رفضت لجنة المشاهدة في مهرجان القاهرة السينمائي عرض الفيلم. الفيلم يتناول زيارة فرقة مصرية عسكرية (!) لإسرائيل، فلا تجد من يستقبلها، فتضطر صاحبة مطعم لاستضافة أعضاء الفرقة، وتحدث علاقات حب ومناوشات جنسية مكشوفة.

هذا هو شكل العلاقة الذي يريده صُنَّاع الفيلم الإسرائيلي، الذي عُرض في مهرجان كان … وهذا ليس نجاحًا؛ فالنجاح الحقيقي أن يُعرَض الفيلم هنا في القاهرة، لا في «كان»، حتى يستطيع السفير الإسرائيلي أن يُخرِج لسانه للجميع، فهو يعرف أن المثقفين المصريين ليسوا كلهم لينين الرملي أو علي سالم.

في الاتجاه الموازي قدَّمت مخرجة مصرية فيلمها الأول «سلاطة بلدي» وكان عنوانه الرئيسي «الحنين»، أو لم الشمل، أو العودة من الشتات. وفي محاولة لإفهام الحفيد أن له عائلةً أخرى في إسرائيل، تسعى المخرجة لأن تؤلِّف بين شتاتها، عبر شريط سينمائي مصوَّر هناك، إنها الزيارة العكسية ﻟ «زيارة الفرقة»! ضع بجانب هذه الصور، الاحتفالية التي أقامتها الجالية اليهودية في القاهرة «عددهم لا يتجاوز المائة» من كبار السن في عموم مصر بمناسبة مرور مائة عام على إنشاء المعبد اليهودي بشارع عدلي، وخطبت رئيسة الطائفة «كارمن وينشتاين» بالإنجليزية في حضور السفير الأمريكي «عاشق مولد السيد البدوي» والسفير الإسرائيلي بالطبع، وغنَّى جابر البلتاجي — المغني الأوبرالي المصري — أغنية عن السلام بالعبرية والعربية، كل هذا لا بأس به، لكن الأوبرالي المصري انتهك حرمة المعاني التي عاش بها ولها صلاح جاهين، حين غنَّى أغنيته عن السلام!

سلاطة بلدي فعلًا

يستطيع الواحد أن يحسد جريدة «البديل» على حياديتها وموضوعيتها (!) في التعامل مع قضية فيلم «سلاطة بلدي»، مع ضرورة الإشارة إلى أن موقف اليسار حاليًّا لم يعُد كما كان عليه عام ١٩٧٤م حتى لا يقول أحد: إن الشيوعيين المصريين كانوا أول من أيَّد فكرة التقسيم إلى دولتين «إسرائيلية وفلسطينية»؟ فتحت دعوى المهنية، يمكن تمرير حوارٍ على صفحة كاملة من «البديل» مع السيدة نادية كامل مخرجة الفيلم، وشيئًا فشيئًا يعتاد القارئ وجود مثل هذه النقاشات حول: هل ما حدث تطبيع أم لا؟! وشيئًا فشيئًا يحدث ما أسمته السيدة «نولة درويش» من نشطاء المجتمع المدني، وهي بالمناسبة ابنة المناضل الشيوعي الراحل يوسف درويش، الذي فضَّل العيش في جحيم الوطن «مصر» على الهجرة إلى الجنة المزعومة «إسرائيل».

مقال نولة درويش يدور حول أهمية كسر جدار «التمييز بين الناس على أساس الدين»، وكأن من يرفضون الفيلم، مع فكرة التمييز بين الناس على أساس الدين. نحن نتحدث عن ناس تخلَّوا عن مصريتهم، وجروا وراء فكرة «الوطن الموعود»، وسكنوا بيوتًا ليست بيوتهم، وناموا على أسِرَّة ليست لهم، وبالتأكيد كانوا يؤمنون بالمشروع الصهيوني التوسُّعي، فالفيلم يتم تصوير جزء منه مع هؤلاء، أو الجزء الغائب من الأسرة، منذ الأربعينيات.

ما الفرق إذن بين كسر الجدار الذي رأته نولة درويش و«الحاجز النفسي» الذي كان يسعى السادات لإذابته بمبادرته الاستسلامية؟!

