المصريون والسلطة: الشخصية التاريخية١

عرفت مصر السلطة المركزية المستندة إلى القوة الغاشمة المستمدة من حق إلهي أسطوري منذ ٣٢ قرنًا قبل الميلاد — على أرجح الأقوال — وبذلك تكون مصر أقدم بلاد الدنيا قاطبةً في التوصُّل إلى هذا الشكل التنظيمي المتميز للجماعة البشرية. وجاء قيام هذه السلطة المركزية نِتاجًا للظروف البيئية في بلدٍ عماد حياته الزراعة التي تقوم على الري النهري من مصدرٍ واحد هو النيل؛ ومن ثَم كان قيام السلطة المركزية ضرورةً أملتها ظروف البيئة لتنظيم الاستفادة من مياه الري، استمرارًا للعمران.

وكان لا بد أن تعقد لواءها لأقوى الحكام وأكثرهم بطشًا؛ حيث لعبت طبيعة مصر السهلة المنبسطة دورًا فعَّالًا في تمكين مثل ذلك الحاكم القوي من بسط سلطانه على الآخرين. واستكان الناس لهذه السلطة المركزية ولرموزها ما دامت توفِّر لهم الحماية وتيسِّر لهم العيش. وراحت النخبة الحاكمة تدعم مكانتها من خلال ما نسجته حول نفسها من أساطير استقرت في وجدان الناس، أضفت عليها من صفة القداسة، وجعلت حقَّها في السلطة مستمدًّا من الآلهة، ومستندًا إلى رعاية السماء، وبذلك اقترنت طاعة الحاكم بطاعة الآلهة والعكس بالعكس. وإن كان ذلك لا يعني أن الناس تحمَّلوا عنت السُّلطة دون حدود؛ فقد كان هناك دائمًا حدٌّ أقصى لاحتمالهم، إذا تجاوزته السلطة انفجروا ثائرين انفجار البركان، الذي يكتسح في طريقة كل شيء، حتى الحُرمات المقدسة، ما دامت تتعلَّق بالحكام الغاشمين على نحو ما سنرى.

ومع تعاقُب العصور — طوال تاريخ مصر القديم — ظل للسلطة المركزية الطابع القدسي الذي صاغه الضمير الجمعي للمصريين عبر مئات القرون، والذي يجعل السلطة مركَّزةً في يد «الفرعون» صاحب الحق الإلهي، لا ينازعه فيها أحد، ولا يعلو صوتٌ على صوته؛ فها هو ذا الفرعون «أختبوي خيتي» من ملوك أهناسيا (الأسرتان التاسعة والعاشرة من الدولة القديمة) يحذِّر ابنه من أي تابع له يُكثِر من الكلام، ويحشد خلفه أتباعًا كثيرين، وينصحه بقوله: «اطرده، اقتله، امح ذكراه، هو وأتباعه الذين يحبونه.» ويوصيه بأن يُعلي من شأن رجاله، ويقوِّيهم: «فما أعظم الشخص العظيم عندما يكون رجاله المقرَّبون عظماء … وما أعظم وأقوى الذين يكون له نبلاء كثيرون.» ومن الطريف أن ينصح الملك ولده بأن يُعاقب الناس بالضرب والاعتقال عندما يخطئون، وألَّا يقتل أحدًا إلا إذا ثار عليه.

كان الناس — إذن — من وجهة نظر السُّلطة مجرد أدوات إنتاج، يفلَحون الأرض لتتدفق خيراتها على الخزانة العامة، ويُقوَّمون بالعصا وفقدان الحرية إذا تقاعسوا أو قصَّروا في أداء واجباتهم، أو ارتكبوا يومًا ما تعده النخبة الحاكمة جُرمًا يستحق العقاب. وبذلك لم يكن أمام الناس من سبيلٍ لدفع الظلم عن أنفسهم سوى الشكوى، تمامًا كما فعل الفلاح الفصيح في مصر القديمة، وأن يستعينوا بعدالة السماء على جور أهل الأرض، شأن سائر المستضعفين.

النخبة واستخدام القوة!

