القوانين الطبيعية والمصادفة
من المسائل التي تشغل بال العلماء في العصر الحاضر تَفَهُّم المدلول الحقيقي للقوانين الطبيعية وارتباطها بما نسميه السببية أو علاقة العلة بالمعلول. هل القوانين الطبيعية هي بمثابة تشريع يفرض على الطبيعة طاعته؟ وهل معناها وجود تنظيم خاص للكائنات بحيث لا يكون لمجرد الصدفة أي أثر في تطورها؟ إن خبرتنا العادية تدلنا على وجود السببية كحقيقة واقعة، فكثير من الحوادث يمكن إرجاعه إلى أسباب ثابتة بحيث إذا تكررت الأسباب تكررت نتائجها بطريقة منتظمة إلا أن خبرتنا تدلنا أيضًا على وجود عنصر المصادفة في حياتنا وفيما يحيط بنا من الحوادث. فهل الكون هو في الواقع ونفس الأمر ذلك الشيء المرتبط الأجزاء ليس فيه إلا أسباب ومسببات؟ والمصادفة إن هي إلا جهلنا بالأسباب الحقيقية فنحمل على المصادفة ما نعجز عن تعليله كما فعل العربي حين قال:
أم إن شاعرنا حين تحدث عن خبط العشواء قد عبر عن معنى عميق من معاني الحقيقة ونفذت بصيرته إلى ما وراء المظهر الخارجي للحوادث؟ لو أن هذا السؤال طُرِحَ على علماء القرن الماضي لما حدث اختلاف جدي بينهم في الإجابة عليه. بل إنني لأشك في أن سؤالًا كهذا كان من الممكن أن يخطر لعالم من علماء ذلك الوقت. نعم إن الفلاسفة كانوا ولا يزالون يجدون محلًّا لبحثه، أما علماء القرن الماضي فقد كان إيمانهم بالسببية متغلبًا على تفكيرهم بحيث كانوا يرون القول بعموميتها من البديهيات. وقبل أن أتعرَّض للإجابة على السؤال أريد أن أتحدَّث إلى القارئ في شيء من التبسط عن نوع من قوانين المعرفة نشأ عن أن العقل البشري يميل بطبعه إلى دراسة الطبيعة وتفهُّم أسرارها، يميل إلى دراسة الكون والتعرُّف على خفاياه وما استغلق من أمره. ففي الفلسفة الإغريقية القديمة نجد طاليس الذي عاش في ميليتوس حوالي سنة ٦٠٠ قبل الميلاد يتكلَّم عن ضرورة وجود وحدة أساسية أو جوهر أولي تتألف منه المواد، كما نجد لوسيبوس وديبو كريتوس ولو كريتيوس يتكلمون عن ذرات تتركب من المواد المختلفة ويبحثون في اختلاف هذه الذرات وتشابهها. وفي العصر العربي نجد الفلاسفة والمتكلمين يبحثون في منطقية الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ. كل هذه الأبحاث قد نشأت عن رغبة الإنسان في تَفَهُّم ما يحيط به من الظواهر الطبيعية وفي أن يدرك كنه هذه الظواهر إدراكًا صحيحًا.
وقد ظل البحث في الذرات وخواصها فرعًا من فروع الفلسفة الكلامية لا يكاد يتصل بالتجربة العملية بسبب حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر، ففي ذلك العصر تقدَّمت دراسة الكيمياء تقدُّمًا كبيرًا وازداد البحث والتنقيب وأُجهدت القرائح، فقام العالم الإنجليزي جون دالتون بإحياء رأي الأقدمين في وجود الذرة ودلَّل على صحة هذا الرأي بنتائج التجربة في التفاعلات الكيميائية، ونشأت فكرة الجزيء الذي هو عبارة عن جملة ذرات مجتمعة معًا، فوضع علم الكيمياء على أساس منطقي مقبول.