هناك جانب آخر، فباسم البحث عن الجذور والحنين، والتمييز بين العلاقات التي تربط الناس على المستوى الخاص، وسياسات الحكام التي غالبًا لا تأخذ مصالح ورغبات الناس بعين الاعتبار، باسم هذا كله يتم تمرير فكرة الجذور المشتركة، فالحفيد «نبيل شعث» أبوه فلسطيني وأمه مصرية، وابنة عم جدته «سبب الزيارة» إسرائيلية، وبالتالي يجب أن يتم تجميع شتات هذه الأسرة حتى لو تخلَّى جزء منها عن مصريته، وبالتأكيد خاض حروبًا ضد مصر.

إذا كان هذا هو موقف نولة درويش، التي تنتمي إلى أسرة أخرى من «نوع السلاطة البلدي» فإنني استغرب لما كتبه الصديق الجميل محمود الورداني؛ إذ رأى في الفيلم قصيدةً عذبةً، وأنا أعرف موقف الروائي محمود الورداني السياسي من التطبيع، ولا مجال للمزايدة عليه هنا، لكنه توقف أمام معالجة المخرجة للحواجز التي زرعتها الدولة العبرية بين المدن بإعجاب، في حين أن مَشاهد الجدار العازل ونقطة العبور إلى غزة لم تستغرق سوى دقيقة ونصف الدقيقة، في فيلم مدته ساعة وخمس وأربعون دقيقة.

قد تكون نادية كامل مخرجة عبقرية، لدرجة أن فيلمها حصل على جائزة أحسن فيلم تسجيلي في المهرجان الحادي عشر للفيلم العربي بسان فرانسيسكو، كما عرضه من قبل مهرجان الشرق الأوسط السينمائي بأبو ظبي، ولنتأمل اسم مهرجان أبو ظبي، إنهم يستخدمون «الشرق الأوسط» التي استخدمها الغرب لعبور مأزق تسمية «فلسطين» في الحديث عن الصراع العربي الإسرائيلي.

قد تكون نادية كامل عبقرية سياسية، حين تبتكر تعريفًا جديدًا للتطبيع، فهي تراه: «الاستندال، أو اتخاذ موقف المتفرج من ظُلم أراه واقعًا على شخص آخر، لمجرد أن لي مصالح معينة، قد يضرها الوقوف إلى جانبه … هذا هو تعريفي للتطبيع» هكذا قالت!

ومن حقها أن تستسلم لحالة الحنين لجزء من عائلتها يعيش في إسرائيل، ومن حقها أن تقوم بزيارة هذا الجزء، لكن عندما تتحوَّل هذه الحالة إلى شريطٍ سينمائي، فلا بد أن نقرأ من وراء هذا رسالةً ما تريد توصيلها لنا، هذه الرسالة تكمن أيضًا فيما ذكرته ﻟ «البديل»: «أنا لم أنشئ علاقة مع إسرائيليين، العلاقة موجودة بالفعل، فيما يتمثل في رابطة الدم والقرابة، فما لا ينظر إليه الكثيرون هو أن الفيلم عن عائلتي أنا، كيف جاءت إلى مصر، والعقبات التي واجهتها عبر تاريخها، والتي كانت انعكاسًا للظرف السياسي، ليس في مصر فقط، بل في العالم كله، بدءًا من الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، فقيام إسرائيل. لقد تأثرت عائلتي بشكلٍ مباشرٍ بكل ما حدث؛ فالآخر بالنسبة لي ليس كما يمثِّله لأي مواطن آخر في مصر؛ فالآخر هنا تجمعني به صلة دم وثيقة مباشرة.»

هكذا لخَّصت نادية كامل المسألة؛ فالعدو الذي تربَّينا على أنه عدوٌّ لنا وهذا حق، ليس هكذا بالنسبة لها، إن هناك صلة دم، ولننظر إلى الأمام، ولا ندَع الماضي يتحكم في نظرتنا للعالم من حولنا؛ فالنظرة الإنسانية قادرة على إنهاء هذه الصراعات، إنها الرؤية الطوباوية التي تنتصر على الحاجز النفسي، وخط بارليف والجدار العازل، وكل المتاريس التي يُطلِق جنود الدولة العبرية من ورائها الرصاص على الشجر والبشر، وكل ما هو فلسطيني، إنها «سلاطة بلدي» فعلًا، في واقعٍ يتميَّع فيه كل شيء، وتختلط فيه المفاهيم، رغم أن الجريمة واضحة، والقاتل واضح، فعلام الغموض؟!

