محمد بن موسى الخوارزمي وأثره في علم الجبر
إن عناية الأمم بتراثها العلمي ونشرها له وحرصها عليه لمن أول الواجبات. فهذا التراث
هو
بمثابة الغذاء الروحي لعلماء الأمة ومفكريها وسائر المتعلمين فيها. ولعلنا نحن المصريين
أغنى الأمم تراثًا، فقد تعاقبت علينا حضارات مختلفة منذ فجر التاريخ إلى اليوم، وفي كل
دور
من هذه الأدوار قمنا بقسط وافر من واجبنا العلمي نحو الأسرة البشرية. وأقرب هذه الحضارات
إلينا وأعمقها أثرًا فينا هي ولا شك الحضارة العربية.
ورد في كتاب الفهرست لابن النديم (الذي تم تأليفه سنة ٩٨٧ ميلادية) طبعة القاهرة
ص٣٨٤ ما
يأتي:
«الخوارزمي، واسمه محمد بن موسى، وأصله من خوارزم، وكان منقطعًا إلى خزانة الحكمة
للمأمون، وهو من أصحاب علوم الهيئة. وكان الناس قبل الرصد وبعده يعولون على زيجيه الأول
والثاني ويعرفان بالسندهند. وله من الكتب كتاب الزيج نسختان أولى وثانية، وكتاب الرخامة،
وكتاب العمل بالأسطرلابات، وكتاب عمل الأسطرلاب وكتاب التاريخ.»
ولا يُعْلَم على وجه التحقيق تاريخ ولادة الخوارزمي ولا تاريخ وفاته، إلا أن ما ورد
في
فهرست ابن النديم عن انقطاع الخوارزمي إلى مكتبة المأمون الذي حكم من سنة ٨١٣م إلى سنة
٨٣٣م
يحدد على وجه التقريب عصر اشتغال الخوارزمي بالعلم والتأليف. ويعزِّز كلام ابن النديم
ما ذكره
الخوارزمي نفسه في كتاب الجبر والمقابلة من إشارة إلى المأمون حيث قال:
«وقد شجَّعني ما فضل الله به الإمام المأمون أمير المؤمنين مع الخلافة التي حاز له إرثها،
وأكرمه بلباسها، وحلَّاه بزينتها، من الرغبة في الأدب وتقريب أهله وإدنائهم، وبسط كنفه
لهم،
ومعونته إياهم على إيضاح ما كان مستبهمًا، وتسهيل ما كان مستوعرًا — على أن ألَّفت من
حساب
الجبر والمقابلة كتابًا مختصرًا حاصرًا للطيف الحساب وجليله لما يلزم الناس من الحاجة
إليه
… إلخ.»
فهذه العبارة وما ذكره ابن النديم يدلَّان دلالة واضحة على معاصرة الخوارزمي للمأمون،
ولو
أنهما لا تمكِّنانا من تحديد تاريخ ولادته أو تاريخ وفاته.
ولم يذكر ابن النديم بين مؤلفات الخوارزمي أربعة كتب أخرى ألَّفها الخوارزمي ووصلت
إلى
أيدينا، إما مترجمة إلى اللاتينية أو بنصها العربي، وهي كتاب الحساب، وكتاب الجبر
والمقابلة، وكتاب في تقويم البلدان: شرح فيه الخوارزمي آراء بطليموس، وكتاب رابع جمع
بين
الحساب والهندسة والموسيقى والفلك. ومما لفت النظر أن الاسم الذي يلي اسم محمد بن موسى
في
كتاب الفهرست هو اسم سَنَد بن علي اليهودي. وأن كتاب الفهرست ينسب إلى هذا الأخير كتابًا
في
الزيادة والنقصان، وكتابًا في الجبر، وكتابًا في الحساب الهندي. ويُغَلِّب سوتر
١ أن نسبة هذه الكتب الأخيرة إلى سند بن علي حدثت على سبيل الخطأ، وأن الصحيح
نسبتها إلى الخوارزمي. إلا أن هذا الخطأ إن كان قد حدث فعلًا فلا بد أن يكون قد حدث مبكرًا،
أي في النسخ الأولى من كتاب الفهرست، وذلك لأن ابن القفطي (المتوفى عام ١٢٤٨م) يذكر في
كتابه «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» عن الخوارزمي نفس ما ذكره ابن النديم. ومما يعزز
رأي
سوتر أن ابن النديم كان ولا شك يعلم أن الخوارزمي له كتاب في الجبر والمقابلة، إذ نجد
في
الفهرست ذكرًا لهذا الكتاب في ثلاثة مواضع مختلفة، وذلك عند الكلام عن سنان بن الفتح،
وعبد
الله بن الحسن السعدناني، وأبو الوفا البزجاني، فقد ورد أن كل واحد من هؤلاء قد شرح كتاب
الخوارزمي في الجبر والمقابلة، وقد ذكر المسعودي (٨٨٥–٩٥٦م) في مروج الذهب محمد بن موسى
من
المؤرخين، كما أن البيروني (٩٨٣–١٠٤٨م) يشير إلى أزياج الخوارزمي ومؤلفاته الفلكية،
وللبيروني ما لا يقل عن ثلاثة مؤلفات
٢ كلها شروح لكتب الخوارزمي. والبيروني أصله من خوارزم أو «خيوة» التي ينتسب
إليها الخوارزمي.
