الإضافات الحديثة إلى العلوم الطبيعية وأثرها في تطور التفكير العلمي
إذا تتبعنا حياة فرد منَّا فإننا نجد أن محمله العقلي يتطور في أدوار حياته المختلفة بحيث تتغير وجهة نظره إلى الأمور والمعايير التي يقيس بها الأشياء. فهو في سن الصبا مثلًا لا ينظر إلى الأمور نظرته إليها وهو في سن الرجولة، كما أنه في سن الشيخوخة لا يزن الحوادث بالميزان الذي وزنها به وهو في مقتبل عمره. هذا التطور في تفكير الفرد وإن كان مرتبطًا ارتباطًا متينًا بطبيعة تركيبه وبالعوامل البيولوجية والفسيولوجية التي تعمل على نشوئه في أدوار الحياة المختلفة من ضعف إلى قوة إلى ضعف، إلا أنه راجع أيضًا إلى ما يكتسبه الفرد في حياته من الخبرة وما يستخلصه من المعرفة. فالرجل في سن الخمسين أوسع خبرة منه في سن العشرين وهذه الزيادة من الخبرة تؤثر في المحمل العقلي وفي وجهة النظر إلى الأمور.
وإذا كان هذا صحيحًا إذا قلناه عن تفكير الفرد فإنه أيضًا صحيح إذا قلناه عن تفكير المجتمع وعلى وجه الخصوص صحيح إذا طُبِّقَ على التفكير العلمي الذي إن هو إلا خلاصة تفكير المجتمع البشري تتمثل فيه خبرة بني الإنسان، فالتفكير العلمي إذن حي متطور تؤثر في تطوره الخبرة العلمية أو بعبارة أخرى الإضافات التي يضيفها العلماء إلى المعرفة البشرية. ونحن اليوم نعيش في عصر يشهد تطورًا عنيفًا في التفكير العلمي بل انقلابًا بليغ الأثر في محملنا العقلي فوجهة نظر العلم اليوم نحو ما يحيط بنا من الكائنات تختلف اختلافًا بيِّنًا عنها في أواخر القرن الماضي بل تكاد تناقضها مناقضة صريحة. هذا التطور الانقلابي نشأ عن إضافات هامة إلى العلوم الطبيعية في نحو ثلث قرن سأحاول وصفها لكي يقف القارئ على مبلغ أثرها في التفكير العلمي. ولكي يسهل علينا تتبع هذه التطورات الحديثة يحسن بنا أن نلقي نظرة على موقف العلوم الطبيعية وحالة التفكير العلمي في أواخر القرن الماضي.
(١) السكون آلة
ماذا كان موقف العلوم الطبيعية إذن في أواخر القرن الماضي؟ تصور رجلًا ناجحًا في عمله شق لنفسه طريقًا في الحياة وكوَّن له فلسفة مقنعة طبقها في عمله فجاءت بنتائج باهرة عززت من مركزه وجعلته فخورًا بعمله راضيًا عن فلسفته مؤمنًا بنفسه وبقدرته. إن موقف هذا الرجل هو موقف العلوم الطبيعية في أواخر القرن الماضي. ففلسفة العلوم الطبيعية في أواخر القرن الماضي كانت ولا شك فلسفة مقنعة ناجحة تكاد تجمع صفات الكمال، فالكون مؤلَّف من المادة المحسوسة التي نراها ونلمسها وهذه المادة موزعة في الفضاء الذي يحيط بنا ونحكم بوجوده بالبداهة. ثم إن الأجسام المادية تتحرك في هذا الفضاء بناء على قوانين ثابتة كشف عنها نيوتن وطبقها الرياضيون وعلماء الفلك، فحصلوا على نتائج ضُرِبَ بها المثل في الدقة والضبط، فأصبح من الميسور معرفة حركات الكواكب في المجموعة الشمسية والتنبؤ بمواعيد الحوادث الفلكية تنبؤًا لا يختلف ثانية واحدة عما هو مشاهد.