وعندما دخل العرب مصر لم يتغير الإطار العام للسُّلطة من حيث تمركزها في أيدي نخبة تستند إلى القوة، وكانت هذه المرة قوة الفتح. ولم يتغير مفهوم استناد السلطة إلى مصدرٍ إلهي؛ فالأرض أرض الله، والملك ملك الله يورثه من يشاء من عباده المتقين، بل تحوَّلت الفكرة إلى تفويضٍ إلهي صريح على أيدي العثمانيين — فيما بعد — تأثرًا بالتفويض الإلهي عند البيزنطيين، وكان الحكم لا يخلو من طابع الاستغلال، وإذا كان عمر بن الخطاب قد لام عمرو بن العاص على عدم تركه ما يكفي من لبنٍ لأبناء البقرة، والإسراف في استنزاف حليبها، إشارةً إلى الاشتطاط في جباية الخراج، فإن أحدًا من الخلفاء المتعاقبين لم يلق بالًا إلى ما يلحق بالمحكومين من أذًى جراء عسف الولاة، فتعاقبت ثورات المصريين نحو القرنين من الزمان ضد الحكم الإسلامي، حتى أُخمدت بالعنف المبالغ فيه في عهد الخليفة المأمون.

وهكذا ظلَّت السلطة المركزية النخبوية في مصر تسيطر على مواردها الاقتصادية؛ فالأرض، أداة الإنتاج في المجتمع الزراعي، ملكٌ للدولة، يسيطر عليها الجالس على أريكة الحكم، سواء كان عاملًا لخليفة، أو خليفة أو سلطانًا مملوكيًّا أو عثمانيًّا، ولا مجال لمشاركة الناس في السلطة إلا في أدنى درجات سُلم البيروقراطية. أما الدرجات الأعلى فاحتفظت بها النخبة الحاكمة، وموقع الجماهير هو موقع الشغَّالة في مملكة النحل، يكدُّون ويكدحون لإنتاج الفائض الذي يتدفق على جيوب حكامهم، ولم تكن هناك حدود تفصل بين تلك الجيوب والخزانة العامة.

ويتوقع الناس في المقابل أن توفِّر لهم السلطة الأمن، وتقيم العدل وتحقِّق الرخاء، ولا يطمعون فيما هو أبعد من ذلك، وهم ينصرفون إلى أداء واجباتهم، ما دام ثمة حد أدنى من ذلك الثالوث متوافرًا، وقلما يشقُّون عصا الطاعة على السلطة إلَّا إذا ضاقت بهم سُبُل العيش، وعزَّ القُوت وغاب الأمن، أما اختلال ميزان العدل فكانوا — دائمًا — أكثر صبرًا عليه.

لم تكن السلطة في مصر سلطةً شعبية، وإنما كانت أوتوقراطية أساسًا، تتركز في يد الحاكم الفرد، فرعونًا كان أم خليفةً أم سلطانًا أم ملكًا، تعاونه نخبة متميزة اجتماعيًّا، اختصَّت بالثراء (الجاه) والنفوذ، وعانت الجماهير من بطشها وعسفها واستبدادها، وترك ذلك كله أثره في الأدب الشعبي، وفي كثير من العادات الاجتماعية النابعة من التمايز الاجتماعي، والمعبِّرة عن التراتُب الهرمي «الهيراركي» للمجتمع المصري، مثل ترجُّل الفلاح عن دابته إذا مَر بمجلس أحد الأعيان، أو حتى انتزاعه نعليه والسير حافيًا إذا مَر أمام أحد هؤلاء، أو ما كان شائعًا قبل ثورة يوليو ١٩٥٢م من تقبيل الفلاح ليد صاحب الأرض (السيد) حتى لو كان صبيًّا غض الإهاب.

