كيف ينبغي أن يُوَجَّه العلم والعلماء لتحقيق تعاون عالمي؟
لن أخوض في أمر التعاون بين الأمم من ناحية إمكانيته أو استحالته، وإنما أفترض افتراضًا أن النية قد عُقِدَت على هذا التعاون. فالمقصود من هذا المقال إنما هو الوصول إلى معرفة ما ينبغي أن يكون. ومعرفة ما ينبغي أن يكون خطوة لازمة وسابقة بالضرورة لتكييف ما هو كائن.
كيف ينبغي أن يُوَجَّه العلم والعلماء لتحقيق تعاون عالمي؟ إن التعاون العالمي بين العلماء قائم منذ سنين. فالعلماء في مشارق الأرض ومغاربها يكوِّنون أسرة واحدة تربطهم روابط لا انفصام لها. فالعالم الأمريكي في معمله يتم بحثًا ونشره في مجلة أمريكية باللغة الإنجليزية وبعد مدة وجيزة تكون هذه المجلة في أيدي علماء أوروبا وآسيا وأفريقيا وأستراليا، فإذا هم عاكفون على دراسة هذا البحث، ثم هم بعد ذلك معقبون عليه أو ممحصون له. وقد يحدث أن يثير هذا البحث اهتمام عالم في آسيا، فيقوم بتجربة متممة لتجربة العالم الأمريكي وينشر نتائجها في مجلة يابانية بلغة أخرى كاللغة الألمانية، ثم يتلقف الكرة بعد ذلك عالم نرويجي ينشر بحثه باللغة السويدية، وهكذا. بل إن الذي يحدث في كثير من الأحايين هو أن يشتغل العلماء في قارات البسيطة المختلفة في بحث مسألة واحدة، فتتكون فرق من العلماء في فروع العلم تجمعهم الروابط العلمية وإن تفرقوا على سطح المعمورة.
هذا التعاون العلمي قائم بين العلماء منذ سنين وقد نشأ عن تنظيمه والعناية به في أواخر القرن الماضي، وفي القرن الحالي ازدياد عظيم في تقدم العلم ووفرة في الإنتاج العلمي. وعدا تبادل المجلات العلمية بين الأمم المختلفة توجد وسائل أخرى لتحقيق تعاون العلماء كعقد المؤتمرات وتبادل الأساتذة بين الجامعات وإرسال البعثات العلمية وانتخاب أعضاء أجانب ومراسلين في المجامع العلمية وغير ذلك من وسائل التعاضد والتساند. وقد نشأ عن هذا كله أن صار العلماء في مشارق الأرض ومغاربها ينظرون إلى أنفسهم كأسرة واحدة يعين كبيرُها صغيرَها ويعطف عليه، ويجل صغيرُها كبيرَها ويسترشد به، وللجميع غاية مشتركة هي رعاية شجرة المعرفة وإنماؤها وإحلال نور العلم محل ظلام الجهالة. وفي وسط هذا كله يوجد التنافس السليم المشروع بين العلماء جميعًا، تنافس لا يشوبه حقد أو أثرة حتى إذا ما وصل عالم إلى الكشف عن حقيقة جديدة ووُفِّقَ في الوصول إلى ما لم يُوَفَّقْ إليه غيره، أَكْبَرَ العلماء نبوغه وعبقريته وجِدَّه وإخلاصه وأحلوه المكان اللائق به بينهم. ولا شك في أن حجر الزاوية في بناء هذا المجهود التعاوني إنما هو حب العلماء للحق وشغفهم به وإخلاصهم في طلبه فهذا هو الذي يلهمهم أعمالهم ويهديهم سبلهم.
ومما تجب ملاحظته أن هذا التعاون بين علماء الأمم المختلفة لم يكن ليتحقق لو لم يسبقه تنظيم التعاون بين علماء الأمة الواحدة، وهذه حقيقة أرجو أن نوليها ما تستحقه من عناية. لأنها تنطبق لا على التعاون العلمي وحده، ولكن على كل تعاون منتج بين الأمم. فقبل أن توجد الجمعيات التي تنظم المؤتمرات التي تشترك فيها الدول المختلفة وُجِدَت الجمعيات التي يربط كل منها بين علماء الدولة الواحدة. وبعبارة أخرى قد كان من الضروري أن ينشأ المجمع العلمي في باريس والجمعية الملكية في لندن والمجامع العلمية في وشنطن وطوكيو قبل إنشاء الجمعيات الدولية الدائمة في جنيف وبروكسل.