حقيقة كانت هناك بضع حالات تحتاج إلى شيء من زيادة البحث كحرقة عطارد، إلا أن كل شيء كان يبعث على الأمل في تفسيرها تفسيرًا معقولًا منطبقًا على قوانين نيوتن. ثم إن المادة لها خواص كالمرونة والقابلية لتوصيل الحرارة والكهربائية، وهذه الخواص بحثها العلماء وعرفوا لها قوانين تنظمها كقانون هوك لمرونة الجوامد وقانون بويل لمرونة الغازات وقانون أوهم لتوصيل الكهرباء. كما أن المادة تقوم بها حالات كحالة الحرارة وحالة الإضاءة وحالة المغنطيسية، وقد قيست هذه الحالات تبعًا لشدتها وخفتها ووُجِدَ لها نظم وقوانين أخرى تُرتب من أمرها كما بُحِثَ في الارتباط بين الحالات المختلفة فوُجِدَ أن المغنطيسية والكهربائية مثلًا بينهما صلة وثيقة وهذه الصلة لها قوانينها أيضًا. وقد ترتب على اكتشاف هذه الصلة ومعرفة قوانينها نتائج هامة عملية غيرت من معالم معيشة البشر فاسْتُخْدِمَت المصابيح الكهربائية والتلغرافات وعربات الترام في منفعة الإنسان والزيادة من رفاهيته. وقد أدى البحث في العلاقات بين الحالات المختلفة التي تقوم بالمادة إلى الكشف عن ارتباط بينها جميعًا كان له أثر بَيِّن في تطور التفكير العلمي.
فإذا نحن أمررنا تيارًا كهربائيًّا في سلك رفيع كما يحدث في مصباح كهربائي فإن السلك تزداد حرارته. فالتيار الكهربائي يُسْتَهْلَك في رفع درجة حرارة السلك، فكأنما تتحول الحالة الكهربائية إلى حالة الحرارة، ويحدث هذا التحول بطريقة كمية مضبوطة بحيث تتعيَّن كمية الحرارة المتولدة إذا عرفنا الحالة الكهربائية التي تنشأ عنها. كذلك تتحوَّل الحرارة الميكانيكية إلى حرارة كما يحدث في قدح الزناد، أو إلى حالة كهربائية كما يحدث في الدينامو الذي منه نولد تياراتنا الكهربائية. وفي جميع هذه التحولات توجد مقابلة مضبوطة بين الكميات المتناظرة. لذلك قال علماء القرن التاسع عشر بأن الكهربائية والحرارة والحركة إن هي إلا مظاهر مختلفة لشيء واحد ألا وهو الطاقة. فالطاقة الحرارية تتحوَّل إلى طاقة ميكانيكية أو كهربائية وهكذا. والطاقة كالمادة في نظرهم شيء لا يقبل الخلق ولا الفناء وإنما يقبل التحول. وعلى هذا الأساس تحاسبنا شركة الكهرباء فالعداد الذي يضعونه في بيوتنا يُحْصِي عدد وحدات الطاقة التي نستخدمها، فسواء استخدمناها في الإنارة أم في التدفئة أم في الطهي فإن ما ندفعه للشركة هو ثمن وحدات الطاقة في كل حالة.
فالكون إذن في نظر علماء القرن التاسع عشر هو آلة هائلة تشتغل طبقًا لقوانين ثابتة. هذه الآلة مصنوعة من المادة التي لا تقبل الخلق ولا الفناء وتقوم بالمادة أو ترتبط بها حالات كالحرارة وما أشبه هي مظاهر لشيء واحد وهو الطاقة. والطاقة كالمادة لا تقبل الخلق ولا الفناء. ومهمة العلم هي معرفة القوانين التي تنظم سير الآلة والتي تربط الطاقة بالمادة. والعلماء جادون في هذا السبيل يضيفون القانون تلو القانون، والأعمال والحمد لله منتظمة على خير ما يرام فإذا استمرت الحال على هذا المنوال فلا شك في أن الإنسان سيصل إلى معرفة أسرار الكون فيهيمن عليه ويسيطر على أجزائه.