واستخدم الوعَّاظ آياتٍ قرآنية بعينها لتأكيد هذا التمايز، والحض على طاعة أولي الأمر، والتسليم بالتفاوت في الثروات على أساس أن الله وحده مقسِّم الأرزاق، وازدراء الثروة والتنفير منها على أساس أن الفقير أقرب الناس إلى الله. مما يدفع الفقير إلى الرضا بوضعه الاجتماعي، وعدم التطلُّع إلى ما بيد الغني، والقبول بالتمايز الاجتماعي «لكل صغير كبير، ولكل رئيس مرءوس» و«اللي مالوش كبير يشتري له كبير» و«لما أنت أمير وأنا أمير مين يسُوق الحمير»، إلى غير ذلك من أمثالٍ شعبية تعبِّر عن القبول والرضا بالتمايز الاجتماعي، بل وعدَّه أمرًا طبيعيًّا.

الخضوع والاستكانة!

كما تعبِّر الأمثال الشعبية عن الخضوع التام للسُّلطة والاستكانة لها كقولهم «اللي يتجوز أمي أقوله يا عمي» أو «ارقص للقرد في زمانه» أو «بلد بتعبد طور [ثور]، حِش وارمي له» أو «طاطي رأسك ما بين الرُّوس، أحسن الماشي عليك يدوس» وتعبِّر عن الرضا بالواقع، واليأس من إمكانية تغييره؛ مثل «إن طلع من الخشب ماشة، يطلع من الفلاح باشا» فهناك استحالة أن يكون لأبناء الفلاحين شأن كأبناء الأكابر، ومثل: «مهما الفلاح أترقَّى، تبان فيه الدُّقة.»

ولا يقف الأمر عند الاستسلام للواقع الاجتماعي؛ بل يمتد الأمر إلى تأييد السُّلطة المطلَقة والثراء الواسع مثل «الاعتبار للمال مش للرجال»، أو «أصلك فلوسك، وجنسك لبوسك» أو «إذا شُفت الفقير جري يبقى بيقضي حاجة للغني» و«طلب الغَني شقْفة؛ كسر الفقير زيره»؛ فالفقير يعمل مخلصًا لخدمة السُّلطة، ويتفانى في ذلك، ثم ينال جزاء سِنمار «آخر خدمة الغُز علقة»، وإن كان يستخفُّ بذوي السلطان، ويرى فيهم الفساد وخراب الذمم «حاميها حراميها» و«ارشُوا تشفُوا» و«يفتي على الإبرة، ويبلع المدراة».

وهكذا يفيض الأدب الشعبي بالتعبير عن معاناة الجماهير من بطش السلطة، وما تركه في ضمير المصري من آثار نفسية سلبية؛ ما زالت آثارها ماثلة في مجتمعنا إلى اليوم كاللامبالاة: «إردب ما هو لك ما تحضر كيله، تتغَّبر دقنك وما ينوبك غير شيله»، وفقدان روح المغامرة وإيثار السلامة: «امشِ سنة ولا تخطي قناة»، وفقدان الأمل في إقامة العدل بغض النظر عن المكانة الاجتماعية: «المية ما تجريش في العالي»، إلى غير ذلك من أمثالٍ شعبية عبَّرت عن معاناة المصري الطويلة من استبداد السلطة والظلم الاجتماعي، حتى شاع عند بعض الدارسين عزوف المصري عن الصراع وإيثاره السلامة، وصبره على الظلم، حتى إنه يتحمَّل من المظالم ما تنوء به كواهل البشر، وقلما يثور على واقعه التاعس، التماسًا لعونٍ من السماء يرفع عنه الضيم: «اصبر على جار السوء؛ ليرحل، لتيجي له غارة» و«يا بخت من بات مظلوم وما بتش ظالم» إلى غير ذلك من أمثال تدل على الخنوع والاستسلام والرضا بالواقع على علَّاته، وعدم الطموح إلى تغييره.

ورغم أن تحمُّل المصريين للظلم وصبرهم عليه حقيقة تاريخية لا مِراء فيها؛ فإن ذلك الصبر لم يكن أبدًا بغير حدود، فهناك حدود للطاقة على التحمُّل تنفد عندما يتحوَّل الأمل في الخلاص من الواقع التاعس إلى سراب؛ عندئذٍ لا يبقى في قوس صبر المصري منزع للسهام، فيهبُّ الشعب عن بكرة أبيه هبَّات تلقائية تتخذ طابع العنف، وتُلحق الدمار برموز الظلم والاستبداد.

