حرب الأثير
من الألفاظ ما تألفه الأذن ويتحرك به اللسان والقلم دون أن نُعْنَى بمعرفة مدلوله. مثل هذه الألفاظ يرد في عباراتنا العادية فنفهم الغرض منه إجمالًا وندرك — أو نتصور أننا ندرك — ما يراد به بدرجة تمكِّننا من متابعة ما يقال أو يُكْتَب، بل إننا لنستخدم هذه العبارات أنفسنا بغير أن نتكلف كبير عناء في البحث والاستقصاء وراء منشئها أو حقيقة أمرها. من هذه الألفاظ لفظ الأثير، كلنا قد سمع بأمواج الأثير تلك الأمواج التي هي أداة الوصل بين كل مذيع وكل مستمع في كل إذاعة لاسلكية. ونحن نتكلم عن أطوال هذه الأمواج، فنقول إن المحطة الرئيسية للقاهرة تذيع على موجة طولها ٤٨٣٫٩ مترًا، ونفرِّق بين الأمواج القصيرة والأمواج المتوسطة الطول والأمواج الطويلة. والأثير ينقل هذه الأمواج المختلفة في الاتجاهات المختلفة، فإذا ما ضبطنا جهاز الاستماع لاستقبال موجة خاصة سمعنا ما يذاع على هذه الموجة من أحاديث أو أخبار أو موسيقى أو ما إليها. كل هذه عبارات مألوفة يرد فيها ذكر الأثير وأمواج الأثير. ولكن ما هو الأثير ولماذا نتكلم عن حدوث أمواج فيه؟
إن كلمة الأثير من أصل إغريقي كانت تُطْلَق على ما يعلو الهواء الأرضي من جوٍّ صافٍ شفاف. وكان القدماء يتصورونه على أنه نوع من الهواء اللطيف لا يكاد يكون له قوام مادي لتناهيه في اللطافة، وبقي هذا مفهوم الكلمة حتى أواخر القرن السابع عشر عندما ظهر الرأي القائل بأن النور عبارة عن تموجات. وقد كان الرأي السائد قبل ذلك الوقت في ماهية النور أنه عبارة عن جسيمات صغيرة خفيفة تنبعث من الجسم المضيء على سموت خطوط مستقيمة فإذا انعكست عن المرئيات إلى العين حدث الإبصار. أما القول بأن النور تموجات فلم يكن له ما يبرره فيما كان معروفًا من خصائص النور حتى ذلك العصر. فلمَّا تقدَّم العلم بخصائص الضوء ووُجِدَ أن له صفات الحركات التموجية رجع القول بأنه عبارة عن تموجات. وقد كان السير إيزاك نيوتن الشهير بآرائه في الجاذبية من أكبر المعارضين للقول بالتموجات والمدافعين عن القول بالجسيمات الضوئية، وكان لنفوذه العلمي أثره المحسوس في تأخير التسليم برأي أصحاب التموجات قرنًا كاملًا. وفي القرن التاسع عشر شاع القول بالتموجات أو شاعت النظرية التموجية للضوء كما تُسَمَّى في عرفنا الحديث، وصارت الأساس المعتمد عليه في دراسة علم الضوء.
وفي القرن التاسع عشر كذلك تقدَّمت دراسة فرع آخر من فروع علم الطبيعة وهو فرع الكهرباء. وقد أدَّى هذا التقدم إلى معرفة نوع مُسْتَحْدَث من التموجات، وهو التموجات الكهربائية، تنتقل من مكان إلى آخر كما تنتقل التموجات الضوئية من مكان إلى آخر. هذه التموجات الكهربائية هي التي أتقنا استخدامها في القرن الحالي وصارت أداة الإذاعة اللاسلكية. ومن المهم أن يكون واضحًا في الأذهان أن هذه الأمواج الضوئية وتلك الأمواج الكهربائية ليست أمواجًا في الهواء. فالهواء ليس هو بالشيء المتموج في أي الحالين، بل سواء أَوُجِدَ الهواء أم لم يُوجَد فإن الأمواج الضوئية والأمواج الكهربائية تتنقل من مكان إلى آخر، بل أكثر من هذا أن وجود الهواء أو أي نوع آخر من المادة يعوق تقدُّم هذه الأمواج ويُنقص من سرعتها. وإذن فكيف تنتقل هذه الأمواج وما هو الشيء المتموج؟ إن «تَمَوَّج» فعل يحتاج إلى فاعل أو هو مسند يحتاج إلى ما يُسْنَد إليه. هذا الفاعل للفعل «تموج» أو هذا الشيء الذي يُسْنَد إليه التموج هو ما اصطلح العلماء في العرف الحديث على تسميته بالأثير. فالأثير إذن ليس بالشيء المادي كما أنه ليس ضوءًا ولا هو كهرباء بل هو شيء غير هذه جميعًا وأبسط من هذه جميعًا، نتصور وجوده في كل مكان ونفترض حلوله بين ثنايا المادة وفي أعماق الفضاء، ونحن نتصوَّر هذا التصوُّر ونفترض هذا الافتراض لعجزنا عن تصور أمواج تحل في لا شيء وتنتقل في لا شيء. ولست أريد أن أخوض بالقارئ في نظريات الأثير وفلسفة الأثير بل يكفيني هذا القدر من شرح مفهوم اللفظ دون تعرُّض لمدلوله.
