من الباشا إلى الملك
يرتبط اختيار الحكام بالثقافة الاجتماعية-السياسية السائدة في المجتمع، وهي بدورها نتاجٌ لواقعٍ اجتماعي معين؛ فالمجتمع البدوي العشائري تحكمه قِيمٌ وتقاليد وأعراف تختلف — إلى حدٍّ ما — عن تلك التي تحكم المجتمع الزراعي أو الحضَري. وحتى ذلك النوع من الثقافة يختلف باختلاف البِنية الاقتصادية الأساسية فيه، والوضعية القانونية لوسائل الإنتاج والمنتجين؛ فهي في المجتمع الإقطاعي تختلف عنها في المجتمع الذي يلعب فيه رأس المال التجاري دورَ المحرِّك، اختلافها عن ثقافة المجتمع الرأسمالي أو الاشتراكي الحديث.
وكان المجتمع المصري زمن الحملة الفرنسية (١٧٩٨–١٨٠١م) لا يختلف عن غيره من المجتمعات الأخرى التي خضعت للسيادة العثمانية؛ فالحكم عندئذٍ للسلطان/الخليفة من أرشد آل عثمان، مع الحفاظ على آلية البيعة التي أصبحت صُورية الطابع، هذا عن مركز الدولة في إستانبول، أما في الولايات — ومن بينها مصر — فكان لأعيانها وعلمائها دورٌ في الاعتراض على الوالي الظالم وخلعه، ومطالبة السلطان بتولية غيره، دون أن يكون لهم حق تسمية الوالي الجديد. حدث هذا أكثر من مرة في مصر طوال العصر العثماني؛ حيث كان خلع الوالي يتم بالاتفاق — أحيانًا — بين أمراء المماليك والعلماء وشيوخ الطوائف، وكان يتم تحريك الشارع فيما يشبه المظاهرات التي تزحف فيها الجماهير على القلعة في ركاب الأعيان والعلماء لإسقاط الوالي الظالم، وتعيين قائم بالأعمال «قائم مقام» لحين قدوم الوالي الجديد.
الوالي الباشا
ولما كانت الدولة العثمانية دولة عسكرية، جميع المناصب فيها يتولَّاها العسكريون، فقد كان الوالي الذي يحكم مصر يحمل رتبة الباشا (وهي رتبة اللواء)، ولذلك كان الولاة جميعًا من الإنكشارية التي شكَّلت السلك العسكري العثماني، ومن هنا لم يكن من حق المصريين الذين يعزلون واليًا ظالمًا أن يولُّوا مصريًّا بدلًا منه، وإنما كانت تتم تولية قائم بالأعمال من أمراء المماليك بصفةٍ مؤقتة، وكان الأمراء المماليك — كما هو معروف — من العسكر المحليِّين غير المُنتمين للجيش العثماني.
وعندما جاءت الحملة الفرنسية؛ حمل البيان الأول — الذي طُبِع بالعربية، ووُزِّع بالإسكندرية، ثم القاهرة — نسمات أفكار الثورة الفرنسية؛ فطعن في أحقية العثمانيين والمماليك في الحكم، وقال إن من حق المصريين أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وإن هدف الحملة مساعدتهم على ذلك. وقد بدا هذا الكلام غريبًا حتى لأولئك الذين كانوا على استعدادٍ للتعامل معه وتفهُّمه، لأنه يعبِّر عن مجتمعٍ رأسمالي، وعن ثقافة غريبة هي ثقافة عصر التنوير. وإذا كانت نخبة المجتمع المصري «المدني» قد تعاونت مع الحملة، فشارك الأعيان والعلماء في الدواوين التي أقامتها، إلا أن شرعية السلطة الجديدة كانت دائمًا موضع تساؤل رجال تلك النخبة، في ضوء ما استقر عليه الفِقه من استناد شرعية السلطة إلى تفويض ولي الأمر «السلطان» لصاحبها، وإذا كان الأعيان والعلماء قد قبِلوا بالتعاون، فكان مرَدُّ ذلك إلى التعلُّل بحكم الجبر، لا الاختيار، والحاجة لدفع الضرر عن الأمة.
