التاريخ والمستقبل١
تعاني دراسة التاريخ في الوطن العربي أزمةً منهجيةً متفاقمةً، تفوق ما تعانيه العلوم الاجتماعية الأخرى؛ من حيث درجة الخطورة والتأثير على حركة التأريخ عندنا. ويرجع ذلك إلى أمرين: أولهما؛ تخلُّف برامج دراسة التاريخ في الجامعات العربية، واتِّسامها بالتقليد والجمود، وثانيهما: افتقار المكتبة العربية إلى المؤلَّفات المنهجية في العلوم الإنسانية والاجتماعية عامةً، وعلم التاريخ خاصةً، تلك المؤلَّفات التي تواكب التطور المنهجي على الصعيد الدولي، فما هو متاحٌ من كتابات عربية — في معظمه — مجرد ترجماتٍ — غير دقيقة أحيانًا — لبعض الكتب الدراسية في أصول المنهج، والتي نُشرَت باللغتين الإنجليزية والفرنسية قبل منتصف القرن العشرين.
وكلها لا تزال تقف طويلًا عند تصنيف التاريخ، وهل يُعَد علمًا أم فنًّا، أم يجمع بين الاثنين، وتتحدث عن الموضوعية وحياد المؤرخ باعتبارهما شرطين ضروريَّين للكتابة التاريخية، وتضفي عليهما قدرًا من «القداسة» التي لا تضع اعتبارًا للنسبية، ولما توصَّل إليه المعنيُّون بالمنهج من مراجعاتٍ أسقطت هالة القداسة عنهما، ويقيمون للعبارة الموروثة عن القرن التاسع عشر «لا تاريخ بغير وثائق» معبدًا يشتغلون بسِدانته، بما يترتب على ذلك من وضع حدودٍ لعمل المؤرخ تُبقيه محصورًا في دراسة موضوعات تقف عند حد نصف القرن الماضي، أو العقود الثلاثة في أحسن الأحوال، رغم تراجُع المدارس المنهجية عن تلك المقولات، ومراجعتها لمواقِفها منها.
أفكارٌ متخلِّفة
وبينما لا يزال طلاب التاريخ بالجامعات العربية يتعلَّمون من أساتذتهم أن هناك حدودًا زمنية صارمة يجب ألَّا يتجاوزها المؤرخ عند معالجته لموضوعٍ ما، وتتردد أقسام التاريخ كثيرًا قبل تسجيل موضوعاتٍ لأُطروحات الماجستير والدكتوراه يتجاوز حدُّها الزمني ربع القرن، ويشيع القول بنظامٍ لتقسيم العمل بين الباحثين في التاريخ وزملائهم في ميدان العلوم السياسية، وهي أفكار متخلِّفة، يتعامل معها الأكاديميون العرب تعامُلهم مع المسلَّمات البدهية.
بينما تلك حال التأريخ عندنا؛ نجد المؤرخ الإنجليزي «إريك هوبسباوم» يُورد في الكتاب الذي حمل عنوان: «في التاريخ» وأودعه خُلاصة خبرته المنهجية، ونُشر عام ١٩٩٧م، ولكنه تضمن دراسات كتبها المؤلف قبل نشر الكتاب بنحو العشرين عامًا، نجده يُورِد دراستين تُكمِل إحداهما الأخرى، الأولى: بعنوان «التاريخ والمجتمع المعاصر»، والأخرى بعنوان «التاريخ والمستقبل»، يذهب فيهما إلى أن ثمة إساءة استخدام يعاني منها التاريخ في المجتمع المعاصر، تعود إلى التشويه المتصل له في مراحل التعليم العام، حيث تستهدف برامج تدريس التاريخ تكوين المواطن المعتز بقوميَّته، فيتم التركيز على الأمجاد التاريخية وحدها، ولا يتم التركيز على تطور المجتمع ذاته باعتباره كائنًا عضويًّا متغيرًا، في إطارٍ يجعل الطالب قادرًا على فهم أسس بِنية المجتمع المعاصر.