وخلاصة ما تقدَّم أن التعاون بين العلماء حقيقة واقعة، وأن أساليب هذا التعاون قد دُرِسَت ونُظِّمَت بحيث لا ينقصها إلا التطور الطبيعي دون مساس بالأسس التي بُنِيَت عليه. إلا أن هذا التعاون محدود المدى فهو لا يخرج عن دائرة العلوم الأكاديمية، وهي دائرة تكاد لا تمس حياتنا اليومية، فالعلماء يشتغلون في معاملهم ومكتباتهم وجامعاتهم ويحضرون اجتماعات جمعياتهم العلمية ويطالعون نتائج أبحاث زملائهم من العلماء، ثم هم يحضرون المؤتمرات الدولية ويتعاونون جميعًا على غرضهم المشترك، وهو الوصول إلى المعرفة. وهم في هذا كله بعيدون عن مشاكل السياسة والحرب والاجتماع لا يعنون بأمرها إلا بقدر ما يعني الفرد العادي أو دون ذلك. لا شك في أن موقف العلماء هذا من المجتمع موقف تقليدي قد تحدد في القرون الوسطى، بل إنه قد تحدد منذ العصر الإغريقي والعصر الإسلامي، فمن ذلك الحكاية التي تُرْوَى عن أقليدس؛ إذ دخل عليه رجل فوجده يرسم دوائر ومثلثات، وينعم النظم في أشكالها الهندسية، فسأله ما الفائدة من هذا كله. فكان رد أقليدس أن صفق بيديه فحضر خادمه فقال أقليدس للخادم أعطِ هذا الرجل دينارًا.
ومغزى هذه الحكاية أن العالم إنما يطلب العلم لذاته شغفًا به وحبًّا فيه، فمَن كان يريد الفائدة المادية فيطلبها عن طريقها وليترك العلماء منهمكين في بحوثهم مقبلين عليها ناعمين بها. هذا هو الموقف التقليدي للعلم إزاء المجتمع، وهو موقف سليم في حد ذاته أو أنه كذلك من وجهة نظر العلم، إذ لا شك في أن النفس البشرية توَّاقة إلى المعرفة، وحب الاستطلاع غريزة لا تقل في أهميتها أو في عمقها النفسي عن غيرها من الغرائز البشرية، وليس لإنسان أن يعطي لأي عمل من أعمال البشر قيمة أعظم من قيمة الاشتغال بالعلم. ولكن أَمِن الممكن أن يبقى العلماء في صوامعهم متجاهلين ما بين عملهم وبين المجهودات البشرية الأخرى من صلة تزداد بمرور الزمن؟ كلنا يعلم أن الصلة بين نتائج البحوث العلمية وبين حياتنا اليومية إذا أمكن إهمالها أو التغاضي عنها في القرون الوسطى لضآلتها في ذلك العهد، أقول إذا أمكن ذلك في القرون الوسطى فقد صار غير ممكن في عصرنا الحالي، فكل ما يحيط بنا في حياتنا الحديثة أو جله مرتبط بالعلم بل وناتج عنه، والعلماء إذا استطاعوا أن يعيشوا في بروجهم العاجية في القرن السادس عشر دون أن تزعجهم ضوضاء الحياة المحيطة بهم فإنهم لن يستطيعوا ذلك اليوم وقد ارتفعت جلبة حياة الأمم والأفراد بحيث لم تعد تقي العلماء منها بروجهم ولا صوامعهم — والغريب في هذا الأمر أن هذه الجلبة التي أصبحت تقلق راحة العلماء إنما هي نتيجة لما فعلته أيديهم. فهم مع حرصهم الشديد على عيشتهم الهادئة ليتفرغوا للعلم والبحث العلمي قد أعطوا المجتمع نتائج بحوثهم، فلم يلبث أن استخدم هذه النتائج في إحداث تلك الجلبة التي تعكر على العلماء صفوهم وتكدِّر هدوءهم. والأدهى من ذلك أن هؤلاء الذين يحدثون الجلبة بطياراتهم وسياراتهم ويعكرون صفو الحياة بدباباتهم ومدافعهم قد بدءُوا يُحدثون نوعًا جديدًا من الصخب في أقوالهم، فهم يزعمون أن هؤلاء العلماء الوادعين الهادئين هم المسئولون عن هذه الآلات المستحدثة التي تضج بها الأرض والسماء، وهم يلقون التبعة على العلم والعلماء فيما استحدثوه من آلات مُهْلِكَة وأدوات مُفْزِعَة. ولهذا لم يعد من الممكن للعلم أن يحتفظ بموقفه التقليدي إزاء المجتمع وأن يبقى العلماء قابعين في صوامعهم وبروجهم العاجية، بل صار عليهم أن يتبصروا ما حولهم وأن يعيدوا النظر في موقفهم إن لم يكن لسبب آخر غير الاحتفاظ بهدوءهم وراحة بالهم. على العلم إذن أن ينظم العلاقة بينه وبين المجتمع، وعلى العلماء أن يدرسوا هذه العلاقة وأن يحددوا ما ينبغي أن يكون عليه الحال بين العلم والمجتمع، وأن يوجهوا مجهوداتهم في هذا السبيل توجيهًا صحيحًا يكفل للعلم النماء ويؤدي بالبشر إلى الرخاء.