ولكن بعد خروج الفرنسيين من مصر، وعودة الحكم العثماني إلى ممارسة مظالِمه السابقة، لم يركن المصريون هذه المرة إلى الدعاء الشهير «يا رب؛ يا متجلي، أهلِك العثمانلي» وحسب، بل قامت حركات الاحتجاج الجماهيرية يقودها علماء الأزهر وشيوخ الطوائف، الذين رفضوا — هذه المرة — العثمانيين والمماليك على السواء، حتى استطاع ذلك الضابط الألباني الشاب الداهية محمد علي أن يكسب ثقتَهم؛ فاختاروه واليًا على مصر، وكتبوا للسلطان بذلك، وكانت تلك هي المرة الأولى — في العصر العثماني — التي يختار فيها المصريون شخص الحاكم، ويفرضونه على السلطان، ولكن هذا الاختيار جاء مدعومًا بحُجة شرعية تعهَّد فيها محمد علي بالتزام العدل، وعدم اتخاذ قرارٍ دون مشورة العلماء والأعيان الذين اختاروه.
وكان ما كان من المناورات التي اتَّبعها محمد علي للتخلُّص من هذا القيد، سواء بضرب العلماء بعضهم ببعض، أو بشراء تأييد البعض وسكوته، أو بنفي من استعصى على الاحتواء «السيد عمر مكرم»؛ حتى أصبح حاكم مصر المطلَق، الذي لا ينازعه في سلطانه أحد، ومن ثَم بدأ ينفِّذ مشروعه السياسي الذي استرد لمصر دورها الإقليمي بفضل الجيش الحديث الذي أقامه، واعتمد لأول مرة — منذ قرون — على الجنود المصريين، وما ارتبط بهذا المشروع من تنمية اقتصادية في مجال الزراعة، والصناعة، والأعمال العامة «الري والقناطر والجسور»، وإقامة الهيكل الإداري الحديث بما اقتضاه من لوائح وقوانين، اتَّخذت في صياغتها الإطار الفرنسي، وجاء مضمونها من التراث المصري العُرفي والفقهي على حدٍّ سواء، أضِف إلى ذلك التعليم الحديث بفرض تخريج الكوادر اللازمة للدولة الحديثة، ونقل علوم الغرب من خلال حركة الترجمة العظيمة.
مشروع الباشا
ولكنَّ مشروع محمد علي النهضوي تقاطع مع المشروع الإمبريالي الأوروبي للهيمنة على المنطقة؛ فكان التدخُّل الأوروبي في النزاع الذي نشب بين محمد علي والسلطان، وهو التدخُّل الذي ألزم محمد علي بسحب قواته من الأناضول والشام والجزيرة العربية، مقابل منحه حكم مصر وتوابعها «يقصد بذلك السودان» حكمًا وراثيًّا لأسرته تحت السيادة العثمانية، ومنحه حكم جنوب بلاد الشام «فلسطين والأردن» مدى الحياة، فإذا مرَّت عشرة أيام دون إعلانه قبول العرض يسقط حقه في حكم جنوب الشام، فإذا مرَّت عشرة أيام أخرى تراجعت الدول عما عرضته، وتحالفت مع السلطان ضده لتصفية حكمه. وقد ماطل محمد علي عشرة أيام ظنًّا منه أن فرنسا تستطيع مساندته، وعندما أعلنت الدول إسقاط حقِّه في حكم جنوب الشام، سارع إلى قبول التسوية التي توصَّلت إليها الدول أواخر عام ١٨٤٠م، والتي بموجبها أصبح حكم مصر وراثيًّا في أسرة محمد علي، على أن يلي الحكم الأرشد فالأرشد، وفقًا لما كان معمولًا به في وراثة العرش العثماني.
وكان التطبيق العملي لنظام الوراثة الجديد في حياة محمد علي نفسه الذي أقعده المرض عن القيام بأعباء الحكم؛ فخلَفه ولده إبراهيم باشا لكونه الأكبر سنًّا من نسل محمد علي، ولم يستمر حكمه أكثر من ستة شهور؛ فمات في حياة أبيه أيضًا، فتولَّى الحكم عباس الأول، حفيد محمد علي (١٨٤٨–١٨٥٤م)، ثم محمد سعيد بن محمد علي (١٨٥٤–١٨٦٣م)، ثم وقعت حادثة كفر الزيات الشهيرة التي سقط فيها قطار الإسكندرية في فرع رشيد، ومات أحمد رفعت باشا «الذي كان وليًّا للعهد» غرقًا ليصبح بذلك إسماعيل بن إبراهيم وليًّا للعهد، بحكم كونه الأكبر سنًّا من نسل محمد علي.