وقد ذكر ابن خلدون (١٣٣٢–١٤٠٦م) في مقدمته أن أول من كتب في علم الجبر كان أبا عبد
الله
الخوارزمي، ثم جاء من بعده أبو كامل الخوجة ابن أسلم، كما ذكر زكريا بن محمد بن محمود
القزويني المعاصر لابن القفطي أن الخوارزمي كان أول من ترجم علم الجبر للمسلمين. وأبو
كامل
الذي يشير إليه ابن خلدون عاش حوالي سنة ٩٢٥م وله مؤلف مشهور
٣ في الجبر اقتبس فيه الكثير من جبر الخوارزمي وأشار إليه كمرجع لعلمه. ومن الذين
اقتبسوا من جبر الخوارزمي من علماء العصر الإسلامي عمر بن إبراهيم الخيام
٤ [١٠٤٥–١١٢٣م] المشهور برباعياته، وكذا محمد بن الحسين الكارخي
٥ المتوفى سنة ١٠٢٩م. وفي رسالة عن الخوارزمي ألَّفها الأستاذ نللينو الذي كان
أستاذًا بالجامعة المصرية.
٦ تكلم المؤلف عن كتاب الخوارزمي في تقويم البلدان وشرحه لآراء بطليموس، وقال إن
عمل الخوارزمي ليس مجرد تقليد للآراء الإغريقية، بل هو بحث جديد مستقل في علم الجغرافيا
يمتاز امتيازًا ظاهرًا عن كتابات المؤلفين الأوروبيين في ذلك العصر. ويظن سوتر بناءً
على
تحقيقات جغرافية
٧ أن محمد بن موسى الخوارزمي كان أحد الذين كلَّفهم المأمون بقياس درجة من درجات
محيط الكرة الأرضية. وقد ذكر بعض المتقدمين من مؤرخي العرب أن بني موسى قد اشتركوا في
هذه
المهمة، ولما كان محمد أكبرهم فأغلب الظن أنه هو محمد بن موسى الخوارزمي.
ولعل فيما تقدم — وهو قليل من كثير — دليلًا كافيًا على مقدرة الخوارزمي العلمية
وشهرته
بين المسلمين في عصره وفي العصور التالية. أما عن شهرته عند الإفرنج فيكفي للتدليل عليها
أن
اسمه قد صار كلمة دخلت معاجم أغلب اللغات الأوروبية. ففي اللغة الإنجليزية مثلًا تستخدم
كلمة
«الجورذم»
Algorithm التي هي ولا شك تحريف لاسم الخوارزمي للدلالة على الطريقة الوضعية في
حل المسائل، كما أن الشاعر الإنجليزي تشوصر
Chaucer الذي جاء قبل شيكسبير
استخدم كلمة
Augrim (أوجرم) للدلالة على الصفر، وذلك لأن طريقة الحساب الهندية بما في ذلك الصفر إنما
وصلت إلى الغرب عن طريق كتاب الخوارزمي في الحساب. واسم علم الجبر في جميع اللغات الإفرنجية
مشتق من الكلمة العربية «الجبر» التي استعملها الخوارزمي في تسمية كتابه، وكانت الأعداد
من
١ إلى ٩ إلى أوائل القرن الثامن عشر تسمى باللاتينية
Algorismus كما أن الكلمة الإسبانية
التي معناها الأعداد أو الأرقام هي جوارزمو
Quarismo. وقد تعلَّم الغربيون الحساب عن كتاب
الخوارزمي في الحساب وعن كتب أخرى بنيت عليه. ومن سوء الحظ أنه لا توجد نسخة عربية معروفة
لكتاب الحساب للخوارزمي، والنسخة الوحيدة التي وصلت إلى أيدينا هي ترجمة لاتينية محفوظة
بجامعة كامبردج، وقد تُرْجِمَت هذه النسخة إلى اللغة الإيطالية الحديثة ونشرها الأمير
بلدسارى بنكومباني عام ١٨٥٧م، ويحتوي كتاب الحساب على إشارات متعددة إلى كتاب الخوارزمي
في
الجبر. والكلمات الأوروبية التي أشرت إليها
Algorithm‚ guarismo etc إنما نشأت عن فاتحة
كتاب الحساب هذا باللغة اللاتينية، إذ يبدأ
Dixit algoritmi أي «يقول الخوارزمي» ومن
الكتب التي بُنِيَت على كتاب الحساب للخوارزمي كتاب
Carmen do Algorismo٨ الذي وضعه إسكندر دي فيلادي حوالي سنة ١٢٢٠ ميلادية، وهذا الكتاب منظوم على
صورة أبيات من الشعر ويذكرنا بألفية ابن مالك. ومن هذه الكتب أيضًا كتاب
Algoriemus valgaris٩ تأليف يوحنا الهاليفا كسى المشهور باسم ساكرو بوسكو حوالي سنة ١٢٥٠م، وقد بقي
هذان الكتابان يُسْتَعْمَلان في تلقين علم الحساب في المدارس والجامعات قرونًا متعاقبة،
وتوجد نسخ متعددة من أوَّلهما في مكتبات أوربا، ونسخ أكثر عددًا من الثاني، وحتى بعد
انتشار
الطباعة لقي كتاب ساكرو بوسكو من الكتب الشائعة في الجامعات حتى القرنين الخامس عشر
والسادس عشر. من أول كتب الخوارزمي التي تُرْجِمَت إلى اللاتينية كتاب الزيج، وهو عبارة
عن
جداول رياضة، بل إن هذا الكتاب من أول الكتب التي نُقلت عن العربية، ترجمه أديلارد المنتمي
لمدينة باث من أعمال بريطانيا العظمى عام ١١٢٦م. وقد قام عالم دانماركي اسمه بيُور نبُوب
بدراسة هذه الجداول والتعليق عليها، ونشر عمله بمدينة كوبنهاجن عام ١٩٠٩م، وتدل هذه الدراسة
على أن استعمال دالة الجيب في حساب المثلثات يرجع إلى عصر الخوارزمي أو ما قبله، ولا
يتسع
المقام لأكثر مما ذكرت عن أثر الخوارزمي في علم الحساب. وفي العلوم الأخرى.
