خاتمة: مستقبل حرية الكلام
كان أفلاطون في كتابه «الجمهورية» من أوائل الفلاسفة الذين نادوا بفرض قيود مشددة على حرية التعبير، في المجتمع المثالي الذي يصفه لا توجد مساحة للفن التمثيلي، تشير إحدى حججه الرئيسية إلى الأثر المفسِد للتمثيل أو المحاكاة، يرى أفلاطون أن الواقع كما نراه هو انعكاس غير مثالي لعالم «الأشكال» المثالي، وهي الأنماط العالمية التي تكمن وراء عالم المظاهر، فالسرير الذي أنظر إليه أقل مثالية من مفهوم «السرير» الذي يوجد في عالم العموميات، والذي نصل إليه عن طريق التأمل الفلسفي، بدلًا من الرؤية العادية، فأي تمثيل لسرير معين سيكون غير مثالي بالضرورة؛ إذ إنه تصوير لشيء هو في حد ذاته انعكاس غير مثالي للشكل «سرير». أراد أفلاطون الحفاظ على ملوكه الفلاسفة — وهم حكامه المثاليون لدولته المثالية — من أي شيء يُضعف حكمهم على الواقع، والفن التصويري — الذي كان يبعد كثيرًا عن الواقع، ويشوهه بالضرورة — خاطر بعمل ذلك، فاستُبعد.
مع ذلك لم تكن الصور فحسب هي التي تهدد فهم الملوك الفلاسفة للواقع في دولة أفلاطون الفاضلة، فكانت بعض أنواع الكلام — خاصة الشعر الذي يتخذ فيه الفرد شكل شخصية شريرة — مفسدة أيضًا، لذا يجب منعها بالمثل لتأثيرها الضار، وعليه كان تعليم الملوك الفلاسفة لدى أفلاطون أكثر أهمية من حرية التعبير، والطريقة الوحيدة للحفاظ على نقاء حكمهم ودقته هي إبعادهم عن التأثيرات الضارة المحتملة.
مع أن حجج أفلاطون ضد التمثيل تقوم على ميتافيزيقا غريبة — ربما لا تجد لها أتباعًا كُثرًا في عصرنا الحالي — فلدى أتباع أفلاطون استعداد لفرض الرقابة أينما وجدوا أقوالًا وصورًا لها تأثير ضار محتمل.
أشار كارل بوبر — الذي كان يكتب في ظل الفاشية في الأربعينيات من القرن الماضي — إلى الطبيعة الاستبدادية لفكر أفلاطون في كتابه «الجمهورية»، وسواء أكان هذا وصفًا دقيقًا للعمل ككل أم لا، فإنه يعبر عن طبيعة القيود التي فرضها أفلاطون على حرية التعبير.
توجد درجة من المفارقة في هذا السياق؛ فسقراط — معلم أفلاطون وبطله — حوكِم وأعدِم بسبب طرحه أسئلة اعترضت عليها الدولة الأثينية، فقد قيل إنه يفسد الشباب الأثيني بحديثه المضاد للديمقراطية، فضلًا عن أنه شجع الناس على عبادة الآلهة الخطأ، فكما حدث مع المسيح من بعده، اعتُبرت كلماته نوعًا من التهديد، وأُسكت كما ينبغي بالموت؛ في حالته بشرب سم الشوكران، لكن حتى لو أُعفي سقراط من العقوبة شريطة أن يبقى صامتًا ويهتم بشئونه الخاصة فحسب، فإنه كان سيقدِّر حريته في مناقشة الأفكار أكثر من حياته.
«لكن بالطبع يمكنك يا سقراط بعد أن رحلت عنا أن تقضي بقية حياتك في الاهتمام بشئونك الخاصة في صمت.» هذا أصعب شيء على الإطلاق أستطيع شرحه ليفهمه البعض منكم، فإذا قلت إن هذا سيكون معصية لله، وإنه لهذا السبب لا أستطيع «الاهتمام بشئوني الخاصة»، فلن تصدقوني، وستظنون أنني أخدعكم، ومن ناحية أخرى، إذا قلت لكم إن عدم تركي لأي يوم يمر دون مناقشة الخير وكل الموضوعات الأخرى التي سمعتموني أتحدث عنها وأدرِّسها أنا وغيري، هو أفضل ما يمكن أن يفعله الإنسان، وإن الحياة دون هذا النوع من الفحص لا تستحق العيش، فإن رغبتكم في تصديقي ستقل أكثر، ومع ذلك تلك هي الحال يا سادة كما أشرت، مع أنه ليس من السهل إقناعكم بذلك.