•••

وقراءة تاريخ مصر منذ أقدم العصور تزوِّدنا بالأدلة الناصعة على انتفاضة الشعب المصري عندما يتبدَّد أمله في الخلاص من واقعه الأليم، وعندما يفتقد أسباب العيش، وعدم قبوله الضيم، وتنكيله بالمستبدين والظالمين على الصعيدَين السياسي والاجتماعي.

ولعل أحداث الثورة الاجتماعية التي شهدتها مصر أواخر أيام الأسرة السادسة في عهد الدولة القديمة (عام ٢٢٨٠ قبل الميلاد) خير دليل على عدم استكانة المصريين للظلم، وانفجار غضبهم، «فانقلبت البلاد إلى عصابات، ولم يعُد الناس يحرثون حقولهم، وأضرب الناس عن دفع الضرائب، وهجموا على مخازن الحكومة ونهبوها، واعتدوا على مقابر الملوك الإلهية؛ فنهبوا ما فيها، وبعثروا أشلاءهم، وصبَّ الشعب انتقامه على الأغنياء، فنهبوا القصور وأحرقوها … وصبَّ الناس نقمتهم على أطفال الأغنياء، فصاروا يقذفون بهم الجدران … حتى رجال الأمن أصبحوا في مقدمة الناهبين.» وهكذا ثار الفلاح الصابر المطيع عندما بلغ الظلم مداه، وبلغ التناقض الاجتماعي حد الأزمة، فلم يفرِّق بين معبدٍ لإله، أو ديوان للحكومة، أو مخزن للدولة، أو حتى مدفن لفرعون مقدس.

وتاريخ مصر الإسلامية حافلٌ بالانتفاضات الشعبية التي لم تخلُ من العنف والدمار، والتي وُجِّهت ضد مظالم السلطة، وبلغ عددها ثلاث انتفاضات كبيرة في الدلتا والصعيد على مدى نحو ربع القرن في مطلع القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، وبلغت ذروتها زمن الأزمات الاقتصادية والمجاعات على طول العهد الإسلامي، ولم تقل عنفًا ودمارًا عما شهدناه في العصر الفرعوني.

تفكُّك الروابط

كل تلك القرائن التاريخية تقوم دليلًا على عدم قبول المصريين للضَّيم، ورفضهم للذل والمهانة، واستهجانهم للظلم، وتحفُّزهم لمواجهته عندما ينفد صبرهم، وتلك القرائن تدحض الربط بين نمط الإنتاج الاقتصادي والسلوك الجمعي للشعب، مثل الربط بين البيئة الزراعية والمسالَمة والخنوع. غير أن ذلك لا يعني أن المصريين ميَّالون بطبعهم للعنف وسفك الدماء؛ فالعنف في سلوكهم استثناءٌ تدفعهم إليه ظروف معينة أفرزها الواقع التاريخي.

وفي عهد محمد علي — الذي شهد بناء الدولة الحديثة — ضربت الدولة — بإجراءات التحديث — الكثير من المؤسسات الاجتماعية التقليدية؛ فأضعفت طوائف الحِرف دون أن تقوم بتصفيتها، ودخلت طرفًا في مجتمع القرية الذي كان مغلقًا على نفسه من قبل؛ ففككت روابطه وحرَّكت شبابه من الأرض إلى الخدمة في الجيش الحديث، أو العمل في المصانع الجديدة، وأصبح المصريون مسئولين أمام السُّلطة عن أعمالهم وسلوكهم كأفرادٍ، بعد أن كانوا يتعاملون مع السلطة في العصر العثماني كجماعاتٍ من خلال الطائفة أو القرية.