ولكي نفهم أثر الخوارزمي في علم الجبر ونقدِّره حق قدره يجدر بنا أن نتعرَّف ما كان
عليه الحال
قبل الخوارزمي. فأقدم له كتاب مدرسي موجود اليوم هو بردي أحميس الذي يرجع إلى سنة ١٧٠٠
قبل
الميلاد. وقد قام بنشر هذا البردي وترجمته إلى اللغة الألمانية أيْز نلُور
١٠ وطبع بلبيزج عام ١٨٧٧م. كما قام بنشر صور لهذا البردي ومقدمة له ولس بدج
١١ وطبع عمله بلندن عام ١٨٩٨م. وفي بردي أحميس نجد معادلة الدرجة الأولى ذات
المجهول الواحد على الصورة أ س = ب كما نجد للكمية المجهول رمزًا خاصًّا كالحال اليوم
في علم
الجبر، وكما نجد أيضًا ما يدل استخدام المعادلات الآنية الخطية. كل ذلك قبل الميلاد بنحو
ألفي سنة، وبعد هذا التاريخ، ولكن قبل العصر الذهبي الإغريقي، نجد معادلات الدرجة الثانية
في
الآثار المصرية كما نجد مسائل تحتاج في حلها إلى معادلتين آنيتين إحداهما أو كلاهما من
الدرجة الثانية، وفي المثال الآتي المأخوذ من مؤلِّف لتكانتور طبع
١٢ بليبزج سنة ١٩٠٧م نجد مسألة تحتاج في حلها إلى معادلات الدرجة الثانية.
مثال آخر لتقسيم مساحة معلومة إلى مربعات — إذا طُلِبَ منك أن تقسِّم ١٠٠ ذراع مربع
بين
مربعين بحيث يكون ضلع أحد المربعين ثلاثة أرباع ضلع المربع الآخر، فأوجد كلًّا من المجهولين،
ويلي ذلك حل للمسألة بافتراض أن ضلع أحد المربعين هو الوحدة وأن ضلع الآخر هو ٣ / ٤،
وبذلك يكون
مجموع المساحتين ٢٥ / ١٦ الذي جذره ٥ / ٤ وجذر المائة ١٠ فتكون نسبة ١٠ إلى طول الضلع
المطلوب
كنسبة ٥ / ٤ إلى ١ ومنه يكون طول ضلع أحد المربعين ٨ والآخر ٦. والمقابل الجبري لهذه
المسألة
الهندسية هو بداهة:
ومما يلاحظ أن علامة الجذر التربيعي استخدمت فعلًا في حل هذه المسألة وأمثالها. وتؤدي
المسألة السابقة إلى العلاقة ٦
٢ + ٨
٢ = ١٠
٢ التي تتصل اتصالًا مباشرًا بالعلاقة البسيطة
٣
٢ + ٤
٢ = ٥
٢ وتظهر هذه العلاقة في حل مسائل أخرى من هذا النوع، ولا شك في أن المصريين
القدماء كانوا يعلمون صحة النظرية المنسوبة إلى فيثاغورس، وهي أن المربع المنشأ على الوتر
في المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين. وأغلب
الظن
أن إثباتًا منطقيًّا لهذه النظرية كان معلومًا في العصر المصري وإن كنَّا لم نعثر عليه
للآن.
وقد طبقت نظرية فيثاغورس في الهند قبل عصر فيثاغورس، وذلك في بناء المعابد. وفي الابستمبا
سلباسوترا
١٣ توجد قواعد لتطبيق هذه النظرية ومعها قوائم دقيقة التقريت للجذور التربيعية. بل
ولعل فيها أيضًا كان بين ملهود
١٤ حلًّا تامًّا لمعادلة الدرجة الثانية أ س
٢ + ب س = ﺟ.