لذلك يندر أن يستوعب الناس دروس التاريخ التي تساعدهم على البحث عن أصول المشكلات الراهنة، وكيفية البحث عن حلولٍ لها. ومن ثَم يتوجَّهون إلى تحليل الأرقام الصماء التي تتعامل معها الحواسب الآلية، بينما يستطيع المؤرخ — بما له من خبرة بتطوُّر المجتمع، ورؤيته لآليات ذلك التطور — من منظورٍ تاريخي أن يتعرَّف إلى القسمات المشتركة بين الماضي والحاضر، وأن يشخِّص أمراض الحاضر على ضوء ما عاناه المجتمع في خبرته التاريخية، وبذلك يساهم — بصورة فعَّالة — في المساعدة على حل المشكلات الراهنة.
قدرة المؤرخ على التنبُّؤ
ويزيد هوبسباوم على ذلك القول: بأن المؤرخ يملك القدرة على التنبُّؤ بما قد تكون عليه الحال بالنسبة للمجتمع في المستقبل، مستفيدًا في ذلك من دراسته للماضي، وإدراكه لآليات ودوافع التغيير التي لا تملك الحواسب الآلية إدراكها؛ لأنها تفتقر إلى الأدلة المادية الملموسة. ولكن التنبُّؤ يقوم على عمليةٍ عقليةٍ، تلعب قدرات المؤرخ واستعداده الشخصي الدورَ الأكبر فيها، وهنا يستخدم المؤرخ — عند استشرافه المستقبل — منهجَين يتصلان بعضهما ببعض؛ التنبؤ بالاتجاهات العامة من خلال صياغة «النموذج»، والتنبُّؤ بالحوادث المستقبلية أو نتائجها عن طريق تحليل الواقع الراهن، واستشراف مساره المستقبلي. ويرى هوبسباوم أن التنبؤ بالاتجاهات الاجتماعية — بما في ذلك اتجاهات حركة القُوى الاجتماعية — أيسر من التنبؤ بالأحداث السياسية، لأنه يرتكز على معطيات العلوم الاجتماعية الأخرى التي يُحسن المؤرخ استخدام أدواتها المنهجية.
وعلى ضوء ذلك، لم يعُد بوسع المؤرخ أن يتجاهل ما يدور حوله حتى يطويه الزمن ويتقادم به العهد، بعدما أصبح «الماضي» قريبًا من «الحاضر» نتيجة سرعة إيقاع التطور في القرن العشرين، حتى أصبح الأمس القريب «ماضيًا» يمكن إخضاعه للدراسة التاريخية، استفادةً بمعطيات العلوم الاجتماعية، وعلى ضوء ما يتوافر من المصادر المتاحة؛ فإذا كانت الوثائق لا تزال محبوسة انتظارًا لانقضاء فترة السِّرية، فهناك فيضٌ زاخرٌ من المصادر التي وفَّرها تطور أساليب الاتصال والإعلام (أو ما يُعرَف أحيانًا بثورة المعلومات) كالبيانات، والتصريحات، والتقارير الرسمية المُعلَنة، والكتب الملونة (البيضاء – الزرقاء – الصفراء … إلخ) التي تُصدِرها الحكومة لتحديد مواقف الفُرقاء إزاء مختلف القضايا والأزمات.
وهناك خارج الأرشيفات الرسمية مصادر تتعلَّق بالأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، لا يدخل معظمها في نطاق السِّرية، مثل: تقارير الهيئات الدولية الرسمية وغير الرسمية، وتقارير منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية، وتقارير البنوك وأسواق المال، والمضابط الخاصة بالمجالس النيابية، فمثل هذه المصادر المهمة تجعل دراسة الماضي القريب ممكنةً ميسورة لو استطعنا أن نكوِّن الباحث في التاريخ تكوينًا مناسبًا يؤهِّله للتعامُل مع مصادر غير تقليدية بأدواتٍ منهجيةٍ عصرية.