وعندما غيَّر إسماعيل نظام ولاية العرش ليجعله في أكبر أبنائه، اقتضى ذلك الكثير من الدسائس والمؤامرات لإبعاد محمد عبد الحليم بن محمد علي «حليم باشا» — الذي كان الولي الطبيعي للعهد — عن مصر، وشراء أملاكه بثمنٍ بخس، ثم غيَّر عام ١٨٧٣م نظام ولاية العرش بعد أن قدَّم الرِّشا للسلطان ورجاله، فتحوَّل الحكم إلى ولده محمد توفيق بعد عزله عام ١٨٧٩م، ولم يطبَّق نظام الوراثة الذي صدر عام ١٨٧٣م بعد وفاة توفيق إلا على ولده عباس حلمي الثاني (١٨٩٢–١٩١٤م).
وجاءت الحرب العالمية الأولى (١٩١٤–١٩١٨م) لتحمل معها العديد من التغيُّرات؛ فقد انضمَّت الدولة العثمانية إلى ألمانيا وحُلفائها في الحرب ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا. وبمجرد إعلان الدولة العثمانية الحرب على الحلفاء أعلنت بريطانيا الحماية على مصر (١٩١٤م) وعزلت عباس حلمي الثاني، واختارت عمَّه حسين كامل بن إسماعيل لتولِّي السلطة بدلًا من عباس حلمي الثاني.
وقد أبدى الأمير حسين كامل اعتراضه على تعيين بريطانيا له سلطانًا على مصر تطبيقًا لقاعدة الأرشد من نسل محمد علي، ففضَّل أن يتم ذلك بطلبٍ من أفراد الأسرة أنفسهم، وأن يُزكِّي هذا الطلب كبار أعيان البلاد، ومعنى ذلك أن حسين كامل كان يريد أن يصبح سلطانًا بإرادة أسرته، ومن يُعدُّون ممثِّلين للمصريين، وهو ما لم تقبل به سلطات الاحتلال البريطاني؛ فتم التلويح له «من جانب الإنجليز» بأنه في حالة عدم قبوله العرض البريطاني يُنهي بذلك حكم أسرة محمد علي، فلدى بريطانيا مرشَّحون آخرون لحكم مصر «كان من بينهم أغا خان»؛ عندئذٍ قبِل حسين كامل المنصب بخطابٍ من وزير الخارجية البريطاني، وقد رفض ابنه ولاية العهد، فراحت السلطات الإنجليزية تبحث عن مرشحٍ آخر من نسل محمد علي تنطبق عليه قاعدة الأرشد، فرسا العطاء على الأمير أحمد فؤاد بن إسماعيل، الشقيق الأصغر لحسين كامل بعدما اعتذر من كان يكبره سنًّا.
مَلك مصر
وهكذا عندما مات السلطان حسين كامل عام ١٩١٧م خلَفه السلطان أحمد فؤاد (١٩١٧–١٩٣٦م)، وهو الذي حفل عهده بأحداث تحوُّلات ما بعد الحرب الأولى، فشهد ثورة ١٩١٩م، وصدور تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م، الذي اعترف باستقلال مصر مع الإبقاء على أربعة أمورٍ تشكِّل جوهر الاستقلال؛ لتكون موضوع مفاوضات بين الحكومة المصرية وحكومة بريطانيا، (وهي المفاوضات التي دارت حلقاتها من ١٩٢٤م حتى ١٩٥٤م). وتضمن التصريح أيضًا نصيحة السلطان أحمد فؤاد أن يتم وضع دستور للبلاد، يتم من خلاله تحديد الحقوق والواجبات لكلٍّ من المصريين والسلطان، فصدر دستور ١٩٢٣م، وتحوَّلت، بموجبه، مصر إلى مملَكة، وتغيَّر لقب السلطان إلى «مَلك مصر»، ووُضِع نظامٌ جديد لوراثة العرش، جعله لابن الملك، وفي حالة عدم وجود ولد «ذكرٍ» للملك يصبح أرشد أبناء أسرة محمد علي وليًّا للعهد، وعندما وُلِد الأمير فاروق أصبح وليًّا للعهد، وخلف والده على عرش مصر (١٩٣٦–١٩٥٢م) وقامت ثورة يوليو ١٩٥٢م بإجباره على التنازل عن العرش لولي عهده، الطفل أحمد فؤاد الثاني.
