أين يسير بنا العلم؛ إلى العمران أم إلى الدمار؟
عنوان هذا المقال وإن كان مفهومًا في ذاته كسائر العبارات التي نكتبها ونفهمها — أو نظن أننا نفهمها — إلا أن ألفاظه إذا نحن دقَّقنا فيها وجدناها تنطوي على شيء من المغالطة التي يمتاز بها الأسلوب الأدبي الجذاب على الأسلوب العلمي الواضح. هذا العنوان يُشَبِّه لنا العلم بقائد أو بزعيم يسير بنا تحت لوائه في الطريق الذي يرسمه هو لنا ويختاره، وكأنما نحن جنده وأتباعه نأتمر بأمره وننقاد لزعامته، ثم يتساءل أو نتساءل نحن إلى أين يسير بنا ذلك القائد وإلامَ تجرنا سياسته: إلى العمران أم إلى الخراب؟ فهذا التصوير ينطوي كما ذكرت على مغالطة بابتعاده عن حقيقة الواقع، إذ من الواضح أن العلم إن هو إلا أثر من آثارنا نحن وشيء من صنعنا. فوضعه موضع القيادة وتسليمه دفة السفينة البشرية قلب لأوضاع الأمور؛ إذ السفينة سفينتنا ونحن وحدنا المسئولون عن قيادتها. على أن هذا التشبيه إنما تنعكس فيه صفة قديمة من صفات الإنسان وغريزة من غرائزه. فقديمًا صنع الناس تماثيل وأصنامًا ثم عزوا إليها قوة التحكم في مصيرهم، وأسندوا إليها القدرة على تكييف شئونهم، وما زالوا يخدعون أنفسهم في أمرها حتى عكفوا على عبادتها وخروا لها سُجَّدًا، وتاريخ العقائد البشرية حافل بالأمثلة على ذلك.
من أجل هذه الظاهرة البعيدة عن كل منطق، من أجل هذه النزعة المتأصلة في نفوسنا والتي ورثناها عن أجدادنا الأُوَل، كان موضوع هذا المقال موضوعًا له أهميته وله خطره في تطور الجنس البشري، فلا يكفي أن نجيب عن السؤال المطروح علينا بأن العلم لا يسير بنا إلى شيء ما، وإنما نحن الذين نسير بأنفسنا، فهذا الجواب وإن انطبق على المنطق الصحيح إلَّا أنه يتحاشى الهدف المقصود ويحيد بنا عن جادة الطريق، فيتركنا حيث نحن ولم نتقدَّم خطوة إلى الأمام.
لا شك أن ازدياد المعرفة البشرية ولا سيما في العصور الحديثة قد أدى إلى تغير عظيم في حياتنا المدنية والاجتماعية. ولا حاجة بي إلى أن أبين المظاهر المختلفة لهذا التغيير، فما على المرء إلا أن ينظر حوله لكي يدرك مدى هذا الانقلاب الذي أصبح رمزًا على المدينة الحالية. فمن طائرات إلى غائصات إلى إذاعة لا سلكية إلى ناطحات للسحاب إلى ألف جديد وجديد مما كان أجدادنا يحسبونه في عداد المعجزات، كل هذا شائع معروف للخاص والعام كما أن من المعروف للخاص والعام أيضًا أن هذه المستحدثات إنما هي ثمرة العلم الحديث ونتيجة من نتائجه، فالعلم قدرة تمكننا من استخدام القوى الكامنة في الطبيعة وتسخيرها لأغراضنا المختلفة.
على أنه لا بد من التمييز بين العلم وبين نتائج تطبيقه، بين العالم الأكاديمي وبين المهندس أو المخترع، فالعالم أو الباحث الأكاديمي إنما يطلب المعرفة لذاتها فهو يريد أن يستطلع حقيقة ما هو كائن ويقف على سر تركيبه، هذه الرغبة في المعرفة غريزة من غرائز البشر، وقديمًا كانت شجرة المعرفة مغرية للإنسان بحيث لا يقوى على مقاومة استهوائها لنفسه، أما المهندس أو المخترع فيستخدم العلم كوسيلة لتحقيق غرض يرمي إليه ويسعى وراءه؛ فمكسويل وهرتز ولودج إنما كانوا يطلبون تفهُّم حقيقة الإشعاع اللاسلكي ودراسة أسبابه وكيفية حدوثه وارتباطه بسائر الظواهر الكهربائية والضوئية والمغنطيسية التي تتصل به، أما ماركوني فكان يرمي إلى استخدام هذا الإشعاع — بعد أن كشف عنه غيره — في نقل رسالات البشر وأصواتهم؛ كذلك فرداي ولنتز وأوهم وجول وأمبير إنما كانوا يدرسون خواص التيارات الكهربائية وأثرها الحراري والمغنطيسي من الناحية الطبيعية والفلسفية، أما جراهام بيل وأديسون فكانا يستعينان بعلم هؤلاء وغيرهم على استحداث التليفون والإنارة الكهربائية. أردت أن أميِّز بين العلم البحت والاختراع أو تطبيق العلم لأننا إزاء تحديد للمسئولية، فالعلم لا يمكن أن تقوم ضده جريمة التخريب أو التدمير، لأن ركن النية أو القصد الجنائي غير متوافر، والعلم كما بيَّنا بعيد عن كل ريبة فيما يختص بالغاية التي يرمي إليها، وأية غاية أشرف أو أنبل من الرغبة في إحلال نور العرفان مكان ظلام الجهالة؟
لعل بعض القراء يظن أنني إنما أحاول بشيء من المهارة أن أتخلص من موقف محرج بدلًا من مواجهة الحقائق ومجابهة الموضوع، لعل هذا البعض يظن أن التفرقة بين العلم البحت والعلم التطبيقي إن هي إلا تفرقة طفيفة، وهي على أية حال تفرقة لا تهم الشخص المثقف العادي الذي ينظر إلى طائفة العلماء والمخترعين ومن إليهم كأسرة واحدة بعضهم لبعض ظهير، فكما أن المخترع يستخدم نتائج عمل المستكشف في تنميق مخترعاته كذلك المستكشف يستخدم آلات المخترع وعدده في زيادة الكشف والبحث العلمي، فهم شركاء وأعوان، ما يصدق على الفرد منهم يصدق على الجماعة، إلى هذا البعض من القراء أقول إنني أقبل هذا الموقف الذي يريدني أن أقفه، فالعلم سواء أكان بحتًا أم تطبيقًا هو العلم. وشجرة المعرفة بأصولها وفروعها وثمارها وحدة لا تتجزأ، وهي إما شجرة طيبة تؤتي أُكُلها ويمتد فيؤها فتكون خليقة بأن تنمو وتترعرع، أو هي شجرة خبيثة وإذن يتعين أن تُجتثَّ من جذورها.
