الحياة العلمية في مصر
أبدأ بتحديد معنى العلم إذ إن هذا اللفظ يُسْتَخْدَم في بعض الأحايين للدلالة على معانٍ غير المعنى الذي اصْطُلِحَ عليه في الأوساط الأكاديمية وهو المعنى المقصود في هذا المقال.
فالعلم مجموعة من الدراسات لها غرض ثابت ومنهاج واضح ودائرة محددة. فأما عن الغرض فهو الوصول إلى المعرفة. وأما عن المنهاج فإن العلم يستخدم في بحثه نتائج الخبرة المباشرة عن طريق الحواس كما يستخدم التفكير المنطقي المنظم. وأما عن دائرة العلم فهذه هي الطبيعة أو هي كل ما يمكن أن يُشَاهدَ بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، هذه الأمور الثلاثة على بساطتها كثيرًا ما تغرب عن بال من يتعرضون للكلام عن العلم والعلماء، وتنقسم العلوم إلى أقسام مختلفة تبعًا لموضوعاتها، فعلم الفلك مثلًا موضوعه الأجرام السماوية وحركاتها في الفضاء وصفاتها الطبيعية، وعلم الكيمياء موضوعه المركبات والعناصر وطرائق تألُّفها وتفرقها، وعلم النبات موضوعه النبات، وعلم الحيوان موضوعه الحيوان، وهكذا. على أن تقسيم العلوم إنما هو أمر اعتباري، فالطبيعة متصلة الأجراء، ولذلك فالعلم متصل الأجزاء، والعلم بالمعنى الذي وضَّحته يُسَمَّى في بعض الأحايين بالعلم البحت تمييزًا له عن العلم التطبيقي أو التكنولوجيا، والعلاقة بين العلم البحت والعلم التطبيقي تشبه العلاقة بين العلم والعمل؛ فالكيمياء مثلًا أحد العلوم البحتة فهي دراسات يُقْصَد بها معرفة تفاعلات العناصر والمركبات معرفة موضوعية، والعلم الكيميائي إنما يفي بالوصول إلى هذه المعرفة، والكشوف الكيميائية إنما هي الزيادة في هذه المعرفة. أما الكيمياء الصناعية فعلم تطبيق يُقْصَد به تطبيق الكيمياء على الصناعة واستخدام نتائج العلم البحت في خدمة الصناعات البشرية، فالعلوم التطبيقية إذن ليست علومًا بالمعنى الصحيح وإنما هي صناعات أو فنون أو هي كما يسميها الإفرنج تكنولوجيا، ومن أبسط الأمثلة على ذلك العلاقة بين هندسة أقليدس وبين فن المساحة أو صناعة المسَّاحين، فأقليدس كما درسناه في المدارس الثانوية مجموعة فن القضايا مستنتجة من تعاريف وبديهيات أولية تعنى بدراسة الفضاء الذي نعيش فيه وبخواص هذا الفضاء الذاتية. فهي علم بحت بل لقد قيل إنها تفكير بحت، أما صناعة المساحين فأمر آخر يُقْصَد به تجزئة الأراضي بنسب معلومة بين ملاكها أو رسم خرائط يُرْجَع إليها في خدمة المصالح البشرية.
