سوق حر للأفكار
يظل كتاب «عن الحرية» لجون ستيوارت مِل يفرض سيطرته على النقاش الفلسفي حول حرية الكلام، في هذه المناقشة الكلاسيكية لحدود الحرية الفردية في المجتمع المتحضر، يدافع مِل عن الرأي القائل إن حرية الكلام الشاملة شرط أساسي ليس للسعادة الفردية فحسب، بل لازدهار المجتمع أيضًا، فدون حرية الكلام ربما تُسلب البشرية من الأفكار التي بإمكانها المساهمة في تطورها، لذا فإن الحفاظ على حرية الكلام يزيد إلى أقصى حد فرص تجلِّي الحقيقة من خلال اصطدامها بالخطأ وبالحقائق الناقصة، وهو أيضًا يجدد نشاط معتقدات هؤلاء الذين يمكن أن يكونوا — من دون حرية الكلام — عرضة لخطر اعتناق الآراء بوصفها عقيدة غير قابلة للتغيير.
(١) «عن الحرية» لجون ستيوارت مِل
وُضع كتاب «عن الحرية» استنادًا إلى ما أشار إليه مِل باسم «استبداد الأغلبية»؛ بمعنى التأثير التدميري والقمعي لرأي الآخرين، ويتسم هذا الكتاب بكونه دفاعًا حماسيًّا عن تقبل نطاق واسع من التعبيرات الفردية.
(١-١) مبدأ الضرر لمِل
الطبيعة البشرية ليست آلة تُبنى وفقًا لنموذج معين، وتُضبط لتعمل كما يُطلب منها، ولكنها كالشجرة تحتاج إلى النمو وتطوير نفسها من الجوانب كافة، وفقًا لنزعة القوى الداخلية التي تجعلها كائنًا حيًّا.
مبدأ الضرر لمِل
الهدف من هذا المقال هو التأكيد على مبدأ بسيط للغاية يمكنه التحكم تمامًا في تعاملات المجتمع مع الفرد بأسلوب الإكراه والسيطرة، سواء أكانت الوسائل المستخدمة هي القوة الجسدية — في شكل عقوبات قانونية — أم الإكراه المعنوي من الرأي العام، يتمثل هذا المبدأ في أن الهدف الوحيد الذي يبرر للبشر التدخل — فرديًّا أو جماعيًّا — في حرية تصرف أي عدد من الأشخاص هو حماية الذات، وأن الغرض الوحيد الذي يحق فيه ممارسة السلطة على أي فرد في مجتمع متحضر رغمًا عنه، هو منع وقوع الضرر بالآخرين، فمصلحة الفرد الذاتية — سواء الجسدية أو المعنوية — ليست ضمانة كافية، فلا يحق إجباره أو منعه من التصرف على نحو معين لأن هذا الأفضل له، أو لأن هذا سيجعله أكثر سعادةً، أو لأنه — في رأي الآخرين — التصرف الحكيم أو الصائب.
وعلى هذا فإن مبرره الأساسي للحرية هو أنها تحقق الرفاهية لكل فرد، ومن ثم للمجتمع ككل، يؤمن مِل أيضًا بأن الآخرين لا يجب أن يقرروا كيفية تطورنا، حتى إن كان هذا بدافع قلقهم على مصلحتنا، ينبغي أن تكون لنا حرية ارتكاب الأخطاء، بدلًا من أن يُملَى علينا أسلوب حياتنا، لكن حرية الكلام ليست مجرد مجال آخر تُطبق فيه المبادئ الليبرالية، يرى مِل أنه موضوع ذو أهمية خاصة؛ بسبب علاقته بالحقيقة والتطور الإنساني.
(٢) حجج مِل
يقدم مِل في الفصل الثاني من كتاب «عن الحرية» — بعنوان «عن حرية الفكر والنقاش» — العديد من الحجج المترابطة من أجل حماية حرية الكلام، ليس من التدخل الظالم للحكومة فحسب، بل من الضغوط الاجتماعية أيضًا، تقوم كل هذه الحجج على افتراض أن: (أ) الحقيقة مهمة، و(ب) مهما وصل مدى تأكد الشخص من معرفته للحقيقة فلا يزال رأيه يحتمل الخطأ، يرى مِل أن وجود سوق حر للأفكار سيزيد من احتمال تحقيق أفضل النتائج متمثلة في تجلِّي الحقيقة واستبعاد الخطأ، والحقيقة مفيدة للجميع، بالإضافة لذلك، فإن عملية الحوار النشط في ظل وجود آراء متباينة يعيد الحيوية للآراء التي ربما تُعتنق دون تفكير في حالات أخرى.