وهكذا منذ تم إقرار تحوُّل مصر إلى ولاية عثمانية ذات وضعٍ خاص، يحكمها حكمًا وراثيًّا أبناء محمد علي بموجب الفرمان السلطاني الصادر في يناير ١٨٤١م، حتى إلغاء الملكية وإعلان قيام الجمهورية (١٨ يونيو ١٩٥٣م)، كان يتم اختيار الحاكم (والي – خديو – سلطان – ملك) وفق نظام الوراثة، وما لحق به من تغيُّرات؛ فلم يكن للشعب المصري دورٌ في اختيار رأس الدولة، بل كان أمر الاختيار، في حالة تجاوز نظام الوراثة المعمول به، بأيدي قُوًى خارجية تحت ستار حماية مصالحها في مصر.
من ذلك تدخُّل الدول الكبرى التي فرضت رقابتها على مالية البلاد، وأقامت صندوق الدَّين العام، وأقامت لجنة التحقيق الدولية في أحوال مالية مصر، وتدخُّلها عند السلطان لإقصاء إسماعيل عن حكم مصر، وطرده خارج البلاد، واعتراضها عند تولية توفيق على محاولات السلطان إلغاء نظام الوراثة الذي حصل عليه إسماعيل عام ١٨٧٣م، مما يعني إمكانية تولي الأمير حليم بن محمد علي حكم مصر باعتباره أكبر أبناء الأسرة سنًّا، فتدخَّل ممثِّلا بريطانيا وفرنسا للحفاظ على نظام الوراثة الذي كسبه إسماعيل لمجرد ارتياحهما إلى التعامل مع توفيق واطمئنانهما إليه.
وعندما وقع الاحتلال البريطاني عام ١٨٨٢م حافظ على وضع مصر القانوني كولاية عثمانية، ولم تسعَ بريطانيا لضم مصر إلى الإمبراطورية البريطانية؛ لأن ذلك يخلُّ بالسياسة البريطانية الداعية إلى الحفاظ على وحدة الدولة العثمانية وسلامة أراضيها، ما دام ذلك لا يتعارض مع مصالحها؛ لذلك تمسَّكت سلطات الاحتلال «بحقوق» حكام مصر لأنها كانت — في حقيقة الأمر — تخدم مصالحها، وعندما مات توفيق، وأرسل السلطان فرمان توليَة ولده عباس حلمي الثاني، أصر كرومر على الاطلاع على الفرمان قبل إعلانه رسميًّا، وعندما رأى أن السلطان أجرى تعديلًا على حدود ولاية مصر الشرقية؛ لضم طابا وبعض مناطق سيناء إلى فلسطين، قامت أزمة بريطانية-عثمانية، تبنَّت فيها بريطانيا الدفاع عن «مصالح» مصر، وتم تعديل الفرمان.
ولكن عندما حاول الخديو الشاب عباس حلمي الثاني أن يكون حاكمًا بحقٍّ، وغيَّر الوزارة دون استشارة كرومر، أُجبِر على التراجع، وأُلزِم بقبول نصيحة المعتمد البريطاني. وعندما انتقد نظام الجيش المصري بقيادة الإنجليز — بعد تفقُّده له عند أسوان — هُدِّد بالعزل قبل وصول القطار الذي يحمله إلى القاهرة، ما لم يسحب انتقاده، ويتقدَّم بالشكر إلى كيتشنر قائد الجيش المصري على ما حقَّقه «من تقدُّم». ورأينا كيف تم عزل عباس حلمي الثاني عام ١٩١٤م لعدم الاطمئنان إلى موقفه، ومن ثَم اختيار غيره (حُسين كامل) الصديق الحميم للإنجليز.
ولذلك لا غرابة أن نجد الدول الأوروبية صاحبة المصالح المالية في مصر — وليس النخبة المصرية — تعمل على وضع حدٍّ للسلطة المطلَقة للخديو إسماعيل بفرض نظام الوزارة المسئولة في أغسطس ١٨٧٨م، وإذا كانت وزارة محمود سامي البارودي في عهد الثورة العرابية قد استطاعت أن تُصدِر لائحة دستورية كفلت قدرًا معقولًا من الحقوق التشريعية لمجلس شورى النواب، وجعلت السلطة التنفيذية مسئولة أمام المجلس التشريعي؛ فإن وقوع الاحتلال أجهض هذا التطور، وظلَّت الوزارة — في عهد الاحتلال — تتولى السلطة التنفيذية الفعلية بتوجيه من المستشارين الإنجليز، وأصبحت سلطة الخديو اسمية.