وقد قسَّم دالتون وأتباعه المواد التي نعرفها جميعًا إلى قسمين، وهما: العناصر والمركبات، وجعلها تتألَّف من ذرات العناصر مجتمعة على هيئة جزئيات، فالماء مثلًا وهو أحد المركبات مؤلَّف من جزئيات الماء، وكل جزيء من جزئيات الماء مؤلف من ذرتين من ذرات عنصر الإيدروجين وذرة من ذرات عنصر الأوكسجين، والأوكسجين الذي هو أحد العناصر مؤلَّف كذلك من جزئيات، إلا أن كل جزيء في هذه الحالة إنما يتألَّف من ذرتين متشابهتين من ذرات عنصر الأوكسجين. بهذه الطريقة تمكَّن دالتون وأتباعه من إرجاع جميع المواد التي كانت معروفة عندئذٍ إلى نيف وسبعين عنصرًا لكل واحد منها ذرة خاصة؛ أي إن العالم المادي بأسره قد أمكن تصوره على أنه مبني من نيف وسبعين نوعًا من أنواع الذرات ينشأ عن اختلاف الصور التي تأتلف بها اختلاف مظاهر المواد وخصائصها.
وإلى أواخر القرن الماضي كانت هذه الآراء تُعْرَف بالفرض الذري أو بالنظرية الذرية على اعتبار أنها نظرية علمية تفرضها علينا الحقائق التي نعرفها عن التفاعلات الكيميائية وتتفق مع هذه الحقائق. ومن سوء الحظ أن كلمة أتوموس الإغريقية التي اشتق منها اسم الذرة في معظم اللغات الحديثة معناها الحرفي ما لا يقبل التجزئة لذلك كان من الفِكَر الشائعة في الأذهان أن الذرة لا تقبل التجزئة بعكس الجزيء الذي يقبل التجزئة إلى ذرات.
وفي أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي حدث تطور عنيف في العلوم الطبيعية أدى إلى أمرين جوهريين. الأمر الأول: أن الذرات قد أمكن مشاهدتها واحدة واحدة بل وأخذ صور فوتوغرافية لها، وبذلك تحوَّل الكلام عن الذرات من مجرد فرض أو نظرية علمية إلى حقيقة واقعة؛ أي إن كل شك في وجود الذرة كوحدة مستقلة قد زال وصارت الذرة شيئًا خاضعًا للمشاهدة المباشرة له وجود خارجي، والأمر الثاني وهو الأعظم: أن الذرة التي كان يُظَنُّ أنها غير قابلة للتجزئة قد ثبت أنها تتجزأ، فبعض الذرات ينفجر من تلقاء ذاته كذرات الراديوم واليورانيوم وغيرها من العناصر ذات النشاط الإشعاعي، والبعض الآخر يمكن تحطيمه أو تهشيمه بوسائل خاصة. ويرجع الفضل في هذا التقدُّم إلى بيكير يل وكوري ومدام كوري وأتباعهم في فرنسا وإلى تومسون ورذر فورد وأتباعهما في إنجلترا. وبذلك تفتَّح أمام البشر عالم جديد هو عالم داخل الذرة ذلك العالم الذي ظل مغلقًا مستعصيًا إلى عهدنا الحالي. ونشأ بحث بل نشأت مباحث عدة عن تركيب الذرة.
ممَّ تتألَّف الذرة؟ وهل الذرات المختلفة تتألَّف من وحدات متشابهة وما عدد هذه الوحدات وكيف تجتمع معًا؟
قد دلَّت التجارب العملية على أن كل ذرة تتألَّف من جزء مركزي يُسَمَّى النواة يحتوي على معظم وزن الذرة يحيط به عدد من الجسيمات الخفيفة المكهربة تعرف بالإلكترونات، ويختلف عدد هذه الإلكترونات كما يختلف وزن النواة باختلاف العنصر، فنواة الهيليوم مثلًا وزنها أربعة أمثال وزن نواة الإيدروجين. كما أن عدد الإلكترونات الخارجية في الهيليوم اثنان أما في الإيدروجين فواحد.