(٢) مواطن الضعف … الضوء؟
قلت إن هذه فلسفة مقنعة ناجحة تكاد تجمع صفات الكمال. وأقول «تكاد» لأن علماء القرن التاسع عشر كانوا يرون فيها بعض نقط الضعف كالثوب الجميل المتين فيه عيب صغير في بعض أكمامه — عيب ثانوي طبعًا ولكنه مع ذلك عيب. ما مكان الضوء في هذه الفلسفة؟ إننا نعلم أن الإضاءة والاستضاءة حالتان تقومان بالمادة، وإذن فالضوء من نوع الحرارة والكهربائية. ومن المعلوم أن الحرارة قد تتحول إلى ضوء كما يحدث في المصابيح الكهربائية وإذن فالضوء هو مظهر من مظاهر الطاقة شأنه كشأن سائر المظاهر الأخرى. إلا أن هناك أمرًا محيرًا وهو أن الضوء ينتقل في الفضاء العاري عن المادة. فالضوء إذن قائم بذاته مستقل عن المادة ولا يمكن أن يوصف بأنه حالة من حالات المادة كالحركة مثلًا.
وشأن الأشعة الضوئية في ذلك شأن الأشعة الحرارية ورهط عظيم من الأشعة الأخرى كلها تتنقل في الفضاء العاري عن المادة فلها استقلال ذاتي لا يتوقف على وجود المادة. هذا الاستقلال الذي اتصفت به الأشعة حير ألباب العلماء في أواخر القرن الماضي؛ إذ هو مناقضة صريحة لفلسفتهم. ولذلك التجئُوا إلى فرض وجود نوع مستحدث من المادة سموه الأثير لكي تقوم به هذه الأشعة. هذا الأثير ليس بالمادة التي نعرفها طبعًا، وإنما له خاصية أساسية من خواص المادة ألا وهي خاصية التكيف بحيث يصح أن تقوم به حالة كحالة الضوء أو حالة الحرارة.
فالموقف إذن في أواخر القرن الماضي يتخلص فيما يأتي:
هناك المادة وهي ذلك الجوهر الخالد الذي لا يقبل الخلق ولا الفناء. وهناك الطاقة التي هي عَرَضٌ يقوم بالمادة ولكن له صفة الخلود أيضًا. وهناك الأثير الذي اضْطُرِرْنَا إلى إدخاله في الصورة لكي نستطيع تفسير وجود الطاقة وحدها عارية عن المادة. وطبعًا هناك الزمان وهناك المكان ولكن الزمان والمكان شيئان بديهيان دائمًا نفترض وجودهما. فالمكان عبارة عن مسكن أو وعاء فيه المادة والزمان هو. والزمان … هو الزمان طبعًا. ثم إن هناك فوق هذا كله القوانين الطبيعية وهي التي تنظم حركة المادة وما ينشأ عليها من التغيرات، كما أنها ترتب أمور الطاقة أيضًا وما يحدث للضوء وللكهرباء وللحرارة في ظروفها المختلفة. وأهم القوانين الطبيعية وأعمها قانون بقاء المادة أو عدم فنائها. فالمادة هي ذلك الطوب الأزلي الذي يبنى منه العالم. ويلي هذا القانون في خطورة الشأن قانون بقاء الطاقة ثم قوانين نيوتن في الجاذبية العامة … إلخ.