ونحن إذا رجعنا إلى تاريخ العلوم وجدنا أن اشتغال الناس بالعلوم البحتة وطلب المعرفة لذاتها قديم كقدم المدنية البشرية، فالمصريون والبابليون والإغريق والعرب بحثوا عن الحقيقة الموضوعية شغفًا بها ورغبة فيها، وليس هذا بغريب إذ إن الطفل في حداثته شغوف بطلب المعرفة وَلُوعٌ بمعرفة ما لم يكن يعرف. هذا التعطُّش إلى إدراك الحقيقة جزء لا يتجزأ من النفس البشرية يلازم الإنسان من مهده إلى لحده، وهو قوة يستخدمها المربون في تعليم النشء وتثقيفه كما أنه عامل أساسي في تطور العمران، على أنه إذا كان حب المعرفة متأصِّلًا في نفوس الناس جميعًا فإن التفرغ للعلم والعناية به وقدره حق قدره من مميزات الخاصة دون العامة من الناس، فمن لم يتذوق حلاوة العلم في صغره شب جاهلًا، بل إن الكثيرين ممن تعلموا ووصلوا إلى درجة لا بأس بها من المعرفة قلما يجدون في العلم متعة أو لذة فكرية، ومن أصعب الأمور على العالِم أن يقنع الجاهل بقيمة العلم. كما أن من أصعب الأمور على قواد الفكر في أمة جاهلة أن يقودوا الرأي العام فيها نحو الاهتمام بالعلم وهم يلجئون في الغالب إلى نوع من التحايل البريء ليصلوا إلى أهدافهم، فالجاهل لكي يقتنع يطلب شيئًا ماديًّا يقتنع به وإذن وجب لإقناعه بمزايا العلم أن تُتَرْجَم هذه المزايا إلى أشياء مادية ملموسة يفهمها أصحاب المتخيلات الضيقة.
وفي العصور الماضية من تاريخنا وعلى وجه الخصوص في العصر الإسلامي كان الحكَّام والأمراء يقرِّبون العلماء ويعترفون بفضلهم وييسرون لهم عيشهم لكي يتمكنوا من القيام بواجبهم السامي في خدمة العلم، ولولا ذلك لما ازدهرت العلوم في العصر الأموي والعصر العباسي، ولما خلد العرب لأنفسهم ما خلدوه من فضل على العلوم. وكانت الحياة العلمية في الأمة ناضجة قوية، ولو أنها كانت محصورة في دائرة من خاصة الناس فكانوا يغشون مجالس العلماء ويختلفون إليها، وكان ذلك كله مظهرًا من مظاهر الحياة العلمية في الأمة.
ولما انتقلت معارف العرب إلى الإفرنج في أوروبا نهجوا نهج العرب وقام أمراؤهم وملوكهم باحتضان الحركة العلمية وتشجيعها فأُسِّسَت الجامعات في القرون الوسطى وخاصة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ثم تلا ذلك النهضة الفكرية في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر فأُنْشِئَت المجامع العلمية في القرن السابع عشر، وازدادت الحياة العلمية والفكرية نشاطًا وحركة بين الأوروبيين حتى وصلت إلى ما هي عليه في عصرنا الحالي.
ونحن في مصر ماذا كان حظنا من هذا كله؟ من المُسَلَّم به أننا قمنا بنصيب حسن واشتركنا اشتراكًا جديًّا في تقدم العلم في عصور الحضارة المختلفة الماضية، بل إن من المؤرخين من يجعل للمصريين القدماء فضل السبق في استنباط العلوم ووضع أسس الحضارة البشرية، وسواء أصح هذا الرأي أم لم يصح، فلا شك في أننا قمنا بدور هام في تاريخ العلوم منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصر الإسلامي، أي إلى نحو القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي. كما أنه مما لا شك فيه أيضًا أنه قد أتى علينا حين من الدهر لم يكن عملنا العلمي فيه شيئًا مذكورًا، وهذا الحين يمتد ما يقرب من ألف سنة من القرن العاشر إلى القرن العشرين على وجه التقريب، فكأنما ضُرِب على آذاننا سنين عددًا. ولا أحاول اليوم أن أبحث في أسباب هذه الغفلة الطويلة وإنما أكتفي بالإشارة إليها كأمر واقع. على أنه لا بد لي في هذا الصدد من الإشارة إلى ما بُذِلَ من جهود صادقة في النصف الأول من القرن الماضي لبعث الحياة العلمية في مصر في عصر المغفور له محمد علي الكبير، فمن المعلوم أنه قام بمجهود جبار لإحياء العلوم بيننا، وأنه أرسل البعوث العلمية إلى أوروبا، وأنه نجح فعلًا في تخريج نفر غير قليل من العلماء المصريين. ولو أن هذه الحركة اتسعت وانتشرت لكان حاضرنا العلمي خيرًا مما هو الآن بكثير، ولكان في استطاعتي أن أتحدث عن مستقبلنا العلمي حديثًا آخر يرتكز إلى حاضر مجيد، ولكن الظروف قد شاءت أن تخبو النار التي أُوقِدَت وأن يُوَارَى أوارها، فكانت الحياة العلمية في مصر في أول القرن العشرين هي هي في أول القرن التاسع عشر، وكأنما أضيف قرن آخر إلى مرحلة سباتنا العلمي أو على الأصح كأنما تحركنا فرجعنا إلى حيث بدأنا.