والنواة ممَّ تتألَّف؟ إنها تتألف من جسيمات بعضها مكهرب كالإلكترونات والبروتونات وبعضها غير مكهرب كالنيوترونات. وقد كان يُظَنُّ إلى أمد قريب أن الإلكترونات الخارجية تدور في مسارات حول النواة كما تدور الكواكب حول الشمس إلا أن هذا الرأي قد تسرَّب إليه الشك في السنين الأخيرة، وإن من أمتع البحوث في العلوم الطبيعية الحديثة البحث في هذا العالم الداخلي للذرة! في قوانينه ونظامه واتصاله بالإشعاع الصادر عن الذرة وكيف أن النور ينشأ عن حركات هذا العالم طبقًا لقوانين ومعادلات أشبه شيء بالطلاسم السحرية، كل هذه الأبحاث تشغل عقول العلماء والمفكرين في أقطار المعمورة، وقد أدت هذه الأبحاث إلى نتائج مدهشة كان لها أثرها من تطور المدنية، وما صمامات أجهزة الراديو التي نستخدمها إلا ثمرة من ثمرات البحث في تركيب الذرة.
ذكرت أن الذرة جسم صغير. ولكن إلى أي حد هو صغير، لنفرض أننا قسَّمنا جرامًا من المادة إلى ألف جزء، كل جزء يكون وزنه ١ / ١٠٠٠ من الجرام أو ما يعرف بالملِّيجرام، ثم لنفرض أننا استمررنا في عملية التقسيم إلى ألف جزء فقسَّمنا المليجرام إلى ألف جزء، ثم قسَّمنا كل جزء من هذه الأجزاء إلى ألف جزء وهكذا، فمتى نصل إلى الذرة! الجواب أن علينا أن نكرر هذه العملية ٨ مرات قبل أن نصل إلى الذرة.
ومن النظريات التي كان ولا يزال لها أهمية عظمى في البحث عن تركيب الذرة نظرية تعرف بنظرية الكم أو نظرية وحدة الكمية، ويقترن اسمها باسم ماكس بلانك العالم الألماني وبأسماء نيلز بوهر العالم الدانماركي ودي برولي الفرنسي وديراك الإنجليزي، وتتميز هذه النظرية في مراحلها المختلفة بافتراض وجود حالات خاصة للذرة تُعْرَف بحالات السكون أو الثبات، ويقترن الإشعاع بانتقال الذرة من حالة إلى أخرى من هذه الحالات كما أن الإشعاع يكون بقدر معلوم أو بكم معلوم ومن ذلك نشأ اسم النظرية.
هذه النظرية قد أحدثت شبه انقلاب لا في مباحث تركيب الذرة فحسب بل في دائرة أوسع من ذلك كثيرًا. تكاد تشمل العلوم الطبيعية والكيميائية بأسرها. بل لقد تعدَّى الانقلاب دائرة العلوم التجريبية إلى المباحث الفلسفية فنشأت طائفة من الآراء والمباحث الفلسفية كان لها خطرها في تطور العلوم الفلسفية ذاتها. فمن ذلك أن مبدأ السببية ذلك المبدأ الذي يفترض ارتباط العلة بالمعلول ارتباطًا ثابتًا، والذي كان لتطبيقه أثر واضح في نهضة العلوم الحديثة، هذا المبدأ قد تطرَّق إليه الشك فبدأ العلماء يتكلمون بلغة الاحتمال بدلًا من لغة الجزم والتوكيد التي كانت متغلبة في القرن الماضي. وهكذا عاد بنا البحث عن تركيب الذرة إلى حيث بدأ. أي إلى الناحية المنطقية الشكلية.
وليس معنى هذا أن البحث في تركيب الذرة قد أصبح ضربًا من ضروب الكلام، بل بالعكس لم يكن العلم في وقتٍ ما أكثر اتصالًا بالحقيقة الواقعة ولا أكثر انتصارًا في ميدان التطبيق العملي ميدان الكشف والاختراع مما هو اليوم، بل إنه لم يعد من الممكن لمهندس كهربائي ولا لمهندس عادي أن يستغنى عن معرفة الذرة وتركيبها.