ويظهر لي أن أول نقطة جديرة بالبحث في هذا الصدد إنما هي المسئولية الأخلاقية التي تقع على عاتق العلم والعلماء أو يُظَنُّ أنها تقع على عاتقهم إزاء تلك الآلات والمخترعات الجهنمية التي ترمي إلى إهلاك البشر وتعذيبهم. وهنا يجدر بالمفكر أن يفرق بين العلم البحت الذي يرمي إلى المعرفة لذاتها وإلى نوع آخر من المجهود البشري له صلة بالعلم وإن لم يكن منه في شيء وأقصد به الاختراع أو العلم التطبيقي كما يُسَمَّى. ويتميز العلم التطبيقي عن العلم الصحيح أو العلم البحت بالغرض الذي ينشده والهدف الذي يسعى إليه. فالاختراع أو العلم التطبيقي لا ينشد الحقيقة ولا المعرفة وإنما يطلب شيئًا آخر هو استحداث آلة أو وسيلة تمكن صاحبها من فعل معين كالطيران في الجو أو الغوص في الماء أو تدمير هدف أو تسميم نفر من الناس أو غير ذلك من الأغراض التي يسعى إليها الساعون.
والنقطة الجوهرية في هذا الموضوع أنه لولا المعرفة التي يصل إليها العلماء لما تمكن المخترع من استحداث آلته. فإذا كانت الآلة ضارة أو مهلكة جُعِلَ العلم مسئولًا عنها بطريق غير مباشر. ولا شك في أن المسئولية الحقيقية في استخدام مثل هذه الآلات إنما تقع على الذين يقومون على وضعها وعلى استخدامها في التدمير والتعذيب. فكل علم يمكن أن يُسْتَخْدَم في الخير كما يمكن أن يُسْتَخْدَم في الشر، وكل ما يمكن أن نطلبه إلى العلماء أن يبينوا الأخطار التي تنجم عن تطبيق علمهم في اختراع مثل هذه الآلات. وعلى القائمين على تنظيم التعاون العالمي أن يسنوا القوانين لدرء هذه الأخطار، وأن يعاملوا من تحدثه نفسه باستخدام نتائج العلم في التدمير والتخريب معاملة المجرم سواء بسواء، وأن يكون لديهم من سلطة التنفيذ ما يمكنهم من معاقبة المجرمين والقضاء عليهم وقطع دابرهم. والنظام القائم الآن في الأمم المختلفة يسمح لكل مخترع باختراع ما يشاء من آلات كما يسمح له بتسجيل اختراعه بحيث يصبح له الحق في الحصول على الفائدة المالية التي تنشأ عن اختراعه، ولا تفرق القوانين الحالية بين المخترعات المختلفة ضارها ونافعها. وأكثر من ذلك تقوم كل حكومة بتشجيع المخترعين على استحداث وسائل التدمير والتخريب وترصد لذلك الأموال في ميزانياتها ويتسابق الجميع في هذا الميدان تسابقًا عنيفًا. ولا شك في أن هذا النظام فاسد يجب تغييره إذا كانت الأمم جادة في طلب التعاون العالمي، كما يجب أن يحل محله نظام آخر مبني على تفرقة واضحة بين ما هو مشروع وما ليس بمشروع في الاختراعات والوسائل المستحدثة، فإذا وُضِعَ نظام كهذا وتعاونت الأمم على تنفيذه بإخلاص وكانت لديها الوسائل الناجعة لضمان تطبيقه. أقول إذا حدث كل هذا فإن المخترعين سيتجهون باختراعاتهم في النواحي المشروعة، ونكون بذلك قد وجهناهم توجيهًا صحيحًا نحو فائدة البشرية. ويجب أن تُعَامَل الحكومات في هذا معاملة الأفراد سواء بسواء. فالحكومة التي تشجع المخترعات الضارة تُعْتَبَر حكومة مجرمة ويحال بينها وبين غرضها الدنيء بما يكون لدى القائمين على تنفيذ هذا النظام من وسائل السلطة المشروعة. ولست أزعم أن هذا النظام كفيل بمنع كل اختراع ضار بالبشرية، فالقانون والعقوبة لا يمنعان من ارتكاب الجريمة على وجه الإطلاق، ولا شك في أن بعض الحكومات أو بعض الأفراد ستحدثهم نفوسهم الشريرة بالخروج على القانون وارتكاب جريمة الاختراع المهلك إلا أن هؤلاء سيكونون أقلية يستهجنها الرأي العام بين الأمم ويوقع بها العقاب المنصوص في مواد القوانين. ولعل البعض يظنني مستغرقًا في الخيال حين أتكلم عن معاقبة الحكومات، إلا أنني كما ذكرت لا أتعرض لموضوع التعاون