سوف تتسبب القيود على حرية الكلام في تقويض هذه العملية، ومن ثم تقدم نتائج لا قيمة لها، فحدُّ حرية الكلام يجب أن يكون المرحلة التي يُحرَّض فيها على أذى الآخرين، إذن فالفوائد التي تعود على المجتمع والأفراد من جراء تقبل حرية تعبير شاملة تكون عظيمة، أما خسائر قمعها فتكون هائلة.
إنِ اجتمع البشر كلهم عدا شخص واحد على رأي واحد، لا يحق لهم إسكات هذا الشخص، تمامًا كما لا يحق له — في حال امتلاكه للسلطة — إسكاتهم.
ويبرر مِل ذلك بأنه في حال صحة رأي هذا الشخص، سيفقد البشر فرصة استبدال الحقيقة بالخطأ، أما إذا كان رأيه خاطئًا، فإننا نفقد فرصة تعزيز الحقيقة من خلال صدامها مع الخطأ، فلكل رأي أهمية؛ إما لأنه صواب، أو لأنه — بالرغم من خطئه — يعزز الحقيقة ويسهم في ظهورها.
(٢-١) حجة العصمة من الخطأ
أي شخص يُسكت شخصًا آخر لأنه يرى رأيه خطأً يفترض في نفسه العصمة من الخطأ، فيكون على يقين تام بأنه على صواب بشأن هذا الأمر. هذا ما يراه مِل، مع ذلك يشير إلى أن حالة التأكد النفسية لا تضمن — بأي حال من الأحوال — صحة ما نشعر بالتأكد منه، فعلى المستوى الفردي، نحن نرتكب أخطاءً حتى في المسائل التي لا جدال فيها، وعلى المستوى الجمعي تبنت أجيال كاملة أخطاء أساسية بشأن حقائق، مثل دوران الأرض حول الشمس، وأسباب الأمراض والمجاعات، كان جاليليو محقًّا، لكن من أسكتوه كانوا واثقين تمامًا من خطئه.
على صعيد آخر، يشعر العديد من أصحاب الديانات المختلفة بأنهم يعلمون بوجود إله معين، ويبنون حياتهم كلها على هذه المعرفة المزعومة، إلا أن الآلهة المختلفة للديانات المختلفة لا يمكن أن توجد كلها معًا؛ فكثير منها يتعارض بعضه مع بعض، فالتوحيد وتعدد الآلهة — على سبيل المثال — لا يمكن أن يكون كلاهما صائبًا، هذا أمر منطقي، كذلك لا يمكن أن يوجد إله المسيحيين وإله المسلمين معًا، إلا إذا أخطأت الديانتان جديًّا في فهم طبيعة الإلهين، مع ذلك يشعر المسيحيون والمسلمون على حد سواء بأنهم يعلمون حقًّا بوجود إله معين، بناء على رأي مِل، عليهم ألا يدَّعوا عصمة مطلقة من الخطأ؛ لأن البشر عرضة للخطأ بشأن كل أنواع المعتقدات.
وعلى هذا، يستنتج مِل أنه من الخطأ ادعاء العصمة من الخطأ بالطريقة التي ينتهجها من يُسكت آراء غيره، مع ذلك ربما تظن أن لدينا قدرًا كافيًا من اليقين بشأن بعض الأمور، مما يجعلنا لا نقلق بشأن هذه المعارضة، يرد مِل بأن افتراض امتلاكنا للحقيقة وقمع أو تجنب الأصوات المعارضة، يختلف كثيرًا عن تبني رأي تعرض للتفنيد الصريح وخرج سالمًا بل أقوى مما كان عليه من قبل، فعملية تعريض رأي ما لدراسة نقدية هي جزء ضروري من إثبات صحته بيقين كافٍ لخدمة أهدافنا.
يرى مِل أن حرية معارضة رأي تقليدي هي أيضًا شرط للتطور الفكري والتقدم، ففي مناخ من التخويف ووجود خطر صريح أو ضمني للتعبير عن الآراء الهرطقية، يستطيع مَن لديهم الشجاعة فقط التعبير عن آرائهم علنًا، أما الأكثر خوفًا فسيمنعون أنفسهم من بعض الأفكار وأشكال التعبير، وفي المقابل يُعاق نموهم العقلي، فادعاء أن للسلطات مبررها في إسكات من يعبرون عن آراء غير أخلاقية، يشتمل أيضًا على افتراض خطير بالعصمة من الخطأ ربما يعيق تقدم الإنسان، يستشهد مِل بحالة سقراط وإعدامه في أثينا القديمة بزعم انعدام التقوى، والمسيح في بلدة «يهودية» لما اعتبرته السلطات تعاليم غير أخلاقية، لم يثبت مع مرور الزمن في أيٍّ من الحالتين صحة عصمة القضاة المزعومة من الخطأ، فقد حكم التاريخ بأن سقراط والمسيح كانا جديرين بالاستماع إليهما، وبأن أفكارهما جديرة بالمناقشة.