وإن من واجب كل مشتغل بالحركة الفكرية في مصر اليوم أن يوجِّه عناية خاصة إلى دراسة هذه التجربة الفاشلة في حياتنا العلمية في القرن الماضي، وليس يكفي أن ننسبها إلى ضعف سياسي أو اضمحلال خلقي، ولو أن هذين العاملين لهما ولا شك أثر بليغ فيما حدث، بل يجب أن ندرس الوسائل التي اسْتُخْدِمَت والجهود التي بُذِلَت، وأن نعرف حقيقة أهدافها، ثم علينا بعد ذلك أن نستنبط الأسباب المباشرة لاضمحلال الحركة وعقمها؛ ليكون لنا من تاريخنا الحديث نبراس نستضيء به في توجيه جهودنا الحالية. وفي الحق أن إنشاء حركة علمية وتغذيتها وإنماءها لكي تقوم وتشتد، وأن غرس شجرة المعرفة في أمة لكي تكون شجرة طيبة أصلها ثابت تؤتي أُكُلها، أن هذا كله ما كان يومًا ما من الهنات الهينات وليس يكفي أن يقال إننا أنشأنا كيت وكيت من المعاهد العلمية أو شيَّدنا هذا وذاك من دور العلم والتعليم أو أرسلنا البعوث أو اعتمدنا الميزانيات، كل هذا وإن كان لازمًا إلا أنه غير كافٍ فمن السهل التغرير بالأمة في هذه الشئون كما هو من السهل التغرير بها في شئونها الأخرى، وخاصة إذا كانت الأغلبية الساحقة من هذه الأمة لا تزال على فطرتها البريئة. فسياسة المظاهر شيء وسياسة البناء الثابت شيء آخر، ولست أزعم أن فشلنا العلمي في القرن الماضي يرجع إلى سبب بالذات فهو في الغالب وليد ظروف متعددة أترك للمؤرخين تقديرها إلا أن من المحقق أن التجربة قد أخفقت، كما أن من المحقق أيضًا أن لنا في إخفاقها عظة بالغة.
ذكرت في أول حديثي أن للعلم هدفًا واحدًا هو المعرفة والأمم المتحضرة اليوم تتسابق في ميدان المعرفة وتتنافس تنافُسًا شديدًا، فالجامعات والمجامع العلمية في أنحاء المعمورة في جد متواصل تبحث وتنقب وتتبارى في مضمار البحث العلمي، والمجلات والنشرات التي تُخَصَّصُ لهذه البحوث تُعَدُّ بالألوف كل عام. هذه المجلات يطلع عليها العلماء والباحثون ويسجلون فيها نتائج تجاربهم وآراءهم العلمية، لا فرق في ذلك بين أمريكي وياباني أو بين إنجليزي وفرنسي فهي بمثابة مؤتمر دائم للعلوم يوحد بين وجهات النظر ويمحص الآراء ويعمل على تقدُّم العلم. وإنما تقاس الجهود العلمية لأمة بمقدار ما تنتجه في هذا الميدان فهو عنوان حياتها العلمية ومعيار رقيها الفكري. هذه المجلات التي تحوي خلاصة التفكير العلمي لا يقرؤها الرجل العادي ولا يعلم بوجودها، وإن هو قرأها فإنه لا يكاد يفقهها لاحتوائها على رموز ومصطلحات ليس لها مفهوم في ذهنه. ويحدث في بعض الأحايين أن تنشر الجرائد اليومية خبر منح جائزة نوبل إلى فلان من العلماء، فإذا قرأنا مثل هذا الخبر فإن معناه أن أعمال هذا العالم المنشورة في هذه المجلات قد وصلت إلى الحد الذي يجعل صاحبها في مصافِّ المبرزين من العلماء، ويحدث كذلك أن نسمع باسم عالم أو باحث مقترنًا برأي