بين الأمم من ناحية إمكانيته أو استحالته، بل أتكلم عما ينبغي أن يكون، وإذن فلا يمكن أن يقوم اعتراض على قولي مبني على افتراض عدم احتمال التعاون. وإذن فالعلم إنما يرمي إلى المعرفة ولا يمكن أن يهتم بالتخريب. والمخترعون ومن يقوم على تمويلهم وتشجيعهم هم الذين تقع عليهم التبعة الأولى، وهؤلاء إذا نُظِّمَت أمورهم ووُضِعَ لهم قانون نافذ ترتضيه الأمم وتسهر عليه استقام الحال. هذه هي الخلاصة. ولكن أليس معنى هذا أن العلماء إنما يتملصون بذلك من كل تبعة ويلقونها على غيرهم خطأً أم صوابًا، ثم يتركون الأمور والتنظيم لغيرهم ويعودون إلى صوامعهم وإلى موقفهم التقليدي إزاء المجتمع؟ وإذا كان الأمر كذلك، وأخشى أنه كذلك، فما هو الدور الإيجابي الذي يريد العلماء أن يقوموا به في التعاون العالمي؟
أذكر أنني حضرت مؤتمرًا عُقِدَ في لندن حوالي عام ١٩٣٠م سُمِّيَ المؤتمر الأول لتاريخ العلوم وقد حضر هذا المؤتمر نفر غير قليل من العلماء قادمين من أمم متعددة. في هذا المؤتمر سمعت الخطباء يضربون على نغمة واحدة، ألا وهي أن تاريخ العلوم يجب أن يُعْنَى به العناية كلها؛ لأن التقدم العلمي أهم بكثير للبشرية من الحروب التي يسجلها التاريخ، وقد كان الغرض لأول من عقد هذا المؤتمر إثارة اهتمام الناس بتاريخ العلوم وتوجيه الجامعات والمدارس نحو العناية بهذه الناحية من نواحي التاريخ. وقد ذكر الخطباء وكرروا أن العلم هو الذي أعطى المجتمع البشري جل ما يملك من وسائل الحضارة والرفاهية، وعابوا على المجتمع أن ينكر جميل العلم والعلماء فلا يحفل بأمر تاريخ العلوم في حين أنه يُعنى العناية كلها بتاريخ الملوك والأمراء وما حدث بينهم من حروب ومعاهدات وأشياء أخرى كثيرة هي في الواقع ونفس الأمر قليلة الأهمية تكاد تكون تافهة في تاريخ تطور البشرية إذا قيست بتاريخ العلم والاختراع. وقد تساءل بعض المتكلمين أيهما كان أكبر أثرًا في تطور البشرية حروب نابليون أم اختراع جيمس وات للآلة البخارية، ولماذا نعنى بتلقين أطفالنا ما حدث لنابليون في حياته العامة من أحداث حربية وسياسية، بل إننا لنزيد على ذلك ما حدث له في حياته الخاصة من أمور عادية، لماذا نفعل كل ذلك ولا نلقن النشء كلمة واحدة عن تاريخ اختراع الآلة البخارية وعن حياة ذلك المخترع العظيم جيمس وات وما بذله من مجهود مُضْنٍ في عمله المجيد. رجل يُقتِّل الناس ويرمل النساء وييتم الأطفال نعده بطلًا ونعنى بشأنه العناية كلها، وآخر يرفه عن الناس ويجلب لهم الخير والحرية والسعادة فلا نكاد نذكره أو نتحدث عنه. ولا شك أن هذا التساؤل ينطوي على منطق قوي وإدراك صحيح لقيم الأشياء، إلا أنني لاحظت أن هؤلاء الخطباء في ذلك المؤتمر بالرغم من قوة منطقهم وصحة تفكيرهم لم يصلوا إلى شيء يُذْكَر من وراء عقد مؤتمرهم. فالمؤتمر نُظِرَ إليه كاجتماع عادي لطائفة من العلماء تنازل أحد وزراء الدولة بافتتاحه ثم أُلْقِيَت الخطب وانتهى الاجتماع على ما تنتهي عليه أمثاله من اجتماعات العلماء، وبقيت مناهج الدراسة والامتحانات العامة في سائر الأمم تعنى بأمر نابليون وتهمل أمر جيمس وات. وقد دار بيني وبين بعض المؤتمِرِين في ذلك الحين حديث قوامه هذا الإعراض من جانب المجتمع عن أمر العلم والعلماء وهذا الاعتكاف عن المجتمع من جانب العلماء أنفسهم. ثم تساءلنا إذا كان العلم يمنح المجتمع كل أسباب الرفاهية، فلماذا لا يكون هو صاحب السلطان في تنظيم هذه الرفاهية التي هو أصلها ومنبع معينها، ولماذا يعطي العلم للمجتمع النور الكهربائي والقدرة الكهربائية كهبة خالصة لوجه الله تعالى، هذه الهبة التي يُقَدَّر ريعها السنوي بمئات الملايين من الجنيهات، ثم هو بعد ذلك يعود فيستجدي المجتمع بضعة قروش أو جنيهات ليصرفها في البحث العلمي. ألم يكن أولى به ألا يهب شيئًا وأن يحتفظ لنفسه بكل شيء، أو على الأقل أن يحتفظ لنفسه من الهبة بقدر حاجته؟ هذه هي الأسئلة التي عنَّت لنا ولا تزال تعنُّ للمفكِّر كلما أمعن النظر في العلاقة التي ينبغي أن تتكون بين العلم والمجتمع. فلما أعلنت الحرب الحالية نشأ إلى جانب هذه الأسئلة سؤال آخر هام هو الآتي. أيستطيع العلم والعلماء أن يقفوا منعزلين عما هو حادث في العالم اليوم من تخريب وتدمير، خصوصًا إذا لاحظنا أن ما وهبوه للمجتمع من العلم هو السبب الأول الذي لولاه لما أمكن هذا التدمير. وأليس من واجبهم وهم قوم قد جُبِلُوا على حب الخير والحق أن يبذلوا قصارى جهدهم كي لا تتكرر المأساة الحالية، وهي إن تكررت كانت في الغالب أدهى وأمر؟ لنفرض أن رجال السياسة ورجال الأعمال في هذه الحرب لم يفلحوا في أن يحققوا التعاون العالمي المنشود بين الأمم أليس العلماء في مركز يسمح لهم بإنقاذ البشرية من سوء هذه العاقبة؛ قبل أن أحاول الإجابة على هذه الأسئلة سأبين الكيفية التي يتبعها العلماء في منح ثمرات عقولهم إلى المجتمع، والطريقة التي يسير عليها المجتمع في الاستفادة من هذه الثمرات. إن الأديب أو الشاعر أو المؤلف الموسيقي إذا ألَّف كتابًا أو رواية مسرحية أو قطعة موسيقية فإن القوانين الوضعية في معظم البلاد المتحضرة تجعل لهم حقوقًا مصونة، ولو إلى حين بحيث لا يستطيع ناشر أو مخرج أو عازف أن يستفيد من هذا الإنتاج العقلي استفادة مادية بغير رضاء المؤلف. هذا هو الحال في الأدب والموسيقى. أما في الإنتاج العلمي البحت فالأمر على عكس ذلك. لنفرض أن عالمًا كشف عن قانون من قوانين الطبيعة أو عن ظاهرة من الظواهر التي لم تكن تُعْرَف من قبل. إذا حدث ذلك، وهو حادث في كل يوم، فإن هذا العالم يرسل عمله إلى إحدى الجمعيات أو المجلات العلمية فتنشره على الملأ، ويكتفي العالم من عمله باللذة الفكرية التي تعود عليه وبالفخر والتكريم الذي يناله بين مصافِّ العلماء، وقد تمنحه إحدى الهيئات لقبًا أو مدالية، أو إحدى الحكومات وسامًا أو رتبة، وإن كان من الطراز الأول بين العلماء فربما مُنِحَ جائزة نوبل وهي جائزة مالية لا تتعدى قيمتها بضعة ألوف من الجنيهات. هذا هو كل ما يعود عليه من فائدة أدبية أو مادية. ولنفرض أن مخترعًا اطلع على عمل هذا العالم المنشور في المجلة العلمية، واستخدم هذا العلم الجديد في اختراع آلة لها خطرها وأثرها في حياة المجتمع. إن القوانين والتقاليد الحالية لا تعطي للعالم صاحب الكشف الأول ولا للجمعية العلمية التي نشرت بحثه ولا للجامعة التي ينتسب إليها أي حق من الحقوق المدنية إزاء هذا المخترع الذي استفاد من مجهوداتهم جميعًا. وقد حدث هذا مرارًا وتكرارًا، بل هو حادث في كل يوم ومن الأمثلة الظاهرة عليه الراديو أو التخاطب اللاسلكي فصاحب الفضل الأول في هذا الاختراع إنما هو العالم الأسكتلندي كلارك ماكسويل الذي قال لأول مرة بوجود أمواج كهربائية تنتقل في الفضاء بسرعة الضوء، ثم تبعه هاينزخ هيرتز العالم الألماني، وهو الذي أثبت وجود هذه الأمواج كحقيقة واقعة ودرس خواصها ومالها من صفات. وقد قنع كل من ماكسويل وهيرتز من عملهما باللذة الفكرية والفخر العلمي، ثم جاء ماركوني وغيره من المخترعين فاستغلوا نتائج أبحاثهما وأبحاث غيرهما من العلماء استغلالًا ماديًّا عاد عليهم وعلى غيرهم بالربح الوفير. أردت أن أشرح هذه النقطة لما لها من ارتباط وثيق بالموضوع الذي نحن بصدده.