يرى مِل أن اعتراف المرء باحتمال وقوعه في الخطأ هو ما يجعله مفكرًا جادًّا، فالمعرفة الإنسانية تتطور عندما يدرك الناس أنهم ربما يخطئون، حتى في الموضوعات التي تبدو أكيدة لهم، تقتضي الحكمة الانفتاح على من يخالفوننا الرأي، فعندما تتعرض أفكارنا للنقد وتؤخذ كل الاعتراضات بعين الاعتبار — مع البحث عن هذه الاعتراضات إن اقتضى الأمر — يصبح لدينا الحق في التفكير في آرائنا على أنها أفضل من آراء الآخرين.
(٢-٢) حجة العقائد الميتة
يقدم مِل أسبابًا قوية لضرورة معارضة الحقائق المزعومة، فحتى إن كنت أُومِن بأن رأيي صائب، وأثق تمامًا في صحته، إذا لم يُناقش «تمامًا ودائمًا ودون خوف»، فسينتهي بي الحال إلى اعتناقه كعقيدة ميتة؛ أيْ رد تقليدي يفتقر إلى التفكير، صمم مِل على ضرورة عدم اعتناق معتقداتنا كنوع من الخرافات، بدلًا من ذلك ينبغي أن تكون حقائق حية يستطيع أصحابها الدفاع عنها عند تفنيدها، ويمكن أن تؤدي لأفعال عند الحاجة، فإذا كنت تعلم رأيك فحسب في القضية، ربما يكون اعتقادك منقوصًا، لا بد أن تكون لديك القدرة على دحض الحجج المضادة لرأيك، وإلا لن يوجد مبرر لاعتقادك حتى إن كان صائبًا.
هذا جزء من رؤية مِل عن معنى أن تصبح إنسانًا، وعن أهمية التفكر مليًّا في معتقداتنا حتى تنتمي إلينا، ولا تكون مجرد إرث من الآخرين، لا ينبغي أن تكون معتقداتنا ترديدًا لمعتقدات تقليدية، فالمعتقد الذي يُعتنق بناءً على الرغبة — بدلًا من اعتناقه بعد إمعان التفكير في الحجج المؤيدة والمضادة له — يكون ذا قيمة ضئيلة. يجب علينا — متى أتيحت لنا الفرصة — التحدث مع من يخالفوننا الرأي، ومناقشتهم ومجادلتهم، والاستماع لوجهات نظرهم في الموضوع، وفهم السبب وراء اعتناقهم لآرائهم، ينصح مِل حتى بتقمص دور محامي الشيطان ضد آرائك الشخصية، عندما لا يوجد معارض حقيقي، علاوةً على ذلك، يرى مِل أنه عندما لا تُفنَّد بانتظام أسباب الإيمان برأي ما، تتعرض لخطر الزوال ويزول معها معنى الرأي، وتكون النتيجة تحول الحال من وجود عقيدة حية إلى مجرد قشرة من المعنى، فيضيع الجزء الأساسي من الفكرة، وتلك خسارة للبشرية.
جون ستيوارت مِل عن أهمية حرية الكلام
إذا كان الرأي ملكية شخصية لا قيمة لها إلا عند صاحبها، ولو كان اعتراض سبيل اعتناقه مجرد ضرر شخصي، فهناك فرق بين إلحاق هذا الضرر بعدد قليل من الأشخاص وبين إلحاقه بالكثيرين، غير أن الضرر الاستثنائي لإسكات التعبير عن أحد الآراء هو أنه يحرم البشرية كلها من الفائدة، بل يكون حرمان معارضي هذا الرأي أكثر من حرمان معتنقيه.
ينبغي علينا إذن — كما يرى مِل — النضال للحفاظ على موقف تتعرض فيه الأفكار للمناقشة بقوة من الجوانب كافة، وإلا سنخاطر بوجود حالة من الركود العقلي تنتهي بتدمير معنى هذه الأفكار، يجب أن نتجنب عالم إعادة تأكيد الحقائق البليد، ونستبدل النقاش الأخاذ بالقناعة، فدون وجود معارضين لآرائنا سيقل نشاطنا كمفكرين، ولن يضرنا هذا وحدنا، بل سيضر المجتمع ككل. يتحقق التقدم من خلال معركة أفكار مهذبة، لا من خلال استحواذ جانب واحد فقط على الحديث، يرغب مِل في تطبيق نوعية النقاش الحيوي الذي يوجد في الندوات الجيدة، بدلًا من الحوار الفردي، فدون التأثير المنشط للتحديات الحقيقية على أكثر معتقداتنا رسوخًا، نتعرض لخطر التحول لأنصار كسالى لآراء مكررة، ويعبر عن هذا بقوله: «ينام كل من المعلمين والدارسين في أماكنهم حالما يختفي الأعداء من الميدان.» وهو محق بالتأكيد بشأن ذلك.