وجوه إسرائيلية

ضاعت الحدود الفاصلة وباسم التاريخ، ضُرب التاريخ، ما يدعونا لتذكُّر ما كتبه رسام الكاريكاتير الراحل رءوف عيَّاد، وإجلال الجمل في مجلة «صباح الخير» بتاريخ ٢٢ ديسمبر ١٩٧٧م، كان عام ١٩٧٧م قد بدأ بانتفاضة شعبية ضد قرارات رفع الأسعار، وانتهى بزيارة السادات للقدس، وكانت الخطوة الثانية أن يُعقَد مؤتمر في مينا هاوس لبحث الخطوات المُقبِلة، وكان ينبغي أن يضم المؤتمر وفودًا من مصر وإسرائيل والفلسطينيين. رفض الإسرائيليون أن يُرفَع العلم الفلسطيني على مدخل فندق مينا هاوس، ورفض الفلسطينيون أيضًا الجلوس مع القتلة.

كان الإعلاميون أضعاف أضعاف الوفود الرسمية، وكان هناك مئات الإذاعيين والصحفيين الإسرائيليين، وأغلبهم من أصول مصرية وعربية، التقى رءوف عيَّاد في هذا المؤتمر ثلاثة إسرائيليين: يوري أفنيري، وهو من أسرة يهودية ألمانية هاجرت إلى فلسطين ١٩٣٣م، وله كتاب «إسرائيل بدون صهيونية»، وكان من دُعاة الاندماج بين العرب واليهود، رغم أنه في شبابه التحق بالهاجاناة، ومنظمة أخرى اسمها «ثعالب شمشون» قاتلت في الجبهة المصرية أثناء حرب ١٩٤٨م.

وضمن الوجوه التي قابلها رءوف عيَّاد، وهذا ما يهمنا الآن، إسحاق بن جاد، ليبي الأصل، وكان يدرس الأدب العربي في الجامعة هناك، والمفاجأة كانت في الوجه الثالث الذي يخص «بديع داود حسني»، كان يعمل وقتها مراسلًا للإذاعة الإسرائيلية، وغيَّر اسمه إلى إسحاق ليفي … هل يبدأ الانسلاخ عن الجذور بتغيير الاسم ثم يعود بعد ذلك ليتمسح في اسم داود حسني، الذي خلعه هناك في مجتمع قائم على الإحلال والإبدال والانتهاك؟

سوف أنقل جزءًا من التحقيق الذي أشرت إليه، حتى نعرف كيف استقبلت أسرة الموسيقار اليهودي المصري الكبير داود حسني، الابن الذي انسلخ عن اسمه ووطنه وهُويته، وعاد إلى بيت العائلة، فماذا حدث؟! إنها زيارة أيضًا! مفرداتها الحنين والبحث عن الجذور، وكل ما هو إنساني، ولا تختلف عن زيارة الفرقة وزيارة «سلاطة بلدي». تقول سطور التحقيق الذي يمكن اعتباره خطوة أولى على طريق التطبيع:

تحدثت إلى بديع داود حسني، أو إسحاق ليفي بعد أن ترك مصر إلى إسرائيل، فقال: سألتني زوجة أخي: من أنت؟ وكيف دخلت الشقة؟ قلت لها تحقَّقي مني شوية! كنت أعرفها؛ فقبل السفر عشنا سويًّا في بيت واحد، فردَّت عليَّ قائلة: أنت مين؟ وعايز مين؟ وإزاي تدخل البيت؟ قالت كل هذا وهي ثائرة ومندفعة في الكلام، أجبتها لأوقف هذه الحدة: أنا بديع! وفيما بعد أخذت نمرة تليفون أخي الثاني؛ فأنا لي ثلاثة إخوة هنا في القاهرة. وعندما اتصلت به وقلت له أنا بديع قال لي: بديع مين؟ وله حق، ولها حق في كل ذلك؛ لقد مرَّت ٢٠ سنة منذ آخر مرة رأيتهم فيها، لقد رحلت عام ١٩٥٨م.