وقد وضع البابليون القدماء جداول للمربعات والمكعبات، ولا تزال بعض هذه الجداول محفوظة
في
صحف سنكرة المشهورة، وهي صحف معاصرة لبردي أحميس. ويقول كانتور
١٥ إن العبرانيين القدماء كانوا يعرفون العلاقة ٣ و٤ و٥ للمثلث القائم الزاوية كما
أن رياضيي الصين كانت لهم دراية أيضًا بهذه العلاقة وبحل مسائل المربعات
١٦ ويعتبر في حكم المقرر الآن أن رياضيي الإغريق كانوا يعلمون الحل الهندسي
لمعادلات الدرجة الثانية في عصر فيثاغورس، ففي مؤلفات بخراطيس — من القرن الخامس قبل
الميلاد — نجد محاولات لتربيع الدائرة تئول إلى حل المعادلة:
س
٢ +
أ س = أ
وفي كتب أقليدس ذاته مسائل تئول إلى حلول هندسية لمعادلات الدرجة الثانية، فمن ذلك
عملية
قسمة مستقيم إلى جزأين بحيث تكون مساحة المستطيل المكون من المستقيم وأحد القسمين مساوية
لمساحة المربع المنشأ على القسم الآخر:
أ (أ − س) = س٢ أو س٢
+ أ س = أ٢
ولعل أول حل تحليلي لمعادلة الدرجة الثانية نستطيع أن نجزم به يرجع إلى هيرون الذي
عاش في
الإسكندرية بعد مولد المسيح بقليل، ففي أحد مؤلفات هيرون المسمى متريكا
١٧ والمنشور في ليبزج عام ١٩٠٣م نجد نصًّا على أنه إذا عُلِمَ مجموع جزأَيْ مستقيم
وحاصل ضربهما عُلِمَ كلٌّ من الجزأَيْنِ. إلَّا أن هيرون لا يكتفي بالتدليل الهندسي في
حل هذه
المسألة كما يفعل أقليدس بل يورد المثال العددي الآتي:
دون أن يضع ذلك على صورة معادلة. ثم يعقب هيرون على ذلك بقوله إن الحل التقريبي
١٨ هو:
س =
مما يدل على استخدامه طريقة تحليلية لحل المسألة.
وفي كتاب آخر في الهندسة — بنسب في شيء من الشك إلى هيرون
١٩ هذا — نجد المسألة التحليلية منفصلة عن الفكرة الهندسية. والمسألة هي إيجاد قطر
دائرة إذا عُلِمَ مجموع مساحته ومحيطها وقطرها.
ونجد الحل على الصورة الآتية:
س =
مما يدل على أن المعادلة
س
٢ +
س = ٢١٢
وضعت على الصورة ١١س٢ + ٥٨ س = ٢١٢ × ١٤
حيث س رمز على القطر والمجموع المعلوم للقطر والمساحة والمحيط هو ٢١٢ والنسبة التقريبية
بين المحيط والقطر معتبرة
. ومما يستلفت النظر في هذه المسألة جمع المساحات والأطوال معًا،
وهو إجراء نجده في المؤلفات الإغريقية بين عصر هيرون وعصر ديوفانتوس (إلى حوالي سنة ٢٥٠
ميلادية).
ولقد بحث ديوفانتوس
٢٠ الذي عاش في الإسكندرية في القرن الثالث الميلادي في كتابه السادس من
الأرتماتيقا في مسائل المثلثات القائمة الزاوية التي أضلاعها أعداد صحيحة أو أعداد كسرية
المعلوم فيها مجموع المساحة وأحد ضلعي القائمة أو باقي طرحهما، أو المعلوم فيها مجموع
المساحة وضلعين (أو ضلع ووتر) ويدل حله لمثل هذه المسائل على علمه بالطريقة التحليلية
لحل
معادلات الدرجة الثانية، ويذكر ديوفانتوس صراحة بصدد حل المعادلات التي من النوع (أ س
م = ب
س
ن) أنه ينوي تخصيص مؤلَّف مستقل لبحث معادلات الدرجة الثانية، ولو أنه إلى حد علمنا لم
يفِ
بهذا الوعد.
وقد استنتج كوسالي في مؤلفه عن تاريخ علم الجبر
٢١ المنشور عام ١٧٩٧م أن الانتقال من الوضع الهندسي إلى الوضع التحليلي لحل معادلات
الدرجة الثانية حدث في الفترة بين عصر أقليدس وعصر ديوفانتوس.
وقد ذكر ابن النديم في الفهرست أن الفلكي الإغريقي حيبار قوص الذي عاش في القرن الثاني
قبل الميلاد وضع مؤلَّفًا في الجبر. إلا أن مؤلفًا من هذا النوع لم يصل إلينا ولم يشر
إليه
أحد غير ابن النديم إلى حد علمنا، ولذلك يعتقد سوتر مترجم الفهرست إلى الألمانية (طبعة
ليبزج عام ١٨٩٢م) أنه قد حدث خطأ في النص الوارد في كتاب ابن النديم في هذا المقام.
أما في الهند فقد ظهر بعد زمن ديوفانتوس بحوالي قرنين أريا بهاتا
٢٢ الرياضي الهندي الذي لا بدَّ قد عرف حل معادلات الدرجة الثانية عندما أوجد عدد
حدود المتوالية الحسابية التي عُرِفَ منها الحد الأول والأساس ومجموع الحدود؛ إذ إن حل
هذه
المسألة يئول إلى حل معادلة من الدرجة الثانية.
ثم ظهر بعد أريا بهاتا العالم الرياضي برهما جوبتا
٢٣ في القرن السابع الميلادي ووضع القاعدة التالية لحل معادلة الدرجة
الثانية:
«اجمع إلى الحد المطلق مضروبًا في معامل المربع مربع نصف معامل المجموع، ثم اطرح من
الجذر
التربيعي لهذا المجموع نصف معامل المجهول واقسم النتيجة على معامل المربع تحصل على قيمة
المجهول.»