(٢-٣) حجة الصواب الجزئي
استخدم مِل حجة أخرى وهي احتمال وجود عناصر من الحقيقة ضمن رأي خاطئ في المجمل، إن لم نستمع لهذا الرأي، فربما نفقد عناصر الحقيقة الموجودة به، على سبيل المثال، أشار مِل إلى أنه في القرن الثامن عشر، كان لرأي جان جاك روسو بأن الحضارة ليست أفضل بالضرورة من الحياة البسيطة — تأثيرٌ مهم، مع أنه جاء استنادًا إلى روح التفاؤل التي سادت عصر التنوير بشأن الحضارة والعلم والتقدم، يشير مِل هنا إلى أفكار روسو التي عبر عنها في «مقالة عن عدم المساواة» عن كيفية تعرض البشر للفساد بطرق مختلفة داخل المجتمع التجاري المتقدم، وهي فكرة ألهمت كارل ماركس فيما بعد، يرى مِل أن روسو لم يكن بالضرورة محقًّا بوجه عام، وإنما ربما كان هناك قدر من الحقيقة في رأيه أهمله الكتَّاب ضيقو الأفق الذين عمدوا لرؤية النتائج الجيدة للتقدم فحسب، تأتي فائدة آراء روسو للمجتمع من كونها صحيحة جزئيًّا، وعندما جرى التعبير عنها علنيًّا — حتى مع ما تحمله من استنتاجات خاطئة أو مبالغ فيها بوجه عام — حثت الكتاب اللاحقين على تجنب التفاؤل الساذج، واستمرت في إحداث هذا التأثير حتى بعد وفاة روسو بوقت طويل.
بالطبع لا تعني الحجج التي صاغها مِل أن كل عمل تعبيري في كل الظروف الممكنة يجب تقبله (أو حتى تشجيعه)، إلا أنه أوضح أن مجرد شعور المستمعين أو القراء بالاستياء مما يُقال أو يُكتب — وبالأسلوب الذي يُقال به على وجه التحديد — ليس سببًا كافيًا لفرض الرقابة، فكما أشار مِل، أي شخص يشن هجومًا قويًّا على فكرة راسخة يُنظر إليه في الأغلب من الذين يعتنقون هذه الفكرة على أنه مسيء، خاصةً في حال عدم وجود رد سهل لدحض هذا الهجوم، بيد أن مِل يعترف أنه من المفضل بوجه عام وجود نوع من الهدوء عند عرض الأفكار.
يحدد مِل مكان وضع القيود على حرية الكلام عندما يصبح الكلام حافزًا لإيذاء شخص آخر؛ ليس إيذاءً نفسيًّا أو اقتصاديًّا، بل إيذاءً جسديًّا، في معظم الحالات ينبغي لنا أن نمنح الكلام وغيره من صور التعبير الأخرى عن الأفكار قدرًا من التقبل أكبر من الأفعال، لكن ينبغي وضع قيود على هذا أيضًا، عندما يمثل التعبير عن فكرة ما تحريضًا على «عمل ضار»، فإن «مبدأ الضرر» يمنع هذا التعبير، ومثاله الشهير في هذا السياق هو التناقض بين مقال صحفي يدّعي فيه كاتبه أن تجار الذرة يُجوعون الفقراء، والتعبير عن الرأي نفسه (أو عرضه على لافتة) أمام حشد غاضب يقف خارج منزل أحد تجار الذرة، تعبر الحالة الأولى عن رأي جدلي ينبغي أن يُسمح بعرضه للمناقشة العامة، حتى إن كان خاطئًا أو غير أخلاقي، أما في الظروف الموجودة في الحالة الثانية فيكون هذا التعبير تحريضًا يمنعه مبدأ الضرر العام الذي يدافع عنه مِل ويتبناه طوال كتابه «عن الحرية»، فسياق التعبير يحدد هل يصح اعتباره تحريضًا على العنف أم لا، ثمة مبرر لشعور تاجر الذرة بالخوف على حياته وهو يستمع لمتحدث يثير الحشد الغاضب الواقف خارج منزله، لكن عندما يقرأ الشخص نفسه المقال في الجريدة أثناء تناول الإفطار ربما يعترض عليه كثيرًا دون أن يشعر بالخطر — بأي حال من الأحوال — من التعبير المبالغ فيه عن هذا الرأي.