قلت له: قُص عليَّ لماذا رحلت عن مصر وبقي إخوتك هنا؟ الحكاية لم تكن في ذهني أبدًا، وفجأة نطقت بهذه الكلمة «الهجرة»، وكانت مخرجًا من سؤالٍ محرجٍ سأله لي والد خطيبتي عندما عرف أن راتبي ٥١ جنيهًا، وكنت أعمل في إحدى شركات الاستيراد والتصدير في ذلك الوقت، وكانت هذه الكلمة هي قدري. وفعلًا، اضطررت لتنفيذ وعدي، وهاجرت مع عروستي، وهي الآن أم أولادي الثلاثة.

إنه ابن الموسيقار المصري المشهور الذي يعمل في الإذاعة الإسرائيلية الناطقة بالعربية، ويقدم برامج الشباب والرياضة.

في الحقيقة عندما قالوا لي إنني سأسافر إلى مصر لم أصدق، ولم أحاول أن أُدخِل نفسي في خضم من الانفعالات، وأخذت الأمر على أنه مسألة سهلة إلى آخر يوم، بل إلى آخر ساعة؛ حتى بدأت أحضِّر حقائب السفر، لكن كلما كانت الطائرة تقترب كانت أحاسيسي تزيد، وأخذت أشعر بشعور غريب، شعور يدور بداخلي لم أشعر به من قبل، ولا أستطيع وصفه أو تعريفه، وعندما نزلت إلى أرض المطار كان أصدقائي في الوفد الإسرائيلي يسألونني: متى ستقابل إخوتك؟ أقول لهم: غدًا، وعندما يأتي الغد أقول لهم غدًا، وهكذا حتى مَر على مجيئي أربعة أيام، وكانوا جميعهم يستعجبون لأمري، ولكنني كنت أحاول تهدئة مشاعري، وأحاول أن أُشعِر نفسي بأنني كنت هنا منذ أسبوعين فقط، حتى جاء يوم اللقاء الكبير كان ذلك عصر يوم الجمعة، والمكان هو المعبد اليهودي في شارع عدلي؛ وأخيرًا قابلت إخوتي الثلاثة وزوجاتهم وأولادهم بعد فراق عشرين سنة.

وسألت بديع الذي هاجر إلى إسرائيل، وهو يحمل معه العادات والتقاليد والثقافة المصرية، كيف يعامل أولاده وكيف ينشئهم؟ هل على طريقة المجتمع الإسرائيلي الذي أخذ كثيرًا من حضارة الغرب وتقاليده، أم يعاملهم كأب مصري محافظ يخاف على بناته من تيار التحرر؟! قال: أولًا يجب أن تعرفوا أن أولادي يفخرون بأن أباهم مصري، وأنا أحكي لأولادي كثيرًا عن مصر، البلد الذي عشت وتربيت فيه، لقد هاجرت وأنا سني ٥٣ سنة، أتكلم معهم بالعربية والعبرية، وهم أيضًا يرَون الأفلام المصرية التي تُعرَض في التليفزيون الإسرائيلي، ويفهمون العربية جيدًا، لكن أحيانًا يصعب عليهم التعبير، ويعرفون أن مصر بلد عظيم، وشعبه شعب عريق له حضارة عريقة.

أنا رجلٌ محافظ أحاول أن أربي أولادي تربيةً على حسب مفهومي، يمكن هذا تدخل مني، لكني أحاول أن أفهمهم أن احترام الوالدين شيء مهم وكبير جدًّا. طبعًا هناك حرية كبيرة موجودة بين الشباب الإسرائيلي، وهي حرية بعيدة المدى؛ ففيها الاستقلال التام في الآراء، والتفكير، وأحيانًا كثيرة في السكن، ولكني لا أترك لأولادي المجال كباقي الشباب في أعمارهم، الكبرى ١٩ سنة، والولد ١٨ سنة، والصغرى ١٥ سنة، أنا أناقشهم بالمنطق والتفاهم، وفي كثير من الأحيان يقبلون كلامي، وأعتقد أنها المشاكل نفسها الموجودة بين الجيل الجديد والقديم هنا في الأسرة المصرية.