والمقابل التحليلي لذلك هو أن أحل المعادلة:
وفي عصر الخوارزمي ذاته ظهر الرياضي الهندي ما هافيرا كاريا
٢٤ الذي وضع قواعد لحل معادلات الدرجة الثانية. ومما يلفت النظر في عمله أنه
استعمل المجهول وجذره في المعادلات بدلًا من المجهول ومربعه كما هو الحال الآن. وقد استمر
اهتمام رياضيي الهند بالجبر من زمن أريا بهاتا إلى ما بعد زمن الخوارزمي.
هذا ملخص للكيفية التي نشأ بها علم الجبر ونما في البلاد المختلفة من أول علمنا بالتاريخ
حتى عصر الخوارزمي. ولا شك في أن كلًّا من هذه البلاد قد تأثر بما كان يجري في البلاد
المجاورة. ومن الثابت أن الإغريق أخذوا علم الرياضة عن المصريين، وأن البابليين والإغريق
كانوا على اتصال دائم، وحتى الهند والصين لم تكونا بمعزل عن تلك البلاد، فظهور جداول
المربعات والمكعبات في بابل، والمتواليات الهندسية وقوى الأعداد في مصر، ونظرية فيثاغورس
كما تسمى عادة في الهند والصين، والحل الهندسي لمعادلات الدرجة الثانية قبل زمن أقليدس
في
اليونان — كل هذه تُعْتَبر تطورات مؤدية إلى نشوء علم الجبر بمعناه الصحيح، كما أنها
تدل
على أن نشوء هذا العالم لم يكن مجهودًا مصطنعًا وتمرينًا عقليًّا منعزلًا، بل جاء نتيجة
طبيعية لاهتمام القوم بمسائل الهندسة وخواص الأعداد.
هذا عن الجبر قبل الخوارزمي. أما عن كتاب الخوارزمي في الجبر والمقابلة فالنسخة العربية
الوحيدة التي وصلت إلى أيدينا هي مخطوط محفوظ بأكسفورد بمكتبة
Bodlean تحت رقم
M. S.
Hunt 214 وهذا المخطوط كُتِبَ في القاهرة (وفُرِغ من نساخته في يوم الأحد التاسع عشر من
المحرم أحد شهور سنة ٧٤٣ هجرية) أي إن هذه النسخة كُتِبَت بعد موت الخوارزمي بنحو خمسمائة
سنة. وفي هذا وحده دليل على عظم شأن هذا الكتاب. وقد نشر النص العربي فردريك روزن وترجمه
إلى الإنجليزية وعلَّق عليه وطبع عمله بلندن عام ١٨٣١م. ونشر مار
٢٥ ترجمة للجزء من الكتاب الخاص بالمساحات والأحجام بانيًا عمله على ترجمة روزن.
وقد تُرْجِمَ كتاب الخوارزمي إلى اللغة اللاتينية تراجم مختلفة، ربما كان أقدمها ترجمة
روبرت
أف تشستر حوالي سنة ١١٤٠م. وقد نشر الأستاذ كاربنسكي ترجمة إلى اللغة الإنجليزية لترجمة
روبرت أوف تشستر هذه نُشِرَت بلندن عام ١٩١٥م. وإني مدين للأستاذ كاربنسكي بشيئين: أولهما
أن
وجوده بالقاهرة من بضع سنين وإرساله إليَّ نسخة من كتابه عن ترجمة مخطوط روبرت أف تشستر
أثارا فيَّ كثيرًا من الاهتمام بأمر الخوارزمي، مما جعلني أستحضر نسخة فوتوغرافية للأصل
العربي وأعمل بالتعاون مع الدكتور محمد مرسي أحمد الأستاذ بكلية العلوم على نشره. والشيء
الثاني أن الجزء الأكبر من المعلومات التاريخية الواردة بهذا المقال، وكذا بمقدمة الكتاب
الذي نشرناه قد اعتمدت فيه على أبحاث الأستاذ كاربنسكي وتحقيقاته. وقد ذكر الأستاذ كاربنسكي
في مقدمته أن الخدمات التي أداها العرب للعلوم لم تكن مقدورة حق قدرها من المؤرخين، وأن
الأبحاث الحديثة قد دلت على عظم دَيْنِنَا لعلماء المسلمين الذين نشروا نور العلم بينما
كانت أوروبا في ظلمات القرون الوسطى، وأن العرب لم يقتصروا على نقل علوم الإغريق والهند،
بل
زادوا عليها وقاموا بإضافات هامة في ميادين مختلفة.
وفي المقدمة التي وضعتها بالاشتراك مع الدكتور مرسي لكتاب الخوارزمي (طبعة القاهرة
سنة
١٩٣٧م) قد وضحنا أهمية العصر الإسلامي في تاريخ العلوم عامة والعلوم الرياضية خاصة.