نادرًا ما تكون أمثلة الواقع بهذه البساطة، فالمرحلة التي يتحول فيها رأي يُعبر عنه بقوة إلى تحريض على الأذى نادرًا ما تكون واضحة، ويرى كثير من الكُتاب في عصرنا الحالي أن الأذى النفسي ربما يكون له التأثير الضار نفسه للأذى الجسدي، لذا يقل ميلهم إلى التركيز على الأذى الجسدي وحده عما كان عليه مِل، سنعود لتناول هذا الموضوع في الفصل الثالث عند الحديث عن «خطاب الكراهية»، وهذا يزيد من تعقيد عملية وضع الحد الفاصل بين الكلام المقبول وغير المقبول.
(٣) ما مدى ملاءمة حجج مِل لعصرنا الحالي؟
يأتي الاعتراض الأساسي على حجج مِل من أنها تركِّز تركيزًا في غير محله على صحة الآراء أو خطئها؛ فنموذج مِل للساحة التي تجرى فيها المناقشات — كما رأينا — يشبه ندوة أكاديمية نموذجية يُعبر فيها بهدوء عن آراء كل جانب، وتنبثق الحقيقة منتصرة ومنتعشة من اصطدامها بالخطأ، والهدف من هذه الندوة الموسعة هو الاقتراب من الحقيقة في أي قضية، وعند الضرورة ربما يضطر المشاركون لتقمص دور محامي الشيطان لاختبار الأفكار إلى أقصى حد، إلا أن الحياة ليست ندوة، والحقيقة ليست وحدها على المحك، فهناك عواقب وخيمة للكلمات وأشكال التعبير الأخرى، ولن تجد كل الناس يستخدمونها كما يفعل الأكاديميون (أو كما يزعمون أنهم يفعلون) عند مناقشة نقطة جدلية؛ لذا فإن رؤية مِل لا تصور ما يحدث عادةً في النزاعات التي تدور حول حرية الكلام في عصرنا الحالي.
(٤) إنكار الهولوكوست
مع ذلك ألقى نقاش مِل الضوء على مسألة إنكار الهولوكوست، لا سيما على قضية التشهير المحورية التي رفعها المؤرخ ديفيد إرفينج — الفاقد حاليًّا لمصداقيته — ضد المؤرخة ديبورا ليبستاد. أشارت ديبورا ليبستاد — في كتاب نُشر عام ١٩٩٤ بعنوان «إنكار الهولوكوست» — إلى إرفينج على أنه «أحد أخطر المتحدثين عن إنكار الهولوكوست».
بعد نشر الكتاب قاضى إرفينج ليبستاد وناشرها البريطاني — شركة بنجوين بالمملكة المتحدة — بتهمة التشهير، في قانون التشهير في المملكة المتحدة تقع مسئولية تقديم الإثبات على المدعى عليه وليس المدعي.
ما قالته ديبورا ليبستاد عن ديفيد إرفينج
الفقرة التي اعترض إرفينج عليها:
إرفينج واحد من أخطر المتحدثين عن إنكار الهولوكوست، فإلمامه بالأدلة التاريخية يجعله يلوي عنقها حتى تتفق مع ميوله الأيديولوجية وأجندته السياسية، إنه رجل مقتنع بأن قرار بريطانيا بخوض الحرب ضد ألمانيا هو ما عجل بتدهورها الكبير؛ فهو بارع للغاية في أخذ المعلومات الدقيقة وصياغتها على نحو يؤكد استنتاجاته، وقد أمعن نقد — نُشر في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» — لكتابه الأخير «حرب تشرشل»، في تحليل تطبيقه لمعايير مزدوجة مع الأدلة، فهو يطالب بتقديم «دليل وثائقي أكيد» عندما يتعلق الأمر بإثبات جُرم الألمان، ولكنه يعتمد على دليل ظرفي إلى حد بعيد لإدانة الحلفاء، إنه وصف دقيق ليس لأساليب إرفينج وحدها، بل لأساليب كل المنكِرين بوجه عام.
تعامُل إرفينج مع الأدلة التاريخية منحرف وسيئ للغاية، حتى إنه يصعب القول إنه مجرد إهمال من جانبه.
لقد حرَّف الأدلة متعمدًا لجعلها تتوافق مع معتقداته السياسية.