يُنْسَب إليه كأن نسمع باسم إينشتين مثلًا مقترنًا بالنظرية النسبية، فإذا حدث ذلك فإن معناه أن الأبحاث التي نشرها هذا العالم في هذه المجلات والآراء التي أدلى بها قد وصلت إلى الحد الذي يجعل صاحبها قائدًا من قواد التفكير العلمي وأن الرأي المنسوب إليه قد صار رأيًا يُعْتَد به بين العلماء. ولعل هذين المثالين هما مبلغ ما يصل إليه علم الرجل العادي عن حركة التقدم العلمي، وليس معنى هذا أن نهر المعرفة يجري في الظلام أو أن العلم قد أصبح نوعًا من السحر أو الطلاسم الخفية بل بالعكس أن من أميز مميزات البحث العلمي إباحته لكل فرد قادر ونشر نتائجه نشرًا حرًّا دون أية رقابة ودون أن يكون للناشر أو المؤلف أي حق من حقوق النشر أو التأليف فهو عمل يُقْصَد به وجه العلم ولا تُرْجَى من ورائه أية فائدة إلا التنافس المشروع بين العلماء. من هذا الوصف الموجَز يتضح للقارئ أن المقاييس التي يقاس بها تقدم العلم اليوم بعيدة كل البعد عن أن تكون محلية، فالعالم لا يتحدد مركزه العلمي بنسبته إلى أمة من الأمم بل بنسبته إلى مستوى عالمي لا يختلف في الصين عنه في الهند ولا في أمريكا عنه في إنجلترا. ونحن إذا أردنا لحركتنا العلمية نموًا واطرادًا وجب علينا أن نتخذ هذه المقاييس العالمية أساسًا لنا، فليس يكفي أن يكون فلان من الناس قد اشْتُهِرَ بين قومه بعلمه الواسع، وليس يكفي أن يكون شاغلًا لمنصب سامٍ، وليس يكفي أن يكون حائزًا للقب عالٍ، فإن الشهرة المحلية واللقب والمنصب بعيدة كل البعد عن أن تكون مقياسًا للعلم والعلماء، وقد كنَّا إلى عهد قريب نغتر بالمظاهر فلا نكاد نفرق بين كبر العمامة واتساع العلم. والادعاء في العلم كالادعاء في غير العلم ظاهرة معروفة يزداد خطرها بازدياد الجهل في الأمة وتفشي الأمية فيها. فعلينا إذن أن نحوط حياتنا العلمية بسياج منيع يحميها من الدخلاء والمفسدين. وإذا كان من الجائز أن يدخل التصنع والادعاء في حياتنا السياسية دون أن يفسدها تمامًا أو إذا جاز أن يحدث ذلك بقدر محدود بين الأدب والأدباء فإن حدوثه في الميدان العلمي فيه القضاء التام على كل أمل في مستقبل العلم في مصر، فالعلم أساسه الحقيقة والباطل لا يأتلفان. وفي البلاد المتحضرة توجد مجامع علمية تشرف على حركة تقدم العلم بين أبنائها وتقدر كل مجهود لإنماء العلم قدرًا حقيقيًّا منزهًا عن كل شهوة، وهي التي يرجع إليها في تقدير أعمال العلماء، كما أنها بعيدة عن كل مؤثر من شأنه أن يفسد عليها حكمها. وفي رأيي أن أول ما يجب أن يحتوي عليه برنامجنا العلمي هو إنشاء مجمع علمي على هذا النمط، بل يجب أن يحدث ذلك على الفور ودون أي تريث حفظًا لكيان العلم بيننا وصيانة لمستقبله. هذا المجمع يجب أن لا يدخله إلا من وصل إلى المرتبة العلمية الرفيعة التي تخول له الانضمام إلى