وسأقتطف بعض فقرات من كتاب الخوارزمي لكي يقف القارئ منها على روح المؤلف ومبلغ علمه
وطريقته. ففي أول الكتاب بعد أن حمد الله وأثنى عليه قال:
«ولم تزل العلماء في الأزمنة الخالية والأمم الماضية يكتبون الكتب مما يصنفون من صنوف
العلم ووجوه الحكمة نظرًا لمن بعدهم واحتسابًا للأجر بقدر الطاقة ورجاء أن يلحقهم من
أجر
ذلك وذخره وذكره، ويبقى لهم من لسان الصدق ما يصغر في جنبه كثير مما كانوا يتكلفون من
المئونة، ويحملونه على أنفسهم من المشقة في كشف أسرار العلم وغامضه، إما رجل سبق إلى
ما لم
يكن مستخرجًا قبله فورَّثه من بعده، وإما رجل شرح مما أبقى الأولون ما كان مستغلقًا فأوضح
طريقه، وسهَّل مسلكه، وقرَّب مأخذه، وإما رجل وجد في بعض الكتب خللًا فلمَّ شعثه وأقام
أوده،
وأحسن الظن بصاحبه غير راد عليه ولا مفتخر بذلك من فعل نفسه.»
وإن المرء ليلمس في هذه العبارات روح العالم المدقق. وفي رأيي أنه يصعب أن نضع دستورًا
للبحث العلمي والتأليف العلمي وأدب العلم خيرًا مما وضعه الخوارزمي في هذه العبارات السهلة
الممتنعة.
ثم قال الخوارزمي:
«وإني لما نظرت فيما يحتاج إليه الناس من الحساب وجدت جميع ذلك عددًا، ووجدت جميع
الأعداد
إنما تركبت من الواحد، والواحد داخل في جميع الأعداد، ووجدت جميع ما يُلْفَظ به من الأعداد
ما جاوز الواحد إلى العشرة يخرج مخرج الواحد، ثم تُثَنَّى العشرة وتُثَلَّث كما فُعِل
بالواحد فتكون منها العشرون والثلاثون إلى تمام المائة. ثم تُثنى المائة وتُثلث كما فُعل
بالواحد وبالعشرة إلى الألف، ثم كذلك تردد الألف عند كل عقد إلى غاية المُدْرَك من العدد.
ووجدت الأعداد التي يُحْتاج إليها في حساب الجبر والمقابلة على ثلاثة ضروب: وهي جذور
وأموال
وعدد مفرد لا يُنْسَب إلى جذر ولا إلى مال. فالجذر منها كل شيء مضروب في نفسه من الواحد
وما
فوقه من الأعداد وما دونه من الكسور، والمال كل ما اجتمع من الجذر المضروب في نفسه، والعدد
المفرد كل ملفوظ به من العدد بلا نسبة إلى جذر ولا إلى مال. فمن هذه الضروب الثلاثة ما
يعدل
بعضها بعضًا وهو كقولك أموال تعدل جذورًا، وأموال تعدل عددًا. وجذور تعدل عددًا.»
ومعنى هذا أن الخوارزمي يفترق بين الحدود الثلاثة التي تدخل في معادلات الدرجة الثانية،
فالحد الذي يحتوي على س
٢ يُسَمَّى المال، والحد الذي يحتوي على س يُسَمَّى الجذر، والحد
الخالي من س يسمى العدد، ثم يبحث في حل كل من الأشكال البسيطة:
أ س٢ = ب س، أ س٢ =
ﺟ، ب س = ﺟ
وبعد أن يذكر أمثلة عددية ويبين طريقة الحل في كل حالة من هذه الأحوال يقول: «ووجدت
هذه
الضروب الثلاثة التي هي الجذور والأموال والعدد تقترن، فيكون منها ثلاثة أجناس مقترنة
وهي
أموال وجذور تعدل عددًا، وأموال وعدد تعدل جذورًا، وجذور وعدد تعدل أموالًا.» وبذلك يقسم
معادلات الدرجة الثانية إلى ثلاثة أنواع:
أ س٢ + ب س = ﺟ، أ س٢ + ﺟ = ب س، ب س + ﺟ = أ س٢
ويلي ذلك حل كل نوع من هذه الأنواع شارحًا ذلك بأمثلة عددية بفرض أن أ، ب، ﺟ كلها
موجبة،
وليس معنى هذا أن الخوارزمي لم يكن يستخدم الأعداد السالبة، بل بالعكس إننا نجد في باب
للضرب شرحًا لاستخدام الأعداد السالبة؛ إذ يقول:
«اعلم أنه لا بد لكل عدد يُضْرَب في عدد من أن يُضَاعَف أحد العددين بقدر ما في الآخر
من
آحاد، فإذا كانت عقود ومعها آحاد أو مستثنى منها آحاد فلا بد من ضربها أربع مرات: العقود
في
العقود، والعقود في الآحاد، والآحاد في العقود، والآحاد في الآحاد. فإذا كانت الآحاد
التي
مع العقود زائدة جميعًا فالضرب الرابع زائد، وإذا كانت ناقصة جميعًا فالضرب الرابع زائد
أيضًا، وإذا كان أحدهما زائدًا والآخر ناقصًا فالضرب الرابع ناقص.» ثم يقول:
«وإن قال عشرة إلا شيئًا في عشرة إلا شيئًا قلت عشرة في عشرة بمائة وإلا شيئًا في
عشرة
عشرة أشياء ناقصة وإلا شيئًا في عشرة عشرة أشياء ناقصة، وإلا شيئًا في إلا شيئًا مال
زائد
فيكون ذلك مائة ومالًا إلا عشرين شيئًا»:
(١٠ − س) (١٠ − س) = ١٠٠ − ٢٠ س + س٢
وإنما افترض الخوارزمي أن أ، ب، ﺟ في معادلات الدرجة الثانية كميات موجبة لكي يفرق
بين
أحوال الجمع وأحوال الطرح في كل صورة من الصور التي يبحث فيها، وعلى وجه الخصوص لكي تنطبق
المعادلة على الأمثلة العملية التي يوردها في آخر الكتاب (باب الوصايا على الخصوص) تطبيقًا
على حل هذه المعادلات.