أثارت هذه القضية تساؤلات بشأن الحقيقة، فما كان على المحك هنا أمر يتعلق بحقائق تاريخية، هل صحيح أن ملايين الأشخاص تعرضوا للقتل في غرف غاز خلال الحرب العالمية الثانية؟ وهل صحيح أن ديفيد إرفينج حرَّف عن عمد الأدلة بشأن الهولوكوست؟
واجهت ليبستاد إنكار إرفينج للهولوكوست بكلام مضاد وأدلة مضادة، في المقابل، بدلًا من أن يختار إرفينج مناقشة التفاصيل مع ليبستاد بأسلوب أكاديمي، استخدم قوة القانون ليحاول إسكاتها، ولحسن الحظ كانت ليبستاد وناشرها «بنجوين» في موقف يخولهما جمع الأدلة المناسبة لتفنيد دعوى التشهير، ربما يُجبر العديد من الكُتاب وناشريهم في مثل هذا الموقف — بطريقة أو بأخرى — على تسوية الأمر ماليًّا بعيدًا عن القضاء، وهناك أيضًا احتمال تردد بعض الناشرين قبل المحاكمة في نشر كُتب تنتقد إرفينج خوفًا من أن يهددهم أيضًا بالمقاضاة، وفي ساحة القضاء، جاءت الحجج المضادة والأدلة المضادة لتقوِّض مزاعم إرفينج.
لا أرى سببًا للإعجاب بمعسكر «أوشفيتز». إنه هراء. إنه أسطورة. إذا أقررنا أنه كان معسكرًا وحشيًّا للسخرة ماتت فيه أعداد هائلة — تمامًا كموت أعداد كبيرة من الأبرياء في أماكن أخرى خلال الحرب — فلِمَ نصدق باقي هذا الهراء؟ أقول بفتور إن عدد النساء اللاتي لقين حتفهن على المقعد الخلفي لسيارة إدوارد كينيدي في حادث «تشاباكويديك»، يفوق عدد النساء اللاتي لقين حتفهن في غرف الغاز داخل معسكر «أوشفيتز»، أتظنه كلامًا يفتقر إلى الإحساس؟ ما رأيك إذن فيما يلي: هناك العديد من الناجين من معسكر «أوشفيتز»، وعددهم يزداد مع مرور السنين، وهو أمر أقل ما يقال عنه إنه غريب للغاية من الناحية البيولوجية؛ لأنني سأؤسس اتحادًا للناجين من معسكر أوشفيتز؛ الناجين من الهولوكوست وغيرهم من الكذَّابين …
أحد أسباب إجازة الكلام الخاطئ والمسيء في معظم الدول الديمقراطية الليبرالية أن أفضل رد على الكلام السيئ هو الكلام الطيب، وليس فرض الرقابة.
تلك إحدى النقاط التي ذكرها جون ستيوارت مِل بشأن تفوق قيمة حرية الكلام على تقييد الكلام، في هذه الحالة، قدم إرفينج — بمقاضاته ليبستاد — منتدى عامًّا يمكن الرد فيه على جزء من كلامه المسيء والمضلَّل نقطة نقطة بأدلة مفصلة لتدعيم هذا الرد، ويكون فيه القاضي هو الحكم.
احتوت محاكمة إرفينج على خطاب ختامي يلقي مزيدًا من الضوء على قضايا حرية الكلام، فالنمسا بها قوانين ضد التهوين من شأن الجرائم التي ارتكبها الرايخ الثالث، وفي عام ٢٠٠٦ قُبض على ديفيد إرفينج في أثناء زيارته لفيينا وسُجن بموجب هذه القوانين، من منظور حجج مِل في كتابه «عن الحرية»، تدمر مثل هذه القوانين السعي وراء الحقيقة، يرى مِل أن الآراء حتى الزائفة منها تلعب دورًا في السوق الحر للأفكار، فإذا أسكتنا من يتحدثون بالأكاذيب، فإننا نخاطر بأن نصبح مستبدين برأينا، أو بالاعتقاد في الأشياء دون فهم، أو بالشعور بالحماس تجاه الأدلة المؤيدة لمعتقداتنا، نتعرض أيضًا لخطر إعطاء مثل هذه المعتقدات الخاطئة مصداقية أكبر؛ بسبب حقيقة تعرضها للقمع بدلًا من دحضها علنيًّا، فقوانين النمسا جعلت إرفينج يبدو وكأنه شهيد حرية الكلام، أما المحاكمة التي أجريت في لندن — حيث تعرضت آراؤه للتفنيد والدحض المقنِع — فتمخضت عن نتائج أفضل، تتناقض القوانين التي تمنع تفسير التاريخ من منظور معين تناقضًا واضحًا مع حرية الكلام، لكنها قد تمجد دون قصد من يتعرضون للإسكات بسببها، وهو ما لا نرغب فيه.
(٥) الاحترام بدلًا من الحقيقة
لعل مِل كان سيدافع عن عرض هذه المسرحية على أساس أنها تعبر عن آراء قد تفيد البشرية، وأنه من الخطأ الحكم عليها مسبقًا، بالإضافة إلى ذلك تعيق الرقابة غير المباشرة على المسرحية قدرة الكاتبة على اتباع المسار الذي اختارته لنفسها في الحياة، بالرغم من أنها لا تؤذي الآخرين مباشرةً، غير أن موقف مِل العام تجاه حرية الكلام لا يبالي بالنقطة محل النقاش هنا، وهي القدسية المزعومة لرموز معينة، التي تتكرر كفكرة رئيسية في المحاولات ذات الدوافع الدينية لمنع التعبير الذي لا يحترم هذه الرموز.