وهنا أُصارِحُكم القول بأن وجهة نظر العلم اليوم إلى هذه الفلسفة تشبه وجهة نظر الرجل إلى فلسفة الطفل في حياته، ففلسفة الطفل في حياته إذا وصفناها كانت على النحو الآتي، هناك اللُّعَب التي ألعب بها وهي أهم شيء في الوجود طبعًا، ثم هناك المنزل والخادمة والطاهي والأطفال الذين يلعبون معي، وهناك قواعد اللعب التي يجب اتباعها، ثم إن هناك أبي وأمي طبعًا، فما هي الخبرة التي اكتسبناها والتي حوَّلت اتجاه نظرنا إلى الأمور عمَّا كان عليه في أوائل القرن؟
(٣) الحقائق الجديدة المقلقة
أولًا: زاد علمنا بتركيب المادة فقد وجدنا أن الجسيمات الصغيرة التي تتألَّف منها جميع المواد والتي تُسَمَّى بإلكترونات والبرتونات إن هي إلا كهرباء خالصة، بل إن خاصية القصور الذاتي التي هي من أهم خواص المادة أمكن تفسيرها كنتيجة للكهربائية ناشئة عنها. وبذلك انقلب الموقف وأصبحت المادة حالة تقوم بالكهرباء بدلًا من أن تكون الكهرباء حالة تقوم بالمادة، والأدهى من ذلك أن هذه الإلكترونات والبروتونات قد وُجِدَ أنها تتشتت إذا مرت في ثقوب ضيقة كما يتشتت الضوء بما يتفق مع أنها ذات خاصية موجية كما لو كانت مؤلفة من أمواج كأمواج الضوء. ولم تكن تُعْرَف هذه الظاهرة حتى سنة ١٩٢٦م حين تنبأ بها دي برولي العالِم الفرنسي وحقق وجودها عمليًّا تومسون وجرمر وغيرهما.
فالمادة إذن فقد فقدت جوهريتها وصارت في نظرنا كالضوء عَرَضًا يقوم بغيره لا جوهرًا مستقلًّا بذاته.
ثانيًا: زال اعتقادنا ببقاء المادة، فقانون بقاء المادة معناه أن الكتلة أو كمية المادة لا تخلق ولا تفنى، فإذا احترقت شمعة مثلًا كان مجموع كتل نتائج الاحتراق مساويًا تمامًا لوزن ما احترق مضافًا إليه وزن الأوكسجين الذي اتحد به، وكل جسم الكون له كتلة ثابتة لا تتغير إلا إذا أضفنا إلى مادته أو أنقصنا منها.
ولكن كاوفمان عام ١٩٠١م وبو شيرير عام ١٩٠٩م وجدا أن الجسيمات الصغيرة المنبعثة عن الراديوم والتي هي الإلكترونات تتغير كتلتها بحيث تزداد كلما ازدادت سرعتها. وشأنها في ذلك شأن البروتونات ولما كانت الأجسام مؤَلَّفة من إلكترونات وبرتونات، فجميع الأجسام إذن تتغير كتلتها بتغير سرعتها. فلنفرض إذن جماعة من الناس يسكنون كوكبًا آخر وأن هذا الكوكب يتحرك بالنسبة إلينا بسرعة تعادل نحو ٤ / ٥ سرعة الضوء. فإذا كان لدينا آلات لمشاهدة هؤلاء القوم وتقدير كتلهم فإننا نجد أن متوسط كتلة الرجل منهم تعادل نحو ١٥٠ كيلوجرامًا أو نحو ضعف متوسط كتلة الرجل منَّا فنحكم بأنهم قوم «أثاقل» فإذا نحن استطعنا التخاطب معهم (باللاسلكي مثلًا) وأخبرناهم بأن حضراتهم أثاقل فإننا ندهش عندما يجيبوننا بأن متوسط كتلة الرجل منهم هو ٧٥ كيلوجرامًا فقط وليس ١٥٠ كيلوجرامًا كما ظننا. وليس في ذلك كذب أو رغبة في الدفاع عن النفس فإن آلاتهم وموازينهم كلها مُجْمِعَة على ذلك ثم تصوروا دهشتنا عندما يقدرون هم كتلة الرجل منَّا ثم يخبروننا بأن المتوسط هو ١٥٠ كيلوجرامًا! إننا سنحكم ولا شك بأنهم مخطئون. فالموقف كما يأتي. نحن نكبر من كتلهم وهم يكبرون من كتلنا فأينا المحق؟ لنفرض أننا وجدنا الحل الآتي: كل قوم محقون فيما يختص بكتلهم هم وواهمون في تقديرهم لكتل غيرهم. حسن إذن نحن واهمون في تقديرنا لكتلهم، وفي الواقع وفي نفس الأمر تبلغ كتلة الرجل منهم ٧٥ كيلوجرامًا هذا معناه أن الكتلة شيء لا يمكن تقديره على صحته إلا إذا كان الجسم ساكنًا. إذا كان الأمر كذلك فما معنى كتلة هذه المائدة. إنها مؤلَّفة من ملايين من الجزئيات التي هي في حركة مستمرة وسريعة فكيف أستطيع أن أقدر كتلة كل منها؟ إنه من المستحيل عليَّ أن أتصور نفسي متحركًا مع كل جزيء حركته الخاصة ولا بد من أن اتخذ موقفًا محايدًا. ولكن تقديري للكتلة في هذه الحالة — ويا للأسف — يجب أن يكون خاطئًا. ألا يرى القارئ أن منشأ متاعبنا هو افتراضنا أن الكتلة شيء مطلق الوجود لا يتوقف على الظروف المحيطة به؟ هذا ما نعبر عنه بقولنا إن الكتلة هي شيء نسبي. أي هي شيء منسوب إلى ظروف خاصة أهمها في هذه الحالة حركة الجسم بالنسبة إلى من يقدر كتلته. وإذا كانت الكتلة شيئًا نسبيًّا فما معنى قانون بقاء الكتلة؟ إن قانون بقاء الكتلة لا يمكن أن يكون قانونًا صحيحًا؛ لأنه لا معنى له وما لا معنى له لا نبحث في صحته. وما قيل عن قانون بقاء الكتلة يُقَال عن بقاء الطاقة، فالطاقة أيضًا كمية نسبية تتوقف على الظروف التي تقاس فيها.
ولم يقف الحد عن الكتلة والطاقة، بل تعداها إلى أشياء كنا نعتبرها أكثر أساسية وأقرب إلى بداهتنا، فالزمان والمكان قد أصبحا في نظر علماء الطبيعة اليوم ظلين زائلين لا إطلاق لحقيقة وجودهما. أنا أعلم أن هذه العبارة تظهر لأول وهلة كما لو كانت بعيدة عن كل معقول. فسأبادر بأن أقول إن الزمان الذي يشعر كل منَّا بمروره والمكان الذي يحل هو فيه هذان لم يمسهما أحد بسوء، إنما اعتراضنا على ما كان يفعله العلماء من افتراض امتداد زمانه الذي يشعر به بحيث يشمل العالم بأسره، وكذلك من افتراض أن المكان في خواصه وكنهه مهما بَعُدَ عنَّا مشابه للمكان الذي نحل فيه ويحيط بأجسامنا، على هذا نشأ الاعتراض ولا أظن أحدًا يختلف معي في أنه يحق للمرء أن يعترض على مثل هذا التعميم الذي لا مسوغ له. فبأي حق تفترض إنك إذا وضعت ساعة في أية ناحية من نواحي الفضاء مهما بعدت عنك فإنها ستكون مضبوطة كما لو كانت في جيبك، وبأي حق تظن أن الخواص الهندسية للعالم الذي يمتد إلى شاسع الأبعاد تشبه الخواص الهندسية للجزء من الفضاء الذي تحل أنت فيه؟
وتصور معي رجلًا عاش في بقعة صغيرة من الأرض، فإن هذا الرجل سيتكلم عن فوق وتحت وشرق وغرب وشمال وجنوب، وسيفرق دائمًا بين الاتجاه الرأسي والاتجاهين الآخرين، فالاتجاه الرأسي اتجاه تسقط فيه الأشياء، وله صفات تميزه عن الاتجاهات الأفقية. هذا الرجل إذا قيل له إن في بقعة أخرى من بقاع الأرض ما يسميه هو فوق هو نفس ما يسمونه هم شمالًا فإن عقله ولا شك سيقصر عن تصديق ذلك إلا إذا فهم معنى تكوُّر الأرض بأن شبهت له بكرة من الكرات التي نصنعها أو انتقل فعلًا على سطحها من مكان إلى مكان ووضع نتائج التكور تحت خبرته.