التمرُّد على التقليد
ورغم أن الاهتمام بدراسة التاريخ المعاصر بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الأولى في الغرب؛ ظلَّت الجامعة المصرية — منذ إنشائها — تتمسَّك بتقاليد المدرسة التاريخية الألمانية، والمدرسة المثالية، والمدرسة الوضْعية، وتمزج بينها بوعيٍ — أحيانًا — وبدون وعيٍ في أغلب الأحوال، ثم بدأ بعض المؤرخين المصريين والعرب في استخدام المنهج المادي الماركسي عند منتصف ستينيات القرن العشرين بدرجاتٍ متفاوتة من الفهم والتوفيق، وإليهم يُعزى الفضل في التمرد على التقليد الذي كان راسخًا — عندئذٍ — في الجامعات العربية، الذي كان يتمسَّك بحاجز الخمسين عامًا كحدٍّ زمني لا يجب تخطِّيه لدراسة التاريخ، وكأنه سور الصين العظيم، أو حائط برلين الشهير، فتجاوزوا هذا الحاجز حتى وصلت به بعض الدراسات إلى عَقدٍ واحدٍ من الزمان.
وهكذا عالجوا التاريخ المعاصر، ووجَّهوا تلاميذهم نحو دراسته، وأبدت المجالس الجامعية قدرًا من التسامح مع هذه «البِدعة» الجديدة؛ فقبِلت تسجيل أُطروحاتٍ في التاريخ المعاصر في الستينيات بعد ما يزيد على أربعة عقودٍ من بداية دراسة التاريخ المعاصر في الغرب.
لم يجرؤ أحدٌ من المؤرخين — المصريين أو العرب — على ارتياد مجال التاريخ الاستطلاعي — أو الاستشرافي — الذي يهتم بدراسة آفاق المستقبل من خلال قراءة متعمِّقة لواقع المجتمع المعاصر، في ضوء محصِّلة تجارب الماضي، على نحو ما فعل «بول كينيدي» الذي نشر عام ١٩٩٨م كتابه الذي أثار — عندئذٍ — جدلًا كبيرًا بين الباحثين وحمل عنوان «قيام وسقوط القُوى الكبرى: التغيُّر الاقتصادي، والصراع العسكري من عام ١٥٠٠ وحتى عام ٢٠٠٢» والذي صدرت منه ثلاثة إصدارات قبل انقضاء عام على إصداراته الأولى.
وبول كينيدي مؤرخ إنجليزي الأصل، يعيش ويعمل في الولايات المتحدة الأمريكية (جامعة ييل) وُلد عام ١٩٤٥م في شمالي إنجلترا، وتلقَّى تعليمه هناك، وحصل على الدكتوراه من جامعة أكسفورد، ثم هاجر إلى أمريكا ولمع كمؤرخٍ ناشطٍ، نُشر له أحد عشر كتابًا قبل صدور كتابه المثير للجدل «قيام وسقوط القوى الكبرى».
وقد ذهب كينيدي في هذا الكتاب إلى أن القوة النسبية للدول الكبرى لا تبقى على حالها، ولا يرجع ذلك إلى اختلاف معدلات النمو في المجتمعات، بعضها عن بعض، بقدر ما يرجع إلى التغيُّرات التكنولوجية والتنظيمية التي تختلف بدورها اختلافًا كبيرًا من مجتمعٍ لآخر، بشكلٍ يُعطي لمجتمعٍ مزايا مادية لا يحققها المجتمع الآخر، أو المجتمعات الأخرى.
وكلما استطاعت قوةٌ كبرى أن تحقق درجة عالية من النمو الاقتصادي تميزها عن غيرها، انعكس ذلك على استراتيجيتها الرامية إلى تأمين نطاق مصالحها وتوسيعها لتزيد من ثروتها على حساب الأخرى، ومن ثَم تنمِّي قدراتها العسكرية إلى أقصى طاقاتها تحقيقًا لهذا الهدف، مما يُدخلها في صراعٍ مع غيرها يدفعها إلى زيادة قدراتها العسكرية بصورةٍ لا تتوازن مع نموها الاقتصادي؛ مما يؤدي إلى أفولها، وصعود غيرها من القُوى المنافِسة أو البديلة لها.
•••
وحاول كينيدي أن يطبِّق هذه الفرضية على القُوى الكبرى التي ظهرت على الساحة الدولية شرقًا وغربًا منذ مطلع القرن السادس عشر، حتى أواخر الحرب الباردة، وانتهى من دراسته إلى نتائج مُؤدَّاها: أنه ما لم يتغير صراع القُوى في عالم ثنائي القُطبية — عندئذٍ — عما كانت عليه في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، فسوف يشهد القرن الحادي والعشرون تحوُّلاتٍ مهمة في نصيب القُوى الكبرى من الإنتاج الاقتصادي العالمي، والإنفاق العسكري لصالح دول أخرى غير القطبين العملاقين؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، مثل الصين واليابان والاتحاد الأوروبي؛ حيث أصبحت القُوى الأخيرة الثلاث تحظى بنصيبٍ كبير من الإنتاج الاقتصادي العالمي، يفوق نصيب الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي مجتمعين.