ولم يحظَ أيٌّ من حكام أسرة محمد علي بما يمكن أن نسمِّيه شعبيةً حقيقية سوى عباس حلمي الثاني الذي شجَّع مصطفى كامل على معارضة الاحتلال، وذلك بعد اصطدامه بكرومر «المعتمد البريطاني». ورغم أن تأييده للحزب الوطني قد تلاشى بعد توقيع الوفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا، وبذلك انفردت بريطانيا بمصر، فاضطر الخديو إلى أن يهادن الاحتلال، مما أفقده الكثير من رصيده الشعبي، غير أن عزله على أيدي الإنجليز عند بداية الحرب زاد من شعبيَّته، وعبَّرت الجماهير المصرية عن ذلك في أهازيج حزينة، وظل لهذه الشعبية آثارٌ في الذاكرة الوطنية جعلت ثورة يوليو تختار الأمير محمد عبد المنعم بن عباس حلمي الثاني وصيًّا على العرش بعد تنازل فاروق.
على أي حال لم يمارس المصريون حقَّ الاختيار الحقيقي لحكامهم إلا في إطار دستور ١٩٢٣م، وإن كان الاختيار هنا لممثِّليهم في البرلمان بمجلسَيه؛ النواب والشيوخ، أي اختيار السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية ممثَّلةً في الوزارة التي يشكِّلها الحزب الذي يحصُل على أغلبية المقاعد بالمجلس النيابي، أما سلطة السيادة ممثَّلةً في الملك فكانت خارج إطار الاختيار.
ولم يُتَح للشعب المصري الاختيار الحر لهيئته التشريعية، ومن ثَم للحزب الذي يشكِّل الوزارة إلا ثلاث مرات على مَر الفترة المُسمَّاة بالليبرالية (١٩٢٣–١٩٥٢م) هي برلمان ١٩٢٤م، وبرلمان ١٩٣٦م، وأخيرًا برلمان ١٩٥١م، وكلها جاءت معبِّرةً عن تأييد الحركة الوطنية بقيادة سعد زغلول بالنسبة للبرلمان الأول، ثم مصطفى النحاس بالنسبة للبرلمانيين الآخرين، وجاء وصول الوفد إلى الحكم — في البرلمانات الثلاثة — تعبيرًا عن امتداد قيادته للحركة الوطنية التي بدأت بثورة ١٩١٩م.
لمَّا كانت روح ثورة ١٩١٩م لا تزال في الأفق عند اختيار برلمان ١٩٢٤م، فكان من الطبيعي أن يفوز الوفد بزعامة سعد زغلول فوزًا ساحقًا؛ فإن ذلك البرلمان لم يُعمَّر طويلًا، فانفضَّ بعد شهور عقب حادث مقتل السير لي ستاك — سردار (قائد) الجيش المصري — وتولَّت الحكم وزارة إدارية لم تأتِ عن طريق صناديق الانتخاب، بل أُعيد النظر في أُسس العملية الديمقراطية ذاتها؛ فبدأت عمليات تزوير إرادة الشعب بالتلاعب في صناديق الانتخاب وجداول قيد الناخبين، وهو تراثٌ استمر طوال الفترة «الليبرالية اسمًا» حتى ثورة يوليو.
ولعب هذا التراكُم البغيض لخبرات التزوير دورًا خطيرًا في احتدام الأزمات السياسية على مَر الفترة، وأوجد الخصومة الدائمة بين الحركة الوطنية والقصر «الملك» الذي كان يحظى بسُلطات واسعة في دستور ١٩٢٣م، ورغم ذلك استمر يعطل الحياة النيابية كلما جاءت نتيجة الانتخابات «رغم التزوير» على غير ما يشتهي، بل وألغى دستور ١٩٢٣م، واستبدل به دستورًا آخر عام ١٩٣٠م أسوأ حالًا؛ مما أدَّى إلى انشغال الحركة الوطنية بالنضال من أجل استعادة دستور ١٩٢٣م، بدلًا من أن تتفرَّغ للنضال من أجل الاستقلال.