بوجه عام، عندما نبعد عن افتراض مِل الضمني بأن كل أشكال التعبير تؤكد حقائق تحتمل الصواب أو الخطأ، تصبح عيوب منهجه أكثر وضوحًا، فالمناقشات الدائرة حول الرقابة على الصور الإباحية، على سبيل المثال — وهي موضوع أحد الفصول اللاحقة — لا تكون عادةً مناقشات حول صحة أو خطأ ما يُصوَّر، فمقاطع الفيديو الإباحية الصريحة تعمد إلى التصوير الدقيق للأفعال التي تحدث أمام الكاميرا، فاللقطات التي يقذف فيها رجل المني بوضوح هي علامة على إثارة حقيقية، فهي تبدد الشك في أن الممثلين ينفذون سلسلة من الحركات المصممة دون التأثر بالأفعال التي يؤدونها، وهي تستغل القدرة الوثائقية للتصوير الفوتوغرافي على الإشارة ضمنيًّا إلى حقيقة، من أجل التعبير عن وقائع، ومن الصعب نقل حجج مِل إلى هذا السياق، إلا إذا اعتبرنا أن المواد الإباحية تؤكد على رأي عام بشأن إتاحة النساء (أو الرجال) لممارسة الجنس على سبيل المثال، أو أنها — كما أشار بعض أنصار المساواة بين الجنسين — تقدم رسالة خاطئة برغبة كل النساء في الاستعباد الجنسي، وتشجع مباشرةً على ارتكاب جرائم مثل الاغتصاب، في مثل هذه الحالة يجري توصيل الاعتقاد العام عبر مثال محدد، فيعبر الجزء عن الكل.
(٦) حجج «الحرمان من المنصة»
يبدو أنه بناء على آراء مِل عن حرية الكلام وأهمية الأكاذيب التي يعبَّر عنها عن قناعة، ينبغي علينا العمل بنشاط على توفير منبر لمن نختلف معهم أشد الخلاف، فهذه وسيلة عامة لتعريض آرائنا لأصعب اختبار؛ اصطدامها بخطأٍ معتنَق عن إيمان، أشار بعض الأشخاص — سواء تأثرًا بآراء مِل أم لا — لأمر مشابه، فعلى سبيل المثال، في مناظرة أجريت في عام ٢٠٠٧ حول موضوع حرية الكلام في جمعية اتحاد أكسفورد، برر لوك تريل — رئيس الاتحاد — دعوته لنيك جريفين (عضو الحزب الوطني البريطاني) وديفيد إرفينج، بزعمه أنه من المهم في المناظرات السليمة الاستماع لكل الآراء، حتى إن كانت بغيضة.
يؤمن كثير من الناس بوجود حجج قوية لعدم إعطاء مثل هؤلاء المتحدثين فرصة اعتلاء المنصة، ربما تكون منصة حقيقية مثل الدعوة إلى جمعية اتحاد أكسفورد، أو منصة مجازية مثل إعطائهم مساحة في جريدة مرموقة أو إجراء مقابلة معهم للتعبير عن آرائهم في برنامج إذاعي أو تليفزيوني، يشير معتنقو موقف «الحرمان من المنصة» (على سبيل المثال، من خلال التصريح بأنه «لا منصة للعنصريين» أو «لا منصة لمنكري الهولوكوست») إلى أنه من الخطأ أخلاقيًّا لأي شخص إعطاء مثل هؤلاء مصداقية من خلال السماح لهم بالوصول إلى هذه القنوات من التواصل؛ تلك القنوات التي يكون لها دائمًا طابع ضمني يفيد الاحترام، على سبيل المثال، يمكن رؤية دعوة إرفينج للحديث في جمعية الاتحاد على أنها إقرار بأوراق اعتماده كمؤرخ أكاديمي، ومن ثم ربما يؤخذ على محمل الجد أكثر مما يستحق.
من ناحية أخرى، أكد من دعوا إرفينج على أن اتحاد أكسفورد له تاريخ طويل في دعوة المتحدثين المثيرين للجدل، من بينهم — في الماضي — مالكوم إكس، وأن الدعوة إلى هذه المنصة على وجه التحديد لا تعني أي إقرار بآراء المتحدث على الإطلاق، فاختيار المتحدثين عادة ما يكون على أساس السمعة السيئة أكثر من إمكانية إسهامهم الفكري في حوار مهم.