وأن هذه القُوى الثلاث تواجه اختيارًا صعبًا؛ لأن حفاظها على نموها الاقتصادي، ومصالحها الاقتصادية الدولية يقتضي نموًّا نسبيًّا في قوتها العسكرية لتحقِّق لمصالحها الحماية المنشودة، ولكن ذلك — بدوره — يُلحِق بها ما لحق بالاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة من تحمُّل تبعات الإنفاق العسكري الذي يؤثر سلبًا على واقعها الاقتصادي، شأنها في ذلك شأن الشيخ الذي يبذل جهدًا كبيرًا في عملٍ يفوق قدراته البدنية، ومن ثَم سرعان ما يُوقع به الإجهاد.
فالتوسُّع في الإنفاق العسكري في زمنٍ أصبحت فيه تكلفة الحروب عالية جدًّا حتى إن ميزانية القوات الجوية الأمريكية عام ١٩٨٨م تكفي بالكاد تكلفة طائرة حربية واحدة عام ٢٠٢٠م، وبذلك يؤدي صراع التسلح إلى التأثير سلبيًّا على الاقتصاد بصورة تؤدي إلى الاضمحلال.
غير أن تلك القُوى لا تملك الفرار مما يفرضه عليها واقعها الذي يُلزمها بالإبحار «في مجرى الزمن»، وانتهى إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تشهد نهاية الإبحار في مجرى الزمن ما لم تضع حدًّا لقوتها العسكرية يتناسب مع قدرتها الاقتصادية. ولما كان الاتحاد السوفييتي طرفًا مقابِلًا في صراع القُوى مع الولايات المتحدة، فهو يواجه المصير نفسه.
كتابٌ مثيرٌ للجدل
لقد أثار ظهور كتاب بول كينيدي «قيام وسقوط القُوى الكبرى» جدلًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية الدولية، وخاصة أن الاتحاد السوفييتي تفكَّك عقب صدور الكتاب بعامٍ واحد، ولعل مُخطِّطي الاستراتيجية الأمريكية استفادوا من الرؤية المستقبلية التي قدَّمها هذا المؤرخ في كتابه المثير للجدل، بالعمل على إجهاض النمو المتصاعد للاقتصاد الآسيوي، والسعي لحل أزمة الاقتصاد الأمريكي عن طريق الهيمنة على المراكز الحيوية في العالم، ولكن ذلك يتطلَّب المزيد من القوة العسكرية، وتطوير الأسلحة غير التقليدية، مما يستنزف طاقة الاقتصاد الأمريكي؛ فهل تشهد العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين تفسُّخ أمريكا كما شهد العقد قبل الأخير من القرن العشرين تفسُّخ الاتحاد السوفييتي؟
لعل كتاب بول كينيدي الذي صدر بعد خمس سنوات من كتابه المثير للجدل عام ١٩٩٣م وحمل عنوان: «الاستعداد للقرن الحادي والعشرين» يقدم إجابةً على هذا السؤال؛ فقد بدأه بتأكيد مقولة أن لكل قرنٍ ظروفه الموضوعية والبيئية التي تجعل مجرى تاريخه مختلفًا عن غيره، ومن ثَم فإن إيقاع التغير السريع الذي شهده العالم في العَقدين الأخيرين من القرن العشرين؛ يقتضي أن نقف أمام «قُوى التغيير التي تؤثر على الأحداث الدولية»؛ فالنمو الاقتصادي، والتطور التكنولوجي في القرن العشرين يخلق نوعًا جديدًا من التحدي، يحقق فيه الذين يدركون أهمية تحقيق النجاح مكاسبهم على حساب خسائر أولئك الذين لا يدركون ذلك. وركز دراسته في هذا الكتاب على الظروف الدولية التي تواجه العالم في القرن الحادي والعشرين؛ مثل مشكلات البيئة والانفجار السكاني، والتقدُّم التكنولوجي والقِيَم الثقافية.