غير أن السلطة لم تُعنَ بتوعيتهم لما تريد، أو تعبئتهم معنويًّا لتحقيقه؛ فهم يُنتزَعون من الأرض للخدمة العسكرية بدعوى الجهاد، ومن ثَم عُرف الجيش ﺑ «الجهاديَّة»، دون أن يفهموا طبيعة هذا الجهاد ومدى ضرورته، وجدوى تلك الحروب التي يخوضونها، تعاملت معهم الدولة كأدواتٍ تخدم أغراضهم المختلفة، ولم تتعامل معهم كبشر، ومن هنا كانت مواقف الجماهير السلبية من نظام محمد علي — رغم خطورة مشروعه الحضاري والسياسي — ومن هنا كانت مقاومتهم السلبية للسُّلطة.

وترجع تلك المقاومة السلبية إلى غياب الوعي السياسي، وافتقاد القدرة على التنظيم، بقدر ما ترجع إلى غياب القيادة الشعبية القادرة على تحريك الجماهير، بعد أن صفَّى محمد علي القيادات الشعبية التقليدية التي أتقنت أساليب الحشد الجماهيري، والتي كان لها فضل تنصيبه واليًا على مصر.

واتخذت المقاومة السلبية أشكالًا مختلفة، كالإهمال المتعمَّد في تنفيذ التعليمات الخاصة بزراعة الأرض، وترك الأرض تعاني البوار، ما دام عائد الإنتاج يذهب — في معظمه — إلى الدولة، أو حتى الفرار من القرى تخلُّصًا من التزاماتهم الإنتاجية والمالية، وكذلك الهرب من المصانع التي جُنِّدوا للعمل بها قسرًا، حتى اضطرت الحكومة إلى إلزام شيوخ القرى بكفالة عمال المصانع، وألزمتهم بإحضارهم في حالة الهرب من المصنع. وتعمَّدت تأخير دفع أجورهم شهورًا حتى تربطهم بالمصانع، فلا يفرون منها على أمل استخلاص مستحقاتهم المالية.

ورغم أن الجيش الحديث والخدمة فيه، كان أول انصهار للمصريين في بوتقة المواطنة، وأول مصدر لنمو الشعور بالانتماء الوطني، ومبعث إحساس الجندي المصري بقدراته وكفاءته، ورغم بسالة الجيش المصري الحديث في المعارك التي خاضها في المشرق العربي كله، فإن بقاء الجنود في الخدمة العسكرية دون تحديدٍ لمدة زمنية معيَّنة، حتى كان البعض يقضون سنوات عمرهم كلها شاكين السلاح، جعل الفلاح المصري يحاول التهرُّب من الجندية بإتلاف بعض أعضائه، وإلحاق العاهات بنفسه حتى يصبح غير لائقٍ للخدمة العسكرية. وإزاء انتشار هذه الظاهرة، اضطر محمد علي إلى تشكيل فرقة عسكرية للقيام بالأعمال المعاونة للمجهود الحربي من أصحاب العاهات، حتى يؤكد للناس أن لا سبيل للتخلُّص من الخدمة العسكرية، فيكفُّون عن إلحاق العاهات بأنفسهم تهرُّبًا من الخدمة العسكرية.

انتفاضات تلقائية

غير أن المقاومة السلبية لم تستمر طويلًا، وخاصة أن الدولة لاحقت الفلاحين بمطالبها المالية إلى حدٍّ أعجزهم عن سدادها، ولم تترك لهم من عائد عملهم إلا ما يقل عن الوفاء بحاجاتهم الأساسية؛ فهبَّت انتفاضاتٌ فلاحيَّة تلقائية، شهدت مصر عددًا منها في عصر محمد علي اتخذت طابع العنف، مثل انتفاضة الصعيد عام ١٨١٢م التي واجهتها السُّلطة بإحراق القرى الثائرة وذبح سكانها، وانتفاضة فلَّاحي عام ١٨٢٣م، التي أُخمدَت بالطريقة نفسها.