قلت له إن ابنتك وابنك في سن التجنيد فهل هما في جيش الدفاع الإسرائيلي؟

أجاب قائلًا: لا، ابنتي أُعفيَت من الخدمة لأنها تدرس لتؤهَّل للعمل كمدرسة، أما ابني فهو سيجنَّد في الشهور القريبة المقبِلة، وكنت أضع يدي على قلبي قبل مبادرة السادات، أما الآن فقد قلت: الحمد لله سيكون هناك سلام، ولن نحمل السلاح ضد مصر.

ويقول إنها مصادفة جميلة أن آتي إلى القاهرة وهي تحتفل بمرور ٤٠ عامًا على وفاة أبي داود حسني، لقد شاهدت الاحتفالات بعيني في التليفزيون المصري. إن في القلب أماني كثيرة وآمالًا كبيرة يا ليتها تتحقق، ويا ليتنا نكون أبناء الجيل الذي سيرى السلام بعينه يتحقق في المنطقة بعد أكثر من ٣٠ سنة من الصراعات والآلام والحروب.

وتقابلت بعد ذلك مع د. إسحاق بن جاد، وهو ليبي الأصل إسرائيلي، وفي يوم ٢٦ ديسمبر سيكمل عامه الخامس والثلاثين، وهو متزوج من يهودية أمريكية، وله طفل جميل على حد قوله. قال: للأسف الشديد، الغناء العربي في إسرائيل ليس شعبيًّا، وحتى أبناء الشرق — وأقصد اليهود — لا يهتمون بالغناء العربي، والسبب أن الأقلية البيضاء في إسرائيل «الأشكينازي» هم الذين يقرِّرون ما يُسمَع في الراديو والتليفزيون، وما يدرَّس في المدارس الابتدائية والجامعات. واليوم يعتقد أغلبية يهود الغرب أن يهود الشرق ليس لهم ثقافة، ولهذا لا يوجد غناء أو «فلكلور عربي» في الإذاعة والتليفزيون، وإذا وُجِد فبصورة سطحية ولوقتٍ قصير.

صالح الكويتي

وهكذا تظهر مفردات أخرى في تحقيق رءوف عيَّاد، منها المعبد اليهودي في شارع عدلي، والزيارة الأسرية، وصورة مصر لدى الإسرائيليين قبل المبادرة الساداتية، ومغازلة السادات لليهود المصريين المنسلخين عن هُويتهم، بالاحتفال بذكرى رحيل داود حسني وكأنه يخصُّهم هم، إنها الموسيقى التي تستطيع إذابة جبال الجليد، باعتبارها تراثًا إنسانيًّا مشترَكًا.

وهو ما نشهده في محاولة أخرى من الجانب الإسرائيلي؛ حيث يبحث أحفاد فنان يهودي اسمه «صالح الكويتي» هاجر إلى إسرائيل في بداية اغتصابها لفلسطين، وها هي مائة عام تمر على ميلاده، ويبحث هؤلاء الأحفاد عن سُبُل تكريمه عربيًّا، رغم أن الإسرائيليين تجاهلوه وآذوه لسنوات. منذ فترة قصيرة فوجِئ البعض بالتليفزيون الإسرائيلي يبث جلسة خاصة ينشد فيها «صالح الكويتي» هذا، أغاني مصرية لأم كلثوم، فاعتبروا ذلك استمرارًا لمسلسل السطو العربي على تراثنا الفني والغنائي، لكن الحكاية كانت أكبر من ذلك، إنها مفردات الحنين والبحث عن الجذور والمشترَك الإنساني، التي تتسلَّل مرة أخرى إلى حياتنا، وليذهب ضحايا العربدة الصهيونية إلى الجحيم، فقد كان ما يجري في عروق أطفال مدرسة بحر البقر وعُمال مصنع أبو زعبل ودير ياسين وقبية وقانا «في لبنان» ماءً لا دماء!

قد يقول قائل: إن ما دفع اليهود العرب إلى مغادرة بلدانهم الأصلية في هجرة أبدية إلى الدولة العبرية، هو اضطهاد أنظمة الحكم العربية لهم، لكن ماذا يقول هؤلاء في حالة صالح الكويتي وأخيه داود، وقد كانا نجمَين يعيشان في القصور، ويحظيان برعاية أمير الكويت، وقبلها كان لهما صيت ذائع في العراق، حتى إن موسيقاهما تتوزَّع بين هذين البلدين.