تبدو بعض الحكومات في عصرنا الحالي أكثر تعاطفًا مع أفلاطون مما هي عليه مع سقراط؛ فهي تريد التحكم في النتائج من خلال التحكم في التعبير. إن مستقبل حرية الكلام غير واضح، ولو أدركنا محورية حرية الكلام فيما يتعلق بالديمقراطية، فلربما عندها نتمسك برأينا في مرحلة معينة ولا نخضع للضغط الذي يجعلنا نفرض الرقابة على أنفسنا خوفًا من الإساءة إلى أحد الأشخاص، ففي بريطانيا يمثل استعداد الحكومة مؤخرًا للتضحية بحرية الكلام من أجل قيم أخرى — مثل الأمن والحساسية الدينية للإساءة — علامة مثيرة للقلق، فتلك إشارة إلى أن المناقشات حول أهمية حرية الكلام الشاملة لشرعية الديمقراطية وحرية الفرد، لم يكن لها تأثير كبير على من يمسكون بزمام السلطة، مع ذلك يسهل إقناع البعض بواسطة الكلام البلاغي عن حرية التعبير بأن كل القيود المفروضة على هذه الحرية مكروهة أخلاقيًّا، في حين أنها ليست كذلك، ففي بعض الأحيان نحتاج أن نعطي أهمية أكبر لاعتبارات أخرى؛ أيْ نعطي منزلة أعلى لقيمة أخرى، على سبيل المثال، ينبغي ألا يُسمح لأنواع معينة من المواد الإباحية المبالغ فيها بالاحتماء تحت مظلة حرية الكلام، مع ذلك يجب أن نكون واضحين — مثلًا — بشأن سبب حصول حماية الأطفال على أهمية أكبر من حرية الكلام، وينبغي أن نكون واضحين أيضًا بشأن مكان وضعنا للحدود والسبب في ذلك.
حرية الكلام إحدى القيم الأساسية في الدولة الديمقراطية، ويجب الدفاع عنها بقوة.
حرية الكلام شرط للحكومة الشرعية؛ فالقوانين والسياسات لا تكون شرعية إلا إذا أُقرَّت من خلال عملية ديمقراطية، ولا تكون العملية ديمقراطية إذا منعت الحكومة أي شخص من التعبير عن معتقداته بشأن ما يجب أن تكون عليه هذه القوانين والسياسات.
على أقل تقدير يحتاج الناخبون في مجتمع ديمقراطي إلى الاطلاع على كم كبير من الآراء؛ هذا إذا أريدَ منهم اتخاذ قرارات مستنيرة، وهذه فكرة أكدتُ عليها على مدار هذا الكتاب.
تضفي شبكة الإنترنت طابعًا ديمقراطيًّا على عملية التواصل؛ على الأقل لمن يستطيعون الاتصال بها، فقد زاد عدد الأشخاص الذين يستطيعون التحدث بعضهم مع بعض والاستماع بعضهم إلى بعض في جميع أنحاء العالم أكثر من أي وقت مضى، وعندما يتعرض من يتحدثون ضد الاضطهاد للإسكات، يكون احتمال وصول الأخبار عن هذا الإسكات إلى باقي أنحاء العالم أكثر مما كان عليه من قبل، وربما يأتي التساهل مع حرية الكلام في المستقبل نتيجة لصعوبة إسكات هذا العدد الكبير من الأصوات التي لديها العديد من السبل للوصول لوسائل الإعلام السائدة، وليس نتيجة لأي قرار أخلاقي، مع ذلك لا يوجد شيء حتمي بشأن هذه النتيجة، تعمل بعض الدول جاهدةً للتحكم في وصول مواطنيها للمعلومات عن طريق الإنترنت، مستخدمة كل الأجهزة التقنية المتاحة لها.
في رواية راي برادبري المحبِطة «فهرنهايت ٤٥١» — المستوحاة إلى حد ما من حرق النازيين للكتب في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي — كانت وظيفة الشخصية الرئيسية هي تدمير الكتب، يشير عنوان الرواية إلى درجة الحرارة التي يحترق عندها الورق، فالتخلص من الأفكار الغريبة يبسط الحياة؛ في هذا المستقبل الخيالي يُحرَق أي شيء بإمكانه إعاقة السعادة التي تكون دون تفكير، فينتهي الحال بتحول كل شيء يُرى مسيئًا إلى رماد، وفي النهاية لا يدرك الناس أنهم خسروا أي شيء، وهذا مستقبل آخر محتمل.