تركيب الذرة
إذا ذكرت الذرة تبادر إلى الذهن معنى الصغر، فالذرة في لغتنا العادية هي الجزء الصغير من المادة. وربما تبادر إلى ذهن الرجل المثقف العادي إذا ذكرت الذرة معنًى آخر، وهو أن الأجسام تتألف أو تتكون من ذرات فتكون الذرة وحدة من الوحدات التي تنبني منها المادة. هذان المعنيان مجتمعين يصلحان كأساس لا بأس به في بدء هذا المقال. ولعل بعض حضرات القراء يشعر أنني إذ أتحدث إليهم عن الذرة إنما أضيع عليهم الوقت في الكلام عن صغائر الأمور، فالذرة باعتراف الجميع شيء صغير وإذن فهي في عرف الكثيرين شيء ضئيل وتافه لا يستحق أن نصرف الوقت والمجهود في التحدث عنه. ولكي أنفي عن نفسي أية تهمة يمكن أن تُوَجَّهَ إليَّ من هذا النوع أذكر أن الذرة وإن كانت صغيرة الجسم والوزن، إلا أنها عظيمة القوة شديدة القدرة، فلو أننا استطعنا أن نحصل على الطاقة الكامنة في ذرات جرام واحد من المادة العادية لكفى مقدار هذه الطاقة لتحريك قطار وزنه مئات الأطنان حول الكرة الأرضية بأسرها. فالذرة إذن ليست بالشيء الحقير الذي لا يُحْفَل به إذا كانت الأمور تقاس بمقياس القوة، وهو مقياس مألوف وشائع بيننا كثيرًا ما نعتمد عليه لسوء الحظ في تقدير قيم الأشياء.
أقول لسوء الحظ لأن العقل البشري والنفس البشرية يدركان أن القوة ليست كل شيء، وأن هنالك من المقاييس ما هو أقرب إلى الحقيقة من مقياس القوة الغشوم. والواقع أن البحث في الذرة وتركيبها لم يكن الباعث عليه الرغبة في استخدام القوة الكامنة فيها أو الاستفادة من الطاقة المدخَرة بين ثناياها، وإنما نشأ البحث وتركيبها كما نشأ البحث في مختلف فروع العلم عن رغبة في إلى أعلى متناسب مع السرعة التي يقذف بها. وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر فكر العالم الألماني لايبْنِتزْ في مقدرة الجسم على الحركة هذه، ولكنه ارتأى فيها رأيًا آخر، فمن المعلوم أننا إذا قذفنا جسمًا في اتجاه رأسي إلى أعلى فإن أقصى ارتفاع يصل إليه يتناسب لا مع السرعة ذاتها ولكن مع مربعها، فإذا تضاعفت السرعة ضرب الارتفاع في أربعة وإذا ضربت السرعة في ثلاثة ضرب الارتفاع في تسعة وهكذا، وقد اعتبر لايبْنِتزْ بناءً على ذلك أن مقدرة الجسم على الحركة يجب أن تتناسب مع مربع السرعة، وسمَّى هذه المقدرة على الحركة ﺑ «القوة الحية».
وفي أوائل القرن الثامن عشر نُشِرَ كتاب كان قد وضعه العالم الهولندي هايجنز (١٦٢٩–١٦٩٥م) وضمَّنه بحوثًا أجراها على تصادم الأجسام المرنة وقد ذكر هايجيز في كتابه أن «القوة الحية» هذه تنتقل من جسم إلى آخر عند التصادم بحيث يكتسب أحد الجسمين منها ما يفقده الآخر، فكأنما هذه القوة الحية سلعة تباع وتشترى بين الأجسام.
(١) طاقة الحركة وطاقة الجهد
وقد جاءت الأبحاث النظرية التي قام بها برنولي ولا جرانج وكريولي معزِّزة لفكرة «القوة الحية» موجَّهة النظر إلى أهميتها، وأُطْلِق عليها اسم جديد أقرب إلى التفكير العلمي فسُمِّيَت «طاقة الحركة» أي الطاقة أو المقدرة الناشئة عن الحركة، وتُعرف طاقة الحركة بأنها نصف حاصل ضرب كتلة الجسم في مربع سرعته. فالحجر الذي كتلته مائة جرام مثلًا وسرعته عشرة سنتيمترات في الثانية يقال: إن له طاقة حركة تساوي خمسة آلاف ارجا أي خمسة آلاف وحدة من وحدات الطاقة، ويُسمَّى هذا النوع من الطاقة بطاقة الحركة تمييزًا له عن النوع الآخر الذي يُعرف بطاقة الجهد أو طاقة الموضع. وطاقة الجهد تُنْسَب إلى الجسم الساكن إذا كان موجودًا في موضع يسمح له ببذل الشغل، فالحجر الموجود عند قمة جبل وإن كان ساكنًا إلَّا أن ارتفاع مكانه من شأنه أن يسمح له ببذل الشغل في هبوطه إلى مستوى سطح الأرض.
وأظهرُ مثال على ذلك مياه الشلالات أو الخزانات كخزان أسوان، فإن وجود هذه المياه في أماكن مرتفعة يجعل لها نوعًا من الطاقة أو المقدِرة على العمل المفيد كإدارة الآلات الكهربائية. وتُقَاس طاقة الجهد لجسم معلوم بحاصل ضرب القوة التي تؤثِّر فيه في المسافة التي يقطعها في هبوطه من موضعه الممتاز إلى الموضع الطبيعي أو العادي له.