تعرَّض الشقيقان في إسرائيل لكل صنُوف الذل والهوان، ولم يُرَد اعتبارهما إلا بعد موتهما، رحل صالح عام ١٩٦٨م، وداود في ١٩٦٧م، وبعد تجاهل قاتل، يبحث الأحفاد «الجيل الثالث» الذين يعملون بالغناء والموسيقى، عن جذورهم في العراق والكويت، بل إن أحدهم أرسل ألبومًا يضم ألحان صالح وداود، إلى الصحفيين والباحثين العرب، إضافةً إلى تسريب شرائط فيديو لهما إلى الأسواق العربية، أيضًا، وطبقًا لما نقله محمد البحيري عن «ها آرتس» في جريدة «القاهرة» فإنه سيكون هناك احتفال في إسرائيل بمناسبة مرور ١٠٠ عام على ميلاد صالح الكويتي، وسيكون هناك احتفالان موازيان في العراق والكويت!

فشل الوجود الإسرائيلي في أن يكون هنا بيننا بالاتفاقات الرسمية، وها هو يحاول التسلُّل إلى وجداننا عن طريق الفنون والثقافة، ليس بعيدًا عن هذا ما جرى مع الفنان اللبناني الكبير مارسيل خليفة، حين ألغت إحدى القاعات الفنية في كاليفورنيا بأمريكا، حفلًا غنائيًّا كان مقررًا أن يُنظَّم له هناك، وعادت لتشترط عليه أن يُشاركه فنان إسرائيلي الغناء إذا أراد لحفله ألَّا يُلغى!

مائة عام على ميلاد صالح الكويتي، ومائة عام على إنشاء المعبد اليهودي في شارع عدلي، و«خناقة» بين السفير الإسرائيلي ورئيسة الطائفة اليهودية في مصر «كارمن» حول ترتيبات الاحتفال بالمناسبة، ومن يدعو الضيوف هي أم هو؟! فهل تخصُّنا كمصريين هذه المناسبة، أم تخص هذا السفير غير المرغوب في وجوده؟

شحاتة هارون

في احتفالية المعبد اليهودي برز اسم ماجدة هارون التي عبَّرت عن رغبتها في زيارة إسرائيل، حال قيام دولة فلسطينية، والعُهدة على صحيفة إسرائيلية. وماجدة ابنة المناضل الشيوعي شحاتة هارون الذي كان يُباهي باستمرارٍ بمصريَّته ويهوديَّته، حتى آخر نفَس في حياته، لدرجة أنه كتب في وصيته ألَّا يصلي عليه أحد من السفارة الإسرائيلية عند موته، وجيء بالفعل بحاخام فرنسي. وإذا كان صالح الكويتي عاش عيشة الملوك في بلاد العرب، ومع ذلك هاجر إلى إسرائيل، فإن شحاتة هارون المحامي اليساري الناشط في صفوف حزب التجمُّع، إلى ما قبل رحيله منذ بضع سنوات، لم يكن يلبس الحرير، بل كان يسير على أشواكٍ زرعتها عدوانات إسرائيلية متكررة على وطنه «مصر» فقد كان عُرضةً للاعتقال باستمرار.

ولا مانع من أن نذكر السيدة ماجدة هارون المصرية الخالصة بأنه في عام ١٩٧٩م، وإثر توقيع اتفاقية كامب ديفيد عرف هارون أن إيجال يادين نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك كان سيؤدي صلاة مساء الجمعة في المعبد اليهودي بشارع عدلي، وصمَّم على أن يصارحه بشعوره كمصري، وبعد تفتيشٍ دقيق، تقدَّم هارون إلى يادين، وقال له: «إني كمصري أرى أن المعاهدة مُهينة لكرامة شعب مصر» وسرعان ما التفَّ حوله رجال الأمن، وأخرجوه بعيدًا عن المعبد.