ومما يجدر ذكره أن الخوارزمي تنبه في حالة الأموال والعدد التي تعدل الجذور نحو قولك
مال
وواحد وعشرون من العدد يعدل عشرة أجذار:
تنبَّه الخوارزمي إلى أن المسألة قد يكون لها حلان [والحل في نظر الخوارزمي هو دائمًا
القيمة الموجبة ﻟ س التي تحقق المعادلة] فقال:
«فبابه أن تنصف الأجذار فتكون خمسة فاضربها في مثلها تكون خمسة وعشرين، فانقص منها
الواحد
والعشرين التي ذُكِرَ أنها مع المال فيبقى أربعة، فخذ جذرها وهو اثنان فانقصه من نصف
الأجذار وهو خمسة فيبقى ثلاثة وهو جذر المال الذي تزيده، والمال تسعة، وإن شئت فزد الجذر
على نصف الأجذار فتكون سبعة وهو جذر المال الذي تريده والمال تسعة وأربعون، فإذا وردت
عليك
مسألة تخرجك إلى هذا الباب فامتحن صوابها بالزيادة، فإن لم يكن فهي بالنقصان لا محالة،
وهذا
الباب يعمل بالزيادة والنقصان جميعًا، وليس ذلك في غيره من الأبواب الثلاثة التي يُحْتَاج
فيها إلى تنصيف الأجذار.»
ثم إن الخوارزمي تَنبَّه إلى شيئين آخرين في هذا الباب فقال:
«واعلم أنك إذا نصفت الأجذار في هذا الباب وضربتها في مثلها فكان مبلغ ذلك أقل من
الدراهم
التي مع المال فالمسألة مستحيلة، وإن كان مثل الدراهم بعينها فجذر المال مثل نصف الأجذار
سواء لا زيادة ولا نقصان.»
وأول هذين الشيئين استحالة حل المعادلة س
٢ + ﺟ = ب س إذا كان
(
)
٢ < ﺟ، وقد بقيت هذه
الحالة تُعْرَف بالحالة المستحيلة كما سماها الخوارزمي إلى أواخر القرن الخامس عشر حين
بدأ
البحث في الكمبيالات التخيلية على أيدي كاسبار فسل وجان روبير أرجان، والأمر الثاني هو
تساوي الجذرين إذا كانت (
)
٢ = ﺟ.
ولم يكتفِ الخوارزمي بذكر القاعدة التي تُتَّبَع في كل نوع من أنواع المعادلات والتمثيل
على ذلك بأمثلة عددية، بل بحث في ما سماه العلة في كل ضرب من ضروب المعادلات قال:
«فهذه الست ضروب التي ذكرتها في صدر كتابي هذا، وقد أتيت على تفسيرها وأخبرت أن منها
ثلاثة ضروب لا تُنَصَّف فيها الأجذار فقد بينت قياسها واضطرابها. فأما ما يحتاج فيه إلى
تنصيف الأجذار في الثلاثة الأبواب الباقية فقد وصفته بأبواب صحيحة وصيرت لكل منها صورة
يُسْتَدَلُّ منها على العلة في التنصيف.
فأما علة مال وعشرة أجذار تعدل تسعة وثلاثين درهمًا، فصورة ذلك سطح مربع مجهول الأضلاع
وهو
المال الذي تريد أن تعرفه وتعرف جذره وهو سطح أ ب، وكل ضلع من أضلاعه فهو جذره، وكل ضلع
من
أضلاعه إذا ضربته في عدد من الأعداد فما بلغت الأعداد فهي أعداد جذور؛ كل جذر مثل جذر
ذلك
السطح، فلما قيل إن مع المال عشرة أجذاره أخذنا ربع العشرة وهو اثنان ونصف، وصيرنا كل
ربع
منها مع ضلع من أضلاع السطح، فصار مع السطح الأول الذي هو سطح أ ب أربعة سطوح متساوية
طول كل سطح منها مثل جذر سطح أ ب وعرضه اثنان ونصف وهي سطوح
ﺣ ﮐ ط ﺟ فحدث سطح متساوي الأضلاع مجهول أيضًا ناقص في زواياه الأربع، في كل زاوية من
النقصان اثنان ونصف في اثنين ونصف فصار الذي يحتاج إليه من الزيادة حتى يتربع السطح اثنان
ونصف في مثله أربع مرات، ومبلغ ذلك جميعه خمسة وعشرون. وقد علمنا أن السطح الأول الذي
هو
سطح المال والأربعة السطوح التي حوله وهي عشرة أجذار هي تسعة وثلاثون من العدد، فإذا
زدنا
عليه الخمسة والعشرين التي هي المربعات الأربع التي هي على زوايا سطح أ ب ثم تربيع السطح
الأعظم الذي هو سطح د ﻫ، وقد علمت أن ذلك كله أربعة وستون. وأحد أضلاعه جذره وهو ثمانية،
فإذا نقصنا من الثمانية مثل ربع العشرة مرتين من طرفي ضلع السطح الأعظم الذي هو د ﻫ وهو
خمسة بقي من ضلعه ثلاثة، وهو جذر ذلك المال. وإنما نصفنا العشرة الأجذار وضربناها في
مثلها
وزدناها على العدد الذي هو تسعة وثلاثون ليتم لنا بناء السطح الأعظم بما نقص من زواياه
الأربع، لأن كل عدد يُضْرَب ربعه في مثله ثم في أربعة يكون مثل ضرب نصفه في مثله فاستغنينا
بضرب نصف الأجذار في مثلها عن الربع في مثله ثم في أربعة وهذه صورته.»