وبعدُ، فهل نغير قوانيننا ونظمنا بعد الحرب بما يجعل لكل عالم ملكية ما يصل إليه من كشف بحوثه، أم هل نحول مجامعنا وجمعياتنا العلمية إلى شركات مساهمة تفرض ضريبة على كل من يستخدم نتائج البحث العلمي لغرض من الأغراض المادية؟
في مصر القديمة كان العلم وقفًا على نفر قليل من رجال الدين وزعماء الدولة، ففي ذلك العصر البعيد المحوط بكثير من الشك كان رجال الدين ورجال الدولة يعلمون ما للعلم من قوة وسلطان وينظرون إليه كسلاح يستعينون به على الحكم ويُخْضِعون به الناس للكنيسة وللدولة. هكذا كانت حالهم في ذلك العهد ولا شك في أننا اليوم وإن أُعْجِبنا بدهاء هؤلاء الزعماء ومقدرتهم إلا أننا بعيدون كل البعد عن أن ننظر إلى العلم هذه النظرة الشاذة البغيضة. بل نحن على النقيض من ذلك ننظر إلى العلم نظرتنا إلى الهواء أو إلى النور، ونجعله حقًا طبيعيًّا لكل إنسان ونرى في انتشاره بين الناس تعميمًا للخير وقضاء على شر من أعظم الشرور وأفتكها بالبشرية وهو الجهل. فالعلم إذن نور يجب أن يشع، وخير يجب أن يعم، وأول واجب على العلماء إنما هو حمل شعلة العرفان ونشر ضيائها وتبديد غياهب الجهالة. وليس يُعْقَل أن نرجع في تفكيرنا إلى عصر المصريين القدماء أكثر من أن نرجع إلى عهد السحر والتنجيم. ومع هذا فإننا نشعر جميعًا أن القدرة الناشئة عن العلم يجب ألَّا تكون في متناول كل سفيه يعبث بها كيف شاء، بل يجب أن تحاط بسياج يعصمها ويعصم الناس من كل عبث بها وبالناس، ومن كل محاولة لاستخدامها في الضار دون النافع، فالشخص الذي يمنح القوة والسلطة يجب في الوقت ذاته أن يؤتى الحكمة وأن يكون له مُثُل عُليا تعصمه من البطش وتقي الناس شر طغيانه، وإلا فسدت الأرض وعمَّ الخراب.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نعلم أن العلم والحكمة مقترنان من قديم الزمان حتى ليكادان يترادفان والفلسفة مرادف ثالث لهما، وقد نشأ العلم الحديث كفرع من فروع الحكمة أو الفلسفة سُمِّيَ الفلسفة الطبيعية، ولا تزال الجامعات إلى اليوم تستخدم لفظ الفلسفة بمعنى العلم حين تمنح درجات الدكتوراه في الفلسفة فقد كان العلماء ولا يزالون يتحلون بصفات نفسية وخلقية تُعْتَبَر ملازمة لصفتهم كعلماء، فالعلم والفضل والخلق القويم، كل هذه توائم لا انفصال لها. وإذن فلا يكفي أن يعطي العلماء علمهم إلى المجتمع مجردًا بل عليهم أن يعطوا إلى جانبه تلك الصفات الخلقية السامية التي هي جديرة بالعلم وقرينه بل متممة له، وليس هذا المعنى جديدًا بل هو شائع ومعروف، فمدارسنا وجامعاتنا وإن كانت دورًا للعلم إلا أنها في الوقت ذاته دور للأخلاق. وتلقين المعرفة منذ الصغر يقترن بالتربية التي هي التقويم أو تكوين الخلق كما يقول المربون، ويظهر لي أن في هذا المعنى البسيط مفتاح المشكلة التي نحن بصددها. فالمأساة التي نشاهدها حولنا اليوم والفتك الذريع