عندما بدأ الناس يستخدمون أمواج الأثير في نقل رسالاتهم في أوائل القرن الحالي كانت هذه الرسالات عبارة عن إشارات اصطلاحية تدل كل إشارة منها على حرف من الحروف الأبجدية، وكان هذا التراسل اللاسلكي محدود القدر والمدى. ولم يكد يمضي عقدان على بداية القرن حتى صار في المقدور إذاعة الكلام والموسيقى، فكثرت هذه الإذاعات وتعددت وازدحم الأثير بأمواجها، فنشأت الحاجة إلى تنظيم الأمور حتى لا تختلط هذه الأمواج فيطغى بعضها على بعض. وقد عُقِدَت مؤتمرات دولية كان آخرها المؤتمر الذي عُقِدَ بالقاهرة سنة ١٩٣٨م بغرض التفاهم على أسس مقبولة تتقي بها كل إذاعة شر غيرها من الإذاعات. ولا شك في إن العقل والمنطق يقضيان بالتفاهم على مثل هذه الأسس لفائدة الأمم جميعًا، إلا أن العقل والمنطق لم يعودا يحكمان في مثل هذه الأمور، فبدلًا من أن تتفق الدول على قواعد تحميها جميعًا وتنفعها جميعًا في تنظيم إذاعاتها، رأى بعض الدول في الأثير مجالًا فسيحًا لنوع جديد من التطاحن، وأخذت الدول العظمى تعد العدة للحرب في هذا الميدان الجديد ميدان الأثير، وهكذا صارت الحرب في البر وعلى سطح البحر وفي جوف البحار وفي الهواء وفي الأثير.
ولكي نفهم هذا النوع المستحدث من الحروب يجدر بنا أن نتعرف على طريقة من طرق الإذاعة تُوَجَّه فيها أمواج الأثير وجهة معينة أو تُصَوَّب فيها صوبًا خاصًّا. فكما أن الضوء يمكن أن يُجَمَّعَ في شعاع قوي يُوَجَّه وجهة معينة كما يحدث في الأنوار الكشَّافة، كذلك الأمواج الكهربائية في الأثير يمكن بطرق خاصة أن تُسَلَّط على ناحية معينة دون غيرها، وأنسب الأمواج لهذا الغرض هي الأمواج القصيرة. وتُستخدم هذه الطريقة في الإذاعات عندما يُرَاد أن يُسْتَمع إليها في ناحية معينة من المعمورة. والقارئ ولا شك خبير بالإذاعات القصيرة الموجة التي تُوَجَّه إلينا من البلاد الأوروبية والتي يُذَاع بعضها باللغة العربية. وكل إذاعة من هذه الإذاعات لها بطبيعة الحال موجة ذات طول خاص. هذه الأشعة المُسَلَّطة هي الأسلحة الرئيسية التي تُسْتَخدَم في حرب الأثير، وأمضى هذه الأسلحة أنفذها وأقواها. فالمحطة التي يُرَاد أن يكون صوتها مسموعًا تُجَهَّز بأجهزة ذات قدرة كهربائية عالية فتخترق أشعتها الأثير وتصل إلى أجهزة الاستقبال قوية واضحة، فتنقل إلى المستمِع ما يُرَاد نقله إليه من أخبار أو دعاية أو ما إليها، وقد تصل قوة هذه الأشعة المسلطة إلى حد يمكن به التأثير في الإذاعات المحلية والتشويش عليها. ومن الطرائق التي تُتَّبَع في حرب الأثير طريقة التشويش المُتَعَمَّد، وهي طريقة تستخدمها محطة إذاعة لإفساد إذاعة معادية، وذلك بإحداث ضوضاء وإذاعتها على موجة طولها هو نفس طول موجة المحطة المعادية مُوَجَّهَة إلى نفس البقعة من الأرض. فإذا ضُبِطَ جهاز الاستقبال للاستماع إلى إذاعة المحطة سُمِعَت جلبة تشبه مزيجًا من العويل والصفير تغطي على صوت المحطة.
إن التشويش المتعمَّد سلاح ذو حدين، فالمحطة التي تعتدي، يُعتدى عليها بمثل ما اعتدت على غيرها.
هذا قليل من كثير ممَّا يمكن أن يقال عن حرب الأثير تعمَّدت فيه أن أتجنب الخوض في التفاصيل الفنية مخافة أن تشوش على القارئ الفكرة الرئيسية فلعلي أكون قد وُفِّقْت إلى ما أردت والسلام.