وعدا حل معادلات الدرجة الثانية يحتوي كتاب الخوارزمي على باب الضرب، وباب الجمع
والنقصان، وباب المسائل المختلفة، وباب المعاملات وباب المساحة، وكتاب الوصايا. وفي هذا
الكتاب الأخير تطبيقات مختلفة على مسائل الوصايا تُسْتَخدم فيها المعادلات. ولا بد من
الإشارة إلى معنى كلمتي الجبر والمقابلة اللذين يُسْتَدل عليهما من سياق كلام الخوارزمي،
فالجبر هو سد النقص في طرف من طرفي المعادلة بإضافته إلى الطرف الآخر:
والمقابلة هي حذف مقدارين متساويين من طرفي المعادلة أو إضافتهما:
هذا ملخص موجز لما احتوى عليه كتاب الجبر والمقابلة لمحمد بن موسى الخوارزمي «من لطيف
الحساب وجليله لما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم وفي مقاسمتهم وأحكامهم
وتجارتهم، وفي جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحة الأرضين وكرى الأنهار والهندسة وغير
ذلك
من وجوهه وفنونه».
وقد سبق أن أشرت إلى ما كان لهذا الكتاب من أثر في نشر هذا العلم في الشرق والغرب،
بحيث
صار المرجع الأول الذي يُعْتَمَد عليه في دراسة هذا العلم، فهل يجوز لنا أن نقول إن
الخوارزمي هو واضع علم الجبر؟ لقد رأينا أن حل المعادلات الجبرية يرجع إلى ما قبل الميلاد
بنحو ألفي سنة، كما ثبت لنا أن قاعدة حل معادلات الدرجة الثانية كانت معروفة عند الإغريق
وعند الهنود. ولا شك في أن الخوارزمي كان عالمًا بما عند الهنود من علم رياضي؛ لأنه ألَّف
في
حساب الأرقام الهندية وبحث فيها. ولكن يجب ألَّا يغرب عن بالنا أنه رغم الأبحاث المستفيضة
في
تاريخ الرياضيات عند الإغريق وعند الهنود لم نعثر على كتاب واحد يشبه كتاب الخوارزمي.
وإنني
أميل إلى الظن بأنه لم يكن قبل الخوارزمي علم يُسَمَّى علم الجبر، وإذن فعبقرية الخوارزمي
قد تجلت في خلق علم من معلومات مشتتة وغير متماسكة، وتذكرنا هذه العبقرية بعبقرية السير
إيزاك نيوتن الذي وضع علم الديناميكا أي علم حركة الأجسام، فإن كثيرًا من المعلومات الواردة
في كتاب Principia لنيوتن كان معروفًا لأهل زمانه بل وقبل أهل زمانه، ولكن أحدًا قبله لم
يقم بتنظيم شتات هذه المعلومات وصوغها في صورة علم منسق ذي وحدة ظاهرة. وكذلك الحال —
في
رأيى — في الخوارزمي وعلم الجبر، لهذا أراني ميَّالًا إلى الإجابة عن السؤال: هل الخوارزمي
هو
واضع علم الجبر؟ بنعم. وإذا كان أحد لا يرتاح إلى هذه الإجابة فليقل لنا من هو واضع علم
الجبر؟
ولعل اجتماع الهندسة الإغريقية والحساب الهندي كان ضروريًّا لكي ينشأ علم الجبر. فالطريقة
الإغريقية في الحساب كانت عقيمة إلى أبعد حدود العقم بقدر ما كانت هندستهم خصبة إلى أبعد
حدود الخصب. ويكفي أن يتصور القارئ أنهم كانوا يستخدمون تسعة من الحروف الأبجدية للدلالة
على الأرقام من ١ إلى ٩ ثم تسعة أخرى للدلالة على العقود من ١٠ إلى ٩٠ ثم تسعة أخرى للدلالة
على المئات، وبعد ذلك يستخدمون نفس الأحرف بإضافة حركة إليها تشبه الفتحة عندنا. ليتصور
القارئ عملية من عمليات الضرب تُستخدم فيها هذه الطريقة! فلما انتقلت الأرقام الهندسية
إلى العرب وامتزج الحساب الجديد بالهندسة الإغريقية صار من الممكن لعبقري من نوع الخوارزمي
أن يضع علم الجبر الذي بناه على الجمع بين الفكرة الهندسية والفكرة العددية للكميات.
وليس الخوارزمي واضعًا لعلم الجبر فحسب، بل إنه يتضح مما قدمت أن انتشار هذا العلم
في
الشرق والغرب إنما يرجع الفضل فيه إلى كتاب الخوارزمي الذي صار المرجع الأول للمؤلفين
والمترجمين من عرب وأعاجم؛ ولذلك يحق لنا أن نقول إن الخوارزمي هو واضع علم الجبر ومعلمه
للناس أجمعين.