بالبشرية والآلات المهلكة التي تُنْسَبُ إلى العلم كل أولئك مرتبط ارتباطًا جوهريًّا بوجوب اقتران العلم بالقانون الخلقي. أو بعبارة أخرى أن هذا التدمير وهذه الفظائع هي نتيجة فصل العلم عن القانون الخلقي. والعلماء لم يعد لهم أن ينظروا إلى أنفسهم كطلاب للمعرفة فحسب، بل عليهم أن يذكروا واجبًا آخر هو الدفاع عن المبادئ الخلقية القويمة، وكما أن على العالم أن ينشر علمه بين الناس وأن يحميه ويدافع عنه، بل ويضحي من أجله، كذلك عليه في الوقت ذاته أن ينشر المبادئ الخلقية القويمة وأن يدافع عنها ويضحي من أجلها، وإذا ذكرت الأخلاق والمبادئ الخلقية فإنما أقصدها بأوسع معانيها، فالقانون الخلقي ينظم سلوك الأفراد كما ينظم سلوك الجماعات، وهو ينظم سلوك الأمم المختلفة فيما بينها، ولا شك في أننا في حاجة اليوم إلى تطبيق المبادئ الخلقية في مدى أوسع. ففي الماضي كانت الحياة تختلف اختلافًا بيِّنًا عمَّا هي عليه الآن، وكان سلوك الفرد مع أخيه أو جاره محدودًا بظروف الحياة في تلك العصور، وكان سلوك مجتمع نحو آخر أكثر تحديدًا. أما اليوم فقد اتصل الأفراد في المجتمع الواحد اتصالًا وثيقًا كما اتصلت الأمم في أنحاء المعمورة، وسهلت وسائل الانتقال، وأصبح من اليسير التراسل والتخاطب بين القارات، كل هذا قد وسع مدى تطبيق المبادئ الخلقية وأنشأ مشاكل جديدة لم تكن لتخطر في الماضي على بال. وقد تُرِكَ تنظيم هذه الأمور إما للصدفة التامة أو للأمم فيما بينهما تحكم فيه القوة، أو لرجال السياسة والمشرعين يعقدون المؤتمرات عساهم يصلون إلى حل عملي يُرضي القوى ويسلم به الضعيف، وقد نشأ عن ذلك مجموعة من القوانين الدولية الخاصة والعامة ربما كانت خير مثال على مقدرة الإنسان اللانهائية على أن يناقض نفسه. لا أقول هذا لأقلل من شأن المجهود الذي بُذِلَ بل بالعكس إنني أعلم أن هذا المجهود قد بُذِلَ في ظروف مضنية، كما أن الذين قاموا به لا يمكن أن يُوَجَّه إليهم أي لوم لأنهم قاموا بواجبهم على قدر الاستطاعة، وإنما يُوَجَّه اللوم إن كان هناك لوم إلى شخص معنوي مجهول لأنه لم يخرج لنا كتابًا يبين فيه حكم القانون الخلقي القويم في هذه الأمور، ولا يمكن الاعتماد على المؤتمرات الدولية لتسوية هذه الأمور دون قانون خلقي مُسَلَّمٍ به من الجميع؛ لأن هذه المؤتمرات كثيرًا ما تصل إلى نتائج لا تتفق وقانون العدالة البشرية، كما أنها في بعض الأحايين تخفق في مهمتها إخفاقًا تامًّا مثال ذلك مؤتمر المواصلات السلكية واللاسلكية الذي عُقِدَ بالقاهرة عام ١٩٣٨م والذي أخفق في تحقيق الغرض المنشود منه. فمِن المسائل التي كان يطلب إلى هذا المؤتمر تنظيمها مسألة الإذاعة اللاسلكية ومنع الاختلاط والتشويش بين محطات الإذاعة في أنحاء المعمورة، وهي مسألة لو تُرِكَت إلى علماء منزهين عن الغرض لما عجزوا عن حلها على أساس قانون العدالة بين الأمم.