بالمثل ربما تقرر اللجنة المنظمة لمؤتمر في علم الحيوان عدم ملاءمة السماح لأحد المؤمنين بنظرية «خلق الأرض الفتيَّة» — وهو شخص يعتبر الإنجيل مرجعًا أساسيًّا لأصل الحياة — بالحديث على المنصة نفسها بجوار علماء سمعتهم طيبة؛ لأن هذا سيشير ضمنيًّا إلى أن آراء المؤمن بنظرية «خلق الأرض الفتية» مقبولة علميًّا، وهذا غير حقيقي، يستشهد ريتشارد دوكينز بتعليق ساخر من أحد زملائه العلماء عن هذا الموضوع، فمتى دعاه أحد المؤمنين بنظرية «خلق الأرض الفتية» إلى مناظرة رسمية حول الأدلة على التطور، يرد عليه قائلًا: «هذا سيبدو رائعًا في سيرتك الذاتية، لكنه لن يكون كذلك لي.»
تبنت ديبورا ليبستاد أحد أشكال فكرة «الحرمان من المنصة»، فهي التي رفضت الظهور مع إرفينج في مناظرة — بالرغم من كونها من القلائل المؤهلين لتفنيد آرائه عن الهولوكوست نقطة نقطة بالتفصيل الدقيق — على أساس أن مجرد الظهور معه علنيًّا يعطيه مصداقية لا يستحقها، في هذه الحالة ربما يبدو ظهور ليبستاد — بوصفها شخصية أكاديمية موثوقًا في نزاهتها — جنبًا إلى جنب مع إرفينج بأنه إقرار غير مباشر باحترامه بوصفه مؤرخًا. الفكرة أنه فقد مصداقيته بالكامل عندما اتضح تضليله المنهجي بشأن بعض مصادره الأساسية، وربما يُفهم أي ظهور معه على أنه جزء من إعادة الثقة فيه بوصفه باحثًا.
من المهم التمييز بين حجج «الحرمان من المنصة» وظواهر أخرى ذات صلة؛ أولًا: لا تمثل حجج «الحرمان من المنصة» نوعًا من الرقابة الكاملة، فربما أُومِن بحقك القانوني في التعبير علنيًّا عن آرائك، دون أن يكون لزامًا عليَّ توفير الوسائل لقيامك بهذا. يستطيع معظمنا — لا سيما في عصر الإنترنت — إيجاد وسائل للتعبير عن آرائنا أمام جمهور عريض، فالرقابة الكاملة هي محاولة منع كل أشكال التعبير عن آراء محددة، أما حجج «الحرمان من المنصة» فتتمحور حول تجنب التأييد غير المباشر للمتحدث من خلال إعطائه منبرًا لتوصيل آرائه.
يجب التمييز أيضًا بين حجج «الحرمان من المنصة» والرأي القائل إن من يتقبل آراء غيره هو وحده من يستحق أن يتقبل الآخرون آراءه؛ أي أنه ليس لزامًا علينا الحفاظ على حرية تعبير من يقيدون آراء غيرهم. بالرغم من الإغراء الذي ينطوي عليه هذا النوع من التفكير، فإنه لا يستحق لقب «حرية الكلام»، فربما يؤدي إلى نوع من الرقابة، بالطبع لا تستثني حجج مِل عن حرية الكلام غير المتقبلين لآراء غيرهم، على أساس أنهم لا يستحقون الاستماع إليهم، فيُحتمل أن يقول مثل هؤلاء الحقيقة في كثير من القضايا، أو ربما تحتوي آراؤهم على عناصر من الحقيقة. تدور حجج «الحرمان من المنصة» حول فكرة التأثير غير المباشر الناتج عن إعطاء أشخاص معينين منصة الحديث، وليس الرفض المطلق لإعطاء المنصة للمتحدث في أي مكان عقابًا له على عدم تقبله لآراء غيره.
قد يبدو أن تصريحات مِل بشأن حرية الكلام تبرر دعوة المتطرفين للمشاركة في المناظرات العامة، حتى إن كنا نرى آراءهم مثيرة للاشمئزاز، غير أن مِل — بوصفه أحد المؤمنين بمبدأ العواقب — ربما يكون حساسًا أيضًا للآثار الجانبية لمثل هذه الدعوات، التي ربما تكون بعيدة الأثر للغاية في بعض الحالات، كذلك نجده يرسم خطًّا واضحًا للغاية عندما يصل تعبير المتحدثين إلى درجة التحريض على العنف.
مع ذلك عندما يتكرر منع شخص من استخدام الصحافة والتليفزيون لعرض رسالة على جمهور عريض، ربما يبدأ الأمر في اتخاذ شكل رقابة غير رسمية، وإذا نتج عن ذلك عدم التعبير عن أفكار هذا الشخص علانية وعدم خضوعها للتدقيق النقدي، فستكون هذه نتيجة مؤسفة.