مجامع البلاد المتحضرة. والمعايير التي نستخدمها في ذلك يجب أن تكون عالمية لا محلية، كما أن نظام المجمع يجب أن يكون بحيث يمكنه من أداء مهمته في هدوء واستقرار بعيد عمَّا يكتنف حياتنا اليوم من عوامل الاضطراب، ولذلك يجب أن يتمتع المجمع باستقلال تام لا يخضع في عمله لرقيب إلا الضمير العلمي الحي الذي يجب أن يتحلى به كل عضو من أعضائه، وإذا رجعنا إلى تاريخ الحركة الفكرية في أوروبا فإننا نجد أن إنشاء المجامع العلمية قد اقترن بالحياة الفكرية الحديثة منذ نشأتها، فالمجمع العلمي في إنجلترا وهو الذي يُسَمَّى «الجمعية الملكية» بدأ حياته منذ سنة ١٦٤٥م وأسس بصفة رسمية عام ١٦٦٠م حين أصدر الملك شارل الثاني ملك إنجلترا مرسومًا ملكيًّا بإنشائه، وأنشئ المجمع الفرنسي قبل ذلك بقليل، وأنشئت المجامع في برلين وفينا وروما وغيرها من عواصم أوروبا حوالي نفس الوقت، ولولا إنشاء هذه الهيئات لما وصل العلم إلى ما وصل إليه اليوم من تقدم وقوة، بل إنني لا أغالي إذا قلت إنه لولا إنشاء هذه المجامع العلمية لما تقدم العلم تقدمًا يُذْكَر.
هذه الأرستقراطية العلمية كانت ولا تزال من أظهر صفات الجامعات وألزمها لكيانها، ففي أكسفورد وكمبردج مثلًا نجد روح المحافظة على التقاليد ظاهرة في الحياة الجامعية حتى يومنا هذا، والحاصل على درجة جامعة مميز على غيره له حقوق ليست لهم، وهو يشعر بهذا الامتياز على غيره، كما أنهم يشعرون بامتيازه عليهم، وما الأردية الجامعية إلا رمز على هذا التميز. والنظام الجامعي الحديث نظام دقيق يجمع أعضاء الجامعة في أسرة واحدة، ويجعل على كلٍّ واجبات نحو هذه الأسرة، ويعاقب من يخرج على النظم الموضوعة أو يثور عليها. إلى جانب هذا يوجد احترام متبادل بين أفراد الأسرة الجامعية صغيرهم وكبيرهم، وتوجد حرية صحيحة قوامها هذا الاحترام المتبادل وليس لأحدٍ أن يتعرض لحرية غيره في القول أو في العمل ما دام النظام محفوظًا. وحرية القول أو حرية الفكر أمر مقدس في نظر الجميع كما أن لكلٍّ حرية مكفولة في العمل على إقناع غيره برأيه ما دامت وسائل الإقناع متمشية مع النظام الجامعي، وفي معظم البلاد المتحضرة تكفل الدولة هذه الحرية الجامعية وتعمل على صيانتها. فالجامعات الحديثة إذن تجمع بين صفتين متكاملتين: النظام الدقيق والحرية. أقول متكاملتين لأنه لا غنى لإحداهما عن الأخرى، بل لا خير في إحداهما بغير الأخرى، فحيث لا يوجد النظام تكون الحرية فوضى وحيث لا توجد الحرية يكون النظام استعبادًا.
ونحن في مصر قد قمنا بتشييد جامعة على النمط الأوروبي الحديث فعلينا أن نحتفظ لها بحريتها وأن نكفل لها نظامها ومن الصعب بل لعله من المستحيل على من لم يتعلم تعليمًا جامعيًّا أن يتفهم حقيقة النظم الجامعية فالنظام الجامعي كأي نظام آخر لا يعرفه إلا من خبره.