وشهد الصعيد عدة انتفاضات في عشرينيات القرن التاسع عشر، بلغت إحداها حدَّ التمرد على السلطة، وطرد موظفي الحكومة من الإقليم، وإقامة نوع من السلطة الشعبية في قنا والمنطقة من حولها، واضطرت الدولة إلى استخدام الجيش لقمعها، فدار قتالٌ حقيقي بينه وبين ما يقرب من أربعين ألف فلاح بقيادة شخص عُرف باسم «أحمد المهدي»، ولم يهدأ الإقليم إلا بعد تصفية الانتفاضة الشعبية، وسقوط مئات القتلى من الفلاحين، وفرار الناجين منهم إلى الصحراء، ليعودوا إلى التمرد على السلطة من جديد عندما نَشبت انتفاضة أخرى من إسنا إلى أسوان، وامتدت إلى جِرجا، واستفحل أمرها حتى كلَّفت الحكومة الجيش بقمعها، ولكن القوات التي توجَّهت إلى المنطقة الثائرة كانت — هذه المرة — من الفلاحين المجنَّدين؛ فانضم الجنود بأسلحتهم إلى الثائرين، واضطرت الحكومة إلى تجريد قوات جديدة تركية (عام ١٨٢٤م)، واستمرت المعارك بين الطرفَين نحو ستة أسابيع، انتهت بهزيمة الفلاحين والتنكيل بهم.

ولم تخمد نيران الثورة في الصعيد؛ فحدثت هبَّات محدودة في مناطق كثيرة، كانت تُواجَه دائمًا بالقمع وإحراق القرى الثائرة، كما حدثت هبَّات مختلفة في بعض مناطق الوجه البحري كالشرقية ومنطقة البراري شمال الدلتا، وكان ضيق الحال، وثقل عبء الضرائب، والتجنيد العسكري، والعمل الجبري (السُّخرة)، وعسف السلطة واستبدادها، من بين العوامل التي حركت جماهير الفلاحين ضد الحكومة في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

قانونٌ للطوارئ عام ١٨٤٩م

وأمام تكرار الانتفاضات الشعبية في مواجهة مظالِم السلطة أصدر عباس الأول (عام ١٨٤٩م)، قانونًا يُشبه قانون الطوارئ، يقضي بضرب الحصار حول القرى الثائرة، والحكم على مَن يتزعم التمرد بالسجن المؤبد، والحكم على المشاركين فيه بالسجن ثلاث سنوات، مع مضاعفة العقوبة في حالة استخدام «المتمردين» للأسلحة النارية.

ورغم قسوة ذلك القانون، وبشاعة أساليب القمع التي اتَّبعتها السلطة في مواجهة الفلاحين الثائرين، شهد عصر إسماعيل عددًا من الانتفاضات، كانت آخرها انتفاضة جرجا (عام ١٨٦٥م) بزعامة رجل يُدعى «أحمد الطيب» استطاع أن يحشد وراءه جماهير الفلاحين في مواجهة شرسة مع قوات الجيش التي ألحق الفلاحون بها الهزيمة، واضطرت الحكومة إلى تجريد قواتٍ عسكرية كبيرة بقيادة أحد كبار الضباط، استخدمت المدافع لمواجهة الفلاحين الثائرين، واستطاعت تصفية انتفاضتهم وقتل الآلاف منهم، ومن بينهم زعيم الثائرين.

ومع اشتداد الأزمة المالية، وزيادة الضرائب، وتشدد الجُباة في تحصيلها، مع وقوع القحط الذي تطور إلى مجاعة، تعدَّدت انتفاضات الفلاحين طوال سبعينيات القرن الماضي في طول البلاد وعرضها؛ فرغم بطش الحكومة بالمشاركين في تلك الانتفاضات، كان واقع الجماهير التاعس يحركها للدفاع عن حقها في الحياة في مواجهة سلطة غاشمة، تحرم جماهير المنتِجين ثمرة كدِّهم، لتنعم به الطبقة الحاكمة من كبار المُلاك، التي لم تتحمَّل من أعباء الضرائب إلا النَّزر اليسير، بينما وقع على عائق الفلاحين وحدهم تمويل الخزانة العامة، ومواجهة مطالب الدول الأجنبية صاحبة الديون.