وطبقًا لما سجَّله شحاتة هارون في كتابه «يهودي في القاهرة» فإن السيدة ماجدة هارون تعرف كيف فتَّش رجال مباحث أمن الدولة بيتها عقب ذلك، ومع ذلك لم يفكر هارون في الانسلاخ عن مصريته ويهوديته أيضًا، كان يقول: «لن أترك مصر ولو قطعوا رقبتي، إنها وطني، حقي وواجبي، وأنا رجلٌ محامٍ لا يفرط في حقِّه، ولا يتهرب من واجبه، ثم إنني لم أشعر في أي وقت بأن شعبها لفظني، وعندما قُبِض عليَّ وجدت عشرات المواطنين معي في السجن، ووجدتهم من مختلف الأديان والمعتقدات، ولم أشعر بأنني عُوملت معاملةً تختلف عنهم.»

وأذكر السيدة ماجدة بواقعة كانت طرفًا فيها، ورواها شحاتة هارون في كتابه، فلنتأمَّل كيف حل مشكلةً مركبة كانت تتعرض لها ابنتاه، يقول هارون «أذكر في وقت من الأوقات أن ابنتَي كانتا تعودان من المدرسة كل يوم باكيتين، لأن دروس التربية القومية تشتم اليهود، وذات يوم زارني صحفي أجنبي قادم من إسرائيل، فسألته عن دروس التربية هناك، فشرح لي أمام البنتين كيف أن هذه الدروس لا هَمَّ لها إلا تمجيد اليهود، واعتبارهم أرقى من جميع البشر، مع تحقيرها للعرب، كانت هذه فرصة أشرح فيها للبنتين أن ما يسمعانه هنا رد فعل لما يسمع التلاميذ هناك، وبعد هذا لم تعُد إحداهما باكيةً من المدرسة.»

هذا هو الراحل شحاتة هارون، لنضع الصور بعضها بجانب بعض، حتى نفهم، ونسأل: لماذا في هذه اللحظة بالذات تنشط «الخلايا النائمة» للصهاينة فيُصدِر السيد جوئل بينين الذي يتمتع بصلفٍ شديد لا يتناسب وتواضُع العلماء أو الباحثين كتابه «شَتات اليهود المصريين»؟ فالكتب التي ألَّفها الأكاديميون المصريون حول اليهود، تنقصها المعلومات الصحيحة، أو تتميز بالتحيُّز الصارخ أو الدعائية، وكتابات المصريين في هذا الإطار لا تخلو من التعميم المفرط دون أسباب علمية ومعاداة السامية، بينما كتابه هو «شتات اليهود المصريين» وحده الذي يُبنى على أدلة سليمة ودراسة حقيقية.

بينين هذا يساوي بين الخطابَين القومي والصهيوني دون اعتبار لعنصرية الخطاب الثاني، وشاهده على ذلك ما جرى في «فضيحة لافون» التي حُوكمت فيها مجموعة من اليهود المصريين، لقيامهم بعملياتٍ تخريبية ضد مصالح أجنبية في مصر، ومرافق حيوية أخرى.

وفي كل الأحوال يتعامل بينين بانتقائية شديدة مع التاريخ، ويتهم د. رءوف عباس بمعاداة السامية، التهمة الجاهزة التي يستخدمها الصهاينة ضد كل من يرفض ممارساتهم وأفكارهم، ولذلك لم يكن غريبًا أن يتعامل بينين هذا مع حرب ١٩٤٨م على أنها غزو الدول العربية لإسرائيل، ويفر هاربًا من مواجهة تليفزيونية، كانت تقدِّمها المذيعة اللامعة «هبة فهمي» على القناة الثقافية، وفي رأيي أن انسحابه من الاستديو لم يكن إلا لادِّعاءاته العلمية، التي يعرف أساتذة التاريخ كيف يلقُون بها في المكان اللائق بها.

للمرة الأخيرة … علينا أن نضع هذه اللقطات بعضها بجانب البعض، لنقرأ المحصِّلة في النهاية، والتي تقول إن إحساسًا لدى الصهاينة يتنامى الآن، بأن جبهة المثقفين قد تراخت، أو أنها اتجهت وجهةً أخرى، فبات في وهمهم أن قد حانت اللحظة المناسبة، لأن يكون التطبيع أمرًا واقعًا … فدعونا نترحَّم على الناقدة والمبدعة الكبيرة لطيفة الزيات، التي قادت فريقًا من المثقفين تحت لافتة: «لجنة الدفاع عن الثقافة القومية ومواجهة التطبيع».

١  جريدة العربي، ١٨ من نوفمبر ٢٠٠٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