وتقوم الجامعات بنصيب وافر في تقدم العلم، فالأستاذ في الجامعة يشعر أن أول واجب عليه متابعة البحث العلمي ويضع هذا الواجب فوق واجباته الأخرى كإلقاء الدروس وتنظيم الدراسات وما إليها، وجميع أساتذة الجامعات أعضاء في المجامع والجمعيات العلمية المختلفة كل في دائرة تخصصه، ولا يقتصر الأستاذ على متابعة أبحاثه الخاصة بل عليه أن يكون ملهمًا لغيره ممن هم دونه في المرتبة العلمية ومشرفًا على بحوثهم ومرشدًا لهم، ولذلك لا يصل الأستاذ إلى كرسي الأستاذية إلا بعد أن يثبت قدرته على البحث العلمي المبتكر وعلى إرشاد غيره فيه.
فأعضاء هيئة التدريس في كل فرع من فروع العلم يؤلِّفون أسرة رئيسها الأستاذ صاحب الكرسي تعمل كوحدة متماسكة في ميدان البحث العلمي يسترشد صغيرها بكبيرها، ويتعاون الجميع على البحث والابتكار.
وميدان التنافس بين الجامعات هو ميدان البحث. والتفاضل بين الجامعات إنما يكون على أساس تبريز كل منها في هذا الميدان. فليست الجامعة باتساع مبانيها ولا بوفرة عدد أساتذتها ولا بكثرة طلابها، بل برفعة شأنها العلمي بين نظيراتها. وإذن فعلينا أن نحتفظ لجامعتنا بمركزها العلمي وأن نعمل على رفع شأنها في ميدان البحث والابتكار وألا نسمح لمستوى أساتذتها العلمي بأن ينخفض قيد أنملة عمَّا يجب أن يكون عليه.
وهذا الموضوع ينقلنا بطريقة طبيعية إلى ناحية أخرى من نواحي مستقبل الحياة العلمية. ذكرت في أول هذا المقال أن الغرض من العلم واضح وهو المعرفة وأن العلم يطلب الحقيقة لذاتها، ولكن الحياة العلمية في كل أمة تصل إلى أبعد من هذا، قديمًا قيل علم بلا عمل كشجرة بلا ثمر. والتبحُّر في العلم والابتكار فيه كما قدمت إنما يُتَاح للأقلية الضئيلة. أما الأغلبية الساحقة فتطلب العلم كوسيلة لا كغاية وليس في هذا خفض من شأن العلم ولا مساس بمقامه، فالعلم منشأ لذة فكرية في ذاته وهو أيضًا قوة لحل المشكلات البشرية فلذته وقيمته مضاعفتان. والحياة العلمية بيننا يجب أن تشمل هذه الناحية التطبيقية للعلوم. كما أنه من الخطأ أن يقتصر تفكيرنا العلمي على الناحية المادية، فكذلك من الخطأ أن يقتصر على الناحية الأكاديمية، بل إني لا أعدو الحقيقة إذا قلت أن مستقبل مصر في الجيل القادم وما بعده سيُبْنَى على مقدار نجاحنا في إنشاء الروابط المتينة الحية بين العلوم البحتة والعلوم التطبيقية أو بين العلم والعمل، ولهذا يجب إنشاء هيئة أو أكثر من هيئة لإيجاد هذه الروابط وتنميتها فمن ناحية نجد الصناعات في مصر في حاجة قصوى إلى الفنيين لحل مشكلاتها الخاصة، ومن ناحية أخرى نجد الشباب في مرحلة التعليم العالي يطالب المجتمع بعمل مفيد يؤديه، وقد كنَّا إلى عهد قريب نستقدم خبراء أجانب كلما أردنا حل مشكلة من مشاكلنا الصناعية، فدبغ الجلود في حاجة إلى خبير أجنبي، وصناعة الزجاج في حاجة إلى خبير أجنبي، والصناعات الأخرى كلها كذلك، وهذا الخبير الأجنبي كيف نشأ وكيف أُعِدَّ؟ سنجد أنه في جميع الأحوال قد تعلم تعليمًا عاليًا ثم طبَّق علمه على ناحية من نواحي الصناعة. ونحن تواقَّون إلى إنشاء صناعات متعددة بين ظهرانينا وفي كل صناعة من هذه الصناعات مشكلة أو عدة مشاكل تتطلَّب كلها الحل والشباب يتعلم العلم، فالمنطق يقضي بالجمع بين هذين الطرفين. وقد صدر مرسوم منذ أمد قريب بإنشاء معهد لهذا الغرض يُطْلَق عليه اسم المغفور له الملك فؤاد، ومنذ صدور هذا المرسوم لم يحدث شيء جدي إلى حد علمي لتحقيق الغرض المنشود منه. والمسألة في ذاتها ليست معضلة من المعضلات فهي لا تعدو الجمع بين العلم والصناعة، وفي كل أمة متحضرة نجد إلى جانب البحث العلمي البحت بحثًا من نوع آخر يُسَمَّى البحث العلمي الصناعي أو التطبيق، فكل مصنع من المصانع الكبرى به قسم خاص لبحث مشكلات الصناعة التي يزاولها، وبه معامل وعلماء متخصصون يتفرغون لحل المسائل التي تنشأ في هذه الصناعة. فكما أن تقدم العلم أساسه البحث، كذلك تقدم الصناعة أساسه البحث أيضًا. ومن الخطأ كل الخطأ أن يُظَنَّ أن في استطاعتنا الاعتماد على غيرنا في حل مسائلنا الفنية الصناعية. صحيح أننا نستطيع أن ننقل عن غيرنا الكثير من أصول الفن والصناعة ولكن المسائل الصناعية التي تنشأ لنا والتي تتطلب الحل لا مفر من الاعتماد فيها على عملنا نحن، فالظروف تتغير من بلد إلى آخر ونتائج البحث الصناعي ليست كنتائج البحث العلمي منشورة للجميع، بل إنها تحاط بسياج من التكتم فإذا نجحت وصار لها قيمة اقتصادية أُحِيطَت بسياج من الحقوق القانونية. وكثير من مشاكلنا الصناعية خاص بنا كاستخراج الثروة المعدنية الذي يرتبط بجيولوجية أرضنا، وكصناعاتنا الزراعية التي ترتبط بأنواع محاصيلنا وبظروفنا الاقتصادية.
وفي رأيي أنه يمكن البدء في تحقيق هذا الغرض بدءًا متواضعًا بتخصيص مبلغ غير كبير من المال للبحث الصناعي، فالشباب بعد أن يتم تعليمه العالي الأكاديمي يُوَجَّه نحو البحث الصناعي في معمل خاص أو في معاملنا الحالية يرشده في ذلك أساتذة متخصصون وإذا نجحت هذه التجربة واقتنع أرباب الصناعات في مصر بفائدة هذه البحوث أمكن تخصيص مبالغ أكبر لهذا الغرض، وفي أوروبا يخصص أرباب الصناعات مبالغ طائلة للبحوث الصناعية لاقتناعهم بفائدتها، بل إن بعضهم ليخصص أمواله للبحوث العلمية البحتة لاقتناعهم بأن تقدم العلوم البحتة هو أساس التقدم الصناعي. فمثلًا نجد «السير ألفرد يارو» وهو قطب من أقطاب الصناعات في إنجلترا يمنح المجمع البريطاني في لندن مبلغ مائة ألف جنيه ليُصْرَف ريعه في البحث العلمي البحت وتُقَدَّر الأموال التي يخصصها أرباب الصناعات في إنجلترا وأمريكا للبحث العلمي بمئات الملايين من الجنيهات.
لهذا أرى أن يُخْتَار المؤلفون على قدر الإمكان ممن يحسنون صناعة اللغة، فإذا تعذر ذلك اشترك معهم من يعاونهم في ذلك.