كذلك نحن نرى أن ما نسميه الزمان يتميز تمامًا عن كل ما نسميه المكان، وقد طلب منَّا إينشتين أن نسلم بأن هذا التمييز وإن كان قائمًا وصحيحًا في كل بقعة من بقاع العالم على حدة، إلا أننا إذا انتقلنا من بقعة إلى أخرى فلا بد من أن يتحول اتجاه الزمان قليلًا بحيث يصبح مغايرًا لما كان عليه في البقعة الأخرى. ولسوء الحظ أن خبرتنا العملية في الحركة والانتقال لا تزال محدودة، فإن أعظم سرعة تحرك بها أحد أبناء البشر لم تزد عن ٤٠٠ ميل في الساعة في حين أن أقل سرعة تُحْدِثُ تأثيرًا محسوسًا في اختلاط الزمان بالمكان لا تقل عن ٢٠٠٠٠ ميل في الثانية الواحدة.
(٤) الحالة الآن
والآن وقد اختلط الزمان بالمكان وزالت معالم المادة واختلطت هي بالنور. ماذا يحدث للقوانين الطبيعية! إن الزمان والمكان لا يسمحان لي بشرح هذه النقطة الشرح الذي تستحقه، ولكني سأذكر وجهة النظر الحالية. إننا نقسِّم القوانين الطبيعية إلى قسمين: قسم نسميه القوانين الإحصائية، وهذه لا تعبر إلا عن قوانين الصدفة والاحتمال أمثال ذلك قانون بويل للغازات. فما هو إلا نتيجة وجود عدد كبير من جزيئات الغاز في اضطراب مستمر بحيث لا نظام إلا نظام الصدفة والاحتمال، والقسم الثاني: نسميه القوانين التطابقية، ومثال هذه القانون الذي اكتشف جحا في الحكاية المشهورة. فإن جحا كان يسوق عشرة حمير فوجد أنه إذا ركب واحدًا منها وساق الباقي ثم عد حميره فإن عددها يكون ٩، أما إذا نزل ومشى ثم عدها فإن عددها يكون ١٠ وهكذا اكتشف جحا قانونًا من القوانين لا يختلف في كنهه عن كثير من قوانين الطبيعة.
وربما كانت خير وسيلة لختام هذا المقال أن أنقل ترجمة العبارة التي ختم بها السر جيمس جينز كتابه «الكون الغامض» قال تعريبه: «لقد حاولنا أن نبحث فيما إذا كانت العلوم الحديثة عندها ما تقوله عن مسائل صعبة معينة ربما كانت إلى الأبد بعيدة عن منال العقل البشري. ولا نستطيع أن ندعي أننا لمحنا أكثر من بصيص ضعيف من النور. وربما كنا واهمين تمامًا في لمح هذا البصيص فإننا ولا شك قد اضطررنا إلى أن نُجْهِد أعيننا إجهادًا عظيمًا قبل أن نظفر برؤية شيء ما. ولذا فليس مغزى كلامنا أن العلم عنده قول فصل يلقيه، بل بالعكس ربما كان خير ما نستطيع أن نقوله إن العلم قد عدل عن إلقاء الأقوال فإن نهر المعرفة قد تعرج في اتجاه سيره مرارًا وتكرارًا بما لا يسمح لنا بأن نحكم بالناحية التي فيها مصبه.»