فلنناقش الموضوع إذن على هذا الأساس، إلامَ يُنْتَظَرُ أن يؤدي بنا تقدُّم العلم والاختراع؟
أظن أن من المعقول أن نسأل أولًا إلامَ أدَّى بنا فعلًا هذا التقدم، هل العالم اليوم أكثر عمارًا أم أكثر خرابًا ودمارًا مما كان عليه منذ خمسمائة سنة مثلًا؟ لا أظن هذا السؤال مما يختلف فيه اثنان وما على المكابر إلا أن يبتعد عن مرافق الحياة الحديثة ويكتفي بعيشة أهل القرون الوسطى فيضيء منزله بمصباح الزيت ويسافر على ظهور الخيل والبغال والحمير، ويمتنع عن قراءة الكتب المطبوعة والجرائد اليومية، ويرسل خطاباته إلى أصدقائه مع رسول يقطع الفيافي والقفار على متن دابة، ويكتفي بطرق العلاج التي كانت معروفة في القرون الوسطى. فهذا كله ميسور لمن يريده، ولكن لا أظنني مخطئًا إذا قلت إنه لا يوجد واحد في الألف ممن يتمتعون بتمام قواهم العقلية يريد حقيقة أن يعيش على ذلك النمط.
من الجلي إذن أنَّ تقدَّم العلم والاختراع قد أدَّى بنا فعلًا إلى حالة من العمران تفضل في نظرنا ما كانت عليه حالة العمران من قبل … وكما أن الحكم على الرجل إنما يكون بأعماله، فإن كان ماضيه مقترنًا بخدمة المجتمع والإخلاص له جاز لنا أن ننتظر منه خدمة المجتمع والإخلاص له في مستقبله كذلك، يجوز لنا أن نحكم من ماضي العلم على مستقبله فننتظر منه الاستمرار في توفير سبل الرفاهية للأسرة البشرية ومحاربة المرض والفقر والجهالة التي هي ألد أعداء البشر وأقوى أسباب آلامهم وبؤسهم.
وهنا إخالني أسمع همسًا عن أهوال الحروب الحديثة، عن الغارات الخانقة والطائرات المدمِّرة وما إلى ذلك من المخترعات التي يستخدمها الإنسان في محاربة أخيه الإنسان. ولا شك أنه من الممكن أن ننظر إلى هذه الناحية من نواحي تقدم العلم بعين التشاؤم. ولكن هذا التشاؤم إنما يكون معناه الحكم على الأسرة البشرية بالجنون الوراثي. فالأسرة البشرية يمكن تشبيهها بصبي قد بدأ يقوى ويشتد ساعده كما بدأت مداركه تتسع فيزداد علمًا بأسرار القوى الطبيعية التي تحيط به. فهو يستخدمها لأغراضه المختلفة. وهو ولا شك واجد يومًا ما طريقة أو أكثر من طرق الانتحار. وأصدقاؤنا المتشائمون يريدوننا على أن نعتقد أن طلب الهلاك غريزة من غرائز هذا الصبى أو نزعة في تركيبه الجنوني، فهو بمجرد أن يعثر على طريقة مُثْلَى للانتحار سيبادر إلى استخدامها لإنهاء حياته التعسة. وكل ما أستطيع أن أقول لهؤلاء أنه إذا كان الأمر كما يزعمون فالأولى بهم أن ينتحروا من الآن اختصارًا للوقت والمجهود. أما إذا تغلبت غريزة حب البقاء فيهم فكرهوا مشورتي فليسمحوا لي أن أعتقد أن هذه الغريزة ذاتها — وهي من أقوى الغرائز في الجنس البشري — إذا أضيف إليها التعقل والحصافة اللذان سينشآن حتمًا عن زيادة المعرفة البشرية، فمن شأنها أن تخول لنا النظر إلى مصيرنا بعين المتفائل المطمئن.