وموضوع التأليف العلمي وارتباطه بحياتنا الفكرية إنما هو جزء من موضوع أوسع وأعم، ألا وهو العلاقة بين حياتنا العلمية الماضية والمستقبلة، وهو موضوع الأسس التي يجب أن نبني عليها صرح مجهودنا العلمي، فالحياة العلمية في كل أمة عنصر هام من عناصر ثقافتها العامة، وكما أن الأمة المتحضرة تكون لها ثقافة أدبية ترتبط بتاريخها وتتجسم في لغتها ويكون عنوانًا عليها ذلك التراث الخالد من شعر شعرائها ونثر كتابها، وكما أن الأمة المتحضرة أيضًا تكون لها ثقة فنية تتمثل فيما أبدعته أيدي فنانيها في مختلف عصور تطورها من تلك الرموز الملموسة على المشاعر الخفية تلك الرسالات الملهمة التي تنبعث عن قلب الفرد فتصل إلى قلب الأمة، وربما تعدته إلى قلب الإنسانية ذاتها، أقول كما أن الأمة المتحضرة تكون لها هذه الثقافة الأدبية وتلك الثقافة الفنية وغيرها من ثقافة خلقية ودينية وسياسية وما إليها، كذلك تكون للأمة المتحضرة ثقافة علمية ترتبط بتاريخ التفكير العلمي فيها وتحتوي ما ابتكره عقول أبنائها من الآراء والنظريات العلمية وما وصلت إليه من الكشوف في سائر ميادين البحث العلمي وما نقلته وهذبته واستساغته من آراء غيرها مما دخل في صلب المعرفة البشرية على مر العصور والأجيال. وحياتنا العلمية في حاجة إلى أن تتصل بماضينا فتكسب بذلك قوة وحياة وإلهامًا. ونحن في مصر اليوم ننقل المعرفة عن غيرنا ثم نتركها عائمة لا تمت بصلة إلى ماضينا ولا تتصل بتربتنا فهي بضاعة أجنبية عليها مسحة الغرابة، غرابة في اللفظ وغرابة في المعنى إذا ذُكِرَت النظريات قُرِنَت بأسماء أعجمية لا يكاد المرء منا يتبين معالمها، وإذا عُبِّرَ عن المعاني فبألفاظ مخيفة يفر منا الفكر وترتبك أمامها المتخيلة، ومن الواجب أن نعمل على تغيير هذا الحال، فأولًا يجب أن ننشر الكتب العلمية التي وضعها العرب ونقل عنها الإفرنج ككتب الخوارزمي وأبي كامل في الجبر والحساب وكتب ابن الهيثم في الطبيعة وكتب البوزجاني والبيروني والبتاني، وغيرهم كثيرون من قادة التفكير العلمي وعظماء الباحثين المدققين. هذه الكتب موجودة الآن ولكن أين؟ إنها محفوظة في مكتبات ومتاحف في مشارق الأرض ومغاربها يعرف عنها الإفرنج أكثر مما نعرف ويقومون بترجمتها وشرحها والتعليق عليها وينشرون هذا كله بلغات أجنبية في مجلاتهم العلمية، وما أجدرنا بأن نكون نحن القائمين على ذلك. وثانيًا يجب أن نعنى بتمجيد السلف من علمائنا وباحثينا فيكون لنا في ذلك حافز للاقتداء بهم وتتبع خطاهم، وقد بُذِلَت بعض الجهود في هذا السبيل في السنين الأخيرة فأُقِيمَ حفل لتخليد ذكرى ابن الهيثم ونُشِرَ كتاب الخوارزمي في الجبر والمقابلة. وعلينا في السنين الآتية أن نزيد في هذه الحركة وأن ننظمها. فالتأليف العلمي وإحياء كتب العرب وتمجيد علمائهم أمور ثلاثة يجب أن تُدْرَج في جدول أعمال حياتنا الفكرية في المستقبل القريب.