ولم يقتصر العنف الثوري على جماهير الفلاحين وحدهم، بل امتد ليشمل ضباط الجيش (من أبناء الفلاحين) الذين ضاقوا ذرعًا بالتميُّز في المعاملة داخل الجيش، بينهم وبين الضباط الشراكسة، واعترض فريقٌ منهم على قرار صدر بتسريحهم؛ فكانت المظاهرة الشهيرة التي نظَّموها احتجاجًا على التدخل الأجنبي في شئون البلاد والظلم الاجتماعي معًا (فبراير ١٨٧٩م)، والتي أجبرت الحكومة على الرجوع عن قرارها.

كانت تلك هي المرة الأولى التي يشق فيها العسكر عصا الطاعة على «ولي النعم» منذ عهد محمد علي، وبدأ الضباط المصريون يلعبون دورًا سياسيًّا فعَّالًا منذ ذلك الحين، حتى انتقلت إليهم قيادة العمل السياسي فكانت ثورة ١٨٨١-١٨٨٢م، التي عُرفَت بالثورة العرابية.

ولا عجب — إذن — أن نجد الجماهير الفلَّاحية المصرية تتحمَّس لهذه الثورة وتؤيدها؛ فقد رأت الجماهير في شخص أحمد عرابي — زعيم الثورة — «المُخلِّص» الذي جاء ليرفع عن كواهلهم الظلم الاجتماعي، الذي عانوا منه سنين طويلة، فانقضُّوا على رموز الظلم الاجتماعي (كبار المُلاك)، وهاجموا أراضيهم، وطالبوا بتوزيع الأرض على الفلاحين، ولم يبخلوا على الثورة بالدعم المادي، بل أقبلوا على التطوع في صفوف الجيش دفاعًا عن الوطن ضد التدخل الأجنبي.

•••

وهكذا كان صبر المصريين على مظالِم السلطة له حدود، كان تجاوزها يقود إلى الثورة والتضحية بالنفس بأسلوبٍ انتحاري فريد، ورغم غياب الوعي السياسي — بالمفهوم الحديث — عندهم، فإن وعيهم الغريزي بتفاقُم الظلم والاستبداد كان يجعل حركاتهم في مواجهته تتسم بالعنف والقوة، وإن افتقرت دائمًا إلى التنظيم الجيد.

وبعد الاحتلال البريطاني ارتبطت مقاومة استبداد السلطة بالنضال الوطني ضد الوجود البريطاني في مصر، كما ارتبطت — بعد ثورة ١٩١٩م — بالنكسات التي عانى منها مشروع الاستقلال الوطني، والقصور في السياسات التي مارستها الحكومات التي تعاقبت على السلطة قبل ثورة ١٩٥٢م.

وقد ظلَّت مقاومة الفلاحين لتحديات السلطة تتخذ شكل الهبَّات التلقائية غير المنظَّمة التي يتم القضاء عليها بالقوة الغاشمة، وإنزال أشد العقوبات بالمشاركين فيها دون اهتمام بحل المشكلات التي قادت إلى تلك الهبَّات، وظل الفلاحون يفتقرون إلى القيادات السياسية الواعية، وإلى الخبرة بالنضال الجماعي والتنظيم، فضلًا عن غياب الوعي الطبقي بينهم.

وعلى النقيض من ذلك كانت مقاومة العمال لاستبداد السلطة وللظلم الاجتماعي أكثر تنظيمًا؛ تتخذ شكل الإضرابات وحركات الاحتجاج، واحتلال المصانع، وأدى تلاحُم الطلبة مع العمال في مناسباتٍ سياسية كثيرة إلى إضفاء طابع التنظيم على حركات الاحتجاج الموجَّهة ضد السلطة، فنظِّمت الإضرابات، وشُكِّلت الجمعيات العلنية والسرية، وساهمت في ذلك بعض الأحزاب السياسية والجماعات الأيديولوجية.

ولم تقف السلطة مكتوفة الأيدي في مواجهة حركات الاحتجاج الجماهيري، ففرضت الأحكام العُرفية لفترات طويلة، ولجأت إلى القوانين الاستثنائية، وإلى سلاح القمع والاغتيال والسجن، إلى غير ذلك من وسائل واجهت بها السلطة مقاومة الجماهير لاستبدادها.

١  مجلة الهلال، يوليو ١٩٩٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