وفي المرتين الأخيرتين اللتين عبَّر فيهما الشعب عن إرادته في اختيار هيئته التشريعية ثم — بالتالي — الوزارة التي تتولى الحكم، ونعني بذلك برلمانَي ١٩٣٦م و١٩٥١م، جاء ذلك بضغطٍ من الإنجليز على الملك؛ فقد اتسع نضال الجبهة الوطنية عام ١٩٣٥م من أجل استعادة الدستور، في وقتٍ دقيق تصاعد فيه الصراع الدولي المُنذِر بوقوع حرب عالمية ثانية، ولمَّا كانت مصر ذات أهمية استراتيجية بالغة في حالة قيام حرب، وجدت بريطانيا نفسها في حاجة إلى إبرام معاهدة مع مصر تنظِّم العلاقة بينهما، وتهيِّئ مصر للعب دورٍ مساند لها في الحرب.
ولمَّا كانت مثل هذه المعاهدة لا تكتسب المصداقية إلا إذا وقَّعتها رموز الحركة الوطنية، فقد ضغطت بريطانيا على الملك لإعادة العمل بدستور ١٩٢٣م، وإجراء انتخابات حرة «نسبيًّا»، ترتَّب عليها تحقيق الوفد للأغلبية، وتشكيل مصطفى النحاس للوزارة التي أبرمت المعاهدة ثم أضاء الإنجليز الضوء الأخضر للملك للتخلُّص من الوزارة. وللاعتبارات نفسها جاء ضغط الإنجليز على الملك لدعوة النحاس باشا لتشكيل الوزارة في غضون حادث ٤ فبراير ١٩٤٢م عندما اقترب الألمان من حدود مصر الغربية، لتضمن تنفيذ المعاهدة على الوجه الأكمل.
ورغم أن قبول الوفد تشكيل الوزارة عندئذٍ أدَّى إلى تآكل شعبيته، وزاد من عداء القصر للحركة الوطنية، وفتح الساحة السياسية أمام قُوى الرفض الاجتماعي والسياسي ذات الطابع المدني أو الديني، إلا أن حاجة بريطانيا لوجود حكومة قوية تحظى بالمساندة الشعبية في مصر بالقدر الذي يجعلها تؤمِّن مشاركة مصر في مشروعات الدفاع عن الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، تلك الحاجة جعلتها تضغط مرة ثانية على الملك لإجراء انتخاباتٍ حرة «نسبيًّا أيضًا» عام ١٩٥٠م جاءت ببرلمان ١٩٥١م ذي الأغلبية الوفدية.
وعندما خابت آمال الإنجليز في تلك الوزارة؛ فرفض النحاس مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط، ورفض مشاركة مصر في حرب كوريا، كما رفض مشروع التسوية الذي قدَّمه الإنجليز في مفاوضات ١٩٥١م، واضطر إلى إلغاء معاهدة ١٩٣٦م من طرفٍ واحد، وإعلان مساندته الكفاح المسلَّح، لم تعُد هناك حاجة لاستمرار الوزارة في الحكم (من وجهة نظر الإنجليز والقصر معًا) فكان حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م، الذي سقطت، في أعقابه، الوزارة الوفدية، لتخلفها عدة وزارات إدارية، لم يُكمِل بعضها شهرًا واحدًا في الحكم، ولم تبقَ آخر وزارة منها إلا سويعات سبقت قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، وسقوط النظام بأكمله.
وهكذا لم يُتَح للمصريين اختيار حُكَّامهم طوال الفترة الممتدة على مدى ١٥٤ عامًا، تمثِّل الفصل الأول في تاريخ مصر الحديث، منذ الحملة الفرنسية، حتى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م. فكان اختيار النخبة الممثَّلة في الأعيان والعلماء لشخص الحاكم أمرًا لم تألفه الثقافة الاجتماعية-السياسية السائدة، ولم يحدث ذلك إلا في حالة اختيار محمد علي باشا واليًا على مصر، فكانت تلك «بِدعة» نتجت عن تأثير التطورات التي شهدتها مصر زمن الحملة الفرنسية، ليتحوَّل الحكم بعد ذلك إلى حكمٍ وراثي في أسرة محمد علي؛ تنظِّم الولاية فيه قواعد في مصر في عصر التوسُّع الاستعماري الأوروبي. وحتى الاختيار النسبي للهيئة التشريعية، ومن ثَم الوزارة التي تتولى الحكم في إطار دستور ١٩٢٣م، كان حقًّا اسميًّا يتأثر سلبًا وإيجابًا بآليات الصراع السياسي بين القصر والإنجليز من ناحية، والحركة الوطنية المصرية من ناحية أخرى.