وقسَّم الكتاب إلى بابَين؛ أحدهما يبسط هذه المشكلات بشكلٍ عام، والآخر يتناول دراسات حالات كلٍّ من: اليابان والدول النامية، وبلاد الاتحاد السوفييتي السابق، وأوروبا، ثم أخيرًا الولايات المتحدة، والذي حمل الفصل الخاص بها عنوان «المأزق الأمريكي»، ناقش الواقع الأمريكي اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، موضحًا الفارق الكبير بين ما حققته اليابان والصين وكوريا الجنوبية وأوروبا، وبين تدهور الأحوال في الولايات المتحدة التي لا يجاريها أحد في قوتها العسكرية، وخاصة الأسلحة المتطورة، وأسلحة الدمار الشامل؛ مما يجعل هناك «مأزقًا» تعيشه أمريكا وهي تتأهب للقرن الحادي والعشرين، مما يعرضها لحالة «انحطاط نسبي»، ويجعل القرن الحادي والعشرين «قرن آسيا». وقد توصَّل كينيدي إلى هذه النتيجة من تحليلٍ للوضع الاقتصادي، ومستوى المعيشة، وظروف البيئة، وتوقعات التطور السكاني، وأحوال التعليم مقارنةً بما يتكلفه الإنفاق العسكري.
المستقبل والتنبُّؤ
لقد حاولنا فيما تقدَّم أن نقدم نموذجًا لدراسة التاريخ الاستشرافي أو الاستطلاعي الذي يقدِّم فيه المؤرخ رؤيةً للمستقبل تقوم على التنبُّؤ القائم على أسسٍ منهجية من واقع التجربة التاريخية ومن منظورها، وليس من قبيل الحدس والتخمين، ولعل ما أصاب الاقتصاد الأمريكي من أزمةٍ ترددت أصداؤها في الأسواق المالية العالمية بعد أحداث «١١ سبتمبر» يبيِّن أن دراستَي كينيدي الاستشرافيتين قامتا على أساسٍ منهجيٍ لا يخلو من الدقة، وأن التحليل الذي قدَّمه في الكتابين يقف على أقدامٍ راسخة.
ولا شك أن الدراسات التاريخية في العالم العربي في حاجةٍ ماسَّة ليس لمجرد التعرُّف إلى مناهج جديدة في البحث التاريخي طال أمد إغفالنا لها، ولكن نحن في حاجة إلى استيعاب تلك المناهج وتطبيقها على الدراسات التي تجري في جامعاتنا. ونظرةٌ إلى ما تخرجه المطابع من كتب التاريخ، وما تجيزه الجامعات من أُطروحاتٍ للماجستير والدكتوراه، تكشف لنا عن قصورٍ شديدٍ عندنا في التدريب والإعداد المنهجي للباحثين؛ إذ يغلب على كثيرٍ من الكتابات التاريخية «القص التاريخي» والسرد الممل، ولا يكاد القارئ لهذا النوع من الدراسات يقف على نتائج محددة بعد طول عناء.
•••
ولعل عدم الاهتمام عندنا بالتاريخ الاستشرافي — الذي يهتم بالتنبؤ بالمستقبل على أسسٍ منهجية — يعود إلى الميل العام عند الأكاديميين والمثقفين العرب لتهيُّب طَرق ميادين جديدة للدراسة، والنظر إلى هذا النوع من الدراسات بشيءٍ من الاستخفاف الناتج عن القصور الشديد في تكوين المؤرخ العربي، ومحدودية ثقافته المنهجية، بمعنى عدم متابعته لما يجري في حقل تخصصه على الساحة الدولية — إلا نفر قليل، لا يمثِّلون نقيضًا لهذه الظاهرة السلبية — ومن ثَم قلة حيلته، وعجزه عن ارتياد مجال التاريخ الاستشرافي الذي يتطلب معرفةً بالعلوم الإنسانية وطُرق البحث فيها، وإلى تدريبٍ طويل على استخدام الأدوات المنهجية في العلوم البينيَّة على وجه الخصوص.