فالعلماء إذن قد خرجوا من صوامعهم مختارين أو مرغمين واختلطوا بتيار المجتمع في أعنف صوره وأشدها اتصالًا بمعترك الحياة، وإذا وضعت الحرب أوزارها فهل يُعْقَل أو يُنْتَظَر أن يعود كل واحد من هؤلاء إلى عمله وينسى ما رآه وما سمعه وما خبره بنفسه في هذه الحرب الطاحنة كأن لم يكن شيء من ذلك، أو كأنه حلم مفزع قد انقضى أم أن الذي ننتظره هو العكس؟ فالعلماء وهم قوم ذوو بصائر لن تسمح لهم ضمائرهم ولا عقولهم بأن يتركوا العالم يتعرض مرة أخرى لمثل هذه الفاجعة دون أن يحرِّكوا ساكنًا، وعلى الخصوص لأنهم يعلمون أن العلم والاختراع مسئولان إلى حد كبير عن كثير من الفتك والتدمير، والمنتظر أن تعود الحركة التي بدأت قبيل الحرب، والتي أشرت إليها إلى الظهور بشكل أوسع وأن يكون لها أثرها الفعال في تنظيم التعاون بين الأمم، ولا شك في أن العلماء إذا هم تساندوا في أقطار الأرض وتعاونوا فإنهم قادرون على أن يَحُولُوا بين ذوي المطامع والشهوات من رجال السياسة والمال وبين الفتك بالمجتمع. أقول إذا تساندوا؛ لأن هذا شرط أساسي لنجاحهم، فالعلم يملك السلاح الذي يستطيع به أن يدافع عن قضية الحق والعدل والفضيلة. ولا شك عندي في أنه في آخر الأمر منتصر على قوى الظلم والجهالة والاستعباد. ولا أستطيع أن أتنبأ بالشكل الذي سيتخذه تيار الحوادث في هذا الصدد، ولكن من المتصور على سبيل المثال أن تصر الهيئات العلمية في العالم على منع كل عابث من استخدام نتائج العلم للإضرار بالبشر. فإذا اتخذت هذه الهيئات موقفًا حازمًا إزاء هذا الموضوع الخطير فإنها ولا شك تستطيع أن تضع الأمور في نصابها؛ إذ إن الرأي العام في العالم كله سيكون في جانبها، كذلك تستطيع هذه الهيئات أن تحرم على كل مشتغل بالعلم أن يقوم لحسابه الخاص أو لحساب شركة أو حكومة بالاشتراك في أي عمل أو اختراع يرمي إلى التدمير والتخريب، ويكون شأن العالِم في ذلك شأن الطبيب الذي لا تسمح له الهيئات الطبية باستخدام علمه وفنه في الإضرار بالناس. وعندي أن هذه الخطوة ربما كانت أول خطوة ينبغي اتخاذها بعد هذه الحرب لتوجيه العلم والعلماء نحو التعاون العالمي.
سبق أن أشرت إلى أن التعاون على مقياس دولي أساسه التعاون داخل كل أمة فيما بين أهلها، ويحسن بنا في مصر أن نذكر هذه الحقيقة إذا كنا نريد حقًّا أن نقوم بنصيبنا في المجهود الدولي، فالكلام الذي قدمته عن التعاون بين علماء الأمم يقتضي أن يكون في كل أمة هيئات علمية تمثل التعاون بين علماء هذه الأمة، كما يجب أن تتعاون الهيئات داخل الأمة الواحدة، وأن يكون لها نظام مشترك يوحد بين مجهوداتها ويحدد أهدافها ووسائل تعاونها، وفي مصر هيئات علمية نشأت أو أُنْشِئَت من حين لآخر، وهي تقوم بمجهودات مختلفة في ميادين العلم المتعددة، إلا أن هذه الجهود لا تزال في حاجة إلى تنسيق وتوجيه وتنظيم. فنحن في حاجة إلى مجمع علمي تتمثل فيه مجهوداتنا المبتكرة وأبحاثنا في ميادين العلم المختلفة. نحن في حاجة إلى هذا المجتمع؛ إذ بدونه لا يمكن أن يُقَال إن لنا حياة علمية قومية، وقد شرحت هذه النقطة في مقالي السابق عن الحياة العلمية في مصر. ونحن في حاجة أيضًا كما ذكرت من قبل إلى هيئة تنظم العلاقة بين العلم والبحث أو الأكاديمية وبين العلم التطبيقي في ميادين الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها. كل ذلك قد شرحته في المقال المذكور فلا حاجة بي إلى أن أكرر القول. فتنظيم المجهود الداخلي أساس كل تعاون خارجي، وكما أن الرجل الذي يعيش في بيت غير منظم لا يستطيع أن يكون منتظمًا في علاقته مع الناس، كذلك الأمة التي لا تنظم بيتها لا يُنْتَظَر منها أن تتعاون تعاونًا منتجًا في نظام عالمي. أما إذا نظمنا أمورنا العلمية على النحو الذي أشرت إليه فإننا نستطيع أن نوجِّه العلم والعلماء بيننا في الاتجاهات التي بيننا وعندئذٍ يتعاون علماؤنا وعلماء غيرنا من الأمم لتحقيق تعاون عالمي والسلام.