فكل جسم متحرك إذن هو مورد للعمل المفيد يصح أن يستغله الإنسان في إدارة آلاته، وكذلك كل جسم يمكن أن يتحرَّك بسبب وجوده في مكان ممتاز هو أيضًا مورد للعمل المفيد، وكلا النوعين من الأجسام له طاقة. فالأول له طاقة حركة ناشئة عن حركته الفعلية، والثاني له طاقة جهد أو طاقة موضع ناشئة عن وضعه الممتاز وإمكان اكتسابه للحركة بالهبوط منه. وفي كلتا الحالين ترتبط الطاقة بحركة الأجسام أو بإمكان حدوث هذه الحركة، ولذا تُعرَف بالطاقة الميكانيكية. ونحن إذا تأملنا في الطبيعة التي تحيط بنا شاهدنا أمثلة عدة على وجود الطاقة الميكانيكية، فالمياه الجارية والرياح يمكن استخدامها في إدارة الطواحين والطلمبات، ومياه الشلالات والخزانات مورد غني من موارد الطاقة، ولعل القرَّاء يذكرون مشروع منخفض القطارة الذي لا يزال قيد البحث، فالفكرة الأساسية فيه هي الاستفادة من هبوط مياه البحر من منسوبها العادي إلى منسوب منخفض القطارة بالصحراء الغربية، بل إن بعض العلماء قد فكَّر في الاستفادة من حركات مياه المد والجذر واستغلال طاقتها لمنفعة البشر.
وفي أوائل القرن التاسع عشر بدأت فكرة الطاقة تتغلغل في العلوم الطبيعية وتتعدَّى مجرد الفكرة الميكانيكية. ومن أهم الأبحاث التي ساعدت على ذلك ما قام به العالم العصامي جيمس جول (١٨١٨–١٨٨٩م) من التجارب التي فتحت بابًا جديدًا للمشتغلين بالعلوم الطبيعية. فقد أثبت هذا العالم أن مقدار الحرارة التي تتولد من احتكاك الأجسام تتناسب ومقدار الطاقة الميكانيكية التي تبذل في هذا الاحتكاك، أي إن الطاقة الميكانيكية تتحول إلى طاقة حرارية. كما بيَّن أيضًا أن الحرارة التي تتولد في سلك رفيع بمرور تيار كهربائي فيه ترتبط ومقدار الطاقة الكهربائية التي تُبْذَل، ومعنى ذلك أن الحرارة التي تشعر بها أجسامنا إن هي إلا نوع من أنوع الطاقة، وقد أدت أبحاث جول إلى نشوء فرع جديد من فروع المعرفة يعرف بعلم الديناميكا الحرارية فيه يُبْحَث في حركات الجزئيات التي تتألَّف منها الأجسام وارتباط ذلك بحرارتها.
ولم يأتِ آخر القرن التاسع عشر إلا وفكرة الطاقة قد اتصلت بجميع نواحي العلوم الطبيعية. فالكهربائية والمغناطيسية والصوت والضوء وسائر الأشعة غير المرئية صار يُنْظَر إليها جميعًا كمظاهر مختلفة من مظاهر الطاقة، بحيث أمكن أن يقال إنه لا شيء في الوجود الطبيعي إلا المادة والطاقة. ومما ساعد على تدعيم هذا الرأي ما وُجِدَ من أن الطاقة إذا تحوَّلت من مظهر إلى مظهر آخر كأن تتحول من كهربائية إلى حرارة مثلًا فإن ذلك يحدث بنسبة ثابتة. فنشأ المبدأ القائل بعدم انعدام الطاقة أو بتحوُّلها. فكما أن المادة لا تنعدم وإنما تتحول من مظهر إلى مظهر آخر فكذلك الطاقة لا تفنى وإنما تتكيف بكيفيات مختلفة. فإذا تصادم جسمان مثلًا كما حدث في تجارب هايجنز المشار إليها فيما سبق فإن الطاقة الميكانيكية تنتقل من أحدهما إلى الآخر كما ذكر هايجنز، ولكن الحقيقة الكاملة أن جزءًا من الطاقة الميكانيكية يتحول إلى حرارة أو إلى صوت بحيث يبقى مبدأ بقاء الطاقة نافذًا.
(٢) تحول المادة إلى طاقة
ولا أريد أن أختم مقالي هذا دون الإشارة إلى بعض التطورات الحديثة في آرائنا عن الطاقة وعلاقتها بالمادة. فالرأي السائد هو أن مبدأ بقاء المادة وكذلك مبدأ بقاء الطاقة ليسا صحيحين على إطلاقهما، ولكن الصحيح هو أن مجموع الطاقة والمادة هو الثابت، أي إن المادة قد تتحول إلى طاقة أو الطاقة إلى مادة. فإذا احترقت شمعة مثلًا فإن كمية المادة الناشئة عن احتراقها لا تساوي كمية المادة الداخلة في الاحتراق تمامًا ولكنها تنقص عنها بمقدار ما يُعادِل الطاقة المفقودة في عملية الاحتراق على شكل حرارة وضوء … إلخ، والسبب في عدم العثور على هذا الفرق في معاملنا أنه ضئيل جدًّا بحيث لا يمكن قياسه بأدق موازيننا الحسَّاسة. وقد قُدِّرَت كمية الطاقة المخزونة في جرام واحد من الجليد بما يكفي لتحريك قطار سريع بحيث يدور حول الأرض بضع دورات كاملة!